بسم الله الرحمن الرحيم
السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات ومرحباً بكم جميعاً.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهذا برنامجنا معكم تبيان نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا فيه لما يرضيه إنه سميع مجيب.
مفهوم النجاح:
موضوعنا أيها الإخوة في هذه الحلقة عن النجاح، النجاح من الكلمات التي تبهج لها النفوس وتنشرح لها الصدور ويمتلئ القلب لها سروراً وهي كلمة لها بريق، مطلب كل إنسان في حياته في تجارته في وظيفته في دراسته، فهذا النجاح إذاً مطلب عظيم ونجاح الآخرة بالنسبة لنا معشر المؤمنين وأهل الإسلام قبل أي نجاح آخر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات)[رواه الطبراني في الدعاء1422]رواه الطبراني وقال الهيثمي: رجاله ثقات، كان عليه الصلاة والسلام يتفاءل ويعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد يا نجيح، وكذلك كل كلمة حسنة كما جاء في سنن الترمذي، لكن ما هو النجاح الحقيقي؟ الناس وإن اتفقوا على طلب النجاح إلا أنهم يختلفون في رؤيتهم له، فمنهم من يرى النجاح في تكوين الثروة، منهم من يراه في أن يصبح مشهوراً، منهم من يراه في استقرار حياته الزوجية وتأمين مستقبل أبنائه، ومنهم من لا يرى النجاح إلا في إشباع غرائزه، الموضوع هذا موضوع النجاح كثر الكلام عنه وصارت الكتب العربية والمعربة ومراكز تهتم بالتدريب تنشئ دورات في مهارات النجاح والتفوق، الغربيون اهتموا بهذا المفهوم ودرسوه ودرّسوه لكن من زاوية مادية بحتة، مع الأسف تأثر بعض المسلمين بهم وأصبحوا يتحدثون عن النجاح بالمواصفات الغربية من زاوية معينة فقط، الغرب الذي لا يؤمن إلا بالمحسوس لا يؤمن إلا بالمادة لا يؤمن إلا بالدنيا، فصار هؤلاء يتحدثون عن النجاح فقط من الناحية الدنيوية، يتحدثون عن النجاح في شعب الحياة، حتى تكلموا النجاح في شراء حذاء، والنجاح بإجراء اتصال هاتفي، والنجاح بكسب زبون جديد، ولا شك أن هذه من حسنات الدنيا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةًلكن نسوا قول الله: وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةًسورة البقرة201.
لقد أهمل النجاح الأخروي كثيراً وصارت قضية الفوز الحقيقي بنيل رضا الله عز وجل ودخول الجنة غائبة عن أذهان الكثيرين، فما هو الفارق بين نظرة الإسلام ونظرة الغرب للنجاح؟
الفارق بين نظرة الإسلام ونظرة الغرب للنجاح:
النجاح الغربي هو أن يحقق الإنسان هدفه بغض النظر عن سبيل الوسائل أي وسيلة لكن في الإسلام النجاح الحقيقي أولاً أن تنجح في عبادة الله ثم بعد ذلك أن تنجح في دنياك، وقد تفوت الدنيا ولكن ينجح الإنسان في عبادة الله.
في قصة بئر معونة مثلاً: "لما طعن أحدهم حرام بن ملحان غدراً من الخلف قال حرام رضي الله عنه: الله أكبر فزت ورب الكعبة"[رواه البخاري2801 ومسلم677]متفق عليه، فأقسم على أن موته غيلة في سبيل الله طعن من الخلف أن هذا فوز، حتى تعجب الكفار وصاروا يتساءلون ماذا يعني وقد طعن ومات أين الفوز؟ حتى أخبرهم بعضهم بأنه يقصد الفوز بالجنة.
في قصة أصحاب الأخدود كانت في النهاية قتل الغلام وكذلك المؤمنين جميعاً، ومع ذلك الله عز وجل قال: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُسورة البروج11فأين الفوز؟ كان في الثبات على الدين ومنهج الرحمن حتى النهاية.
النجاح الحقيقي الأعلى الأكبر هو إرضاء الله تعالى والفوز بالجنة، وبالمناسبة لفظة النجاح لم ترد في كتاب الله تعالى لكن وردت ألفاظ تغني عنها مثل: الفوز، الفلاح، وردت كلمة الفوز في أكثر من عشرين موضعاً كلها مقترنة بالنجاة من عذاب الآخرة والظفر بنعيمها، كما في قوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَسورة آل عمران185، كذلك وردت لفظة الفلاح في أكثر من أربعين موضعاً مرتبطة بالأعمال الصالحة كالإيمان والتقوى والتوبة والجهاد والذكر، كقوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة آل عمران104يعني: الفائزون بالجنات الناجون من عذاب الله، كما قال ابن كثير رحمه الله، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة الأعراف8حصر الفلاح في هؤلاء دون غيرهم، بل ورد انتفاء الفلاح عن الكافرين والظالمين كما جاء في قصة السحرة: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَسورة القصص37، وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىسورة طـه69، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا من المفلحين وهم يشركون بالله ويضرون الناس بالسحر.
وقضية الجمع بين حسنات الدنيا وحسنات الآخرة أمر مهم للغاية، أما الاقتصار على حسنات الدنيا فقط ونسيان حسنات الآخرة مصيبة، قص الله علينا ما يمكن أن يعتبره بعض الناس نجاحاً في تكوين ثروة لكن ماذا كانت العاقبة من رجل كافر بالله؟ قارون جمع الثروة وفرح بالمال واغتر ماذا قال؟ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيسورة القصص78وانخدع ضعاف البصيرة بمظهره وقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍسورة القصص79ولم يعلم المخدوعون أن هذا النجاح الزائف الذي نجح فيه هذا الرجل بجمع الثروة هو في الحقيقة نجاح زائف، وكان بعده أن خسف الله به الأرض: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَسورة القصص82.
إذاً: ما هو مفهومنا للنجاح؟ ماذا يفهم الناس عن كلمة النجاح؟
لننتقل إلى هذا الحوار والسؤال والجواب، السؤال واحد وتعددت الإجابات عن مفهوم النجاح، نسمع وإياكم هذا.
تلك إذاً كانت مفهومات بعض الناس عن كلمة النجاح، وتعليقاً على الموضوع: لا مانع أن يجتمع للمرء المسلم النجاح في الدنيا والآخرة، بل إن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة البقرة201لكن لا توصف سعادة الدنيا فقط أو نعيم الدنيا فقط أو إنجازات الدنيا فقط أنها النجاح الأكبر كلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُسورة يونس62-64لا بد أن نبصر النجاح في الناحية الأخرى في الدار الباقية الخالدة الآخرة مع السعي في النجاح في الدنيا.
أهمية النجاح:
والحديث عن النجاح مهم لأن الاطلاع على سير وقصص الناجحين يحفز، ونريد أن يكون في جيلنا هذا الاقتداء بمن سبق، كذلك في سماع هذه السير علاج للإحباط واليأس الذي يعاني منه كثير من الشباب في أنحاء العالم العربي والإسلامي، ولو ذكرت لهم نماذج فإنك ستفتح أعينهم وآذانهم على أشياء في تاريخهم ربما لا يعرفونه، وعندما يرى المسلم بطلاً من الأبطال عالماً من العلماء قائداً من القادة قدوة من القدوات ناجحاً من الناجحين فإنه ستتحفز همته لكي يتغير واقعه بناء على تشبهه بسلفه، في ذكر عوامل النجاح بيان للسنن الكونية، النجاح ليس ضربة حظ كما يقولون فقط، الله يوفق ويقسم، ونيل الأشياء لها أسباب.
ولا بد في النجاح من عقبات فهو مرتبة سامقة ودرجة سامية لا تنال إلا بمجاهدة، النبي صلى الله عليه وسلم سيد الناجحين، نجح في تبليغ رسالة ربه، لكن لم يكن طريق الدعوة مفروشاً بالورود بل تعرض لأنواع من البلاء: تعرض للقتل.. للخنق.. حوصر في الشعب.. ضرب.. شتم.. شج رأسه.. كسرت رباعيته.. قذف في عرضه.. أوذي في أهله؛ ولذلك من يريد أن يسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم فلا يظنن أنه سينجو من الأذى، ورغم أن الأجواء التي سبقت البعثة المحمدية كانت باعثة على اليأس والإحباط، والناس ما بين ساجد لوثن وعابد لصنم وخاضع لبشر، في جهل مظلم: يئدون البنات، عاداتهم قبيحة، نعرات العصبية متفشية، حروب على أتفه الأسباب، مع ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الصعاب حتى دانت له الدنيا ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعم الأمن الجزيرة بعد الإيمان، وأصبحت منارة للعلم والإيمان للعالم كافة.
وهذا الشيء اعترف به حتى الغربيون واضطروا يعني في كتبهم عن الناجحين في العالم أن يدرجوا اسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صاحب منجز رغماً عنهم، ما استطاع منصفوهم أن يتجاهلوه كيف انتشل هذه الأمة من هذا التفرق وهذا التخلف وهذه الوثنية وهذه الرذائل لتكون أمة إيمان وإسلام وفضائل وقوة وهيمنة، وتأسست دولة الإسلام.
ميادين النجاح وأمثلة على ذلك:
وينبغي أن ندرس قصة نجاح النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته من خلال السيرة النبوية، وهذه مسألة عظيمة أيها الإخوة والأخوات دراسة السيرة النبوية كي نتلمس الأسباب والوسائل التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لينجح في دعوته وتبليغ دين الله للناس، فهذه مسئوليتنا جميعاً.
النجاح له ميادين كثيرة يشمل جوانب الحياة المختلفة، إذا انتقلنا من الجوانب الشرعية إلى الجوانب الأخرى الحياتية الاجتماعية، والاجتماع مضبوط بالشرع يجب أن يكون: تربية الأبناء.. دراسة الطلاب.. تجارة التجار وظائف الموظفين، كذلك الأمثلة تساعدنا في معرفة كيف نتوجه؟ التأسي هذا يساعدنا في قضية معرفة الدرب والطريق، الناس أصناف فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير، هناك من ينجح إذاً في العلم والدعوة والعبادة، وهناك أيضاً من ينجح على الجانب الاجتماعي فيكون له علاقات جيدة: حسن معاملة وخلق وطيب معشر: (خالق الناس بخلق حسن)[رواه الترمذي1987]، طلاقة الوجه، خفض الجانب، إيناس، بذل الندى، تحمل الأذى، هذا صاحبه يرجى له الفلاح والفوز والنجاح.
من الناس من ينجح على الجانب الاقتصادي فيحقق مكاسب مالية، وهذا ليس عيباً بل هو مطلوب وقوة للدين وإغناء للنفس وقيام بواجب الإنفاق على من كلفك الله الإنفاق عليهم، أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف كانوا تجاراً ناجحين، وعبد الرحمن بن عوف نزل السوق واتجر وباع واشترى وصبر، حتى قال: أقبلت الدنيا علي، لو رفعت حجراً لظننت أن أجد تحته ذهباً أو فضة، قال أنس: لقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف، قال ابن حجر رحمه الله: مات عن أربع نسوة فيكون جميع تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، يعني: ثلاثة ملايين ومائتين ألف دينار من الذهب والدينار أربعة غرام وربع، أضرب أربعة غرام في ثلاثة مليون ومائتين ألف لتعرف الثروة، الصحابة يعني ما زهدوا في الدنيا وهي مولية عنهم، لا أقبلت عليهم ومع ذلك زهدوا فيها.
هناك من الناس من ينجح في مجالات من العلوم الدنيوية، يعني مثلاً اللغات إتقان اللغات، زيد بن ثابت رضي الله عنه أتقن لغة اليهود في وقت قياسي، حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا زيد تعلم لي كتاب يهود)، قال: "ما مرت بي خمسة عشر ليلة حتى حذقتها"[رواه أحمد21108]، هذا التعلم السريع يدل على ماذا؟ الذكاء والفطنة خصوصاً مع صغر سنه اثني عشرة سنة، قال ابن كثير: وقد كان زيد بن ثابت من أشد الناس ذكاء تعلم لسان يهود في خمسة عشر يوماً، وتعلم الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خدام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسلمون يعني في القديم والحديث فيهم نماذج من النجاح كبيرة جداً، نريد أن نتعرف على نموذج من نماذج النجاح في العلم الشرعي وجمعه وتعليمه إنه نموذج النجاح العظيم في قصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
كان ذلك إذاً أيها الإخوة والأخوات عرضاً سريعاً لبعض المعالم في حياة ذلك الإمام رحمه الله تعالى، لكن ليست قضية نماذج النجاحات مقتصرة على أسلافنا بل يوجد في واقعنا والحمد لله كثير من قصص النجاحات، فمن ذلك في مجال طلب العلم الشرعي شيخنا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله الذي جعل حياته للعلم تعلماً وتعليماً ونشراً ودعوة، وكان له أسلوبه العجيب في طريقته في التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلاب وتسهيله، وبالأمثلة والمعاني والأسئلة مع الفصاحة والبيان، وطريقة التقسيمات والإكثار من الشواهد وربط المسائل بالواقع وتدريب الطلاب وشحذ الأذهان ولفت الأنظار إلى الدقائق والمعاني والربط مع صبره وتحمله وجلس للتدريس وعدد الطلاب لا يتجاوز عشرة في أول أمره وظل على ذلك قرابة عشرين سنة، فصبر على قلة الطلاب واستمر ثم بدأ الصعود في إقبال الطلاب، واستمر في نشر العلم قرابة خمسين سنة رحمه الله حتى بلغ عدد جنسيات الطلاب الذين ارتادوا دروسه ما يقرب من ثلاثين جنسية، وتخرج على يديه عدد كبير من النخب العلمية المنتشرة في أنحاء العالم.
النجاحات الدعوية أيضاً لها نماذج حتى في عصرنا هذا، هذا أخونا الداعية الهندي ذاكر نايك صاحب خلق وسنة وله قبول وتأثيره عظيم في شبه القارة الهندية، وقد انتفع به كثير من غير المسلمين وكان سبباً لإسلامهم، وهدى الله على يديه خلقاً، وهو داعية وخطيب متمكن ومفوه وأسس مركزاً لأبحاث الدعوة وتدريب الدعاة، وقناة تبث بالإنجليزية والأردو والرجل آية في الحفظ والذكاء، قوة الاستحضار والقدرة على المناظرة وإفحام الخصم، وعنده هذا الاستحضار العجيب والتذكر للآيات بأرقامها، بل حتى الشواهد من كتب القوم بصفحاتها، وكذلك استحضار الأحاديث النبوية وأرقامها أيضاً، شيء عجب، وناظر النصارى واليهود والهندوس والبوذيين، ويحفظ من كتبهم الأناجيل وباللغات المختلفة، ويحتج بما فيها على من يناظره لإثبات عقيدة أهل الإسلام وبطلان عقائد أهل الشرك والكفران، وتحدى الكثير من القسس وتحدى حبر النصارى الأعظم في جلسة مفتوحة، ومن أشهر مناظراته مناظرته مع عالم أحياء ويليام كمبل الذي ألف كتباً يدعي فيها أن هناك أخطاء علمية في القرآن، فأظهر له أخونا الدكتور جهله المطبق، وتفاهت ما طرحه، حتى أن بعض النصارى الذين سمعوا المناظرة علقوا عليها بأن عقل ذلك الرجل مغلق، استثمار ما وهبه الله من ذاكرة ودقة وعزو والمهارة والمناظرة، مئات المحاضرات في بقاع مختلفة، حتى شهد له شيخه أنك ما فعلته يا بني في أربع سنين استغرق مني أربعين سنة.
وهنالك يعني على مستوى يعني إخواننا الذين يعملون الآن في الدعوة في الميادين المختلفة قصص نجاح متعددة، فنطلع على نموذج من هذه النماذج نقله لكم إخوانكم من الميدان في تجربة من التجارب في دعوة غير المسلمين وكيف يكون النجاح فيها.
إذاً أيها الإخوة والأخوات يمكن أي واحد منا أن يساهم بدور في الدعوة إلى الله، وهكذا رأينا هذا الأخ الذي عنده هذا الهم وهذه الهمة، الهم والهمة.
علماؤنا بطبيعة الحال كان لهم قصب السبق في نجاحات في ميادين مختلفة، وعلى سبيل المثال من أبرز الناجحين في مجال الوعظ والإرشاد على مر التاريخ الإسلامي ابن الجوزي رحمه الله صاحب العبارات المأثورة والكلمات المؤثرة المشهورة التي قال عنه ابن خلكان: كان علامة عصره وإمام وقته في صناعة الوعظ، وصار علماً في فن الوعظ وأستاذاً فيه بلا منازع، حتى أن تاريخ المسلمين لا يعرف إقبالاً في عدد الناس كمثل ما كان في مجلس ابن الجوزي رحمه الله، حتى قيل: إنه حضر في بعض مجالسه مائة ألف وتاب على يده مائة ألف وأسلم عشرون ألفاً من غير المسلمين، وحضر مجالسه من الملوك والوزراء والأمراء والخلفاء، وكان له في الوعظ العبارة الرائقة والإشارة الفائقة والمعاني الرائقة الدقيقة الرشيقة، ومن أحسن الناس كلاماً وأعذبهم لساناً وأجودهم بياناً.
وقال ابن كثير رحمه الله: تفرد ابن الجوزي بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه في طريقته وشكله وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه في المعاني البديعة.
هذه كانت طبعاً نماذج من النجاحات الشرعية لكن بعض الناس يكون له إسهام في جانب أكثر من الجوانب الأخرى، وبعض الناس قد يركز على جانب وينسى جوانب، ونريد أن نذكر أنفسنا أيها الإخوة والأخوات بأن سلفنا رحمهم الله كانوا يضربون في كل ميدان بسهم وافر.
الإمام عبد الله بن المبارك على سبيل المثال اجتمع فيه من حميد الصفات وعجيب الكمالات ما يندر أن يحصل لغيره، فجمع العلم والأدب والنحو واللغة والشعر والفقه والزهد والورع والإنصاف والعبادة والحج وقيام الليل والغزو والشجاعة والفروسية والرباط والجهاد، يعني حتى قال الذهبي رحمه الله: والله إني لأحبه في الله، مع ما بينهما من المدة الزمنية، قال الذهبي لما اطلع على سيرة الرجل: والله إني لأحبه في الله وأرجو الخير بحبه لما منحه الله من التقوى والعبادة والإخلاص والجهاد وسعة العلم والإتقان والمواساة والفتوة والصفات الحميدة، هذا الكلام في كتاب التذكرة للذهبي.
قال سفيان: لو جهدت أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر عليه، وسفيان من هو؟!
وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، يعني: في وقته، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه.
العوامل التي تساعد على النجاح:
أيها الإخوة والأخوات لكل شيء من الخير أسباب وعوامل، فما هي الأسباب والعوامل التي تساعد على النجاح؟
لا شك أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتقواه هو الرأس هو الباعث هو السبب الأول هو الأساس، فمن اتقى الله وأخلص له فلا نجاح يعدل نجاحه: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَسورة النور52والمخلص موعود بالنجاحين الدنيوي والأخروي، ليس شرطاً أن يرتبط النجاح بالشهرة وذيوع الصيت، فهناك أناس أخفياء لا يعلم بهم إلا الله وهم من أنجح الناجحين، هنالك معلمون ومربون يعرفهم طلابهم غير مشهورين على المستوى العام، وكثير من العلماء الربانيين لا تجد لهم انتشاراً إعلامياً أو فضائياً وهم من أنجح الناس، وفي المقابل يوجد من اشتهر بالمعاصي شهرة عظيمة يكسب معجبين وشهرة طبقت الآفاق، لكن ما قيمة ذلك؟
ومن أهم عوامل النجاح: وضوح الهدف؛ لأن النجاح يعني تحقيق ما عزم الإنسان عليه، فلا بد أن يكون ذلك واضحاً في ذهنه، كان السلف يذمون الرجل الذي يمضي حياته سبهللاً بلا هدف ولا غاية، قال ابن مسعود: إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة، فلا هو آخذ بعلم يصيب منه حظاً ولا عمل ينال منه كسباً، ولا هو مشتغل بعبادة يزكي بها نفسه ويطهر بها قلبه، فلماذا يعيش؟
هذه العشوائية وهذا الهمل وهذا الإهمال العجيب لا بد أن نضع حداً للعبث والعشوائية التي تتخلل حياتنا في عدد من الأحيان، تكثر عند أشخاص تقل عند آخرين.
طيب موضوع الهدف الذي يعني المجال الذي يسعى الإنسان للنجاح فيه كيف يكون؟ أنت تريد أن تنجح في المجال الفلاني أو المجال الفلاني، ما هي الميادين التي يسعى الناس للنجاح فيها؟ هذا سؤال أجاب عنه بعض من طرح عليه بإجابات مختلفة فلنسمعها ثم نعود إليكم.
إذاً هنالك ميادين متعددة يأمل الناس بالنجاح فيها لكن يبقى أيها الإخوة النجاح في خدمة الدين والدعوة إلى الله ميدان عظيم، وهذا الشيخ عبد الرحمن الذي يدعو في القارة الأفريقية وترك حياة الرفاهية والدعة، وهو بنفسه وماله ووقته يحاول أن يبلغ رسالة الإسلام، ينام في الغابات في الصحاري رغبة في هداية الخلق، وهؤلاء الآلاف الذين يسلمون وتنتقل الدعوة إلى الملايين من ورائهم وهذه أبواب خفية للأجر، من يريد الراحة فليجلس في بيته وعند أهله ولكن من يأخذ بهذه الأسباب للوصول إلى هذه الأهداف العظيمة لا شك أنه يصاب بالعناء، حتى قال الشيخ: لقد أصبت مرتين بجلطة في القلب ولكن نواصل الطريق، إذا رأى المسلم بعض ما عاناه ناس من غير المسلمين للوصول إلى أهدافهم يقول: ينبغي أن أبذل أكثر من أجل ديني لأنه أعظم.
توماس أدسون عمل ستة وثلاثين ساعة متواصلة كان يعمل، ستة وثلاثين ساعة متواصلة دون راحة ثم ينام نوماً قليلاً ليقوم يواصل بعد ذلك، طيب أهل الدنيا هؤلاء، ساندرز هذا الذي عمل سنتين متواصلتين لتسويق دجاج مقلي، كان ينام في سيارته ويواصل العمل حتى أصبح للشركة عشرة آلاف مطعم في العالم وبيعت بآلاف الملايين، إذا كان يكدحون للدنيا، يعني مصور يعمل أربع ساعات مصور أمريكي يخطط أربع سنوات للقطة الدب الذي يأكل سمكة يصورها في الهواء وهي تسقط في فمه، نصب خيمته على مواضع معينة في الأنهار وآلاف الصور يلتقط حتى خرج بهذه الصورة صورة دب يأكل سمكة.
نحن عندنا أشياء أعظم من هذا بكثير، فإذا بذل أولئك ما بذلوا من أجل مثل هذه الأشياء فكيف ينبغي أن نبذل نحن؟ وقد كان علماؤنا يسيرون من أقصى المغرب إلى بغداد لتلقي العلم، النووي لا يعرف له فراش، إذا تعب يستند إلى عمود المسجد وينام، مات وعمره أربعة وأربعين سنة ترك كل هذه الكتب يا ترى لو عاش إلى الثمانين ماذا كان يفعل؟ ولا يعلم الغيب إلا الله.
والجد والمثابرة والعمل الدؤوب سبب آخر، والنجاح حليف المثابرين، لقد بقي بقي بن مخلد رحمه الله الأندلسي يمشي بعد أن عبر البحر من الأندلس إلى المغرب ويمشي على قدميه حتى جاء بغداد، مر بالحرمين مصر والحرمين والشام والجزيرة ويصل إلى العراق ويلتقي بأحمد بن حنبل فيجده في الإقامة الجبرية فيغتم غماً شديداً أحمد لا يدرس، ومع ذلك يحاول أن يأتيه، يقول: رجل غريب نائي الدار طالب حديث ما رحلت إلا إليك، قال أحمد: ما كان شيء أحب إليَّ من أحسن عون مثلك غير أني ممتحن، ما يأس بقي بن مخلد رحمه الله قال: إن أذنت لي أن آتي كل يوم في زي السؤَّال الشحاذين أتنكر في زي شحاذ وأقوم على بابك وأقول ما يقوله السؤَّال وتخرج إليَّ وحدثني بحديث واحد، قال أحمد: نعم، قال: فكنت آخذ عصاً بيدي وألف رأسي بخرقة وأجعل ورقي ودواتي في كمي وآتي بابه فأصيح: الأجر رحمك الله، فيخرج إليَّ ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، وقال: كان يحدثني حديثاً ويعطيني درهماً، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له وظهر أحمد وعلت إمامته، وكان يعرف لي صبري، فكنت إذا أتيت حلقة أحمد فسح لي ويقص علي قصته، ويقص على طلاب الحديث قصته معي، رجع بقي إلى الأندلس وقد ملأها علماً وألف كتب حساناً، قال ابن حزم: من مصنفاته كتابه في تفسير القرآن فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا استثناء فيه أنه لم يؤلف في الإسلام مثله ولا تفسير ابن جرير، ما هو السر في نجاح بقي بن مخلد رحمه الله؟ المجاهدة، المثابرة، عدم الاستسلام، الصبر، المواصلة، من الأندلس إلى العراق، كم مشى؟ كم من المخاطر لقي؟!
سعيد بن المسيب يقول: إن كنت أسافر الأيام والليالي في الحديث الواحد، يقول ابن الجوزي عن الإمام أحمد: أنه طاف الدنيا مرتين حتى جمع المسند وعمل حمالاً في اليمن لما نفذت نفقته.
أبو حاتم الرازي يقول: أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، يعني: خمسة آلاف كيلو، قال: هذا بسفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين.
بقي الحافظ ابن مندة في الرحلة في طلب الحديث بضعاً وثلاثين سنة ثم رجع إلى بلده وقد صار في السبعين وتزوج وهو شيخ كبير، حتى قال الذهبي: ولم أعلم أحداً كان أوسع رحلة منه ولا أكثر حديثاً منه مع الحفظ والثقة حتى بلغ شيوخه ألف وسبعمائة شيخ.
إذاً:
وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال *** إذا الإقدام كان لهم ركابا
يقول ابن الجوزي: إنني لو قلت: أنني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب، قال: كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلد، جلد عجيب.
أيها الإخوة حتى في عالم الدراسات الدنيوية، كان لعدد من الشباب الأفاضل إسهام فيها، ونجد نماذج في الواقع ولو قالوا لنا: فلان الغربي عنده دراسات وهذا صاحب جائزة كذا وهذا أسهم في كذا فيوجد في عقول أبناء الإسلام من عندهم قدرات أيضاً في المجالات الدنيوية والدراسات الدنيوية، فنذهب مع هذا اللقاء مع أحد هؤلاء الأفاضل نسأل الله سبحانه وتعالى لنا وله ولإخواننا جميعاً الإخلاص.
إذاً أيها الإخوة والأخوات يوجد لدينا عقول مبتكرة وأذكياء ومخترعون وعباقرة ومبدعون، يوجد في أهل الإسلام من يستطيع النجاح في أمور الدين وأمور الدنيا، فلنتذكر أن عين المسلم دائماً على الدارين، وعندما نقرأ ونسمع في نماذج فلان أغنى رجل في العالم كان يبدأ يومه من الساعة الرابعة فجراً يعمل أكثر من ستة عشر ساعة يومياً يبقى طول الليل في مكتبه حتى نجح في تأسيس الشركة العملاقة عمره تسعة عشر سنة، وأديسون الذي حاول أكثر من ألف محاولة لاكتشاف المصباح الكهربائي وإلى آخره، أن القضية عزم وإصرار لكن مع ترتيب الأوليات، بالنسبة لنا نجاح الآخرة هم الأهم ونجاح الدنيا مطلوب لا يترك، فلنعزم على النجاح في الدارين جميعاً ولنحرص على الجمع بين حسنة الدين وحسنة الدنيا حسنة الآخرة وحسنة الدار التي نعيش فيها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يوفقنا لكسب المعالي، ونسأله عز وجل أن يرزقنا قوة الإرادة في الخير والهمة العالية في السعي للنجاح في الدارين جميعاً، ونسأله أن نكون من أصحاب المعالي فيما يحبه عز وجل.
ونختم مجلسنا هذا بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن لي نفساً تواقة تمنت الإمارة فنالتها وتمنت الخلافة فنالتها وأنا الآن أتوق إلى الجنة وأرجو أن أنالها.
أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.