الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران: 102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاالنساء: 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاالأحزاب: 70، 71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حديث أُم السنة
أيها المسلمون: هناك حديث في دواوين الإسلام يسمى بأم السنة، ينبغي على الناس جميعاً أن يتعلموه، وأن يعرفوا ما فيه من الأحكام المنطوية عليه؛ لأنه حديث عظيم، وهذا تقديم مع شرح مبسط لهذا الحديث ينبغي على الناس وعلى العامة معرفته؛ لأن فيه ذكر أصول الإسلام.
وقد رواه الأئمة والأعلام والمحدثون، وهو ما جاء في الصحيحين وغيرهما، وهذا لفظ الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، فقد روى بإسناده عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، أول من أحدث بدعة القدر، والكلام المنحرف في القضاء والقدر رجل يقال له: معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحد من أصحاب النبي ﷺ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحد عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن، إنه قد ظهر أمامنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، يعني: يجمعونه، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، يعني: أن هذه الأشياء التي تحدث لم يكتبها الله، ولم يعلمها، وإنما تحدث الآن ابتداء من الناس، قال عبدالله بن عمر: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يومٍ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، والصحيح أنه وضع كفيه على فخذي نفسه، فالهاء تعود على الداخل في كلتا الحالتين، ووضع كفيه على فخذيه.
وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول اللهﷺ : الإسلام أن تشهد أن لا إله الا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، عجباً لهذا الرجل يسأل، ثم يقول: صدقت كأنه يدري!.
قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة، العراة، العالة رعاء، الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
فوائد الحديث
هذا الحديث العظيم الجليل فيه فوائد متنوعة، وأحكام كثيرة، وإليكم أيها المسلمون شيئاً من ذلك:
أولاً: إذا ظهرت البدعة في بلد فإنه ينبغي على أهل العلم فيها، وعلى طلبة العلم أن يقوموا لله بواجب النصح والتحذير، وأن يلجئوا إلى العلماء للتأكد من حال هؤلاء المبتدعة؛ حتى يعملوا ما هو مهم بشأنهم من الرد عليهم، والتحذير منهم، والتشهير بهم، وكبتهم، ومنع الناس عنهم، هكذا كان يفعل السلف كما جاء أحدهم من المبتدعة إلى رجل من المسلمين، إلى رجل من العلماء يقال له: طاووس -رحمه الله- قال: أريد أن أكلمك، فوضع طاووس أصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: يا بني ضع أصبعيك في أذنيك، فإني لا آمن من هؤلاء.
ولذلك جاء أحدهم أيضاً إلى أيوب -رحمه الله- قال: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة، وجاء أحد المبتدعة إلى عالم، قال: أريد أن أقرأ عليك آية فقط آية لا أزيد عليها، قال: اخرج، فأخرجه من المجلس.
فينبغي إذا الحذر من أهل البدعة أياً كانت بدعتهم، سواء كانت في أسماء الله وصفاته من الإلحاد فيها، أو كانت في أصحاب النبي ﷺ من سبهم وشتمهم، أو في كتاب الله ممن زعم أنه ناقص محرف، ونحو ذلك من الأمور، أو في القدر الذي يفتري على الله فيقول: نحن مجبورون لا إرادة لنا، أو يقول: نحن نخلق أفعالنا بأنفسنا، كل هؤلاء أتوا إثماً عظيما، وباباً منكرا من أبواب الكفر -والعياذ بالله-، المهم أن أمر البدعة خطير، فينبغي مقاومته، وكذلك الذهاب إلى العلماء، وسؤالهم، واكتنافهم، واحترامهم، وإيكال الأمر إلى الكبير يتكلم حتى يكون الجواب شافياً وافيا، دون مضايقة لأهل العلم.
أما الحديث فإن هذا الرجل الذي جاء ليس من أهل البلد، ولا عليه أثر السفر، استغرب الصحابة من حاله، كيف لا يكون من أهل البلد؟ كيف يكون من غير أهل البلد وليس عليه أثر السفر؟ لكنهم ما عرفوه، قال الرسول ﷺ للصحابة: سلوا، فلم يسأل أحد فدخل الرجل فسلم، في رواية: ثم جلس، فدل ذلك على أن انتهاز الفرصة لسؤال العلماء إذا حضروا أمر مهم.
وثانياً: أن السؤال يسبقه السلام، والسلام قبل السؤال، فمن بدأ بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه، كما قالﷺ.
فالأدب إذاً لمن دخل على قوم أو على رجل فأراد أن يسأله أن يبدأ بالسلام قبل أن يسأل، هذه من الآداب الإسلامية.
وكذلك فإن جلوس طالب العلم والسائل بين يدي العالم وصاحب العلم يسأله، ينبغي أن يكون بأدب، فإنه جلس بين يديه جلسة المتعلم بين يدي العالم، جلس أمامه، فوضع كفيه على فخذيه في غاية الأدب حتى لا يحركهما، ثم بدأ يسأل.
معنى الإسلام والإيمان والإحسان
وكذلك في هذا الحديث العظيم بيان أمر الإسلام: وأن الإسلام هو الأركان الظاهرة، والإيمان هو الأركان الباطنة، وأن الناس يدخلون في الإسلام بالشهادتين، فلا دخول للإسلام إلا بهما، ثم إذا نطق بالشهادتين حكمنا له بالإسلام، وبعد ذلك ننظر في حاله، فإن أتى بالأعمال الإسلامية قلنا: أنت مستمر على الإسلام، لكن إن ترك الأعمال بالكلية قلنا: له نقضت الشهادتين اللتين أتيت بهما، وصار لا غنى لهما، ولا نفع لهما لأنك نقضتهما.
فإن قال قائل: مسلمون يقولون: لا إله إلا الله فقط، ولا يعملون شيئا، فنقول: كفرة بالله؛ لأن أهل العلم قد أجمعوا على أن العمل لابد منه، فمن ترك العمل بالكلية، وقال: فقط أنا بلساني، نقول له: لست مسلما، فهو يدخل بالشهادتين، ثم ينظر في أمره، فإن أتى بالأعمال فإنه مسلم، وإن لم يأت بها مطلقا فليس بمسلم، فإن ترك بعضها فإن كان الذي تركه الصلاة بالكلية، فقد دل الحديث على أنه يكفر، العهد الذي بيننا وبينهم، المشركين الصلاة فمن تركها بالكلية فقد كفر.
وكذلك دل الحديث أيضاً على إجراء الأحكام على الظاهر، فنحن لنا الظاهر، والله يتولى السرائر، ما دام يعمل عمل أهل الإسلام قلنا له: أنت مسلم حتى يثبت العكس.
ثم سأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله، بالله بربوبيته، وإلاهيته، وأسمائه وصفاته، أن تؤمن بالله إيماناً كاملاً مصدقاً به قلبك، عاملاً به، أن تؤمن بالله وملائكته، فاليهود الذين قالوا أعدائنا جبرائيل وميكائيل كفرة، من كان عدواً لجبريل، ومن كان عدواً لميكائيل كفر بالله العظيم، فلابد من الإيمان بالملائكة إجمالاً وتفصيلاً كما أُخبرنا.
وكتبهالتي أنزلها، ما علمنا وما لم نعلم، نؤمن بها جميعاً.
ورسلهالذين أخبرنا عنهم، والذين لم نخبر عنهم، واليوم الآخر والذين يكذبون بالبعث، أو يقولون نشك فهم كفرة بالله العظيم.
وتؤمن بالقدر خيره وشره، كل ما يحصل من الله -تعالى- كل ما يحصل مكتوب عند الله، كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، يجب أن تؤمن بذلك.
ولذلك فإنه قد ضل في هذا الباب أقوام من الناس، منهم من قال: نحن نخلق أفعالنا بأنفسنا، وهم جعلوا مع الله خالقاً آخراً، أو عدداً لا يتناها من الخالقين بحسب عدد العباد، وهذا كفر بالله، ومنهم من يقول: نحن مجبورون لا خيار لنا، نحن مكرهون على المعاصي، وهم كاذبون؛ لأن الله أعطاهم إرادة، وأعطاهم حرية، وأعطاهم اختيار، ولا أحد يكره شارب الخمر على شربه بالقوة، أو يشعر بقوة خارجية ترفع له الكأس وتسقيه إياه، إنما هو الذي سكب، والذي شرب بنفسه، ولذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَاالشمس: 9- 10، من الذي زكاها؟ هو نفسه الذي زكا نفسه، وقد خاب من دساها، من الذي أفسدها؟ هو الذي أفسدها، فالله أسند الفعل للشخص قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا،فدل ذلك على أن للعباد إرادة واختيار، وأنهم ليسوا مجبورون بالقوة، لكن يجب أن نؤمن أنه مهما عملنا من الخير والشر فهو مكتوب عند الله مقدر، قد جرى بعلمه، وإرادته، ومشيئته، لا مشيئة لنا خارجة عن مشيئته.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، لو أننا -يا أيها المسلمون- عبدنا الله ونحن نعبده نشعر كأننا نراه، نستحضر في أنفسنا كأننا نراه، أن تعبد الله كأنك تراه، ونحن نعلم أن الناس لا يرون الله في الدنيا بأم أعينهم، لكن المؤمنون يرونه في الجنة، والناس يرونه في الآخرة، ولكننا ينبغي عندما نعمل أن نستشعر كأننا ننظر إلى الله، كأننا نراه فيصح العمل، ونبتعد عن الرياء، وعن المخازي، فإن لم تستطع هذا الاستشعار، ولم تقوى عليه، فاعبد الله كأنه يراك، استشعر أنه يراك إذا لم تستطع أن تستشعر أنك تراه، فاستشعر أنه يراك فيصح العمل، ونبتعد عن المعاصي أيضاً، ولذلك صار الإحسان رأس الأمر كله، فينبغي إذاً أن نعرف هذا الحديث، ونقدره قدره.
علامات الساعة
ثم سأله عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، كل الناس يستوون في هذا العلم، وهو معرفة متى تقوم الساعة، أعلمهم وأجهلهم كلهم لا يعلمون إلا الله ، أنا وأنت يا جبريل والناس كافة لا يعلمون متى الساعة.
قال: فأخبرني عن أمارتها؟ فأخبره الرسول ﷺ عن شيء من العلامات قال: أن تلد الأمة ربتها، إما أن الرجل الحر يكون عنده أمة فيطؤها بالحلال، فتلد له ولداً، فيكون الولد هو سيد الأمة، أو أنها تباع فتتنقل حتى تصل إلى الولد وهو لا يدري، فتكون أمه عنده، وهو لا يدري، وقد حصل شيء من ذلك، أو أن الولد يعامل أمه بالعقوق كما تعامل الأمة، وهذا قول قوي جداً، ورجحه بعض أهل العلم، أن الناس يفشو فيهم العقوق حتى يعامل الولد أمه معاملة الأمة، لا احترام، ولا تقدير، بل ربما ضربها، ولعنها، وكلفها بالعمل، وجعلها خادمة عنده، وهذا موجود بين الناس.
وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، قد أتوا من البادية، فملكوا الناس، وجاء في بعض الرواية يكونوا رؤوس الناس، فيترأسون، ويتصدرون، وليسوا بأهل، فيقع الفساد لأنه: إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، وإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فإذا أسند أمر الناس إلى الحفاة العراة، العالة رعاء الشاء الذين لا يعرفون الأحكام الشرعية، فيسوسون الناس بالظلم، ويبخلون بالمال يقع الفساد، هؤلاء من صفاتهم: أنهم يتطاولون في البنيان، فيتباها كل واحد على الآخر بطول بنائه، يتباهون بطول البنيان، فلو قال قائل: ما حكم أن يكون البناء أكثر من طابق؟ هل هذا مذموم أم لا؟ قلنا بحسب الحاجة، وبحسب الحال، فإن كان يحتاج مثل هذه العمارات والشقق السكنية؛ لأجل ازدحام الناس فلا بأس بذلك، أو يرفع السقف لأجل التكييف مثلاً ونحوه لا بأس بذلك، أما أن يصبح الأمر مباهاة لأجل تعليق الثريات، وزخرفة السقوف، والتباهي على الخلق فهذا أمر مذموم ولا شك، وكثير من الذين يبنون لا يراعون هذه المسألة، وإنما يتباهون ليقول: بنائي أعلى من بنائك، وعمارتي أطول من عمارتك، ونحو ذلك، وهذا الذي يحدث من الجهل بأحكام الله، وعدم إنفاذها على الناس، هذا جزاء توسيد الأمر إلى غير أهله.
فانطلق الرجل فتعجب الناس كيف يسأله ويصدقه، قال رسول الله ﷺ: التمسوه، بحثوا عنه لم يجدوه، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
فهذا الحديث الذي اشتمل على هذه الأحكام العظيمة، والذي جاء به جبريل بنفسه إلى النبي ﷺ على مرأى من الصحابة، جاء جبريل بصورة رجل لأجل أن يعلمنا نحن، فينبغي حفظ وصية جبريل، وقول رسول الله ﷺ ، وهذا الوحي من الله.
وفقني الله وإياكم لتحليل الحلال، وتحريم الحرام، والوقوف عند حدود الله، ومعرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي، ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، السراج المنير، والداعي إلى الله بإذنه، والبشير النذير، الذي ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
خطر السفر إلى الخارج
أيها المسلمون: هذه تنبيهات سريعة على أمور واقعة ينبغي التأمل فيها، والحذر من الشر فيها:
أولاً : لازال الفجور في السفر إلى الخارج، والارتماء في أحضان الكفرة، وإنفاق الأموال وبعثرتها أمراً قائما بين الناس مع الأسف، ومهما حصل من التنبيه، فإن طغيان الشهوة المادية، واللذائذ البهيمية تجعل بعض الناس عمياً وصماً وبكما، فلا يسمعون الحق، ولا يبصرونه، فضلاً عن أن يتكلموا به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولازال السفر في هذه الإجازة إلى أماكن الكفرة، أو غيرهم من أماكن الفسق، فإن بعض الأماكن القريبة يوجد فيها مسلمون لكن يوجد فيها فسق شديد، وباطل كبير، ومحرمات منتشرة.
هذا رجل يريد أن يذهب لشرب الخمور، والوقوع في الفواحش، فتحس به زوجته، فتطلب منه أن تذهب معه، وتقول: رجلي على رجلك علّ الله أن يعصمه بذهابها معه، فيأخذها فيضعها في فندق ويجلس معها فترة قصيرة، ثم يذهب ليلعب، ويلهو، ويشرب المسكرات، ويعاقر الفواحش حتى إذا سكر رجع من سكره وهو ناس لزوجته، فعاد إلى بلده والزوجة في الفندق ليدخل على البيت، فيقول للأولاد وهو سكران -يا جماعة- إن منظر السكارى أمام الأطفال أمر مفزع، وشيء مفجع، وقضية موجعة، فإلى الله المشتكى من بُعد الناس عن الشريعة، ليقول لهم: أين أمكم؟ لماذا لا أراها؟ فيقولون: أنت أخذتها معك، فيرجع ليبحث عنها في الفندق.
وثانياً: لازال أمر أو أزمة الإيجارات قضية واقعة، ولازالت عدم الرأفة بالمسلمين مسألة موجودة من الطمع والجشع عند الكثيرين، وقد قلنا، وبينا، وفصلنا سابقا، ونصحنا، ووجهنا الأمر، وقلنا -يا أيها الناس- من المُلاك إذا كان الرجل غنياً خذوا منه، وإذا كان في شركة فإن له أُمّاً تدفع خذوا منه، لكن عندما يكون رجل عندما يكون فقيراً محدود الدخل لا يستطيع، فتقول: له أخرج، وإلا ألقيتك في الشارع، وأتيت لك بالشرطة، واشتكيتك عند المحكمة، فنقول، أين التكافل بين المسلمين؟ أين التعاون؟ أين إيواء الضعيف؟ أين احتساب الأجر في إيواء الأسر؟ كل هذا طمسته الأطماع المادية، وهم سيأخذون الأموال لكن بعد ذلك ماذا سيحصل؟ فرأفة ورحمة بعدم القادرين نقول: القادر خذ منه، لكن غير القادر ارحمه.
أحكام تتعلق بالبيجر
ثالثاً: هناك جهاز قد انتشر أمره بين الناس يسمونه بالبيجر، وهذا الجهاز يمكن أن نقول: أنه نعمة من الله؛ لأنه مفيد في استخدامه، ولأنه يحصل بسببه كثير من الدلالة على شخص لا يستطاع الوصول إليه في الأحوال العادية، وقد تريده زوجته في أمر ضروري، أو صاحب له، ولكن نريد أن نتكلم عن بعض المسائل والمحاذير.
أولاً: إن الأمر قد صار عند كثير من الناس من باب المباهاة والتفاخر، فلا يحتاج الجهاز ولكن مع ذلك يقتنيه، ولو دفع آلاف من أجل ألاَّ يقال: ليس عندي كذا، أو ما عندك كذا؟ أو عندي مثل الناس، ونحو ذلك حتى إن بعضهم علق اثنين، واحد من هذا الجيب، وواحد في ذلك الجيب، قلة عقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وربما علق بعضهم من الأشياء المصطنعة ما يوهم أنه عنده الجهاز، ليقال: عندي الجهاز، وليس في جيبه شيء كما يفعل بعضهم في هذه الهوائيات للتلفونات التي يعلقونها في السيارة، وليس عندهم، المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
ثالثاً: إن بعض الناس يدخلون بها المساجد ولا زالت على موضع الصوت، ولا يضعونها مثلاً على الحالة التي يكون فيها الجهاز هزازاً إذا استقبل، فيسبب ازعاجا للمصلين، وتشويشاً أثناء الصلاة، فينبغي الانتباه لهذا.
وكذلك فإن من الأمور المضحكة أن بعض الأطفال صاروا يأتون بها إلى المدارس، فأي ترف هذا الذي حصل؟ وما فائدتها للطفل الذي يأتي بها؟ وكذلك ينبغي الانتباه لمسألة بيع هذه الأجهزة؛ لأن كثيرا من الناس يأخذون ويبيعون، وأنا أقول: لابد من استفتاء أهل العلم، هل يجوز بيعها؟ فإننا نعلم من الشريعة أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك، أما الجهاز فأنت تملكه، لكن الخط أنت أعطيت المنفعة بالإيجار، استأجرت المنفعة الخط، لكن هذا الجهاز نفسه ملك لك، أما الخط ليس ملكاً لك، فما حكم بيعه؟ وإذا قلنا: تنازل مقابل مبلغ مالي، فهل يشترط إذن الشركة التي أصدرت هذا الخط للناس أو الخطوط للناس؟ فينبغي عدم الاستعجال، وجعل القضية تجارة، وقد لا يجوز ذلك، فينبغي السؤال عنها، والاستفتاء.
ولولاء خشية الدلالة على الشر لذكرت لكم بعض الاستخدامات التي حصلت من الناس لهذه الأجهزة في ما حرم الله.
ومسألة أخرى وهي: الشراء من أصحاب البسطات خارج المسجد بعد النداء الثاني يوم الجمعة، وقد علمت من بعض الإخوان الذين نبهوا على ذلك أن بعض الناس من المصلين يأتي المسجد، وقد أذن النداء الثاني، فيشتري من أصحاب هذه البسطات، وهذا حرام لا يجوز، والبيع باطل، وقال أهل العلم: البضاعة لا زالت للبائع، والثمن لازال عند المشتري؛ لأن البيع فاسد باطل، فإن الله قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَالجمعة: 9، فكيف تشتري حرام عليك، وحرام عليه أن يبيع.
وتنبيه آخر يتعلق بهم أيضاً: أننا بلغنا من بعض الناس أيضاً أن البلدية إذا جاءت فأخذت هؤلاء الأشخاص فإن بعض الناس لا يتقون الله، فينهبون البضاعة، ينهبون البضاعة، يأخذونها ويمشون، ما دام البائع هرب، أو ممسوك، ينتهز الفرصة، فيأخذ البضاعة، حرام عليك، بأي حق يأخذها؟ إما أنها لازالت ملكاً للبائع، وإما أنها لبيت مال المسلمين، فكيف بالله عليكم يجوز لبعض قليلي الذمة أن يأخذوا البضائع وينتهزوا، الفرصة ويمشون بها؟
عمل الطلاب الصيفي وتأخير أجرة العامل
ومسألة أخرى أيضاً، وهي: عمل الطلاب الصيفي، فإن بعض الطلاب -على ما سمعنا- يذهبون ويأخذون تحويلات إلى بعض الشركات من مكتب العمل، ثم يذهبون للشركة فلا يعملون، ولا يشتغلون ويأتون آخر الشهر ليأخذوا الراتب، وبعضهم قد يدخل في شركتين أو ثلاثة هذا في برنامج العمل الصيفي، لا يشتغل ولا في واحدة منها، ثم في آخر الشهر يلف عليهم ليأخذ الرواتب، ما حكم ذلك ؟ حرام لا يجوز لأنه مال بغير مقابل فلا يجوز أخذه.
إما أن تعمل يدبروا لك عمل، وتأخذ أجرة، وهم راضين، وإلا لا يجوز لك أن تذهب إذا كانوا غير راضين، ولا أن تأخذ أجرة إذا كنت لا تعمل.
وتنبيه أخير من بعض الشكاوى التي جاءت من عمال عملوا أعمال، ولم يعطهم صاحب الشأن أجرهم، فقد قال ﷺ: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وهذا جف عرقه، وجف ريقه من المطالبة، وصاحب العمل لا يعطيه حقه.
فهذا أكل الحرام بعينه، وقالﷺ: مطل الغني ظلم، الذي عنده ما يدفع ويماطل فهو ظالم، لا يجوز تأخير الرواتب، ولا الأجور، لا بد من إعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم انصر عبادك ودينك، وانصر المجاهدين، اللهم انشر السنة في أرجاء العالمين، اللهم اجعلنا من أهلها ومن العاملين بها، ومن الذين يموتون عليها إنك ربنا رؤوف رحيم.