بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وحياكم الله أيها الإخوة والأخوات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهمية مراعاة العواقب والمصالح والمفاسد
هناك موضوع في غاية الأهمية خصوصاً في هذا الوقت؛ لأننا نحتاج فيه إلى تقدير حركاتنا وسكناتنا وأفعالنا وتصرفاتنا وأن نزن الأمور.
ما هو هذا الموضوع؟
إنه مراعاة العواقب والمصالح والمفاسد، النظر في المآلات، ما موضوع المآلات؟ المآلات ما يؤول إليه الأمر، ما يصل إليه وما هي عاقبته؟ إلى أي شيء يصير؟ النظر في المصالح والمفاسد والعواقب مهم جداً الشريعة مبنية على مراعاة مصالح العباد في المعاش والمعاد، وتعطيل المفاسد بكافة أنواعها والتقليل منها، ولابد قبل ما نفعل أي فعل أن نفكر ما هي المصلحة الشرعية؟ ما هي المفسدة؟ ما هي العاقبة؟ إلى أي شيء يمكن أن يؤول؟ إلى أي شيء يمكن أن يصل وتتجه الأمور؟ نحن الآن نحتاج إلى فقه موازنات عظيم وهذا النوع من الفقه تشتد الحاجة إليه في الأحوال الصعبة وعندما تضيق سبل الحلول المطروحة وعندما تصبح قضية فعل أحد الأمرين مهمة جداً ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين من الفقه العظيم، لابد أن نتبصر بالنتائج التي يمكن أن تترتب على الأعمال، نحن لا نعلم الغيب لكن هناك تقدير هناك توقع هناك تفكير دراسة، قال الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً" وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، لاحظوا أيها الإخوة والأخوات، بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، قال الشاطبي: "وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة"، الكيس الفطن الذي ينظر إلى عواقب الأمور كيف يمكن أن تنتهي إلى أي شيء يمكن أن تصير، ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب، حركاتنا ليست مجرد حماس أو عواطف، لماذا كان السلف يستحبون أن يتمثلوا بأبيات امرؤ القيس مع أنه شاعر جاهلي؛ لأنه صور القضية في الفتن ومآلات هذه الصراعات أو الحروب إلى أي شيء يمكن أن تؤول.
الحرب أول ما تكون فتية *** تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها *** ولت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت *** مكروة للشم والتقبيل
النفوس أول ما ترد عليها الفتن تكون مستعجلة للدخول فيها، سبحان الله بعض الناس إذا جاءت مدلهمات خطوب أشياء فتن كأنها حية تسعى انجذبوا إليها ودخلوا فيها ووقعوا فيها، لماذا؟ لا يرون الحقيقة، لا يرون الآثار، كذلك امرؤ القيس يعني يشبه العواقب هذه، عواقب الأشياء السيئة بالفتاة التي أصبحت عجوزاً شمطاء ليس لها زوج أنف كل أحد منها وتولى عنها وكرهها، وكذلك مآل الحروب والفتن إذا لم ينظر المرء العواقب والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها يدخل فيها ويشارك فيها وإذا به صار وقوداً لها فاحترق وصار سبباً لهلاك غيره، اعتبار مآلات التصرفات والآثار والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها في غاية الأهمية وهذه مبدأ شرعي أصيل النصوص الدالة على مراعاة عواقب الأمور ومآلات الأفعال كثيرة.
أمثلة على مراعاة عواقب الأمور ومآلات الأفعال
ولنأخذ بعض الأمثلة:
قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍالأنعام:108، ما هو حكم سب آلهة المشركين؟ قربة وطاعة، لكن لو كان المشركون إذا سُبت آلهتهم يسبون إلهنا ويسبون الله تعالى، آلهتهم باطلة وإلهنا حق عز وجل، فهل نسب آلهتهم؟ لا، لماذا؟ لأننا إذا نظرنا في العواقب ووجدنا أنهم سيسبون إلهنا لا يجوز لنا أن سب آلهتهم فحرم الله في هذه الحالة سب آلهة المشركين مع أنه أصلاً حمية لله وإهانة لآلهة الكفار وغيظاً للعدو لكن لما كان يؤول إلى ويصير إلى سب الله تعالى كانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم ومفسدة سبه تعالى أعظم من مفسدة تركنا لسب آلهتهم، الله عز وجل عاقب أصحاب الجنة أصحاب البستان في سورة القلم على جني ثمارهم بالليل أو في الفجر يعني قبل الصباح قبل أن يطلع، لماذا؟ لأنهم يقصدون من وراء ذلك سيؤول هذا الأمر الجذاذ بالليل أو بالفجر إلى حرمان الفقراء الذين يأتون في الصباح يبحثون عن طعام لهم عند هؤلاء الناس الذين يحصدون المحاصيل، فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ *أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ *فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌالقلم:21-24، ماذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية؟ قال: جذاذ النخل عمل مباح في أي وقت شاء صاحبه ولما قصد أصحابه به في الليل حرمان الفقراء عاقبهم تعالى بإهلاكه وقال: وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُالقلم:33، ثم جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكراهة الجذاذ بالليل لكونه مظنة لهذا الفساد وذريعة إليه، ونص عليه العلماء، طيب لماذا الله عز وجل ما بسط لعباده جميعاً الرزق؟ لماذا لم يكن لكل الناس في العالم لكل واحد عنده مليارات؟ لأن ذلك سيؤول إلى بغيهم وبطرهم وأشرهم وتجبرهم قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌالشورى:27، لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق ماذا سيقع؟ البغي والطغيان، لماذا نهى الله تعالى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد واستعمال السلاح مع أنه استعمال السلاح ضد عدو مشرك طاغي قتل وبغى وكفر؟ مراعاة لعواقب الأمر، لأنهم لو استعملوا أيديهم وأسلحتهم فإن الكفار سيستأصلون المسلمين فروعي عاقبة الأمر مثل ما قال ابن القيم في إعلام الموقعين: "وكون مصلحة حفظ نفوسهم ودينهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة"، يعني: مقابلة الكفار العدوان بالعدوان، أو استعمال السلاح باستعمال السلاح، لماذا نهى الله تعالى عن التصريح بخِطبة امرأة في العدة وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُالبقرة:235؟ خوفاً من أن تكذب استعجالاً للزواج وهي في العدة، فأعينت بمنع خِطبتها والتصريح بذلك في العدة، لماذا يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها أليس تعدد الزوجات مباح؟! لماذا يحرم على الإنسان أن يجمع بين أختين أو بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها؟ لأن ذلك سيؤول إلى سيصير إلى عداوة بين الأرحام وتقطع ولذلك السنة نهت لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها، يعني: في النكاح في وقت واحد، والحديث متفق عليه، لماذا منع الرجل الوصية بأكثر من الثُلث؟ لأن ذلك يؤول إلى تضرر الورثة (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)[رواه البخاري1296 ومسلم 1628]لماذا نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو؟ لما قد يؤول إليه من نيلهم منه وإهانتهم له وانتهاكهم لحرمته، إذا وقع القرآن بين أيديهم وهم لا يرقبون في مؤمن ولا في مصحفه شيئاً حرمة، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسافروا بالقرآن فإني لا أمن أن يناله العدو)[رواه مسلم1869]، والنووي رحمه الله قال: "فإن أمنت هذه العلة فلا كراهة ولا منع منه حينئذ"، لو أمنت عليه أنهم لن يهينوه فلا بأس أن تأخذه معك في السفر، والحمد لله الآن القرآن صار في الأجهزة هذه الكفية والأجهزة الإلكترونية محفوظاً بداخلها، لماذا نهينا عن تناجي اثنين دون الثالث؟ لأن العاقبة ستكون أنه يحزن، يغضب، (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه)[رواه البخاري6290 ومسلم 2184]، يقول: لماذا يتكلمون بعيداً عني؟ لماذا لا يريدون مني المشاركة؟ لماذا لا يسمعونني حديثهم؟ لأنني أقل مستوى أو يتآمران عليّ، لعلهما يتآمران عليّ، لماذا لا ننظر في الدنيا إلى من هو فوقنا وإنما ننظر إلى من هو دوننا؟ لأننا إذا نظر إلى من هو فوقنا فإننا ربما نزدري نعمة الله علينا وما نرى نعمته علينا شيئاً، ولذلك قال: (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)[رواه مسلم2963]لماذا نهينا عن إقامة الحد في الغزو يعني إذا واحد سرق في الجيش المسلم في بلاد الكفار ما تقطع يده هو مع المسلمين؟ حتى لا يؤدي ذلك إلى لحوق المحدود بالكفار فقال: (لا تقطع الأيدي في الغزو)
لماذا نهينا عن إقامة الحد في الغزو يعني إذا واحد سرق في الجيش المسلم في بلاد الكفار ما تقطع يده هو مع المسلمين؟ حتى لا يؤدي ذلك إلى لحوق المحدود بالكفار فقال: (لا تقطع الأيدي في الغزو)
[رواه الترمذي1450]، والترمذي قال: العمل على هذا عند بعض أهل العلم لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه بالعدو، لماذا؟ يعني حمية وغضباً يقول: هؤلاء يعني المسلمين أقاموا عليّ الحد؛ قطعوا يدي، فيلحق بأعدائهم، فإذا صاروا في بلاد المسلمين فعندئذ يقام الحد، لماذا حُرم القاتل من ميراث المقتول؟ وقال عليه الصلاة والسلام: (القاتل لا يرث)[رواه الترمذي2109]، حتى تسد ذريعة القتل؛ لأجل تحصيل المال، لو ورث القاتل لو كان القاتل يورث ستؤول القضية إلى أن كل واحد مستعجل طماع يقتل المورث ليرث منه، لماذا اعتبر الذي يسب والدي شخص ساباً لوالديه هو؟ لأنه إذا سب أبا الرجل سب أباه وسب أمه، فإذن مراعاة المآلات، الأحكام مرتبطة لأنه سيؤول إلى، طبعاً لا يمنع أن يكون هناك سبب آخر وهو لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِالنساء:148، يعني: حتى لو كان الطرف الآخر عفيف اللسان وما يرد ما يجوز هذا اعتداء أن يسب أباه، النبي عليه الصلاة والسلام يعني منع كتابة شيء مع القرآن (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)[رواه مسلم 3004]لماذا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام خشي أن يختلط القرآن بغيره، فلما انتفى هذا بوفاته جازت الكتابة فجمع العلماء السنة كما صار تدوينها في عهد عمر بن عبد العزيز وغيره، لماذا نهينا عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وبيع النخل قبل أن يزهو؟ قال في الحديث: "نهى عن بيع الثمار حتى تزهي"، فقيل له: وما تزهي؟ قال: (حتى تحمر)، [رواه البخاري2199 ومسلم1555]، لأن هذا البيع يعني ممكن يؤدي إلى التنازع والتشاجر بين المتبايعين والخصام ولذلك قال في الحديث: (أرأيت إذا منع الله الثمر بما يأخذ أحدكم مال أخيه)[رواه البخاري2199 ومسلم1555]، ومن هذا الباب النهي عن البيع على بيع أخيه والخطبة على خطبته؛ لأن ذلك يؤدي إلى التقاطع والشحناء.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ عواقب الأمور
المبدأ هذا مبدأ النظر في العواقب فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ترك أشياء خشية أشياء، امتنع عن قتال قريش في الحديبية، لماذا؟ الصحابة كانوا متحمسين للقتال وكانوا يريدون القتال، لكن بالنظر إلى عواقب الأمور والنتائج المترتبة على ذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال بأمر من الله، لماذا؟ الله بين ما هي الخشية وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍالفتح:25، إذن كان هناك في مكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد استخفوا بالإيمان، المسلمون لا يعلمونهم لو اقتحموا مكة وقتلوا سيطئون هؤلاء ثم يقول الكفار: قتلتم إخوانكم، ويحس المسلمون بالحرج معرة، معرة بغير علم، وسبب آخر قال تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُالفتح:25، يعني هناك أناس من الكفار يريد الله أن يهديهم ولو اقتحم المسلمون مكة وجرى القتال المسلمون سيقتلون منهم، سيقتلون أناساً أراد الله هدايتهم ولذلك قال الله لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُالفتح:25، لكن لو انفصل الفريقان وتميز الصفان لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاالفتح:25، لو تميز الصفان لأباح الله القتال وأذن فيه لكن في اختلاط.
النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً من مراعاته لعواقب الأمور لم يقتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين يستحق القتل وزيادة على جرائمه العظيمة وإيذاء الله ورسوله والمؤمنين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)[رواه البخاري 4905 ومسلم2584]عبد الله بن أبي بالنسبة للعرب البعيدين عن المدينة بالنسبة لهم مسلم سيفاجئون أنه قتل فسيقولون إذا بقينا على ديننا قاتلنا وإذا دخلنا في دينه قتلنا، ولذلك ما قتل النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي وغيره من المندسين لأجل هذا، وأيضاً فيه مصلحة أخرى وهي الاستئلاف وعدم التنفير، يعني: حتى استئلاف قومه، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره وقال: (أما أنا فقد عافاني الله وأكره أن أثير على الناس شراً)[رواه البخاري5763 ومسلم2189]أنزل الله المعوذتين وعافاني، فترك قتله خشية أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفاء هذا من الأنصار وحصل المقصود بالشفاء والمعافاة والحمد لله، هذا العقل، هذا النظر إلى عواقب الأمور، رب أكلة منعت أكلات، النبي عليه الصلاة والسلام ترك إعادة البيت على قواعد إبراهيم حتى لا يثير البلبلة عند قريش والعرب، ما كانوا ليفقهوا لو نقض البيت وأعاد بناءه على أساس إبراهيم، لماذا فعل ذلك؟ فترك تغيير بناء البيت لما في من إبقائه تأليف القلوب، ولذلك قال مالك رحمه الله للخليفة العباسي الذي أراد أن يعيد البيت على قواعد إبراهيم: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله، نحن نعرف أن بعد النبي صلى الله عليه وسلم جاء الخلفاء عبد الله بن الزبير يعني آخرهم لما نقض الكعبة بويع بمكة وصار خليفة وحقق الأمنية النبوية ونقض البيت وأدخل الحجر فيه وأدخل كل المساحة مساحة الكعبة في البنيان ونزل بالباب إلى الأرض وجعل لها بابين باب يدخل منه ناس وباب يخرجون، لما جاء الحجاج الظالم وحاصر الكعبة وقصفها بالمنجنيق وقتل ابن الزبير وفعل ما فعل قال: هذا ابن الزبير مبتدع ضال وفعل وغير وهذا فأعاد الحجاج ونقض الكعبة وجعلها على ما كانت عليه في عهد قريش، وراحت الأيام جاء عهد هارون الرشيد أراد أن يحقق الأمنية النبوية ويرجع بالكعبة إلى أساس إبراهيم الخليل؛ لأن قريشاً لما بنتها لم تكمل البنيان؛ لأنهم ما وجدوا كل مواد البناء المطلوبة اللازمة لبناء كل الكعبة فنبوا هذا المقدار والباقي جعلوا عليه حجراً، لما أراد هارون أن يفعل ذلك قال مالك رحمه الله: يا أمير المؤمنين لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، كل ما جاء واحد نقضه وجاء الثاني رجعه، فاترك بيتاً أسلم الناس عليه، النبي عليه الصلاة والسلام في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد لما أراد الصحابة أن يقوموا لينهوا عن هذا المنكر وهذا منكر عظيم بلا شك قال: (لا تزرموه دعوه)[رواه البخاري6025 ومسلم284]لماذا؟ لأنه لو هجموا عليه سيهرب منهم وتنتشر النجاسة في مساحة أوسع في المسجد ويكون في ضرر على الرجل، هذا الموضوع المهم هذا مراعاة العواقب وما تؤول إليه الأمور، اعتبار المآلات والنظر في المصالح والمفاسد التزم السلف به أيما الالتزام.
أمثلة من أحوال السلف في هذا الموضوع
ولنذكر أمثلة من أخبارهم في ذلك:
روى البخاري رحمه الله أن رجلاً تكلم في أمر الخلافة في منى في موسم الحج وقال: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبا بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر وهم أن يتكلم يعني في موسم الحج وقال: إني إن شاء الله لقائم عشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، يعني: هذا موسم الحج فيه الفقيه والعالم والجاهل والحكيم والمتهور والعاقل والغوغائي، قال: فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، لو قمت الآن في منى في هذا الجمع الكبير من الذين سيسبق إليك رعاع الناس وغوغاءهم، الكبار الفقهاء والصحابة لن يجدوا مكاناً بقرب عمر، من الذي سيسمع الكلمات؟ هؤلاء الغوغاء والرعاع، فيقول عبد الرحمن بن عوف لعمر: فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، هو أن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، طيب ما هو الحل؟ قال: فأمهل حتى تقدم المدنية فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها، وفعلاً أخذ عمر بوصية عبد الرحمن وأجّل الكلام، إذن: الواحد قد يطلق تصريحاً تكون عاقبته ضارة، قد يتكلم بكلام يستعجل فيه أو يقوله في غير المكان المناسب بغير العبارات المناسبة يترتب عليه أضرار ولابد من النظر في عواقب الأمور ربما تكون هناك مصلحة الآن في الكلام لكن مفسدته أكثر، هناك كلام قد يثير فتن فيُحجب مع أنه صحيح لكن يُفهم على غير وجهه، السلف راعوا كذلك هذا في الفتاوى، والله لو أننا تأملنا فتاوى الصحابة والسلف ما ينقضي العجب من قضية مراعاتهم لهذه الأشياء، جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فسألته عن امرأة زنت وحملت فلما ولدت قتلت ولدها، يعني: جمعت بين الزنا والقتل، تسأل ما لها؟ فقال عبد الله: ما لها! لها النار، وصحيح الذي يقتل مؤمناً متعمداً، جزاؤه جهنم هو صادق، فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًاسورة النساء110، فمسحت عينيها ثم مضت، بين لها باب التوبة المفتوح، طيب لماذا ما قال لها توبي ويتوب الله عليك، وخلاص، لو قال لها ذلك مباشرة لاستصغرت ذنبها،اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَسورة يوسف9، لكن ما أراد ذلك، قال: ما لها! لها النار، لما المرأة شعرت فعلاً بعظم ما فعلت وأنبتها نفسها حقاً على الجرم الذي ارتكبته يأتي بعد ذلك دلالتها على الاستغفار والتوبة، هذا الكلام في غاية الحكمة.
قصة أخرى: قال سعد بن عبيدة: جاء رجل إلى ابن عباس قال: ألمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟ قال ابن عباس: لا إلا النار، فلما ذهب الرجل السائل، قال جلساء ابن عباس لابن عباس: أهكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، فقال ابن عباس: إني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، قال: أنا قرأت في عينيه أحس من سؤاله ومن كلامه ومن وجه ومن القرائن المصاحبة أنه الرجل هذا جاء غاضب عازم على جريمة، فلذلك أجابه بهذا الجواب، جلساء ابن عباس ما تركوا المسألة، فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك وجدوا فعلاً هذا إنسان غاضب من شخص ويريد أن ينتقم منه وعازم على قتله وجاء يسأل ابن عباس هل في توبة لو قتله، لو قال له توبة، كان صارت الجريمة، هذه فراسة المفتي، أين هذا الآن في الذين يجيبون في القنوات الفضائية أمام الناس ولا يعرف لا يقدر ولا يتفطن ولا يحس ولا يشعر وربما يخبط خبط عشواء، هذا الفقه وين الفقه هذا في الفتاوى اليوم، أين هو؟ من القصص الطريفة في حساب العواقب أن رجلاً دخل على الخليفة العباسي المهدي ومعه نعلان فقال هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك، فقال المهدي: هاتها، فناوله إياها، فقبلها المهدي ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما انصرف الرجل، قال المهدي لجلسائه: والله إني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير هذه النعل فضلاً عن أن يلبسه، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليّ، فتصدقه الناس؛ لأن العامة تميل إلى أمثالها، كلام المهدي فيه تحليل نفسية العامة، لأن العامة تميل إلى أمثالها ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم ورأينا هذا أرجح وأصلح، بغض النظر عن صحة ما فعله المهدي، القضية أن الواحد قبل ما يتصرف تصرفاً يفكر هذا يمكن أن يؤول إلى أي شيء؟ نقف وقفة أخرى مع كلام بعض أهل العلم في هذا الموضوع الحساس والكبير والعميق ونسأل الله الفقه في الدين.
وهكذا كما سمعنا أيها الإخوة والأخوات قضية مراعاة المآلات تحتاج إلى علم راسخ ونظر ثاقب، وخاصة عند الفتن قال الحسن رحمه الله: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل"، فلما تأتي في البداية الناس كثيرون مستعدون للمشاركة والانضمام والدخول وإذا بعد ذلك يعني صارت العواقب وخيمة وتبين أن هذه عاقبتها على الفوضى والاضطراب وسفك الدماء والتفرق والاختلاف كل واحد صار يعرف الآن الفتنة هذه، لكن أول ما جاءت لا يعرفها إلا العلماء، قال أيوب السختياني: "كان الحسن يبصر من الفتنة إذا أقبلت كما نبصر نحن منها إذا أدبرت".
أيها الإخوة والأخوات قارون لما خرج على قومه في زينته الذين تأخذ بأعينهم بريق الذهب والفضة والأموال، ماذا قالوا؟ لما خرج على قومه في زينته ماذا قال العامة الغوغاء الرعاع، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍسورة القصص79، طيب الذين يبصرون بواطن الأمور ويعلمون الحقائق والموازين الشرعية ماذا قالوا؟ أصحاب البصيرة وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَسورة القصص80، فإذن الأشياء يعني تخدع، مظاهر تخدع كثيراً ما تخدع الكثير، لكن أهل العلم والبصيرة يكشفونها، والذي لا يراعي عواقب الأمور ونتائج الأمور قد يترتب على قوله وعلى فعله وتسرعه سفك دماء، قد يترتب على تسرعه أحياناً في فتوى ظالمة هلاك نفس بريئة الرجل الذي شُج في رأسه واحتلم أفتاه من لا علم له لابد من الاغتسال واغتسل ومات، فدعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأنهم لم يكونوا من أهل العلم فاجتهدوا بغير علم وأخطئوا، فمن الذي لا يُلام؟ من الذي له أجر؟ الذي يجتهد من أهل العلم ويخطأ، لكن الذي يجتهد من أهل الجهل ويخطأ يأثم ويُلام وهذا جواب من قال: طيب إحنا اجتهدنا لو طلعت غلط يعني ما لنا أجر، نقول: هل أنتم من أهل العلم؟! هذا السؤال.
أيها الإخوة والأخواتيجب على العالم مراعاة المقاصد والمآلات واعتبار ذلك وعلى الدعاة إلى الله طلبة العلم أيضاً هذا الأمر ولابد لأنهم صمام الأمان في المجتمع لابد من النظر في العواقب ولابد أن يكون هناك موازنة بين المصالح والمفاسد، وترجيح الغالب منهما وهذا مبدأ أصيل
يجب على العالم مراعاة المقاصد والمآلات واعتبار ذلك وعلى الدعاة إلى الله طلبة العلم أيضاً هذا الأمر ولابد لأنهم صمام الأمان في المجتمع لابد من النظر في العواقب ولابد أن يكون هناك موازنة بين المصالح والمفاسد، وترجيح الغالب منهما وهذا مبدأ أصيل
في بعض الأحوال تكون المصلحة المترتبة على الفعل أعظم من المفسدة الموجودة فيه فيقدم المصلحة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة البقرة173، تناول الخنزير والميتة ما حكمه؟ حرام مفسدة، طيب لو اضطر إلى ذلك في برية انقطع فيها ما في طعام ولا شراب وإما يأكل من هذه الميتة أو يهلك، ماذا نقول؟ مفسدة الأكل أعظم وإلا مفسدة ترك الأكل؟ مفسدة ترك الأكل أعظم، الأكل فيه مفسدة أكيد حرمه الله لكن عدم الأكل يترتب عليه ذهاب النفس، ومصلحة بقاء النفس أعظم من مفسدة الأكل.
في قصة موسى مع الخضر دليل واضح على الموازنة في قضية المفاسد وقضية المصالح، يعني: موسى والخضر يسيران على الشاطئ مر بهما قوم على سفينة من المساكين عرفوا الخضر فحملوهما بغير أجرة، ولما سارت السفينة إذا بالخضر يأخذ قدوماً وفأساً ويقتلع خشبة ويخرق السفينة ويضرب خشبة ثانية وشوه المنظر، خرقها وشوه المنظر، هذا جزاء الإحسان، يعني: حملوهما بغير أجرة اللي ما يعرف الأمور يقول هذا إفساد وهذه خاتمة، ما هذا التصرف، لكن عبد الله الخضر الموحى إليه من الله وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيسورة الكهف82، ماذا قال؟ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًاسورة الكهف79؛ لأنه يعرف الواقع، ويعرف أن هناك ملك ظالم، وأنه سيقدمون عليه وستعجبه السفينة ويغصب السفينة فخرق السفينة مفسدة لكن أقل من مفسدة استيلاء الظالم على السفينة، وشوه منظر السفينة للمساكين أحسن من أن تؤخذ السفينة منهم ويصبحون فعلاً مساكين بالليل والنهار، وفي البر والبحر ما في مصدر رزق ولا شيء، الآن ممكن واحد يقول إقامة الحدود فيها مفسدة ألم على من أقيم عليه الحد وفضيحة له، نعم صحيح، لكن ما في مصلحة أكبر وأعظم للناس في حماية أرواحهم وأعراضهم وعقولهم وحقوقهم وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌسورة البقرة179، كشف العورة فيه مفسدة لكن لما تصير القضية قد تهلك المرأة إذا ما كشف عليها الطبيب ما تتحمل الآلام يتضاعف المرض خلاص إذا ما وجدنا طبيبة نرتب طبيبة مسلمة طبيبة كافرة طبيب مسلم طبيب كافر، بالترتيب، نظر الرجل للمرأة الأجنبية مفسدة لكن عند الخِطبة نقول: مفسدته أقل من مفسدة الفراق ربما؛ لأنه إذا ما نظر إليها وتزوجها بعدين يقول: أنا ما توقعتها كذا، وهي تقول: أنا ما توقعت أنه كذا، ثم يكرهها، يبغضها وتبغضه يحدث الطلاق والانفصال، هذه مفسدة أكثر من مفسدة النظر، وإلا نحن نعرف النظر إلى المرأة الأجنبية مفسدة، تعدد الزوجات فيه مفسدة ضرائر وغيره وحرب ولكن المصالح التي فيه مزيد من إعفاف نفسه وقد يجب عليه هذا وإعفاف الثانية أو الثالثة أو الرابعة وكثرة النسل ، هذا مصلحته أكبر.
الصحابي لما قبل رأس ملك الكفار الروم، لماذا؟ لأنه قال: ما أطلق لك الأسرى إلا إذا قبلت رأسي، تقبيل رأس الكافر مفسدة؟ لكن إبقاء المسلمين تحت الكفر والفتنة مفسدته أعظم، ولذلك قبل رأسه، تشريح جثث الأموات مفسدة، اعتداء على حرمة الميت، طيب إذا كان يترتب عليه كشف جريمة فيها الآن قاتل وفيها ربما حدود، طيب لو مررنا الأمر وما قمنا بالتحقيق هذا فاتت مصلحة عظيمة وحصلت مفسدة كبيرة، شق بطن المرأة الميتة لإخراج جنينها الحي، صحيح شق بطن المرأة الميتة اعتداء على حرمتها صحيح لكن ترك الجنين يموت مفسدته أكبر وهكذا.
إذن أيها الإخوة والأخوات نحن أمام موضوع كبير يحتاج إلى فقه، يحتاج إلى عمق، يحتاج إلى علم وإلى بصيرة وإلى نظر وإلى تأني وتروي، والله هذا الباب لو يعرف الناس حقيقة الحاجة إليه لأكبوا عليه ودرسوه وصار له في حياتهم نصيب كبير.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، ونسأله عز وجل أن يجعلنا ممن يحرم الحرام ويحلل الحلال ويعمل بالمحكم ويؤمن بالمتشابه إنه سميع مجيب قريب.
أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.