الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
حرمة الاختلاط في الشريعة
فإن الله حكيم عليم، خلق فسوى، وشرع ما يشاء سبحانه، وأراد من عباده اتباع شرعه، ففي اتباع الشرع كل السعادة، وفي مخالفة الشرع الشقاء، وإن مما شرعه ؛ الفضيلة والعفاف والطهر، وحرم علينا الزنا والفجور، وحرم علينا ما يخالف العفاف من أنواع التدنيس، ولما كان للفضيلة طرق فتحها الشرع، وأمر بسلوكها كالنكاح ونحوه، ولما كان للرذيلة طرق أمر بسدها، وعدم سلوكها، ألا وإن من أعظم مسالك الرذيلة: اختلاط الرجال بالنساء، فنجد الشريعة في نصوصها قد حذرت منه ونهت عنه، واختلاط الرجال بالنساء، أي: التداخل بينهم، وهو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم؛ اجتماعاً يؤدي إلى الريبة، أو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن من غير حائل، أو مانع يدفع الريبة والفساد، ولهذا صور: كاختلاط الأقارب غير المحارم، فالمرأة مع أبناء العم وأبناء الخال، وكذلك مع الحمو وهو أخو الزوج أو قريبه، واختلاط الخاطب بالمخطوبة قبل العقد، وهذا زيادة على ما شرعه من النظر فهو لمدة يسيرة، لحاجة محدودة، واختلاط الرجال بالنساء في الأفراح، والأعراس، واختلاط الرجال بالنساء في أماكن العلاج، وحفلات التوديع، والاستقبال، وأنواع الملاهي، والمطاعم، والملاعب، والأندية، ومدرجاتها، واختلاط الممثلين بالممثلات في الأفلام، والمسلسلات، وكثير من هذه الصور المبثوثة اليوم الموجودة في الواقع.
فترى النساء مع الرجال سوافراً | لا يتقين عوادي الأجفانِ |
عجباً لهن وقد خلقن أوانساً | يبرزن في فرح وفي أحزان |
أدلة تحريم الاختلاط
وأدلة تحريم الاختلاط في الكتاب والسنة ظاهرة: فقال : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍالأحزاب:53، فأوجب الله أن يكون الخطاب بينهم وبينهن من وراء حجاب يحجز بين المرأة والرجل، وهذا ظاهر في تحريم الاختلاط، وبين الحكمة من ذلك فقال: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّالأحزاب:53، وأمر بغض البصر، وعدم اتباع النظرةِ النظرة فقال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْالنور:30، وقال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّالنور:31، ولا شك أن الاختلاط في المكاتب، وأماكن التعليم لا يساعد على غض البصر، بل هو ضد غض البصر الذي أمرت به الشريعة، فكيف تأمر بغض البصر، ثم تسمح باختلاط لساعات طويلة يومياً، يجلس فيه النساء مع الرجال في مكان واحد.
وأخبر النبي ﷺ فقال: المرأة عورةٌ فإذا خرجت استشرفها الشيطان[رواه الترمذي1173 وصححه الألباني في الجامع الصغير6690]، وبعض الناس إذا سمع حديث المرأة عورة يظن أنها مسبة، وشتيمة، ومنقصة للمرأة، كلا والله، بل هو تكريم وصيانة لها عن الإهانة، فمعنى العورة أنه ينبغي المحافظة عليها، فماذا يفعل الإنسان بعورة بيته؟ إنه يسترها بالباب، والنافذة، والستارة، ونحو ذلك صيانة لها. المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، يعني: رفع البصر إليها ليغويها، أو يغوي بها، ولا شك أن الاختلاط ينافي هذا الحديث ويصادمه، فكيف يقول لنا الشارع: إذا خرجت استشرفها الشيطان، ثم بعد ذلك نخلطها بالرجال في هذه الأماكن، وليس بينهم وبينهن من المسافة شيء يذكر.
وقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَىالأحزاب:33، ولا شك أن الاختلاط ينافي القرار في البيوت، والنهي عن التبرج الذي جاءت به الشريعة.
وقد يقول قائل: إن الفساد حاصل في بعض البيوت؟
فالجواب: نعم، فالشريعة تحارب الفساد سواء كان في البيوت، أو خارج البيوت.
فلو قيل لك: إن امرأة أمامها القنوات الإباحية، ومعها الهاتف الجوال داخل البيت، فهل عملت بقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَىالأحزاب:33؟ وأنها تعتبر طائعة لله؟
الجواب: كلا والله، فإن إبقاء أسباب الفساد ووسائله، وفتح نوافذ الشر التي صارت في قعر البيوت وداخلها، أمر محرم لا يرضاه الله ، والفساد ممنوع داخل البيوت، وخارج البيوت.
ومن الأدلة على تحريم الفساد داخل البيوت: قوله ﷺ: إياكم والدخول على النساء، فلما قيل له أفريت الحمو قال: الحمو الموت[رواه البخاري5232 ومسلم 2172]، أي: قريب الزوج كأخيه ونحو ذلك ممن ليسوا بمحارم للمرأة، ولذلك فإنه لا يجوز الفساد لا داخل البيوت، ولا خارج البيوت.
وقد حاول بعضهم، أن يفهم قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّالأحزاب:33، أي: أنها تنام في الليل في البيت، وهذا لا يعين عليه لفظ الآية، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، فمعلوم معنى القرار، ومخالفة القرار؛ أن تكون الوقت الكثير ليست فيه، وأما خروجها لحاجتها فقد أذن به الشرع، سواء كان استفتاء، أو علاجاً، أو عملاً مباحاً، أو تعلماً، أو تعليماً، أو فسحة، أو بيعاً وشراء، ونحو ذلك، فهذا مأذون فيه بالشروط الشرعية، لكنها ليست خراجة ولاجة، أكثر وقتها خارج البيت.
ولا يجوز إدخال الفساق إلى البيت، وقد جاءت الشريعة بالنهي عن تبرج الجاهلية الأولى، ومعلوم أن هؤلاء المختلطات بالرجال في كثير من الأماكن يخرجن بزينة، وعطر، وتبرج، وبعضهن تتحفظ ما أمكنها لكنها تبقى في خوف، وعلى خطر، والنبي ﷺ قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء[رواه مسلم 2742]، فكيف يجوز الاختلاط، وقد قال ﷺ: واتقوا النساء، فلا شك أن الذي يسمح بالاختلاط سواء في المكاتب، أو الشركات، أو الدوائر، أو المستشفيات، أو الذي يسمح بالاختلاط في أماكن التعليم ونحوها؛ أنه لم يطبق قول النبي ﷺ: واتقوا النساء؛ لأنه خلط الرجال بالنساء، فأين اتقاء النساء، ومعلوم أن المقصود المرأة الأجنبية، فإن الإنسان لا يتقي زوجته، ولا يتقي أخته وابنته، فإن هؤلاء من المحارم عنده، هو معهم وهن معه، فالمقصود إذن الرجل والمرأة الأجنبية عنه، وكيف مطبقاً للشريعة من نفذ الاختلاط، وقد قال النبي ﷺ: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء[رواه البخاري5096 ومسلم2740]، فهي أشد فتنة في هذه الأمة، على الرجالأي: أشد فتنة على الرجال بنص كلام النبي ﷺ، فكيف ينفذ الاختلاط بعد ذلك؟ وأيضاً فقد قال ﷺ للرجلين اللذين رأياه وهو خارج مع زوجته المحتجبة حجاباً كاملاً، من مكان عظيم، وهو المسجد: على رسلكما إنها صفية[رواه البخاري2038 ومسلم 2175]، فقرر أن خلطة الرجل بالمرأة موطن ريبة، ومحل تهمة، ولذلك بين من هي هذه المرأة التي معه، فلو كان الإنسان مع امرأة ليست بزوجة، ولا بمحرم فهذه تهمة، ولذلك بين ﷺ مع أنها كانت عنده في المسجد، وهو يمشي معها، في طريق، في محل عام مطروق، في ليلة من ليالي العشر الأواخر من رمضان، والمرأة مضروب عليها الحجاب الكامل، وهي زوجته، ومع ذلك بين، إذن إذا لم تكن هذه زوجة، أو محرم، ماذا يكون الحكم؟ اختلط رجل بامرأة، وتهمة، وريبة، ولذلك بين النبي ﷺ، ولو أن مشي الرجل مع المرأة الأجنبية في أي مكان جائز لما احتاج النبي ﷺ إلى البيان.
ومن الأدلة على تحريم الاختلاط، قوله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَيوسف:23، فمتى حصلت الفتنة لامرأة العزيز بيوسف؟ لما حصل الاختلاط، وكان يوسف مكرهاً، مرغماً، عبداً، مملوكاً، قد بيع وأخذ ظلماً، ووضع خادماً في هذا القصر، لا يستطيع مغادرته، وهو العبد المملوك، فحصلت الفتنة نتيجة الاختلاط، ولذلك يحذر من فتنة السائقين مثلاً، فإن بعض البيوت لا يبالي أهلها بدخول السائقين على نسائهم في بيوتهم، وكذلك العمال، ونحوهم في قعر البيوت من الذين يغدون، ويروحون داخل تلك البيوت، ويسرحون، ويمرحون، والنساء لا يتحفظن، ولا يحتجبن، فهذه الزينة قائمة، والخلوة قائمة، فماذا يتوقع بعد ذلك، ولذلك لما صارت المسألة إلى المساومة بين أن يستجيب يوسف للحرام، وبين أن يدخل السجن؛ لأنه حافظ على نفسه في بيئة الاختلاط التي هو مرغم عليها، مما جعل الجماعة يهددونه بالسجن، ومع ذلك رفض الحرام، واختار السجن قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّيوسف:33، وقال أيضاً: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّالنور:31، فما هي الزينة التي يخفينها في الأرجل؟ خلخال يصدر صوتاً، ومع ذلك نهى عن تحريك الأرجل، والضرب بها حركة تؤدي إلى ظهور صوت الخلخال؛ لأنه فتنة للرجل، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
شبهات أهل الاختلاط والرد عليها
فلو قال قائل: ما هذا التفكير الجنسي المغرق المتزمت؟
فنقول: إنه كلام الله، وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّالنور:31، فهذا قول الله، فهل تقول عنه إنه كلام متزمت متشدد؟! وقد قال النبي ﷺ لأم حُميد رضي الله عنها: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي،وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي [رواه أحمد26550 وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب340]، سبحان الله! مسجده ﷺ أي ريبة فيه، ومع ذلك أخبرها أن صلاتها في قعر بيتها أفضل من صلاتها في ساحة البيت، وصلاتها في ساحة البيت أفضل من الصلاة في مسجد قومها، والصلاة في المسجد القريب منها أفضل من الصلاة في المسجد البعيد عنها، ولو كان المسجد النبوي، فما معنى هذا؟ ثم إذا نظرنا إلى حديث النبي ﷺ: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها[رواه مسلم 440]، ماذا يعني ذلك؟ يعني: أن الرجال القريبين من النساء شر الرجال في المسجد، والنساء القريبات من الرجال شر النساء في المسجد، ولذلك كلما تباعدت وتباعدوا كان ذلك أفضل وأبعد عن الفتنة، والنبي ﷺكان يسلم فتنصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف ﷺ، كل ذلك منعاً للاختلاط، ولذلك فإنه ﷺ لما بنى المسجد جعل باباً للنساء، وقال: لا يلجنَّ من هذا الباب من الرجال أحد[رواه أبو داود الطيالسي1829 وضعفه الألباني في السلسلة الضعفية5981]، وقال أيضاً: لا تدخلوا المسجد من باب النساء،[التاريخ الكبير 130 موقوفاً على عمر]، فما معنى هذا؟! وهذا بيت الله، ويعبد فيه، وأبعد الأماكن عن الريبة، والفساد، والشهوات، ومع ذلك قال: لا يلجن من هذا الباب من الرجال أحد، لا تدخلوا المسجد من باب النساء، يعني: إذا كان النساء فيه فلا يدخل أحد من هذا الباب، ولما حصل اختلاط في الخروج من المسجد ماذا حدث؟ قال حمزة بن السيد الأنصاري، عن أبيه : أنه سمع رسول الله ﷺ وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، هذا لفظ أبي داود، فقال رسول الله ﷺ للنساء: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به".[رواه أبو داود 5272 وحسنه الألباني في الجامع الصغير929]، فمنعهم من الاختلاط عند الخروج من المسجد، وجعل العملية منظمة، فالوسط للرجال، والجوانب للنساء، حتى لا يحدث الاختلاط في عملية الخروج، وهي عملية لا تأخذ وقتاً طويلاً فما معنى هذا؟ وهؤلاء صحابة وصحابيات، ومن هنا يعلم حكم اختلاط النساء بالرجال، في المكاتب، أو المستشفيات، أو الشركات، أو الحفلات، أو الجامعات، أو الكليات، ونحو ذلك، وأنه مصادم تماماً لنصوص الشريعة، وأن الناس إذا أرادوا تطبيق شرع الله، فلا بد من السعي لتجنب هذا الاختلاط، وهنا يقول قائل: لكن الاختلاط لا يمكن القضاء عليه نهائياً، فإن العقل، والواقع يشهدان بأن ذلك لا يمكن، فمثلاً، أليست ستبيع وتشتري، وتذهب إلى السوق لشراء حاجاتها، ومعلوم أنها ليست ممنوعة من ذلك شرعاً، وكذلك ستذهب إلى القاضي لخلاف بينها وبين زوجها، ومعلوم أن ذلك ليس ممنوعاً شرعاً، وستذهب للاستفتاء، ومعلوم أنها ليست ممنوعة من ذلك شرعاً، وستذهب للعلاج، ومعلوم أنها ليست ممنوعة من ذلك شرعاً، فما حكم هذا إذن؟ وكيف نفهمه؟
الجواب: إنه بعد تنحية كل الحالات التي يمكن فيها الفصل بين الجنسين، ستبقى حالات لا يمكن فيها الفصل، وهذا معلوم مشاهد، وبناء عليه فإنه لابد من تطبيق الشروط الشرعية، فإذا أذن للمرأة أن تخرج للمسجد، وأن تخرج لحوائجها، وسيحدث بعض الحالات من الاختلاط المؤقت؛ كاختلاطها بالبائع للبيع والشراء، واختلاطها بالقاضي للشهادة، أو سماع ما عندها لفصل الحكم، ونحو ذلك، فماذا سنفعل حينئذ؟
الجواب: لابد من تطبيق الشروط الشرعية في هذه الحالات الاضطرارية، وحالات الحاجة الماسة، ومن تلك الشروط:
- الالتزام بالحجاب الكامل.
- غض البصر.
- ألا تخضع في قولها، ولا تتكسر في كلامها وتلين فيه.
- ألا يكون مع خلوة.
- ألا تظهر على حالة تثير الرجال من تعطر، أو تزين.
- ألا يكون هناك مصافحة، أو مس.
- أن يكون ذلك على قدر الحاجة، ولذلك نص الفقهاء أن المرأة لا تبقى في السوق أكثر من حاجتها، فليس بقاؤها للتسلية، أو لتزجية الأوقات، أو لمجرد الفرجة، وإنما للحاجة، فتخرج لحاجتها، وتعود مسرعة، وهكذا بتطبيق الشروط الشرعية التي علمت من النصوص نكتفي بقية الشر الذي يمكن أن يحدث من وراء الخروج والاختلاط الذي لا بد منه، وبعض الناس سواء بجهل، أو خبث، يقولون الاختلاط مباح، ودليلنا على ذلك هذا الاختلاط في الحرم، وفي الحج، فما هو الجواب عن هذا؟
نقول أولا: وا عجباً لكم، لم تفرقوا بين الاختلاط في الحج، والاختلاط في الجامعات، والشركات، فالاختلاط في الحج أمر اضطراري، والاختلاط في الجامعات، والمكاتب، والشركات أمر اختياري، فكيف تنزل الاختياري منزلة الاضطراري؟! ومعلوم أنه لا يمكن اجتماع ثلاثة ملايين أمرهم الله بالاجتماع في مكان واحد من دون حدوث شيء من الاختلاط، فهذا اضطراري لا يمكن التحرز منه، أما الجامعات فيمكن فصل النساء عن الرجال، وكذلك المكاتب، والشركات، يمكن فصل النساء عن الرجال، فكيف تنزل هذا الشيء الاختياري الذي يمكن أن نخطط له، وأن نصممه، وأن نجد له الحلول الهندسية، والإدارية، والمالية، والبشرية، وتجعله مثل الحج.
ثانيا: الحال، فما هو حال الحاج في الحج، وحال هذا الرجل في المكتب، وهذا الشاب في الفصل الدراسي، هذا محرم لابس ثياباً تذكره بالموت، يقول: لبيك اللهم لبيك، تقيسه على رجل في مكتب، في الشركة عنده هذه السكرتيرة التي تدخل عليه متعطرة، متبرجة، يخلو بها في المكتب، أو هذا الطالب الذي ينظر من حوله في هذه الطاولات، يجلس عليها النساء من الطالبات الفتيات، هذا مثل هذا، الجو مثل الجو، الحال مثل الحال عجباً، وهذا يذكرنا باختلاط الرجال بالنساء يوم القيامة في أرض المحشر؛ لأن الله يجمع الجميع هنالك، وبالإضافة إلى ذلك هم وهن عراة ليس عليهم ولا عليهن لباس فما هو الحال يا ترى، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، فقال النبي ﷺ: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك[رواه البخاري6527 ومسلم 2859] الشمس، العرق ، الفزع، حصار الملائكة، تقريب النار، مجيء الله مع جنوده صفاً صفاً، فمن ذا الذي يومئذ سيتجرأ أن ينظر إلى عورة، أو يقوم في نفسه داع للحرام، أو تثور غريزته أو شهوته في ذلك المقام.
ثالثا: الاختلاط في الحج والحرم اختلاط عارض مؤقت، فتذهب للعمرة وترجع، وللحج وترجع، وأما الاختلاط في الجامعات، والمستشفيات، والمكاتب، والشركات فهو دائم مستمر اسمه دوام، يسمونه دواماً، ذهب للدوام، داوم اليوم، داومت، فكيف يقاس الاختلاط الدائم المستمر بالاختلاط العارض المؤقت، تباً لتلك العقول إذن.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الاختلاط إذا أمكن منعه في بعض الساعات، في بعض الحالات، في بعض الأيام، في بعض المناسبات، في الحرم، يمنع والدليل: قال عطاء رحمه الله: "لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة، يعني معتزلة من الرجال لا تخالطهم، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمنا حتى يدخلن، وأخرج الرجال" رواه البخاري، وقال ﷺ لأم سلمه طوفي من وراء الناس وأنت راكبة[رواه البخاري464] قال ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري: "نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء،قال فرأى رجلاً معهن فضربه بالدرة" هذا في بعض الحالات التي يوجد فيها طواف خفيف يمكن عزل الطائفات عن الطائفين، فيصبح مثلاً الرجال مما يلي الكعبة،والنساء بعد الرجال،فإذا أمكن ذلك فيفعل كما فعل عمر، وأما عندما يأتي مليون شخص إلى الحرم، فإن ذلك لا يمكن.
ولذلك يقال للرجل في الحرم عند الزحام يسجد على ظهر الرجل الذي أمامه، لكنه لا يسجد على ظهر المرأة، وهكذا إذا أمكن تلافي أن يقف بجانب امرأة، فإنه يتلافى، فإذا لم يمكن ذلك للاضطرار الذي لابد منه، فإن الله قال: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَاسورة البقرة286، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍسورة الحـج 78.
عباد الله: هذه بعض الأدلة التي جاءت في الشرع في مسألة تحريم الاختلاط، وما هي الشروط التي تفعل إذا احتيج للاختلاط العارض المؤقت للحاجة الماسة فكيف يفعل.
وقد يقول قائل: العالم كله على خلاف هذا؟
فكان ماذا هل يغير الشرع؛ لأن العالم كله على خلاف هذا، ثم عندما يحدث التقصير للناس، والبعد عن الشرع يردون إلى الشرع، ويبين لهم الشرع، لنعرف المسافة بيننا وبين الشرع في هذه المسألة التي صار فيها شيء من الابتعاد، وحتى لا يزداد الابتعاد، ولذلك لو قال قائل: حدث في المستشفيات، نقول: أفنتركه يحدث في الشركات، وإذا قال: حدث في الشركات، فنقول: أفنتركه يحدث في الجامعات، يعني هل نسكت لأن المسألة حدثت في بعض حالاتها؟
الجواب: كلا هذا منكر، وقضية شرعية، ومسألة مهمة، ومعلوم حجم الفساد الحاصل بقضية فتنة النساء والرجال، نعرف هذا جيداً من القصص الواقعية، عندما يرجع هذا الطالب الذي أرسله أهله إلى جامعة مختلطة في الخارج متعلقاً بفتاة، وهم يريدون أن يزوجوه بأخرى، لكن تعلق بفتاة، وسائِل كثيراَ من الذين أرسلوا أولادهم إلى الجامعات المختلطة، ما هي مشكلات الأولاد، ما هي مشكلة ولدكم الذي أرسلتموه؟ كثيراً ما يقولون: تعلق بفتاة لا نرضاها، لا نعرف أصلها، لا نعرف من أين هي، ثم هو قد عشقها، ثم هو لا يريد إلا هي، ثم هو يرفض العروض التي نعرضها عليه من بنات مجتمعه، فيتندمون على أنهم جعلوه في ذلك المكان.
ثم لابد من أن نقول: إن بعض الحجج مفادها إنه قد حدث اختلاط في المكان الفلاني، ولم يحصل شيء.
فنقول: الشريعة لا تنتظر المنكر حتى يحصل، الشريعة حكيمة، تعالج القضية من بداياتها، الشريعة فيها وقاية، والوقاية خير من العلاج، الشريعة فيها باب اسمه باب سد الذرائع، يعني الطرق الموصلة إلى المحرمات، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَىسورة الإسراء32 ما قال لاتزنوا فقط، وإنما قال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَىسورة الإسراء32 يعني: قربان الزنا، فأي شيء يؤدي إليه يحرم ويمنع.
نسأل الله أن يجعلنا وقافين عند حدوده، آخذين بشرعه، عاملين بدينه، إنه سميع مجيب، أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وسبحان الله، أسبحه ، وأنزهه عما لا يليق به، وأكبره تكبيراً، ولا وحول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان، وعليه التكلان.
عباد الله: نشهد أن محمداً رسول الله حقاً، هو حبيبنا، وإمامنا، وقدوتنا، ﷺ، هو رسولنا، وهو قدوتنا، وأسوتنا، ونسأل الله أن يكون شفيعنا يوم الدين، وأن يحشرنا في زمرته آمين، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، اللهم صل وسلم وبارك على خلفائه وأتباعه إلى يوم الدين.
خطورة المنافقين في تغيير الشريعة
عباد الله: يكتب بعض المسمومين، أو المتسممين في حذف أمور من أبواب الشريعة قد بينها العلماء، وصنفوا فيها؛كأبواب سد الذرائع، والاحتياط، والوقاية في الشريعة؛ ليتوصلوا من وراء ذلك إلى أن الأحكام المبنية على سد الذرائع باطلة، لأنهم أسقطوا الأصل ليسقط ما فوقه.
فنقول لهم: عندما تمنع الشريعة المصافحة، أو عندما تمنع الشريعة الخلوة بالأجنبية، هل يعني ذلك أن كل رجل خلا بامرأة أجنبية سيحدث زنا مباشرة؟
الجواب: لا نحن نعلم ذلك. وهل كل امرأة إذا تعطرت ومرت برجال، أو تبرجت أمام الرجال، أنهم سيقومون فوراً بالزنا بها.
الجواب: لا، فيقولون إذن لا مانع، ونقول: لا، فإذا كان الشيء يؤدي، وفي بعض حالاته يحدث الحرام، وهو طريق إلى الحرام، فالشريعة تمنعه، هذا هو العقل.
ثم نقول لهم: لماذا منعتم استيراد اللحوم الاسترالية، لماذا منعت في كثير من البلاد الأوروبية بعد ظهور مرض جنون البقر، مع أن الإصابات التي يمكن أن تحصل قد تكون قليلة جداً، ولماذا منع استيراد الطيور الحية في أغلب أنحاء العالم، ونقلها من بلد إلى بلد بسبب ظهور فيروس أنفلونزا الطيور، مع أن الاحتمال في بعض الحالات ضعيف جداً، ولماذا صارت هناك رقابة على انتشار الطابعات الليزرية الملونة عالية الدقة، ممنوع بدون ترخيص وتسجيل في بعض الأماكن، والبلدان، والهيئات المختصة، لئلا يؤدي إلى تزوير الأوراق الرسمية والعملة، مع أنه ليس كل من يشتري طابعة ليزرية ملونه سيقوم بالتزوير، بل نسبة المزورين في الذين يشترون الآلات الليزرية الملونة قليل جداً، لماذا شروط ومعايير بناء المساكن، مثلاً شبكة غاز الطبخ بمواصفات معينة، وتمديدات الأسلاك الكهربائية بمواصفات معينة، والأنابيب التي تسير فيها الأسلاك الكهربائية، والمسافة المعينة بين أنابيب الأسلاك، وأسلاك التوتر العالي، هذه الأشياء التي هي في قضية السلامة، لماذا مع أنه لا يشترط إذا وضعنا هذه الأنابيب التي تسير فيها الأسلاك بجانب بعضها أن يحدث تماس كهربائي، وأن يحترق المكان.
فيقولون: احتياطاً، نقول: النسبة واحد في المائة، يقولون: احتياطاً، وإذا ما فعلت تعاقب.
لماذا يلزم ركاب الطائرات بشد أحزمة المقاعد، مع أنه قد تقلع الطائرة، ولا يحدث أي ارتجاج، وتكون الرحلة في أجواء مستقرة، ولا يكون هناك أي مطبات جوية، وتنزل الرحلة نزولاً هادئاً ناعماً بإطاراتها على مدرج المطار، ولا يكون هناك أي ارتجاج.
لماذا تلزمون الركاب بشد الأحزمة على المقاعد، بل وتعاقبون، وتغرمون، في السيارات، وفي الشوارع، والطيار له الحق أن يمنع الراكب من البقاء على الرحلة إذا لم يلتزم، بل يخرج، ويحقق معه إذا لم يلتزم بأنظمة سياسة المنظمة الدولية للطيران، لماذا يمنع إعطاء الأدوية للمرأة الحامل أثناء الحمل مع أن الجنين لا يشترط أن يتأثر، وكثيراً ما يولد سليماً، فيقال: احتياطاً حتى لا يتضرر الجنين.
لماذا توجد قوانين صارمة صارمة جداً في أنظمة الملاحة الجوية، وأنظمة الملاحة البحرية، لماذا ترخص الأسلحة النارية فيمنع استخدامها بدون ترخيص، احتياطاً حتى لا يؤدي إلى استخدامها في الجرائم، كم نسبة الذين يستعملونها أو الذين يقتنونها، والذين يستعملونها في الجرائم، فلماذا الأنظمة والقوانين، لماذا التوقف عند الإشارات، لماذا في أنظمة، وأنظمة، وأنظمة إلى آخره، من أمور دولية ومحلية لماذا، يقولون: احتياطاً احتياطاً، أنظمة دفاع مدني، وأنظمة صحية، وأنظمة ملاحة، وأنظمة بناء، احتياطاً، ويلتزمون بها، وتعاقب القانون عليها احتياطاً، نقول: نسبة واحد في الألف أن يحدث حريق، يقولون: ولو، احتياطاً، فالواحد في الألف لا نريده، وهو كارثة ومصيبة.
فإذا جئنا إلى قضية الاختلاط، ومسألة اختلاط النساء بالرجال، فالقوم لا يحرون خبراً، ولا ينبسون ببنت شفه، ويناقضون هذا الأصل، ويريدون نسف مسألة سد الذرائع، ونسف مسألة الاحتياط في الشريعة، ويقولون: هذه تعقيدات، وتشديدات، سبحان الله، لماذا لم تقولوا ذلك في مواصفات الأبنية، والاحتياطات ضد الحرائق، والحوادث، والملاحة، والصحة إلى آخره، لماذا تطعم الولد ضد الشلل، كم نسبة أن يصاب بالشلل، واحد في مائة ألف، أو عشرة آلاف، ومع ذلك يطعمون، ويوجبون التطعيمات، ويقولون: احتياطاً سداً لطرق المرض، حتى لا تحدث الحالة، ولو كانت نادرة.
فنقول: شرع الله أولى بالاحتياط، شرع الله أغلى، شرع الله أعلى، حكم الله أوجب، حكم الله أقدس، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، وقد علمنا من تجارب الأمم في مشرقها ومغربها ما يحدث لديهم من الاختلاط.
وعندما قال قائلنا من المنافقين، إن الكبت الحاصل قبل هو السبب الآن، وإذا حصل الاختلاط ستنفك العقدة، ويزول هذا الكبت، وتصبح الأمور طبيعية بين الجنسين، لكن بسبب أنكم مجتمع مغلق، ومحافظ في الجملة.
فالجواب: هل هذا الكبت الجنسي قد انفكت عقدته في الغرب لما اختلطوا، ماذا قال عقلاؤهم، ماذا قالت أبحاثهم، ماذا قالت اعترافاتهم، إنهم يسعون سعياً حثيثاً في بعض البلدان لفصل الجنسين؛ لأنهم رأوا آثار ذلك في قضية ارتكاب الفواحش، والسفاح المحرم، والحمل المحرم، بل أعلن وزير التعليم الفلبيني أنه يرغب في تعيين عدد أكبر من الذكور لتدريس الذكور ليتحلوا بصفات الرجولة، بدلاً من الصفات الأنثوية التي يكتسبونها من مدرساتهم، هذا في الفلبين.
لقد اكتشفوا ضعف إبداع، ومحدودية مواهب، وإعاقة التفوق الدراسي، وقتل روح المنافسة، والانشغال بالمظهر، بل مشكلات وأزمات أخلاقية في التعرض لمضايقات بين الجنسين والتحرش، وكذلك انتشار الجرائم الأخلاقية، ومشكلات أكاديمية في انصراف بعض الجنسين عن التحصيل، وكذلك مشكلات اقتصادية، كإظهار كل جنس كرمه وسخاءه أمام الآخر مما يضطره للديون، أو تصرفات خاطئة لتحصيل المال، ومبالغة في النفقات على المظهر الخارجي، وتحولت بعض الفصول الدراسية إلى عروض للأزياء، وهكذا وهكذا من الإشكالات التي وجدها عقلاؤهم في أسباب ضعف التحصيل الدراسي، وأما القضية ككل من أخطار الاختلاط، وأضراره على الاقتصاد عموماً، وعلى الأمة عموماً، وعلى الأخلاق عموماً، وعلى الجرائم وانتشار الجرائم عموماً، فإنها قضية أكبر من ذلك بكثير، والعاقل المنصف يعرف ذلك جيداً.
اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، وتحصن فروجنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا بحفظك، اللهم اجعلها آمنة مطمئنة يا رب العالمين، اللهم اجعل فيها الشريعة عالية، اللهم واجعل فيها الأمن، والرخاء، والاستقرار، يا أرحم الراحمين، وسائر بلاد المسلمين، من أراد بلدنا وبلاد المسلمين بسوء فامكر به، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك يا رب العالمين، اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واهد أولادنا للحق، واهدنا نحن سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم ارزقنا الجنة، وأعذنا من النار، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.