الخطبة الأولى
خطورة القول بلا علم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالعلم وحث على العلم، وقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سورة محمد:19 العلم قبل القول والعمل، هذا العلم الذي به تصح الأعمال والعبادات، والفتوى بغير علم من الكبائر: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة البقرة:169، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ سورة النحل:116، وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً، وكان السلف والصحابة يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رآها تعينت عليه بذل اجتهاده. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﷺ، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
الصحابة يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رآها تعينت عليه بذل اجتهاده. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﷺ، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وهكذا كانت الأمور في نصابها، فإذا تغيرت القضايا، واختلفت الأحوال، وتعقدت الأمور، وكانت المسألة في الدماء، فكيف يجب أن يكون العلم حينئذ، ومن الذي يحق له أن يتكلم ويفتي، ويقول: هذا حلال وهذا حرام، في أمور تتعلق بالدماء، بل بدماء المسلمين.
عباد الله: إن الجهل صفة أهل النار، وإنه سبب الإعراض عن الرسل: وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَسورة هود:29، وهو سبب الوقوع في الفواحش: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ سورة النمل:55، وهكذا يكون في آخر الزمان قبض العلم، وظهور الجهل، كما قال ﷺ: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل[رواه البخاري (80)]، وقال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذوا الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا[رواه البخاري (100)].
وهكذا لا يجوز أن يفتي إلا العالم بالكتاب والسنة، وبلغة العرب، وبأصول الفقه، المعروف بجودة القريحة، البصير بالأمور، صاحب النية الصالحة، والاطلاع على أحوال الناس، كما قال البهوتي رحمه الله: معرفة الناس، ينبغي له أن يكون بصيراً -أي: بهذا الأمر-، وأن يكون متأنياً غير متسرع.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية -يعني: نية صالحة-.
والثانية: أن يكون له علم وحلم، ووقار وسكينة -وهذا ضد الطيش والتعجل، والتسرع والتهور-.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية.
الخامسة: معرفة الناس، فإذا لم يكن كذلك فلا يجوز له أن يفتي.
دخل مالك على شيخه ربيعة، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، ووقع في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق.
وإذا كانت القضية خطيرة وعظيمة تتعلق بالدماء مثلاً، فكيف يجب أن تكون الفتوى حينئذ؟ وممن تصدر -يا عباد الله-؟.
حفظ الدماء من الضرورات الخمس
إن من المصائب العظيمة أن ترتكب الكبائر والإخلال بالضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها، بناء على فتاوى ممن ليس مؤهلاً للفتوى، ولا راسخاً في العلم، ولا معروفاً بالأخذ عن العلماء ومجالستهم المدة الطويلة، ولا البصيرة والعلم المطلوب للفتوى، وهذه الضروريات التي جاءت الشريعة بحفظها كما قال العلماء: الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم، وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، وهكذا اعتنى الإسلام بحفظ هذه الضروريات الخمس، واتفقت الشرائع على حفظها.
عباد الله: وعندما تقوم بعض الأفعال التي ينتج عنها إراقة الدماء وقتل المعصومين، قتل مسلم واحد بغير حق هو أشد عند الله من هدم الكعبة: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم[رواه الترمذي (1395)]، وقال ﷺ: من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منهرواه مسلم رحمه الله [رواه مسلم (1848)]، ومعنى: لا يتحاشى أي: لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته، وهكذا لا يجوز لمسلم أن يتسبب بإراقة دم امرئ مسلم واحد بغير حق؛ لأن زوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق، بل إن الإشارة بحديدة من المسلم لأخيه المسلم تجعل الملائكة تلعنه، وإذا كان الفعل فيه قتل كفار يترتب عليه قتل مسلمين، فما هو الحكم حينئذ؟ إذا اختلط الكفار بالمسلمين، ولم يكن طريق لقتل الكفار إلا بقتل المسلمين، فهل يجوز حينئذ قتل هؤلاء الكفار، وقتلهم سيؤدي إلى قتل مسلمين؟
لقد تكلم العلماء رحمهم الله في هذه المسألة كلاماً عظيماً، وقالوا: إنه لا يجوز أن يقتل الكفار إذا كان قتلهم سيؤدي إلى قتل المسلمين، وقد قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، فهؤلاء الكفار استحقوا القتل؛ لأنهم كفروا، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُمنعوكم منه، ومع ذلك لم يجز للمسلمين الإغارة عليهم وقتالهم قال في السبب: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا سورة الفتح:25، فبسبب وجود بعض المؤمنين بمكة ممن كانوا يستخفون لا يعرفهم المسلمون لم يأذن الله للمسلمين بقتل أهل مكة لأجل إخوانهم، وقوله: أَن تَطَؤُوهُمْأي: خشية أن تطؤوهم، فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ يعني: إثم ويعيركم المشركون، ويقولون: قتلوا إخوانهم، لَوْ تَزَيَّلُوا لو تميز المؤمنون من بين الكفار، وخرجوا من بين أظهرهم لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، قال المفسرون: بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم.
ولذلك لما سئل مالك رحمه الله عن قوم من المشركين في مراكبهم، ومعهم أسارى من المسلمين: أيجوز رمي مراكبهم بالنار؟ قال مالك: لا أرى ذلك؛ لقوله تعالى لأهل مكة: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاسورة الفتح:25.
قال ابن العربي: وقد حاصرنا مدينة الروم، فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى -أي من المسلمين- يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا.
وهكذا قال الأوزاعي رحمه الله: كيف يرمون من لا يرونه، إنما يرمون أطفال المسلمين.
الدعوة إلى الإسلام قبل القتال
أما بالنسبة للكفار، فإن العلماء رحمهم الله قد نصوا على أنه لا يجوز أن يقاتلوا ويقتلوا إلا بعد بلوغ الدعوة لهم.
وهكذا كان تعليق أهل العلم على حديث البخاري رحمه الله: "أن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق، وهم غارُّون، وأنعامهم تسقى على الماء" [رواه البخاري (2541)]، قال النووي في شرح الحديث: "وهم غارُّون" يعني غافلون، وفي هذا الحديث جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة، وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، فعندما يُهاجم كفار في بلاد المسلمين، أو في أي مكان في العالم لا تعلم هل بلغتهم الدعوة أم لا؟ وهل أقيمت عليهم الحجة أم لا؟ فإن قتلهم في هذه الحال يكون قتلاً بغير حق، فهل تجزم بأن طباخاً أو عُمَّال نظافة قد بلغتهم الدعوة، وأقيمت عليهم الحجة حتى تستجيز قتلهم، وتستبيح إراقة دمائهم؟
عباد الله: إن هذه القضية الحساسة والحساسة جداً ينبغي أن يحسب لها حسابها، ثم حتى قتل الكافر الذي يجوز قتله في الأصل، إذا ترتب عليه مفسدة أكبر من مصلحة قتله، فإنه لا يجوز قتله، ألا ترى أن النبي ﷺ في مكة، وكفار قريش قد أقيمت عليهم الحجة، ودعاهم أكثر من عشر سنين، وبين لهم الحق، وتلا عليهم الآيات، ومع أنهم عذبوا أصحابه، بل قتلوا بعضهم، بل حاصروا المسلمين، بل شوهوا سمعتهم، بل وقفوا في طريق الدعوة، ومع ذلك لم يأذن النبي ﷺ بالإغارة على قريش، وهو في مكة، لم يأذن بذلك، ولما استأذنه بعض المسلمين أن يميلوا على كفار قريش لم يأذن بذلك، هل كان المسلمون في مكة تنقصهم الشجاعة؟ هل كان عمر وحمزة، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة، وغيرهم من المسلمين الأبطال العمالقة الكبار أهل التضحية بالنفس والنفيس كانوا عاجزين عن القيام بعمليات في مكة في قريش، ويقتلون من المشركين ما يقتلون؟ هل كانوا عاجزين عن القيام بغارات على الكفار، وأن يروا العالم في ذلك الوقت بطولات واقتحامات، هل كانوا عاجزين عن ذلك؟ لم يكونوا عاجزين، ومع هذا لم يؤذن لهم بذلك، لماذا؟ لأن المفسدة المترتبة عليه أكثر من المصلحة.
فقه المصالح والمفاسد
بل إن الله نهى المسلمين عن سب آلهة المشركين مع أنها آلهة باطلة وزيف، ويجب الكفر بها، والبراءة منها، ومع ذلك قال: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِلماذا؟ قال: فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍسورة الأنعام:108 إذن لأنه يترتب عليه مفسدة أكبر، وهو سب الله تعالى، نُهي المسلمين عن سب آلهة المشركين إذا كان السب سيؤدي إلى سب الله تعالى.
هل يشك أحد في استحلال دم عبد الله بن أبي المنافق؟ هل يشك أحد أن هذا الرجل قد بلغ أذاه إلى داخل البيت النبوي إلى زوجة النبي ﷺ إلى أهل بيته، بالإضافة لانسحابه بثلث الجيش، وتخذيل المسلمين، وإثارة الشبهات، والاتصال باليهود، وبمشركي قريش، وإقامة أوكار النفاق، ومسجد الضرار، هذا الرجل الذي بلغت أذيته هذا المبلغ عندما يستأذن عمرُ النبي ﷺ في قتله، ويقول: "دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه[رواه البخاري (4905)، ومسلم (2584)]، معنى ذلك: أن النبي ﷺ مهتم بالإعلام، مهتم ماذا سيقول الكفار، ماذا سيقول مشركو العرب عن هذه القضية لو حصلت، لو قتل عبد الله بن أبي وهو بين المسلمين، سيقول الناس: محمد يقتل أصحابه، هذا دخل في دينه وقتله؛ لأنه بالنسبة لهم في الخارج مسلم، إذن كان يهتم جداً ماذا سيقول الناس، وهل سيكون لقتل وإراقة دم عبد الله بن أبي صدى إيجابي أم سلبي؟ وما هو الصدى هذا؟ هل سيترتب عليه صد عن الدين؟ تشويه لسمعة الإسلام؟ ولذلك لم يأذن بقتله.
فأين النظرة الشرعية الصحيحة في قواعد المصالح والمفاسد؟ لماذا لا تعتبر عواقب الأمور، والنظر في عواقب الأمور من الدين، النظر في المآلات من الفقه، أين النظر في عواقب الأمور؟ أين النظر في المآلات، وما ستؤول إليه الأمور؟
ثم إذا كانت هذه الأشياء ستترتب عليها المفاسد الكبيرة من وقوع الفتنة، وحصول الاضطراب، وقيام سوق الفوضى.
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا | منه بعروته الوثقى لمن دان |
كم يرفع الله بالسلطان مظلمة | في ديننا رحمة منه ودنيانا |
لولا الخلافة لمن تأمن لنا سبل | وكان أضعفنا نهباً لأقوانا |
عندما تكون هناك سلطة تحجز الفوضى، وقيام الناس بالاعتداء على بعضهم البعض، عندما تكون هناك سلطة وقوة يأمن بها الناس على أموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم، ما حكم زعزعتها، والسعي في تقويضها؟ وماذا ستكون الأحوال حينئذ؟ إن في التاريخ لعبراً، التاريخ الماضي، والتاريخ المعاصر.
في غيرنا عظة وعبرة
أيها الإخوة: لقد حكت لنا كتب التاريخ عن أوضاع في بغداد ودمشق ومصر وغيرها عندما حصلت الفوضى، ماذا كانت النتيجة؟ انتشر السُّراق، نقبوا البيوت، استولوا على الأموال، وأخافوا السبيل، وقطعوا الطريق، ومن طالع الكتب في فتنة البساسير والكرج، وغير ذلك، وما حصل من الخبطات الكثيرة، وخوف الناس، دب الرعب، هربوا، وخرجوا من دمشق لما سمعوا أن التتر يقصدونها، وماذا حصل من سقوط الأسعار؟.
عباد الله: إن التاريخ الحديث أيضاً يشهد على مدى ما تصنعه الفوضى إذا قام سوقها، فهذه بغداد حاضرة العراق، ومدن ذلك الإقليم ماذا حصل فيها لما سقط حكم كان ظالماً، وكان يدين بحكم البعث الكفري، ماذا حصل لما سقط؟ تأسفوا عليه من هول ما رأوا من بعده.
وجاءت الأخبار بأن المسلحين يقومون بالهجمات المتوحشة، وأن أكثر من عشرة آلاف مدني قد قتلوا، وأن جيلاً جديداً من المفقودين قد وجد، بغداد تغرق في دوامة الفوضى، أعمال النهب تعم كل مكان، التجار يدافعون عن أنفسهم بالسلاح، غرف العمليات لم تعد عمل، مسلحون يتدفقون على مستشفى الأطفال في حي المنصور وينهبونه! الموقف ازداد سوءاً، إنها فوضى كما يقول أحد الأطباء.
إطارات تشعل، وحرائق توقد، وأطفال يدخلون لإجراء عمليات ولا توجد أجهزة، وهكذا يدافع أناس بقضبان حديدية عن دكاكينهم من اللصوص، ويطلق آخرون من البنادق النار باتجاه سارقين آخرين، وطارد عدد من الشبان من حاول الاستيلاء على البضائع، إنه تخريب متواصل، وسرقة محولات هي أساسية في البنية التحتية، وتعرضت الأماكن العامة مثل المراكز الثقافية والأندية الاجتماعية، ومؤسسات الدولة للنهب، وصودرت ممتلكاتها، وأنبوب المياه الرئيسي تعطل، وتخريب مراكز الكهرباء، ومعمل روستمية لمعالجة مياه المجاري وقاذوراتها، والمستوصفات الطبية التي تخدم خمسة وتسعين ألفاً كذلك قد نهبت، وعمت أضرار كبيرة، الخطوط الستة الرئيسة في نقل الطاقة الكهربائية الذي تسبب عن إخراجها من الخدمة، وانقطاع الكهرباء عن عدة مدن، وخطوط الضغط العالي، وسرقت ونهبت أعمدة الكهرباء لأجل الأسلاك النحاسية لكي يبيعها اللصوص، وخُرِّب أنبوب مياه يشرب منه ثلاثمائة ألف عانوا من العطش، وغُمرت أحياء بالماء في المقابل، وتخريبات شملت أنابيب الغاز ومنشآت توليد الطاقة، وأعداد العاطلين في ازدياد مستمر، وطوابير السيارات مكتظة عند محطات تعبئة البنزين، وسُرقت المكتبة العامة، ومكتبة الأوقاف نهب أكثر من مليون وثيقة وكتاب وخريطة، وضاع سبعمائة سنة من التاريخ كما عبر أحد المسؤولين على تلك المكتبات، ودمر تسعون ألف مجلد من كتب مكتبة الأوقاف التي تعتبر في غاية النفاسة، وبعضها لا يوجد له مثيل في العالم، وكذلك تم نهب البيوت، والاستيلاء عليها، الاستيلاء على مقتنيات البيت، وعلى ممتلكات أصحابه، وعلى البيت نفسه في كثير من الأحيان، وإخراج أهله منه، ويتناوب الناس على حراسة بناتهم في المدارس، ويخشى النساء ركوب سيارات الأجرة لتزايد حالات الخطف والاغتصاب، ويذهب العدد من الناس مجموعات مع البنات إلى الثانويات والكليات لإيصالهم، ويتولى نوبة الحراسة خمسة آباء تحت أشعة الشمس الحارقة معدين نوبات في الحي لضمان وصول بناتهم إلى المدرسة وعودتهم، وشاعت حوادث الاختطاف والاغتصاب، وصارت الأرقام مخيفة بل إن كثيراً من المخافر معطلة، وإلى من يشتكي؟ وبمن يستنجد؟ والذين سيستنجد بهم يحتاجون إلى نجدة هذا إذا كانوا موجودين، لقد عمت الفوضى ودبت، وتعطلت الدراسة، وتعطلت الأعمال والمصالح، وأخرج عتاة المجرمين من السجون، وهكذا ازدادت الجرائم، وعمت الفوضى، وكثرت السرقات، وهكذا صارت المقابر تستقبل جثثاً، بل إن بعضها لم يُدفن، وأين الأمن الذي يمكن الناس من دفن موتاهم؟ وقام قطاع الطرق بالسلب والنهب.
هذه الأحداث التي حصلت تدل دلالة قاطعة وواضحة على خطر الفوضى، واضطراب حبل الأمن لو حصل، أليس هذا مما يدفع إلى المحافظة على هذا المكسب المهم وهو الأمن؟ أليس الإخلال بالأمن حرام؛ لأنه يعطل مصالح المسلمين؟ أليس العبث والتلاعب بهذه النعمة أمر خطير جداً؟ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًاسورة القصص:57، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍسورة قريش:4، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ سورة النحل:112.
عباد الله: إن السعي في اضطراب الحبل الأمني، وإثارة الفوضى سيجرؤ اللصوص، ويؤدي إلى حوادث السطو المسلح، وكل من له نية فاسدة سيقوم بتنفيذ مخططته، وتطبيق ما تؤدي إليه شهوته من الأمور، سواء سلباً للمال، أو هتكاً للأعراض.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة له | ولا صلاح لهم إذا جهالهم سادوا |
فإذن من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا[رواه الترمذي (2346)].
عباد الله: إن الأمن إذا اختل لم يستطع الناس الإتيان إلى المساجد، لا لصلاة الجمعة، ولا لصلاة الجماعة، ولم يعودوا يستطيعون الذهاب إلى مدارسهم ومنشآتهم ووظائفهم، تتعطل الحياة وتتنغص، ويتنكد العيش؛ ولذلك كانت الأعمال التي تقوم وتؤدي إلى إحداث الفوضى والاضطراب في البلد في بلاد المسلمين إنه حرام وكبيرة وجريمة والله، وإن العيش في حال الخوف في جو الخوف إنها مأساة كبيرة.
نسألك اللهم أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، ثبت علينا أمننا وإيماننا، اللهم من أراد بلدنا وبلاد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، وامكر به يا رب العالمين.
اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، وانشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
مفاسد أكيدة
عباد الله: عندما يعيش بلد من بلاد المسلمين جو الاقتحامات، وإطلاق النار، والنسف والتفخيخ، واحتجاز الرهائن، والاغتيالات، فماذا بالله يكون حال سكانه؟ ما حال الضحايا عندما يكونون من مختلف الأعمار، وعندما يكونون من مختلف المشارب، محن وبلايا تتابع، ومصائب يرقق بعضها بعضاً وفتن، وعندما يقع القتل في المسلمين، أناس يفتحون النار على قوات الأمن ويتبادل النار، ومن الحصاد؟
عندما يعيش بلد من بلاد المسلمين جو الاقتحامات، وإطلاق النار، والنسف والتفخيخ، واحتجاز الرهائن، والاغتيالات، فماذا بالله يكون حال سكانه؟ ما حال الضحايا عندما يكونون من مختلف الأعمار، وعندما يكونون من مختلف المشارب، محن وبلايا تتابع، ومصائب يرقق بعضها بعضاً وفتن، وعندما يقع القتل في المسلمين، أناس يفتحون النار على قوات الأمن ويتبادل النار، ومن الحصاد؟
قومي هم قتلوا أميم أخي | فإذا رميت أصابني سهمي |
فلأن عفوت لأعفون جللاً | ولأن سطوت لأوهنن عظمي |
فهي مصيبة من جميع الاتجاهات، وكيف ما حسبتها تجد أهل الإسلام هم الذين خسروا، هرج، فتن، هل الوصول إلى الدرجة التي لا يدري فيها القاتل فيما قَتَل، ولا المقتول فيما قُتِل هو شيء تريده الشريعة؟
وبعض الناس يرى فيها بطولات: اقتحامات، واختطافات، وهرب، فأين ميادين البطولة؟ أليست في الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وكسر شوكة الكفار، ونشر الدين، وإزالة العوائق التي تمنع الدعوة؟ كيف كان المسلمون يجاهدون؟ أليسوا يأتون الكفار، وبكل وضوح يقولون لهم: عندكم ثلاث: إما أن تدخلوا في دين الإسلام، ويعلمونهم، ويوضحون لهم ما هي دعوة الإسلام، أو أن تدفعوا الجزية، وتدخلوا تحت حكم الإسلام، أو الثالث المواجهة، الإسلام دين الوضوح، ليست القضية أن يقتل ناس عشوائياً لا يدرون لماذا قتلوا، لا يعرفون.
أيها الإخوة: إن البطولات لها ميادينها الصحيحة الحقيقية، إن في المسلمين من أصحاب البأس والنجدة كثير والحمد لله، لكن إلى أين توجه الحراب؟ وما هي ميادين هذه البطولات؟ هل هي هذه المجمعات التي فيها المسلم والكافر؟ هل هي شوارع البلد التي يتجه فيها الطلاب إلى مدارسهم؟ لماذا يسيل الدم المسلم؟ أين الحرمات التي حرمها الله ؟
ثم عندما يكون المسلمون في بلدهم في حال الخوف والرعب، لقد عاشت مدينة الخبر التي تشتهر بوداعتها وهدوئها بل ونظام أهلها حتى عند إشارات المرور، لا تكاد تسمع من يطلق صوت السيارة عند الإشارة، وهم مثل في انضباطهم في كثير من الأشياء، عاشت الخبر بعد جو الخبر الآمن الهادئ جو أصوات سيارات إسعاف، وسيارات الأمن، وإطلاق النار، وينتاب الذعر التلاميذ، ويخاف أولياء أمور الطلاب، ويرافقونهم ينتظرونهم عند أبواب المدرسة، وبعضهم لا يرسلونهم أصلاً، وبعض الأحياء لا يتمكن من فيها من السكان من الخروج، بل ولا إيقاف السيارة عند باب داره أصلاً، ورنين الهواتف الجوالة، وهكذا يتصل الأقارب والأباعد للاطمئنان، ويتم الترويع لهؤلاء الآلاف المؤلفة من الناس، يستباح أمن المسلمين! يستباح أمن المسلمين؟ وماذا يكون شعور الأب المكلوم وهو يتلقى نبأ احتراق ولده؟ وماذا سيكون شعور الأب الذي يتلقى نبأ قتل ولده حديث عهد بزواج، أو شاب في ريعان الشباب؟ ولا يستطيع بعض الناس في بعض البيوت النوم في الليل من أصوات تراشق النيران، وتُستنفر المستشفيات لتلقي الجرحى، ويعم الرعب، وأصوات الحوامات في الجو، لماذا يحدث كل هذا؟ لماذا تكون بلاد المسلمين مسرحاً لهذه الأحداث؟ هل هذا هو المكان الصحيح للجهاد؟ هل هذا هو المكان الصحيح لاستخدام الأسلحة أسلحة النيران؟ ألم يقل النبي ﷺ بأنه لا يجوز لمسلم أن يروع مسلماً، ما حكم الترويع؟ ما حكم التخويف؟ لقد قال عن مدينته: من أخاف أهلها أخافه الله[رواه أحمد (16124)]، ودعا عليه، لماذا؟ لأن إخافة المسلمين حرام، إخافة المسلمين حرام، ومهما قيل في تجنب المسلمين في القتل فإن أصوات الرشاشات والقنابل والأسلحة وحدها تروع، الذين عاشوا هذه اللحظات من الترويع كيف كان حالهم؟
العودة إلى شرع الله
عباد الله: إن القضية تحتاج إلى نظر شرعي، المسألة تحتاج إلى تمحيص، القضية ليست بهذه الفوضى، إن هذه الأعمال العشوائية، وهذه المغامرات لن تؤدي إلى إقامة الدين، هل تؤدي إلى إقامة الدين؟ هل أدت إلى تقوية الدين؟ التجربة خير برهان، هل أدت إلى تقوية الدين؟ أم إلى إضعاف الدين؟ هل أدت إلى تحسين سمعة الإسلام والمسلمين؟ أم إلى التشويه؟ هل أدت إلى تقوية المسلمين؟ أم إلى الوهن والرعب الذي دب فيهم؟
هذه المعركة المفتوحة التي يُجعل الجميع وقوداً لها، والدماء تهدر، الطرق غير آمنة، لماذا؟ ولو عشناها لحظات يوماً أو يومين لماذا؟ وإذا كانت نعمة من الله أن رجعت الأمور إلى هدوئها، فهل كانت تلك التجربة، هل كانت مثالاً يُحتذى؟ أو كانت شيئاً يسر؟ أو كانت أمراً يجب تكراره؟ كلا والله.
إن هذه النظرات القاصرة، وهذه الرؤية المحصورة، وهذا الجهل، ونصف متعلم قد يكون وبالاً أكثر من الجاهل، وهذه الردَّات الحانقة، والقصور الشديد في فهم مسألة المصالح والمفاسد التي جاءت في الشريعة، تحقيق المصالح، وإزالة المفاسد، أين التدين الصحيح والتمكين للعلم أن يحكم، العلم الشرعي، أين الاحتكام إليه؟ أين الرجوع إلى الكتاب والسنة؟ أين هو؟
عباد الله: إن هذه التجربة التي عشناها في بلدنا هذا لا تجعل مجالاً للشك أبداً في أن ما حصل حرام، حرام، حرام لا يجوز، لا يجوز والله، يكون المسلمين وبلاد المسلمين تكون هي الوقود، وساحات المعارك.
اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بديننا يا رب العالمين، ردنا إلى الحق رداً جميلاً يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان والسلامة والإسلام يا رحيم يا رحمن، ثبت علينا أمننا وإيماننا، ومن أراد إخافتنا وكيدنا بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، اللهم اجعل بلدك هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، ورفع الذل عن المسلمين، اللهم ارفع البأس، واكشف الضر عن إخواننا يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
اللهم عليك بأعدائنا، اللهم عليك بأعدائنا، اللهم عليك بأعدائنا، فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات يا سميع الدعوات.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.