الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا عباد الله: يكون المرء في الإسلام، ويولد في الإسلام، ويعيش بين المسلمين، وربما يكون ضالاً، فيهديه الله ، فيغشى دور العبادة، ويصحب الأخيار، ويأتي الطاعات، وينتهي عن كثير من المحرمات.
وربما شرع في طلب العلم، ولكن يبقى في نفسه من آثار الجاهلية ما يبقى، يدخل في الإسلام لكن دخولاً ليس بالكلي، فتبقى معه آثار من آثار الجاهلية، وبعضهم تظهر في نفسه بعد حين من الزمن، من تلك المورثات الأولى التي كان عليها أيام ضلاله، ويدخل بعضهم في الهداية، ولكن يبقى فيه من لوثات المجتمع الفاسد الذي كان فيه، أو مما ورثه عن بعض أهله، وعادات آبائه وأجداده، مما يخالف شريعة الإسلام.
وهذا عيب كبير أن نكون مسلمين، ولكن فينا لوثات من لوثات الجاهلية، وأن تظهر علينا علامات الهداية، وسمت الإسلام، والتمسك بالسنة، ولكن فينا رذاذ يصيبنا من الجاهلية.
مظاهر رواسب الجاهلية
لقد جاء الله بالإسلام، فمحى الجاهلية، وتتبعت الشريعة كل أمر من أمور الجاهلية القبيحة، لتنسفه وتحرمه، وتعظ الناس به، قال الله -تعالى-: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الأحزاب:33.
يذكّر النساء المسلمات بالبقاء في البيوت، فلا يخرجن لغير حاجة شرعية، كالصلاة في المسجد بشروطه، أو حاجة دنيوية، يخرجن من البيت عند الحاجة، وليس من غير حاجة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الأحزاب:33.
قال مجاهد: "كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.
وقال قتادة: إذا خرجن من بيوتهن كانت لهن مشية، وتكسر وتغنج، فنهى الله -تعالى- عن ذلك.
وقال مقاتل في تبرج الجاهلية: أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله، وربما كشف النحر، وما على النحر من الحلي، نتيجة عدم شد الخمار، هذا من تبرج الجاهلية، فذكر الله النساء المسلمات بترك ذلك: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الأحزاب:33.
لا يريد الشارع أن تبقى عند المرأة المسلمة خصلة من تلك الخصال الذميمة من العهد السابق.
وعن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا البقرة:189.
لقد كانوا -أيها الإخوة- في الجاهلية يدعون الإنسان لمن تبناه، فيأتي إنسان يتبنى شخصاً له أب معروف، فيلغي اسم أبيه، وينسبه إلى نفسه، أو له أب غير معروف، فيعطيه اسماً يضيفه إليه، وينسبه إلى نفسه؛ عن عائشة -رضي الله عنها-: أن أبا حذيفة وكان ممن شهد بدراً مع النبي ﷺ تبنى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله ﷺ زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله -تعالى-:ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ الأحزاب:5.
لكن لا تجوز النسبة لغير أبيه الحقيقي، ولو لم يعرف، لا ينسب إلى شخص ليس ولدًا، فيرث ظلماً مع أولاده من تركته، وربما كشف كذلك على بنات هذا الرجل، بحجة أنه ولد من أولاده وليس كذلك، فجاءت الشريعة بتحطيم هذه العادة الجاهلية، وأنزل الله في كتابه آية يبين فيها تحريم ذلك، وتغير اسم زيد بن محمد، إلى زيد بن حارثة، ورجع إلى اسمه الأصلي.
وتزوج النبي ﷺ زينب زوجة زيد، وكان هذا من أكبر العيوب في الجاهلية، أن يتزوج الإنسان زوجة ابنه بالتبني، فكان تحطيمها بتزويج زينب للنبي ﷺ، لإزالة تلك العادة الجاهلية، ونسخ ذلك.
وعندما كان يدخل الشخص في الإسلام كان يمحو من نفسه عادات الجاهلية، ويقاوم نفسه التي تريد العودة إلى الطبع الأول، وربما غلب شيء، أو جهل الإنسان شيئاً -والجاهلية من الجهل- فخرج منه أمر يكرهه الشارع، فيعاتب عليه، وينبه إليه، كما حصل لأبي ذر ، فروى المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: رأيت عليه برداً، وعلى غلامه برداً، فقلت -أي: لأبي ذر:- لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوباً آخر، فيتوافق مع ما عليك، ويكتمل الطقم؟ فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي ﷺ، فقال لي: أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤٌ فيك جاهلية قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: نعم رواه البخاري.
وفي رواية مسلم: نعم، على حال ساعتك من الكبر.
فأبو ذر لعله كان يجهل ذلك، واستغرب كيف فاتت عليه مع كبر سنه، فأكد له ﷺ أنها من الجاهلية، وإن غفل عنها، ثم أوصاه، فقال: هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه، فليعنه عليه.
وفي رواية: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي ﷺ، فلقيت النبي ﷺ، فقال: يا أبا ذر إنك امرؤٌ فيك جاهلية قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر إنك امرؤٌ فيك جاهلية، هم إخوانكم... الحديث رواه مسلم.
حصل بينه وبين إنسان سوء تفاهم، فعيره بأمه.
وفي رواية: أنه قال له: يا ابن السوداء.
وقوله ﷺ: إنك امرؤٌ فيك جاهلية أي: خصلة من خصال الجاهلية، وهكذا قالها عليه الصلاة والسلام صريحة، وأبو ذر من هو؟
من أصدق الناس لهجة، وأتقاهم لله -تعالى-، لكن ظهر منه في لحظة من جهل، أو من ضعف، ظهر مكنونٌ من مكنونات الجاهلية، التي كانت قد ترسبت في الباطن عبر السنوات الطويلة التي عاشها في الجاهلية، ظهرت على حين غفلة وغضب، ظهر شيء من الماضي، فعاتبه ﷺ، وبيَّن له ذلك؛ لأن الإسلام لا يريد أن ترجع أمور الجاهلية، ولا أن تبرز أمور الجاهلية، يريدها نقية، يريد شخصية إسلامية سوية، طاهرة ليس فيها من الأمر الأول شيء.
وقال ﷺ ذلك في القصة المشهورة التي رواها جابر -رضي الله عنهما- قال: غزونا من النبيﷺ، وقد ساب معه ناس من المهاجرين، حتى كثروا، وكان من المهاجرين لعاب فكسع أنصارياً، وكان ذلك عيب عند أولئك، فغضب الأنصاري غضباً شديداً، حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرينَ! فخرج النبي ﷺ، فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال النبي ﷺ: دعوها، فإنها خبيثة.
ما بال دعوى الجاهلية، كيف ظهرت بينكم؟ كيف رجعتم إلى الاستنصار بالقبيلة والجماعة، وتتعادون، ويتحزب كل إنسان لجماعته وفرقته، ويتفرقون ويقتتلون؟
هذه دعوى الجاهلية، كيف ظهرت بينكم؟
ما بال دعوى الجاهلية ترجعون إليها، بعد أن هداكم الله؟! مع أنهم رفعوا شعارات إسلامية، فقال هذا: يا للمهاجرين! وقال هذا: يا للأنصار!.
والمهاجرون والأنصار اسمان إسلاميان، هؤلاء هاجروا إلى الله ورسوله، وهؤلاء نصروا الله ورسوله، ولكن مع ذلك لم يرض بها ﷺ؛ لأنها على طريقة الجاهلية في التحزب والتعصب والتقاتل.
وقال ﷺ: ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
وقال: أربع من الجاهلية لا يتركن ستبقى الأمة مبتلاة بهن، ستبقى هذه الأربع موجودة وحية في هذه الأمة، مع أن هذه الأربع من أمور الجاهلية: الفخر بالأحساب يفتخرون تعالياً وتكبراً، كل إنسان بأصله وقبيلته، تعالياً على الآخرين والطعن في الأنساب فيذم ويطعن ويشتم في نسب الشخص الآخر والاستقاء بالنجوم، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، أو درع من جرب .
فهذه أمور الجاهلية، حذرنا منها النبي ﷺ، وأخبر أنها لا تزال تسري في الأمة، لكي ننتبه إليها، ولا نقع فيها، بالرغم من أننا مسلمون، ولكن قد يرجع شخص إلى الطبع الأول، وإلى هذه السيئة التي تسري في الأمة.
لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم-، يسألون النبي ﷺ عن أمور الجاهلية التي بقيت، كما قال معاوية بن الحكم السلمي: "أرأيت أشياء كنا نفعلها في الجاهلية، كنا نتطير؟ قال: ذلك شيء تجده في نفسك، فلا يصدنكقال: كنا نأتي الكهان؟ قال: فلا تأت الكهان.
هكذا قال له: إنني حديث عهد بجاهلية، كنا نفعل كذا وكذا، فبيِّن لي، فبيَّن له ﷺ أن التشاؤم من الشيطان، ولا يردنك عن قصدك، ولا يصدنك عن حاجتك، امض لمصلحتك، ولا تتشاءم، ولا تأت الكهان.
وقال ﷺ في قوم من العرب، والعرب كانوا مشهورين بالفخر بالآباء، وكانوا يتطاولون على بعضهم في ذلك، وينشدون الأشعار في الفخر، ويؤدي ما يؤدي إليه، من احتقار الخلق، والبغي والحرب بينهم. قال ﷺ: إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس قسمان: أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جنهم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن، عبية الجاهلية فخرها، ونخوتها، وتكبرها، أذهبه الله محاه الله، حرمه الله، ولم يبق الناس يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى، ليدعن هذا الفخر بالآباء، مع أن الآباء جاهليون كفرة؛ من فحم جهنم، لكن كان لا يزال هناك من يفتخر بآبائه وأجداده، وإذا لم يترك هذا سيكون عند الله أهون من الجعلان، هذه الدويبة السوداء التي تدير الخراءة بأنفها، صوَّر ﷺ هذا الفخر بأقبح صورة، تدفع بأنفها العذرة، هكذا قال ﷺ محارباً هذه القضية التي ربما تظهر في الأمة.
ولما جاءه رجل ممثلاً عن امرأة ضربت بطن الأخرى، فأسقطت جنينها، فالنبي ﷺ قضى بالدية على عصبة القاتلة، فقال الأعرابي: تغرمني من لا نطق و لا أكل، ولا شرب ولا ستهل، فمثل ذلك يطل؟ أي: يبطل دمه، وليس له حق، فقال ﷺ: سجع كسجع الجاهلية؟! أي: رجعتم إلى الكهان، وإلى منطقهم، وشابهتموهم في السجع، وكان الكهان يسجعون، وقضى بالغرة.
بعبد أو أمة، مقابل الجنين الذي سقط، وهي عشر الدية، ورفض منطق الجاهلية.
بل إنه ﷺ، كان يغير الأسماء الجاهلية، ليمحو آثار الجاهلية، وقال أحد أولاد الصحابة: كان اسم أبي في الجاهلية "عزيزاً" فسماه رسول الله ﷺ عبد الرحمن.
العزيز: الصلب.
ولعله كره له هذه الصفة، والمؤمن هين لين، فسماه عبد الرحمن.
وكذلك قال بشير بن الخصاصية : أنه كان يماشي النبي ﷺ، ثم ذكر قصته، وفيها تغير اسمه إلى بشير.
سماه به النبي ﷺ.
وكان الصحابة يقاومون الأسماء الجاهلية، فهذا ابن عباس -رضي عنهما- قال: "من طاف بالبيت، فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا: الحطيم، فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف، فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه" .
هذا الحجر، المنطقة غير المبنية من الكعبة، غير المسقوفة، هذا الحجر كان أهل الجاهلية يسمونه: "الحطيم" وكانت أصنامهم فيه، وكان الشخص إذا أراد أن يحلف، مد عصاً إلى هذه الأصنام الموجودة في "الحطيم" ليحلف، ويسمونه ب"الحطيم" فنهى ابن عباس عن تسميته ب"الحطيم" وسماه: الحجر، وهو الاسم الإسلامي المتعارف عليه هكذا.
بل إن الصحابة -رضوان الله عليهم- تحرجوا من أشياء؛ لأنها كانت في الجاهلية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة؛ لأن أصنام الجاهلية كانت عليها، وأهل الجاهلية كانوا يطوفون بها، حتى أنزل الله -تعالى- قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا البقرة:158.
وأزيلت الأصنام، ورجعنا إلى طريقة أمنا هاجر، وتلك الذكرى العطرة.
وكان الصحابة قد تحرجوا أيضاً من التجارة في الحج؛ لأنها كانت من عادات الجاهلية، فكيف يخلطون الدنيا بالآخرة، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْالبقرة:198 في مواسم الحج".
هكذا إذاً -أيها الإخوة- كانت تسير الأمور، وهكذا المحو لعادات الجاهلية، والإنكار والإباء أن تبرز صفة جاهلية بين المسلمين، كانوا يريدونها نقية.
نسأل الله أن يحيينا على الإسلام، ويميتنا على الإيمان، ويجنبنا الجاهلية أقوالاً وأفعالاً، إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، ﷺ وعلى آله وصبحه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
رواسب الجاهلية المنتشرة اليوم
عباد الله: كيف يكون ظهور الجاهلية بين أقوام من أهل الدين؟
يكون ذلك بمثل هذه العصبيات التي حذر منها النبي ﷺ، فيتعصب الناس لأقوال ولمذاهب مثلاً كما كان أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم، ويتعصبون لأنسابهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أمور من السنة المتنوعة، قال: ومنها: أنواع تكبيرات العيدين، يجوز كلٌ مأثور، ومنها: التكبير على الجنائز، يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع، وإن اختار، أي: من اختار التربيع والتكبير أربعاً، ثم تكلم عن التعصب للمذاهب، والأخذ بقول ومحاربة الأقوال الأخرى، وبعضها صحيح، قال: حتى صار الأمر بأتباعهم، أي: أتباع المذاهب، إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن، قد أمر به رسول الله ﷺ، وأمر بلالاً بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، فلو أذن مؤذن على أذان أبي محذورة، فلا ينكر عليه، لثبوت ذلك، ومن تعصب لقول واحد مع أن القول الآخر صحيح، وعادى ووالى من أجل ذلك؛ فهو من أهل الجاهلية.
وكذلك لما تلكم -رحمه الله- في مسألة البسملة في الصلاة، وقال عن أقوال أهل العلم في إثبات كونها آية من القرآن، وفي قراءتها أقوال ذكرها، ثم ذكر أن بعض الناس من هذه الأمة، قد تفرقوا في ذلك، ورفعوا الألوية إظهاراً لشعار الفرقة، مع أن المسألة سهلة وواسعة، ولا تحتاج إلى هذه العصبية مطلقاً.
إذاً يمكن أن يحصل تعصب لأقوال من أناس يزعمون التدين، مع أن الكل صحيح مادام قد ثبت بالأدلة.
إننا -أيها الإخوة-قد تظهر فينا أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على البعيد" أليس شعاراً جاهلياً؟
قد تظهر فينا أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على البعيد" أليس شعاراً جاهلياً؟ومع هذا، فإنهم يفعلونه.
ألسنا نحتقر أحياناً أشخاصاً من جنسيات، أو بلدان مع أنهم من المسلمين، فنستهزئ بهم، ونتندر بهم، ونذكر ما يسمى بالنكات أو الطرائف عنهم، احتقاراً لهم؟
أو نقول لشخص فيه شيء من السذاجة: عقليته عقلية كذا، ونحو ذلك؟
أليس فينا مفاخرة؟ أليس فينا مباهاة؟ ألسنا قد ندخل في التدين، ونظهر سمات الاهتداء، ثم ننكشف في معاملة من المعاملات المالية، مع أن الشريعة حرمتها فنفعلها؟ وقد نشهد لشخص زوراً في محكمة؟
ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المباحة لآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مستباحة، أو أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات التدين؟
أليس يوجد فينا إسراف، وتبذير وبذخ في تصميم بيوتنا، وتزويقها، وجمع التحف فيها، ثم نحن نظهر التدين، والدين يقتضي أن لا نسرف، وأن الله لا يحب المسرفين، وأن النبي ﷺ نهى عن تزويق البيوت.
أليس -أيها الإخوة- ربما ظهر بذاءة في كلامنا؟ بل ربما ظهر في كلامنا منكر كحلف بغير الله، مع أننا نقول: إننا من أهل التوحيد، وهذا مثال قد حدث على عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-، كيف كانوا يتتبعون هذا الأمر؟
عن سعد قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله ﷺ: بئس ما قلت؛ كلهم قاموا عليَّ، في المجلس -لأنه قال كلمة باطلة، مع أنه ما قصد ذلك، ولكن مما كان تعود عليه في السابق سنين طويلة يتلفظ بها في الجاهلية، فخرجت الآن- وقالوا: ائت رسول الله ﷺفأخبره، فأتيته فأخبرته، فقال لي: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له رواه النسائي -رحمه الله-.
فهكذا إذاً على أخيهم يعاونون وينبهون، وهكذا يجب أن يكون حالنا -أيها الإخوة-.
أليس فينا أحياناً خصال من عدم التنازل، وعدم العفو، وعدم المسامحة، مع أن الدين يقتضي المسامحة؟ ونصرُّ ونركب في رؤوسنا جاهلية جهلاء، في ألا نكسر كلمتنا، ولا نتنازل لإخواننا المسلمين، ويظن الواحد بالجاهلية أنه إذا تنازل، فلن يصبح رجلاً، وأن رجولته قد نقصت، أليس كذلك؟ يحدث بيننا -أيها الإخوة-؟ وهكذا من الأشياء الكثيرة، مما نرثه أحياناً من عادات أهلينا السيئة.
بل إن النساء أيضاً حتى لو احتجبت، وسلكت سبيلاً طيباً من الدين، فإنه يظهر عليها أحياناً من ذلك، فتقول: هذه لم تزرن فلا أزورها، وهذه دعوتها فلم تجبن، والآن دعتني فلا أجيبها.
هكذا نتعامل، مع أننا ينبغي علينا أن نرجع إلى الدين الحنيف، وأن نتخلص من سائر هذه العصبيات، وهذه الترهات من أمور الجاهلية.
فهذه تذكرة، والذكرى تنفع المؤمنين.
نسأل الله أن يعيدنا إلى صوابنا، وأن يرينا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة السمحاء، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يخرج من أنفسنا أمور الجاهلية، إنه سميع مجيب قريب.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واعل كلمة الدين، وانصر أهل السنة يا رب العالمين.