بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، حياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
سنة الابتلاء
فقد جرت سنة ربنا تعالى في عباده أن يجري عليهم في هذه الدنيا أنواعاً من الابتلاءات يمتحن بها إيمانهم، بالنعم تارة، وبالمصائب تارة، بالشدة أحياناً، وبالرخاء أحياناً، وذلك ليظهر شكر الشاكرين وصبر الصابرين كما يظهر سخط الساخطين، وفشل من قضي عليه بالفشل.
قال ربنا تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَسورة الأنبياء35، وقال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَسورة العنكبوت2، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَسورة العنكبوت3، لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة، أنزل لها ابتلاءً واختباراً، فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُسورة آل عمران31، الجميع في هذه الدنيا ممتحن فامتحن الله الرسل بالمرسل إليهم، ودعوتهم إلى الحق، هل يبلغون رسالات الله، ويصبرون على الأذى، ويتحملون المشاق في سبيل الرسالة، وهل يطيع المرسل إليهم أم يعصون، هل ينصرون الرسل أم يكفرون، هل يجيبونهم أو يعصون ويقاتلون، امتحن الله العلماء بالجهال، هل يعلمون الجاهل ويصبرون على أذاه وينصحون في سبيل الله، ويتكلمون بالحق ولا يبالون بالمصاعب في سبيل بيان الحق، هل يقومون بعهد الله عليهم الذي أخذه؟ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُسورة آل عمران187، هل يقومون بالواجب أم يتخاذلون؟ هل يكونون شجعان في تبليغ الحق؟ أم يجبنون هل يكونون مقدامين في تبليغ أحكام الشرعية أم ينسحبون؟ كذلك امتحن الله الجهال، هل يطيعون العلماء أم يعرضون عنهم، هل يستفتونهم، أو يستفتون أنفسهم، هل يكونون صادقين في سؤال العالم، أم يدورون ويغيرون؟ هل يكونون بالتسليم والدقة للفتوى أم أنهم يتلاعبون، امتحن الله الملوك بالرعية والرعية بالملوك، فهل يقوم الولاة بأداء حقوق الرعية أم يهملون، هل يعطونهم من مال الله أم يبخلون، هل يسهرون على حمايتهم أم ينامون، وامتحن الرعية كذلك هل يسمعون ويطيعون لمن أمرهم بطاعة الله أم يعصون ويتمردون، امتحن الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء، هل الغني يعطف على الفقير أم لا يبالي به؟ هل يؤتيه من مال الذي رزقه أم يبخل، الفقير هل يكون طيباً في سؤاله أم يلحف ويؤذي؟ هل يصبر إذا رأى الغني أم يحسده ويتمنى زوال النعمة عنه، امتحن الله الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، امتحن السادة بالأتباع، والأتباع بالسادة، امتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، هل يصبر على فتنة النساء فيغض بصره أم يطلقه ويستمتع بزعمه؟ هل يأتي باب النساء بالحلال في النكاح، أم يريده بالحرام، هل يكتفي بما أحل الله، أم يتعدى كما قال الله:فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَسورة المؤمنون7، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَسورة الفرقان20، هل المرأة تكتفي بزوجها أم تمد عينيها إلى غيره؟ هل تقف عند حد الله أم تتعداه بإقامة العلاقات وفتح الأجهزة بالمكالمات مع الأجانب.
امتحن الله المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، امتحن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين كذلك، امتحن أصحاب الشهوات بأصحاب الأشكال الحسنة، والصور الجميلة، فيا ترى هل يصبر هؤلاء عن هؤلاء، أم يطلق بصره في كل مليحة ومليح، ويريد الاستمتاع بكل شهوة ولو كانت محرمة
امتحن الله المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، امتحن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين كذلك، امتحن أصحاب الشهوات بأصحاب الأشكال الحسنة، والصور الجميلة، فيا ترى هل يصبر هؤلاء عن هؤلاء، أم يطلق بصره في كل مليحة ومليح، ويريد الاستمتاع بكل شهوة ولو كانت محرمة
، وامتحن النوع الآخر بأصحاب الشهوات، فكل من النوعين محنة للآخر، فمن صبر نجا ومن سقط هلك، فلا يخلو إنسان من محنة، وإذا كانت القضية بهذا الشكل من الابتلاء فإذن نحن أمام امتحان حقيقي في موضوع العبودية، هل نكون عباداً لله نصبر على الضراء ونشكر في السراء نقوم بحق النعمة، ونصبر عند البلية، هل نستجيب لدوافع النفس الأمارة بالسوء، ووساوس الشيطان أم نجزع ونقنط، هل نمنع ونبخل، أم نبذل ونعطي؟
تعريف المحنة
المحنة في اللغة من محن الفضة إذا صفاها، وخلصها بالنار من الشوائب، المحنة هي امتحان قلوب المؤمنين للتقوى، كما ذكر الله امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىسورة الحجرات3يعني: خلص قلوب المؤمنين وصفاها ونقاها بما أجرى عليها من الأحداث العظيمة، والابتلاءات الخطيرة، سراء وضراء وشدة ورخاء، المحن هذه من ورائها حكم كثيرة فما هي؟ منها ازدياد تعلق العبد بالله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا وضع في محنة تذكر ضعفه وحاجته إلى خالقه، فيترك الطغيان والكبر، ويقبل على الله، ويأوي إلى الركن الشديد، (إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه)[رواه الطبراني في الأوسط1245].
فوائد المحن
كذلك المحنة فيها تمحيص للعبد، فيها نفي للذنوب فيها تكفير للسيئات، فإن الله عز وجل لما أظهر المسلمين على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل في الإسلام ظاهراً من ليس مع المؤمنين باطناً، فاقتضت حكمة الله تعالى محنة يقدرها تميز ما بين المؤمن والمنافق، فظهر المنافقون في أحد وتكلموا بما تكلموا وظهرت مخبئاتهم، وعاد تلويحاً وتصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، فعرف المؤمنون عدوهم، عرفوا من معهم ممن هو عليهم، فاستعدوا لهؤلاء وتحرزوا منهم، وهذا معنى قول الله عز وجل: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِسورة آل عمران179، لا يمكن أن يكون عندنا منظار نبصر به قلوب الناس، هذا مؤمن هذا منافق، وهذا كافر، ولذلك صارت الأحداث التي نقدرها من المحن هي المقشقشة المظهرة، المبينة للأحوال، حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِوَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ، معناها ما كان الله ليترككم على ما أنتم عليه من الالتباس واختفاء المنافقين في وسط الصف حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، كما ميزهم بالمحنة يوم أحد، فعند ذلك تتضح الأمور، كذلك ظهور معادن الناس، هذا نصير، وهذا شرير.
قال الحسن رحمه الله: قد والله رأيناهم يتقاربون في العافية، فإن زال البلاء تفاوتوا.
المحنة تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب ورجع منها إلى الله، ينكسر الإنسان فيسمع الله أنيناً، يسمع الله أنينه، يسمع الله إلحاحه، تضرعه ضعفه، انكساره، يتحقق العبودية التي من أجلى معانيها اللجوء إلى الله، الشعور بالحاجة إلى الله، الإقبال على الله الاعتماد على الله، تفويض الأمر إلى الله، التوكل على الله، معاني ما كانت لتظهر لولا الشدة ولولا المحنة، ولولا نزول هذا الابتلاء، وأيضاً تشتاق النفوس إلى الجنان؛ لأنها تعلم يقيناً عند نزول البلاء أن الدنيا ليست مريحة، فلا تركنوا إليها، ولا تتعلقوا بها تعلقاً تاماً، بل تريد عالماً آخر فيه راحة، تقول: ألا نهاية لهذا البلاء، ألا نهاية لهذه الشدة، تتطلع النفوس عندئذ إلى الدار الأخرى، وأيضاً التمييز كما قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَسورة آل عمران142، فإذن يتبين من المستعد أن يقدم أن يضحي ويتعب ومن هو الذي يريد سلوك سبيل الراحة والنوم والإعراض والكسل، هذا التمييز يقع بهذه المحن، ثم زوال قسوة القلوب، إن في العلل لنعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها؛ لأنها فيها الثواب، ورياح الرحمة، تذكره بالنعمة تستدعيه للتوبة، تحضه على الصبر والبذل.
من فوائد الشدائد والمحن أنها تستنفر الطاقات الكامنة، فتظهر قدرات عند الإنسان ما كانت تظهر في أوقات الرخاء، كذلك تزيد المؤمنين إيماناً، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًاسورة الأحزاب22، فأخبر سبحانه وتعالى أن إيمانهم زاد، كذلك يعلمون أن هذه الدنيا فانية بالشدائد هذه، لا قرار فيها، وأنها لا تثبت لأحد ولا تدوم، وأن تتغير بلمح البصر، ولذلك فإن تعلقهم بها يخف، وأحياناً منحاً في قلب المحن، والله لطيف بعباده، مثلاً محنة يوسف عليه السلام بإلقاء إخوته له في الجب ثم تعريضه للفتنة وإلقاؤه في ظلمة السجن أدت به في النهاية إلى حكم مصر، وصارت خزائنها بيده، ورد الله إليه أباه وبصر أبيه، واجتمع بأبيه، في حال من السعادة والعز والقوة والمنعة ما كان ليكون لولا المحنة التي مر بها، موسى عليه السلام ائتمر الملأ به ليقتلوه وخرج من المدينة خائفاً يترقب، وصار غريباً طريداً فريداً وحيداً جائعاً منهكاً متعباً، فآل به الأمر إلى شرف النبوة ونيل الرسالة، وأن يكلمه ربه بلا ترجمان، الخضر عليه السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام ظاهرها محنة، لكن في الحقيقة كان فيها نعمة من الحفاظ على السفينة وبقائها لأهلها، وكذلك نجاة والدي الغلام من الطغيان والكفر، وأبدلهما الله خيراً منه زكاة وأقرب رحماً، المسلمون الذين خرجوا من مكة تركوا وطنهم، المسألة كانت فيها شدة، غربة، كان فيها عسر، صعوبات، كان فيها خوف، لكن كانت هذه الهجرة حجرً أساسي لقيام الدولة الإسلامية، منحة الحديبية، وعدم دخول المسلمين إلى مكة وترك العمرة كان محنة بالنسبة لهم، لكن بالنسبة لما بعدها من الفتح المبين والثواب بفتح خيبر ثم فتح مكة كانت منحة عظيمة، حادثة الإفك محنة، بلغت القلوب الحناجر، يعني سمعت الجناب النبوي، النبي عليه الصلاة والسلام أوذي في أهله، تعرضت عائشة بنت الصدِّيق والصِّديق، وزوجة الصدِّيق، والمجتمع المسلم تعرض لمحنة شديدة، وصفوان ابتلي، لكن من وراء ذلك رفعة لعائشة وصفوان، وتجلت عناية الله بنبيه وإظهار براءة أهله، وكانت رفعة للصدِّيق وأهله، وظهرت الحقائق، كان وراءها قرآن يتلى إلى قيام الساعة في فضل عائشة، لو ما حصلت حادثة الإفك ما صارت ما كانت هذه الآيات في فضل عائشة، وبالنظر إلى وقت الشدة وما حصل بعده من النعمة الطويلة إلى قيام الساعة، نقول: هذه لا شيء، تغمر، وكذلك محنة الردة التي قام لها الصديق تحولت إلى منحة، فإنه أعلنها مدوية صريحة، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فكشف الله المرتدين واصطفى شهداء من المؤمنين، وأظهر الحقائق، ومن بقي على الإسلام من أهل مكة والطائف والمدينة، وكذلك حصل فيها أيضاً إعداد المؤمنين لمعارك ضخمة كانت فيها فتوحات كبيرة خارج الجزيرة.
محنة الأسرى من الروم والفرس في البلاد التي فتحها المسلمون كانت سبباً لمنحة عظيمة في دخولهم في الدين، وقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، منحة التتر الذين قتلوا في بغداد مليوني مسلم، واجتاحوا الشام والعراق فكسر الله عز وجل جموعهم بالمسلمين في عين جالوت وفي غيرها، وعاد للأمة مجدها، وكان هناك شهداء كثر لله عز وجل، وأيضاً نفى الله عن الأمة بهذا الابتلاء من العجب والغرور والترف والدعة والكسل، طردت أدواء كثيرة بهذه المحنة العظيمة.
اليوم نرى مثلاً محنة الرسومات المسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أدت إلى اعتناق أعداد كبيرة للإسلام في أمريكا وأوروبا، أدت إلى نفاد نسخ معاني القرآن المترجم لديهم، أدت إلى اطلاع ناس على الإسلام ما كانوا مطلعين عليه من قبل أبداً، أدت إلى أن يهب لله أنصار من المسلمين يدافعون عن الدين، ويبرؤون عرض سيد المرسلين، وينشرون سيرته في العالمين، ترجمات، مؤتمرات، مطبوعات، مواقع، محاضرات، قنوات، برامج، حركت المجتمع المسلم من أقصاه إلى أقصاه، العالم الإسلامي تحرك، الأقليات الإسلامية تحركت بسبب هذه المحنة، كذلك ما حصل للمسلمين من المحنة في البوسنة وغيرها عملت حراكاً عظيماً وأيقظت جهاداً دفيناً، وكان لله شهداء، وعندما نجد المحنة في بلاد الشام اليوم وفي غيرها من البلدان فإننا نجد إيقاظ الدين في نفوس المسلمين، وعودة السنة إلى بلاد الله المباركة، وافتضاح البدعة والمشركين، وتبين هؤلاء المنافقين الذين يتدثرون بالدين، وكذلك ترابط المسلمين فيما بينهم، معاني الأخوة، تقاسم القوت إعطاء المسلمين بعضهم لبعض، المعاونة المساعدة، طاقات كثيرة خرجت ظهرت نثراً، شعراً، شجاعة، إباءً، هبةً، ثباتاً، قوةً وعزيمةً، لا شك، لا شك.
المرض محنة الآلام والأوجاع فيه تكفير للسيئات، (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)[رواه البخاري5642]، قد يخسر الإنسان في تجارة، يفقد نصيباً من عرض الدنيا، ولكن يكون فيه عودته للعبادة، تركه للملاهي، حذف للمحرمات، عودة إلى تحسين الأوضاع الأسرية لديه، والاهتمام بأهله، والإقبال عليهم، كان مهملاً لهم لما كان مفتوح عليه الدنيا، لما كانت مفتوحة عليه، فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاسورة النساء19، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَسورة البقرة216.
أنواع المحن
أنواع المحن التي يتعرض لها الإنسان في حياته منها ما يكون يعني محن داخلية تنبع من الإنسان نفسه، أو يعني تكون فيه هو مثلاً فقر مرض إعاقة هم غم ونحو ذلك، في أشياء تنبع من خارجه، أو يكون الوسط المحيط به هو الذي يسبب المعاناة، ظلم اجتماعي مثلاً، اضطهاد، اعتداء، هناك محن اضطرارية لا مفر للإنسان منها وفاة قريب يعني، ومحن اختيارية، مثلاً الله يمتحنك في اختيار الزوجة، قال لك نبيه عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)[رواه البخاري5090]؛ لأنها تنكح لمالها ولجمالها وحسبها ودينها، فماذا ستختار؟ امتحنك في الوظائف فيها حلال وفيها حرام، فماذا ستختار؟ امتحنك بالعقود فيها حلال وفيها حرام فماذا ستختار؟ امتحنك بالأماكن التي يمكن السفر إليها، وفيها طاعة وفيها معصية فماذا ستختار؟ امتحنك بقنوات موجودة فيها الشين وفيها الزين وفيها الدين وفيها الكفر وفيها الطاعة وفيها المعصية فماذا ستختار؟ وامتحنك بالمواقع وامتحنك بالأجهزة، وامتحنك بالأشخاص منهم رفقاء سوء، ومنهم أولياء للرحمن فماذا ستختار؟
هناك محن جسدية ومحن نفسية، ومحن فكرية وعقلية، ويعني أشياء كثيرة نرى فيها محناً ومحن دائمة مستمرة مثل أصحاب العاهات، ومحن مؤقتة عارضة وتزول، هناك يعني محن فردية، محن جماعية، أحياناً يعني يتعرض لحادث شخص، وأحياناً يضطهد شعب بأكمله، ثلاثة آلاف دبابة الآن على الشعب هذا في الشام، كذلك هناك من يبتلون بالزلازل بالقحط بالأوبة، أعاصير، وهناك محن لأهل المعصية أنفسهم، فضيحة انقطاع الرزق بسبب المخدرات التي يتعاطاها، عقوبات تنزل بهم، سجن، وغرامات، نبذ المجتمع لهم، في محن لأهل العشق المحرم، من اكتئابهم ونحولهم، وتركهم لمصالحهم، يصبح الواحد منهم كالخاتم في يد المعشوق، يسومه سوء العذاب، ومنهم من الناس من يفتضح بالرشوة والسرقة والزنا والحمل المحرم، والأمراض الجنسية، هذه محن بسبب المعاصي، فتكون من جنس العقوبة، وهناك محن بسبب الطاعات كالثبات على الدين في وقت المحنة، الآن مثلاً أهل العلمنة يبتلون المؤمنين، في مسألة العقيدة يريدون إشاعة أنواع الكفر والتطبيع مع الكفر، في موضوع السنة والبدعة يريدون طمس السنن وتطبيع البدع، وجعل العلاقات عادية، وهذا وهذا سواء، الحق والباطل سواء، إعطاء الوزن الواحد لكل الأطراف، تارة يلبسونها باسم الحرية، وتارة يلبسونها باسم الديمقراطية، وتارة يلبسونها باسم الرأي والرأي الآخر، والحوار، على أي أساس؟ على أساس إعطاء كل الأطراف وزناً واحداً، وكذلك نرى مثلاً قضية التسلط في موضوع الشهوات، في مسألة إشاعة الفاحشة، دفع المرأة للتبرج، دفع المرأة للاختلاط، دفع المرأة للوظائف المحرمة، دفع المرأة، في النهاية رذيلة، وطبعاً الشيطان ينصب شباكة ليصيد الرجال بالنساء، وأيضاً تجد المحنة لأهل الحق في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيحاربون في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حتى يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويستوي المعروف والمنكر، هناك بلا شك محن كثيرة تتعلق بالمبادئ، من يثبت على الدين، من يثبت على أحكام الله ورسوله والحلال والحرام الموجود في القرآن والسنة، ومن الذي يتساهل ويتميع ويتنازل وينحرف، هذه محن أيضاً، وهناك إشغالات يمتحن فيها الناس حتى في العبادة، فلا يجدون صفاءً في الأذكار في الصلوات، في الصيام، فالصيام تدخل عليه أنواع من الملهيات المحرمة، والصلاة تكدر بمشغلات كثيرة حتى يضيعها الإنسان عن وقتها، فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَسورة مريم59، ويصير الناس عن صلاتهم ساهون، وحتى تلاوة القرآن والأذكار تجد حرباً منعاً تضييقاً، وتجد أيضاً صرفا لهواً لعباً ولذلك:
اصبر على مضض الإدلاج في السحر *** وفي الرواح إلى الحاجات والبكر
إني رأيت وفي الأيام تجربة *** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه *** فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
طيب بعض الناس يقولون: إن نتيجة المحنة الآن نشعر بالغربة، يقولون: يا شيخ هذا الحق هذا الكلام الذي أنت تقوله وهذه الأحكام وهذا الحلال هذه صارت المسألة الآن يعني الذي يعرفها ويقرها ويتمسك بها ويمشي عليها الآن مثل الغريب يعني محاصر متهم، نقول: الله عز وجل يصطفي من خلقه أولياء، وسلعة الله غالية، سلعة الله الجنة، سلعة الله لا تنال بالسهل الذي يعني يستطيعه كل أحد، لا، وثم الجنة درجات أيضاً، وبعض الناس ما عنده استعداد يتعرض للخطر لمسبة أو شتم، لصعوبة، ما يريد أن يمس بشيء، طيب هذه ليست طريقة الرسل، هذا نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط، هذا عيسى وهذا محمد صلى الله عليه وسلم، هناك محنة لأهل الصلاح بين الفساق، ومحنة للصادقين بين المنافقين، ومحنة للعلماء بين أهل الجهل، ومحنة لأهل الحق بين أهل الباطل، ومحنة للناطق بالحق بين الرويبضات، ومحنة لأصحاب المشاعر الصادقة والقلوب النابضة في وسط هؤلاء المنافقين والكسالى وأهل الدنيا، وأهل الأهواء وأهل الشهوات، والله عز وجل يمتحن الجميع، لكن شتان بين الفريقين، إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ، ما هو الفرق؟ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَسورة النساء104، فالمؤمنون يرتقبون الجزاء وأهل الضلال ضائعون مضيعون، المحن تقع لكن المواقف تختلف، المستويات الإيمانية التضحيات، العزائم، الهمم، الناس ما داموا في عافية مستورون فإذا نزل بهم البلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه، أهل الإيمان مهما نزل من المحن هم يعرفون الحقائق ويتجهون إلى الله وعندهم بصيرة يرون بها الطريق المستقيم، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ، عشرة آلاف، قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًاسورة الأحزاب22، فأدرك أهل الإيمان أنهم أمام محنة، فعليهم أن يثبتوا، وهذا الحال إذا اشتد الكرب ولجئوا إلى الله ودعوا الله ونصرهم، وانكشف الحصار الطويل عن نعمة كبيرة وموقف قوي للمسلمين الآن نغزوهم ولا يغزونا، تذكر المؤمنون وعد الله، هذا ما وعدنا الله ورسوله، الامتحان، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ، العملية ليست سهلة، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌسورة البقرة214، كان يعدهم بفتح الشام وفارس واليمن في ظل الحصار، كذلك الفتن التي تمر، فتن الدنيا، مثلاً فتنة الدجال التي هي أعظم فتنة في الدنيا تتفاوت فيها مواقف الخلق، فمنهم من يطيع الدجال ويدخل النار، ومنهم من يعصيه، منهم من يقتله الدجال ولا تزيده المحنة إلا يقيناً وبصيرة، جاء في الحديث الصحيح (يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه المسالح) يعني مجموعات الدجال المسلحة، مسالح الدجال (فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، فيقولون له: أوما تؤمن بربنا؟) يقصدون الدجال، (فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه، فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر الدجال به فيشبح فيقول: خذوه وشجوه فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، فيقول: أوما تؤمن بي، فيقول: أنت المسيح الكذاب)، هذا الآن هو الثبات، رغم الضرب الرجل لم يتراجع، الوحدانية الألوهية الربوبية، قائمة في نفسه لله تعالى، ولا يمكن أن يغير وأن يصف بها غير الله، (فيؤمر به فيوشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه بالمنشار، ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول: قم، فيستوي قائماً) يعني بأمر الله، (ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة)، وبعد ذلك يأخذه الدجال ليذبحه فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته من نحاس فلا يستطيع إليه سبيلاً، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به الدجال، يعني في النار التي معه، (فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)[رواه مسلم2938 والبخاري1882]. والحديث رواه البخاري ومسلم، فإذن واحد شاب صاحب علم يخرج للقاء ويثبت مع أنه يعني تنبعث له مسالح الدجال، ويأتي الدجال بنفسه، ويكون في تهديد ويثبت أمامه، ثم يكون في ضرب شديد ويثبت عنده، ثم يكون في نشر بالمنشار ويثبت عنده، هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين، في ذلك الوقت ما أعظم شهادة منه.
كيف نصون أنفسنا في المحن؟
كيف نصون أنفسنا أيها الإخوة في المحن، وكيف نثبت كيف؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍسورة البلد4الشدة والعناء والنصب والمعاناة، يعني نقاسي نعاني، الدنيا فيها مكابدة، فيها أنواع من المحن، من صرخة الوضع عند الولادة إلى سكرات الموت رحلة طويلة من المعاناة، ننتقل منها من قوة إلى ضعف ومن ضعف إلى قوة، من صحة إلى مرض ومن مرض إلى صحة، من غنى إلى فقر، من فقر إلى غنى، من عز إلى ذل، من ذل إلى عز، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِسورة الإنشقاق6، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍسورة الإنشقاق19، فقر بعد غنى، شدة بعد سعة، مرض بعد صحة، وهكذا.
كل يوم يمر بنا نواجه فيه أنواع من الشدائد خفيفة ثقيلة لا بد، من الناس من يبتلى بفراق حبيب أب، أم، أولاد، إخوة، أخوات، أصدقاء، أعزاء
كل يوم يمر بنا نواجه فيه أنواع من الشدائد خفيفة ثقيلة لا بد، من الناس من يبتلى بفراق حبيب أب، أم، أولاد، إخوة، أخوات، أصدقاء، أعزاء
.
المرء رهن مصائب لا تنقضي *** حتى يوارى جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في أهله *** ومعجل يلقى الردى في نفسه
ولذلك النعيم الحقيقي في النهاية، نعيم الجنة، وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَسورة العنكبوت64أي معنى الحيوان؟ يعني الحياة الكاملة، فتعلق الروح في البدن أقوى ما تكون في اليوم الآخر، أقوى ما تكون، من عرف حقيقة الدنيا، وأن فيها شقاء، إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىسورة طـه117، لكن أخرجهما، لما جاء رجل من أهل خراسان إلى الإمام أحمد قال: يا عبد الله قصدتك من خراسان أسألك عن مسألة متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة، إذن تطلب الراحة في دار العناء خاب من يطلب شيئاً لا يكون، فلا بد من إدراك الحقيقة؛ لأن بعض الناس يقولون: بعد الوظيفة والمال والتجارة وكذا سيكون يعني نحن نذهب للمنتجعات والسياحات، نبني بيوت فخمة وسيارات فخمة، ويكون لنا يعني ملابس فخمة، ويظنون أن الدنيا هذه فيها الواحد يصل إلى سعادة كاملة، ما في سعادة كاملة، ما في، حتى أهل الأموال الكبيرة عندهم هموم، وعندهم غموم، وعندهم آلام نفسية، ويصابون بالآلام الجسدية، يعني الغني، أو الملك، أو الكبير ما يصاب بالرشح، أنفلونزا ما تصيبه حمى، صداع رأس، لا بد.
المحنة قدر محتوم لا مفر منه، ولذلك يعني بعض الناس يقول: لا أراك الله مكروهاً، فقال بعضهم: كأنك دعوت علي بالموت.
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأشياء ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار
العوارض والمحن مثل الحر والبرد، لازم، لكن ماذا نفعل؟ لا بد أولاً أن نعرف الله بأسمائه وصفاته، فإذا عرفناه توكلنا عليه، والاتصال بالله بالعبادة هذا هو المفزع الأول، ثم من علم أن الابتلاء سنة ماضية في البشر سيكون أقوى على التحمل عند معرفة طبع الدنيا والحياة، ثم احتساب الأجر والثواب مهم جداً جداً، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌسورة البقرة156-157، (والصبر ضياء)[رواه مسلم223]، وما في شوكة إلا تكفر بها من خطاياك، ثم الرضا بالقضاء سعادة، الرضا بالقضاء سعادة، الرضا بالقضاء سعادة؟
اصبر على القدر المحتوم وارض به *** وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفى لامرئ عيش يسر به *** إلا سيتبع يوماً صفوه كدر
ثم تفاءل وارج الفرج بعد الشدة، فالله عز وجل سيجعل من بعد عسر يسرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يحفظنا في ديننا، وأنفسنا، وأهلينا، وأموالنا، ونسأله العفو والعافية، نسأله العفو والعافية، نسأله العفو والعافية.
أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.