الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فإن الطريق إلى الله مراحل يسير فيها العبد يقطعها مرحلة مرحلة، وهذا صراط الله المستقيم الذي ندعو الله دائما أن يهدينا إياه، يضل من يشاء ويهدي من يشاء إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] فإذا بلغ العبد نهايته وجاء اليقين الذي قال الله تعالى فيه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، كان نهاية الأجل بحسب ما يقطعه من الطريق، وهذا الطريق فيه مراتب.
مراتب الكمال البشري
فإذا قال قائل: كيف نترقى في الطريق إلى الله؟ كيف نرتفع وكيف نصعد الدرجات؟ فإن العبد ليس مناه وقصارى ما يريد أن يبقى في موضعه لا يرتقي، بل يريد أن يتحسن يريد أن يرتفع، يريد أن يرتقي في مدارج الكمال وهو سائر إلى الله تعالى، أما من جهة الكمال البشري فهو أربعة مراتب ذكرها العلماء: النبوة والصديقية والشهادة والولاية مذكورة في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]، الصالحون الأولياء، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]، فجمعوا الإيمان مع التقوى جميع هذه المراتب متاحة الآن إلا النبوة لمن أحسن العمل وجاهد نفسه وترك الكسل وأخلص النية وسلك الطريق واستعان بالله وعرف كيف يصعد.
هذا الموضوع يكتسب أهميته من أن الجنة درجات، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، في الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فكلما ترتفع درجة يعني ذلك أنك حصلت نعيماً عظيماً جدًا لا يمكن تصوره، وليس الطموح أن يدخل العبد الجنة فقط، بل لا بد أن يكون طموحه إلى الأعلى.
ولذلك النبيﷺ قال: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس لم يقل: اسألوه فقط أن تكون في أدنى منزلة في الجنة، لا، قال: اسألوا الله الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة [رواه أبو داود: 1486، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2]. لكن هذا الوصول إلى الأعلى كيف يكون؟
وسائل الارتقاء في درجات الكمال
ما هي الوسائل ؟ كيف يقطع الواحد هذه المراحل في السير إلى الله؟ هذا ما نريد التعرف عليه في هذا الدرس، الموضوع مهم؛ لأنه يتعلق بالخواص من هذه الأمة، هذا موضوع لمن يريد الارتقاء، لمن لا يريد البقاء على حاله، يريد أن يتحسن، الانتقالات أنواع؛ هناك انتقال من الكفر إلى الإسلام، وهناك انتقال من المعصية إلى الطاعة، هناك ناس تُسلم بعد كفرها، وهناك ناس تهتدي وتتوب بعد معصيتها، لكن ماذا بعد ذلك؟، هناك مراتب كثيرة، هناك عمل كثير، ليست فقط القضية الآن هداية من الكفر إلى الإسلام أو هداية من المعصية إلى الطاعة، هناك شغل كثير لكن الخطوة الأولى التي هي الانتقال، انتقال المسلم من تفريط، ترك واجبات، فعل محرمات، إلى الطاعة، فعل الواجبات، ترك المحرمات، هذا هداية من الله ولكن من سعى إليها وصل، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69].
الفضيل بن عياض - رحمه الله - هذا واحد من كبار الأمة نحسب أنه من أولياء الله، هذا الرجل قطع طريقاً عظيماً إلى الله، لكن كيف كان؟ كان قاطع طريق، وكان سبب توبته كما هو مشهور أنه عشق جارية فبينما هو يرتقي الجدار إليها ليتسور سمع تاليًا من الجيران يقرأ في قيام الليل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد: 16]، هذا سمع الآية تُتلى، ما هو مقصود بها أصلاً، الذي يقرأها كان يقرأها في قيام الليل، فقال لما سمعها: "بلى يا رب قد آن" جاء الوقت، فهو سمعها ووقعت في قلبه وعقل معناها أَلَمْ يَأْنِ يعني ما جاء الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] فتفاعل معها مباشرة، فهم المقصود رجع نزل انصرف وآوى إلى مكان خرب فقط حتى يستجمع حاله وينظر كيف يرتب أموره الآن إلى الوضع الجديد بعد هذه الهداية المفاجئة، فإذا رفقة من الناس من المسافرين نزلوا في هذا المكان فقال بعضهم: نرحل نكمل في الليل وقال بعضهم: حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، هم لا يشعرون بوجوده وهو سمع الكلام قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافوني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبتُ إليك" وجعل توبته مجاورة البيت الحرام، ومجاورة البيت الحرام، الصلاة بمائة ألف، كل صلاة فريضة وكل صلاة مشروعة في المسجد؛ تحية مسجد، ركعتا الطواف، صلاة الكسوف، صلاة العيدين، وهكذا كل صلاة جنازة، كل صلاة مشروعة في الحرم تُضاعف بمائة ألف، وهناك أجور عظيمة تُكتب؛ لأن من قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة وهذه تدخل في المضاعفة، جعل توبته مجاورة البيت الحرام وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26]، إذن، كانت توبة عظيمة، هذا الرجل استمر في طريقه إلى الله وانتقل من قطع الطريق والمعصية والفسق إلى العبادة والزهد في الدنيا والإقبال على الله، حتى صار علماً يُقتدى به ويُهدى بكلامه وأفعاله وكم عبارة من عبارات الفضيل بن عياض منقولة تُداول اليوم في رسائل الجوال والواتساب والتويتر وغيرها من وسائل النشر الحديثة، فضلاً عن القديمة والكتب، من الجنس الآخر من النساء، امرأة راودت الربيع بن خثيم، صار هناك تحدي من يفتن الربيع؟ كان من كبار العلماء والعباد فامرأة أغواها الشيطان نذرت نفسها لهذا، صار تحدي بين أطراف معينة وتجمّلت وذهبت كأنها سائلة وأسفرت عن وجهها، كشفت فجأة أمامه لأنه جعل لها ألف درهم إذا فتنته، فقال لها الربيع مباشرة: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين، أم كيف بكِ لو سألكِ المنكر والنكير، فصرختِ صرخة فخرت مغشية عليها فما أفاقت إلا وهي في عالم العابدات القانتات".
من الكفر أو الشرك إلى الإسلام والتوحيد، حصلت النقلات المفاجئة، موجود أمثلة لها في الكتاب والسنة، سحرة فرعون ألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء: 44]، بعدما سألوه: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ [الشعراء: 41 - 42]، لكم أجر وليس فقط مال، وإنكم أيضًا لمن المقربين وقد أُتي بهم من أنحاء مصر بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم [الشعراء: 37]، ليس هو ساحر، سحار، هؤلاء رؤوس السحر في مصر بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم سحار صيغة مبالغة وعليم أيضًا صيغة مبالغة، فلما ألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف: 117]، وهم يعلمون ما هو السحر ويميزون بينه وبين غيره فلما رأوا الثعبان العظيم عرفوا أن هذه معجزة نبي ولا يمكن تكون سحراً وهم أرباب السحر وأساطينه فماذا حصل؟ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قذف الله فجأة في قلوبهم الهداية وقالوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء: 46- 48].
وكانت التوبة عبارة عن سجود تلقائي لله، فأُلْقِيَ السَّحَرَةُ أُلقي كأن شيئًا قد أجبرهم أو فاجأهم غشيهم أُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ما هذا الشيء؟ ما رأوه من آيات الله، قال فرعون: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الشعراء: 49] يعني هذا الجاهل بالله كأن عنده دخول نور الإيمان للقلب يحتاج إلى إذن رسمي منه شخصيًا قال: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الشعراء: 49] والإيمان يدخل أصلاً القلب بدون استئذان، إذا دخل الإيمان دخل فجأة دخل مباشرة، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [الشعراء: 49]، فرعون شديد المراوغة، مباشرة اتهم موسى أنه هو الذي علّمهم، وهو أول واحد يعرف أن موسى ما التقى بهم أصلاً حتى يعلمهم، وهل يمكن أن يلتقي بهم من كل أنحاء مصر؟ متى التقى بهم فرعون هو الذي جمعهم؟ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فاختار عقوبة شديدة للغاية فيها قتل، لكن ليس أي قتل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه: 71]، سحرة فرعون ما أخذوا محاضرات ولا صحبوا نبيًا صحبة طويلة، أو كانوا مع الصالحين فتأثروا بهم، لا، حصل لهم شيء فجائي لحظي، والذي صار في قلوبهم شيء يدل على فقه قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وهناك قسم وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 72 - 73]، يعني الكلام هذا عادة من يقوله شخص تمرس، ويمكن صاحب الصالحين، ولازم اهل العلم، وأخذ عنهم مدة، حتى يستطيع أن يقول كلاماً كهذا لكن هؤلاء قالوه فوراً لحظياً، إذن الانتقال هل يمكن أن يكون فوريًا؟ نعم، الشرارة الأولى أو قل: النقلة الأولى هذه قد تحدث فورًا، وقد تحدث بنوع من البطء أو التدرج عند البعض، يأخذ وقتًا، يسمع كلاماً، يتأثر جزئيًا، يفكر فيه مليًا، يأخذ وقتًا ثم تبدأ آثاره في الظهور، ثم يبدأ يعتاد المساجد، ثم يأخذ وقتًا حتى تظهر عليه علامات الهداية.
الشعور الدائم بالتقصير والحاجة على التوبة
من أهم الأمور التي تحرك العبد إلى الرقي والتدرج إلى مراتب الكمال؛ لأن الواحد يحس وهو يسير إلى الله أن المنية ممكن تأتي في أي وقت ولا بد هو يرتقي نحو الأحسن، لا بد أن يلقى الله على أكمل وجه يستطيعه وأرفع مستوى يمكن الوصول إليه الباعث على الارتقاء، لا بد أن يكون موجودًا كما قلنا، درجات الجنة باعث إذا عرف هذه درجات، ما الفرق بينها وبين التي قبلها وتحتها؟ هذا دافع عظيم، سيقول: هذا نعيم مؤبد، الناس الآن في الدنيا يكون الواحد ساكناً في شقة صغيرة فيقول: أنا أطمح إلى شقة كبيرة، وينتقل إلى شقة كبيرة ثم يقول: وأنا عندي زيادة أولاد خليني أروح إلى دوبلكس، وإذا كان هناك دوبلكس، قال: هذا حوشه صغير لماذا لا يكون عندي فلة كبيرة وفيها مسبح كبير وفيها حديقة؟ ثم قال: لماذا ما أبني ؟ كيف والجنة سكن مؤبد، ليس عشرين ولا ثلاثين ولا ثمانين سنة، سكن مؤبد، ما تسوى أن الواحد يرتقي ويحاول الوصول إلى درجة في الجنة فيها مساكن وحور عين وجمال وكمال أرفع وأعلى ولباس وقصور وحُلي وأشجار وأنهار لأنها كلها قال تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62]، ذكر قال: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن: 72]، مَقْصُورَاتٌ وقال في الأخرى: قَاصِرَاتُ [الصافات: 48]، هي قصرت نفسها، هذه أكمل، هذه أرفع، إذن، من قارن في سورة الرحمن: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62]، مع الجنتين جنة السابقين غير جنة أصحاب اليمين، فلماذا لا يطمح ما يرتقي إلى شيء أعلى؟ إذن الدافع الأول المعرفة بالشيء الأعلى، ما هي الميزات؟ ثانياً: الشعور بالتقصير والنقص؛ لأن المعجب المغرور لن يشعر بحاجة إلى الارتقاء لكن المقصر يقول: أنا لا أبد أعوض، والذي تأخرت هدايته؟ والذي تأخرت عبادته؟ والذي تأخر طلبه للعلم؟ إذا أقر العبد بالتقصير شعر بحاجته إلى الارتقاء فطريق الجنة ﷺ طريق يسلكه الذي يشعر بالتقصير ويسرع فيه، هناك لا شك وسائل للارتقاء، ولما يدخل المذنب أو المقصر في هذا العالم، عالم السعادة الدينية، عالم القرب من الله، عالم الطاعة والعبادة، عالم النور والهداية، عالم الفقه، يتغير كل شيء حتى يتغير تذوقه للقرآن، ينتقل من مجرد السماع إلى الاستماع إلى الاستمتاع وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: 146]، هذه قراءة إذا اطلع على قراءة أخرى تعطيه معنى إضافياً؛ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا [آل عمران: 146]، يعني البقية، وما ضعفوا وما استكانوا وأكملوا الطريق، فيه فرق بين قاتل وقُتِل، انظر إليها من الزاوية الأخرى، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران: 146]، التي قبلها الذي قُتل: الربيون الكثير، والذي قُتل في الثانية: النبي نفسه، الأولى التي تسبق هذا كله ليس هناك قتل، قَاتَلَ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فما وهن الباقون فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا قراءة تعطيك معنى آخر، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ النبي معه ربيون لما قتل نبيهم ما قعدوا ما استكانوا وواصلوا الطريق، انظر كيف الآن لو واحد بدأ يمشي في القراءات ورأى الفرق بين القراءة والثانية وما هو المعنى الإضافي لكل قراءة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 2 - 4]، هذه: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني يقول: ما الفرق بين مَالِكِ و مَلِكِ يبدأ يفهم أبعاد أخرى للآية وأنت ماضٍ، هذه قضية الترقي في مدارج العلم، كذلك فقه هذه عوالم، والعبادة عوالم وهكذا.
النبي ﷺ كانوا يعدُّون له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة أستغفر الله العظيم وأتوب، إليه كان ﷺدائماً يشعر بأنه يجب أن يتوب إلى الله مع أنه نبي يشعر بأنه يجب أن يتوب إلى الله ويستغفره وهو نبي، فكيف بنا نحن؟ فإن من الأمور المهمة في الارتقاء لمن أراد الاهتمام به: الشعور الدائم بالتقصير ما هو فقط في الأول عند التوبة، لا؛ لأن النبي ﷺ سيد البشر كان دائم التوبة، كل يوم عشرات المرات في المجلس الواحد أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وحتى لما فتح مكة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 1 - 3]، من أساسيات وقواعد الارتقاء أن يشعر العبد بالمسؤولية نحو نفسه في هذا الموضوع انطلاقاً من قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9-10].
تهذيب للنفس وتربيتها على معالي الأمور
كذلك فإن التهذيب الكامل للنفس ضروري في الارتقاء؛ لأن الإنسان يصعب عليه أن يصعد وعنده أحمال مثقلة فيه معلقة لازالت؛ لأن الذنوب والأوزار تثقّل الشخص، تربكه، تقيده قيود أغلال آصار، فيجب أن تكون التوبة دائمة ومستمرة لتحرير النفس من هذه الأزوار والآصار؛ حتى تستطيع أن ترتفع بسهولة، ألا ترى أن الإنسان إذا كان يحمل حمولة ثقيلة يصعب عليه الارتفاع، فما هي سبل التحرر من هذه الأوزار الثقيلة؟ تجديد العهد مع الله، انظر إلى هذا المعنى في دعاء سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت إلى آخر الحديث. [رواه البخاري: 6306]، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3]، يقبل التوبة عن عبادة، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ [طه: 82]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة: 222]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110]، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: 135]، العبد دائماً كلما يقول: اللهم اغفر لي ذنبي اللهم اغفر لي ذنبي حتى يوقن أن له رباً يغفر الذنوب هذا وهو يدعوهم: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة: 74]، متى جاءت هذه؟ بعدما ذكر الله منكرات عظيمة كما قال ابن عباس: "دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ومن زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، هذه آيات متوالية الله حكاها مقولات كفرية وراء بعض بماذا ختمها؟ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة: 74]، بل دعا فرعون إلى التوبة. [تفسير ابن كثير: 7/97].
المداومة على العمل الصالح
من المعاني المطلوبة في عملية الارتقاء أنك إذا عملت العمل الصالح تداوم عليه وتثبت عليه ولا يكون مؤقتاً أو شيئاً عابراً أو حماسة وانطفأت، لا، وَقُلِ اعْمَلُوا [التوبة: 105]، والنبي ﷺ كان أحب العمل إليه ما كان ديمة، ما داوم عليه صاحبه، ومعلوم أن كل إنسان معرض للخطأ، يعني حتى لو واحد مشى في طريق الارتقاء هل هو سالم من المعاصي ودائماً لن تقع له أي معصية ولا ضعف؟ لا، لكن التوبة الملازمة باستمرار تساعد على أنه إذا حصل أي شيء أن يتم التلافي فوراً، جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، انظر هذا فقه السؤال الذي ما فيه تصريح بأشياء يُستحيا من ذكرها، يعني هو يعبّر؛ لأن القضية واضحة؛ أنه فعل معها كل شيء إلا الجماع واضح، لكن كيف عرض السؤال لأن فيه فقه للمستفتي غير فقه المفتي، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، "وإني أصبت منها ما دون أن أمسها" لأن الله سمى الجماع مسيسًا مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 236]، يعني تدخلوا بهن أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: 236]، فأنا هذا فاقض في ما شئت، يعني هذا يسلم نفسه إلى العالم الناصح، سلم نفسه إلى الإمام، من هو إمام المسلمين؟ النبي ﷺ هو الذي يقيم الحدود، فجاء معترفاً عنده، قال: فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت؟ فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك" فلم يرد النبي ﷺ عليه شيئاً فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي ﷺ رجلاً دعاه، وتلا هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]، انظر هذه العلاقة بين الصلاة وتكفير الذنوب، العلاقة بين قيام الليل وتكفير الذنوب، صارت الآن هناك بشارة لهذا الرجل وآية نزلت في شأنه فحرّك هذا أشياء عند الآخرين، فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة [رواه البخاري: 526، ومسلم: 2763].
الإتيان على الفرائض قبل النوافل
من وسائل الارتقاء وطرقه: الإتيان على الفرائض قبل النوافل.
يعني مراعاة الأولويات؛ لأن بعض الناس من قلة فقهه ويؤتى من جهله يأخذ نوافل قبل أن يؤدي الفرائض.
مثال: بعض التجار في الزكاة إذا جاءته فرصة أحيانًا يتصدق ولكنه لا يحصي الزكاة ولا يخرجها، أيهما أولى؟ الواجب الفرض، كيف تتصدق؟ الآن أنت أخرجتها بنية صدقة، يعني لن تقوم مقام الزكاة؛ لأن الزكاة تحتاج إلى نية عند الإخراج، فكيف تشتغل الآن بمستحبات أنت ما أخرجت الفرائض؟ الفريضة حق الله في المال، هذا المعنى موجود في الحديث القدسي إن الله قال: وما زال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه لكن بعدما قال: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه إذن، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه [رواه البخاري: 6502]، هذا يبين أن البداية تكون بالفرائض والواجبات، وأن إتيان الواجبات أحب إلى الله من إتيان النوافل ولو قال: قيام الليل أحب إلى الله أو صلاة الفجر؟ صلاة الفجر قطعًا، ولذلك ذكر العلماء أن الشيطان أحياناً يلبِّس على بعضهم فيجعله يقوم الليل، يطيل القيام حتى ينعس وينام وتضيع صلاة الفجر، وبعض الناس يحدث له هذا في رمضان يمكن يقوم ليلة سبعة وعشرين ثم ينام ويضيع صلاة الفجر، هذا المعنى مهم؛ لأن المسألة ليست على هواك، المسألة على حسب ما يريد الله، الله يريد أن نبدأ بالفرائض أولاً، وأن نحقق الواجب ثم ننتقل إلى المستحب.
المواصلة على النوافل
ومن طرق الارتقاء المواصلة في النوافل؛ لأنه قال في الحديث نفسه: وما يزال عبدي وهذه ما يزال تدل على الاستمرارية، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه يساعد على الارتقاء الشعور بمحبة الله، وهذا شيء يجده العابد، لو قال واحد: أنا لن يأتيني من الله صك أنه أحبني، سينزل عليّ ملك ويقول لي: إن الله يحبك، من أين تأتي هذه؟ نقول: هو شيء يشعر به العبد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، لأن من أسمائه: "الودود" فهو يحبهم ويجعل لهم مودة في قلوب عباده فيحبونهم، فيشعر العابد بمحبة الله له ومحبة الصالحين له، فيه ثواب معجل للطاعة في الدنيا وهي لذة وشعور وشيء يجده العابد في نفسه من ثوابها المعجل حماية العبد من المعاصي؛ لأنه قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به يعني فلا يسمع إلا ما يرضي الله، وبصره الذي يبصر به يعني فلا ينظر إلا إلى ما يرضي الله ويده التي يبطش بها فلا يستعملها إلا فيما يحب الله ورجله التي يمشي بها فلا يستعمل الرجل في المشي إلا إلى شيء يحبه الله ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وهذه مرتبة عظيمة، هذا بلغ الآن مرتبة أنه يسأل الله فيعطيه هذه المرتبة مرتبة الولاية أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62]، لاحظ كيف نتيجة الطاعة المعجلة في الدنيا؟ إنه لا يخاف إذا خاف الناس ولا يصاب بالحزن إذا أصاب الناس الحزن أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62]، هذا ليس في الآخرة فقط كما ذكر ابن القيم قال: "لا تظنن أن قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13]، يعني نعيم الجنة فقط، بل إنهم ينالون نعيماً معجّلا في الدنيا" [مدارج السالكين: 1/423]. هذا النعيم المعجّل في الدنيا لذة نفسية، شيء يعيش فيه العبد، شيء يحس به طمأنينة وسكينة، ولا خوف ولا حزن، وسعادة ولذة، وأشياء لو علم بها أهل الدنيا لجالدوا عليها بالسيوف، لكن هم ما يشعرون بها ولا تصل أفكارهم إليها، كل ما يشعر الآن هو فقط امرأة أجمل وأكلة ألذ وبيت أفخم وسيارة أحدث وموديل وثوب هذا شغله، كله في الظاهر، لكن من الداخل لا يوجد، هذه يحس بها أهل الطاعة والإيمان والدين، قال شيخ الإسلام: "والولي مشتق من الولاء وهو القرب" يعني فكرة أولياء الله، ما هو الشيء المميز فيهم؟ ما الذي يميزهم؟ ما هو المعنى الموجود في الولاية؟ ما معنى الولاية؟ الولاية معناها: القرب، والولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العداوة من العدو وهو البعد قال شيخ الإسلام: "فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمره به من طاعته" [مجموع الفتاوى: 11/62].
الآن إذا اجتهد العبد في النوافل سيقترب من الله جداً فيفيض الله عليه من المحبة والمهابة والإجلال والأُنس والشوق إلى الله، وهذه تُسأل، جاءت في الدعاء يُسأل بها: أسألك الشوق إلى لقائك، أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك [رواه النسائي: 1305، وصححه الألباني في المشكاة: 2497].
لأنه إذا اشتاق للقاء لله معناها أنه حاله معه ممتاز، يعني هو يعرف أنه الآن لو لقي الله لو مات هناك أشياء كثيرة فعلها تجعله راغباً في اللقاء للحصول على أجر ما فعل.
الارتقاء من ترك الحرام إلى الحلال
أيضاً من مسائل الارتقاء وهي مسألة مهمة أن الواحد يرتقي من ترك الحرام ليس إلى الشبهة لكن إلى الحلال وليس إلى الحلال الملهي بل إلى ما هو أفضل من ذلك حتى تدور أعماله بين المستحب والواجب، هناك ناس ممكن يرتقي إلى المباح، يدع الحرام ويرتقي للمباح، لكن هناك ناس يذهب فوق المباح فتكون أعماله دائرة بين المستحب والواجب؛ لأن إبليس حريص على أن يلهينا بأي شيء حتى ولو كان بالمفضول عن الفاضل؛ لأنه ولو كان المفضول مباحاً والفاضل مستحباً أو واجباً يريد أن يلهينا بالمباحات، فهناك ناس مشتغلين بالمباحات، عندهم مبدأ: متِّع نفسك إلى أقصى حد، سافر إلى كل الأماكن، ادخل كل المطاعم، والبس كل أنواع الثياب، وجرّب كل السيارات، هذا يا جماعة ما يأخذ وقتًا؟ يعني يسافر إلى كل الدنيا للمتعة ليس سفر دعوة أو طلب علم أو صلة رحم، لا، هذه الان إذا قال واحد: من قراراتي في حياتي أن أزور مائة وعشرين بلدًا وأرى ألفاً ومئتين معلماً سياحياً وأنزل في أربعمائة فندق، هذه تأخذ وقتاً ومالاً، لو اشتغل بهذا ماذا يفوته من الحج والعمرة وصلة الرحم وطلب العلم والدعوة إلى الله؟ سيفوته، بعض الناس يقول: يا أخي حلال، لكن الذي يفكر بالارتقاء إلى الله، الذي يريد يشتغل على مستوى الفردوس الأعلى لن يذهب في هذا الاتجاه، سيأخذ من الدنيا قدر ما يصلحه أو يشجعه على الطاعة، إذا كان واحد عنده نهم في الدراسات الجامعية العليا، واحد طالب في الجامعة مجد عنده تخصصان، جالس يأخذ ساعات هنا وهنا في الكلية هذه وفي الكلية هذه، هذا نسبة استمتاعه بالمباحات السفريات والتمشيات ما عنده وقت، تقول له: تعال يا أخي هناك مطعم جديد نجربه، اذهب عني، أنا عندي واجبات، أنا عندي امتحانات، عندي بحوث، عندي حصص، عندي تخصصان، عندي مراجع، عندي كتب، ولذلك أينما جئته في دراسته تجده مكباً على الكتب، كتابات وبالألوان، هذا الأصفر أهم شيء، هذا البرتقالي أقل أهمية، هذا الأزرق، نازل تخطيط وحفظ وكتب والقواعد والقوانين وحل وراء بعض منهمك، هذا يقول: أنا أصعد إلى مكتبة الجامعة أجلس فيها في اليوم خمس ساعات؛ ولأنه أصلاً عندي حصص في اليوم عشرون ساعة، هذا عنده وقت أنه يذهب يمر على مطاعم البلد والبلاد الأخرى، ما عنده وقت، هذا يمشي حاله، أرغفة، أي شيء، يأكل حتى يوفر وقت أطول، المشكلة أن بعض الناس في الدنيا مستعد يبذله، وفي الآخرة تأتي لا؛ حرام؟ ما أحد قال لك: حرام، لكن الذي يريد يرتقي إلى الله ليس هذا شغله، لكن سيكون منهمكاً، هؤلاء أهل الدنيا الذين في التجارات ما عندهم انهماك أحياناً، يقول: موسم بيع شغال لا يوجد وقت، نبيع وراء بعض، بيع، الانهماك، هذا موضوع مهم جداً في الارتقاء، أنت منهمك في ماذا؟ بعض الناس يريد الراحة، وهذه الراحة ما توصلك إلى المراتب العالية، باختصار النعيم لا يُدرك بالنعيم، والجنة لا تُدرك بالراحة، فكيف إن بعض الناس يقع في المشتبهات كثيراً الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبَّهات استبرأ لدينه وعرضه [رواه البخاري: 52، مسلم: 1599]، فالأشياء ثلاثة حلال بيّن وحرام بيّن لا يخفيان، بينهما أمور مشبَّهات أو مشْتبهات.
من القواعد في الارتقاء: أنك تترك المشتبهات، لنأخذ مثالاً: إذا جئت إلى مسألة أنك تذهب للبنك وتقول له: أريد أن أشتري العقار الفلاني، فيقول لك: نوقع مذكرة تفاهم مبدئية، نشتريه لك وتأتينا تشتريه منا، نحن الآن سنترك موضوع القرض الربوي نعطيك قرضاً تشتري البيت بالربا، هذه مسألة واضحة ومعروفة وحرام، نحن سنشتريه لك وأنت تشتريه منا، هذه المسألة للعلماء فيها رأيان؛ في فتاوى العلماء المعاصرين بعضهم يقول: يجوز إذا ما ألزمك إذا ما وقع معك إلزاماً أو عقداً سابقاً، فقال: أنا أشتريها لك وإذا اشتريتها أخبرك وتأتي وتشتريها مني بالأقساط فيجوّزون ذلك إذا لم يكن اشتراط أو عقد يسبق تملكهم للبيت، هناك فتاوى لعلماء آخرين يقولون: إذا ما كانت السلعة عنده أصلاً فما يجوز أنك تشتريها منه، إذا اشتراها من أجلك ويبيعك إياها بزيادة على النقد، إذا اشتراها من أجلك ويبيعك إياها بزيادة على النقد، ما يجوز، وهذه الفتوى موجودة وكلاهما لعلماء ثقات، دعونا نسمي الفتوى الأولى للشيخ ابن باز والفتوى الثانية للشيخ ابن عثيمين من العلماء المعاصرين، جمعية الموظفين بعض العلماء فتواهم أنه لا بأس بها لأنك ما تأخذ إلا مثل الذي أعطيت كل شهر تعطيهم ألفاً، وكل شهر يأخذها واحد وأنتم اثنا عشر شخص، وواحد يأخذها أول واحد، وواحد يأخذها آخر واحد، والناس الذين في الوسط، بما أن كل واحد يأخذ بمثل ما دفع يجوز، وهناك علماء يقولون: لا ما يجوز؛ لأن صورتها: صورة لا أقرضك حتى تقرضني، فصار قرضاً مشروطاً، فالأول مقترض يسدد إلى آخر السنة، وآخر واحد مقرض للجميع إلى أن يأخذ هو يستوفي آخر واحد، فيه فتاوى لعلماء ثقات بالجواز وفيه فتاوى بالمنع، الآن إذا قدرنا أنه هذه مسألة حصل فيها خلاف وعرفنا المشتبهات، المشتبه الشيء الذي حصل فيه خلاف، والأسلم ترك المشتبه، والأمثلة كثيرة... المقصود أنا فقط ضربت هذا؛ لأنه شيء مما هو يتداول كثيراً وما تصل فيه للإنكار، لو واحد أخذ بأحد الرأيين في الجمعية لا يستطيع أن ينكر على القول الآخر ويحرّمه ويقول: حرام عليك؛ لأن هذه من مسائل الخلاف المعتبر، هناك علماء ثقات لا يعرفون بالتنازل يقولون بالجواز، وهناك علماء ثقات يقولون بالمنع، سلوك الشخص الذي يريد الارتقاء بالتأكيد أنه سيبتعد عن المشبهات المسائل اللي فيها خلاف قوي أما اللي فيها خلاف ضعيف لا عبرة بها، لو مسألة واضح الرجحان فيها ما قال بجوازها أو تحريمها إلا من شذ هذه ليست داخلة في كلامنا، نتكلم الآن عن مسائل الخلاف القوي فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه أقصد إنه مفهوم الارتقاء لا يكتفي فيه بترك المحرم بل يترك المكروه ويترك المشتبه ويأخذ بحديث اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه [رواه ابن حبان: 5569، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: إسناده جيد].
وقلنا ليس فقط يترك الشبهات، ولكن من يريد الارتقاء يترك الانهماك في المباحات، لا يترك المباحات؛ لأن ترك المباحات مخالف للدين؛ لأن النبي ﷺ لما جاءه ثلاثة قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، هؤلاء ماذا يريدون؟ ترك المباحات بالكلية، هذه رهبنة وتعذيب للنفس ومصادمة للمنهج، ولا يستطيع أصلاً حتى لو قرر أن يفعل سينهار بعد مدة، ولن يستطيع أن يرتقي ولا يواصل الطريق أصلاً، وبعض الذين مسكوا السلم بالعرض وفهموا أن التديًّن تهجُّم ما فيه تدرج وإنه فيه مباحات من السنة الأخذ بها، قال ﷺ: أما أنا فأصوم وأفطر وأنام وأقوم وأتزوج النساء وفي رواية: وآكل اللحم لأن هناك واحد قال: وأنا لا آكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني [رواه البخاري: 5063، ومسلم: 1401]. هذا القدر من المباح مهم لكي يعيش الإنسان، مهم لكي يكون عنده قوى يعبد الله بها، وإلا تنحل قواه وينهار وما يواصل الطريق، أصلاً من الأمور المهمة جداً في الترقي العلم؛ لأن العلم يختصر لك مسافات العلم، يبين لك طريق العلم العبادات المشروعة التي ترتقي بها لتعبد الله وترتقي بها إليه إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].
إذا كان الرقي إلى الله في ازدياد الخشية لن تدركها إلا بالعلم، هناك خشية ما تأتي إلا بالعلم، ليس العلم بكثرة الرواية العلم الخشية، بحسب المرء من العلم أنه يخشى الله، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، العلم يوجه صاحبه إلى التصرف الصحيح والنكاح الصحيح والبيع الصحيح والإجارة الصحيحة، العلم به حياة القلوب نور الأبصار رياض العقول، العلم نور يهتدى به ويستضاء في العبادات والمعاملات أمور الدنيا والآخرة أمور الحياة والموت أيش يعني أحكام الموت مثل الوصايا مثلا، المواريث، غير قضية أحكام تجهيز الميت، العلم يُعرف به الحلال من الحرام، يميّز به العلم أصلاً، عندما تأتي في أحكام النية فيقول لك العلماء: إن النية تميز لك العمل وإن استوت صورتاه، يعني صلاة الظهر والعصر هذه أربع ركعات وهذه أربع ركعات، إذا أنت مسافر الذي يميز هذه من هذه: النية، سنة الفجر ركعتان وفريضة الفجر ركعتان، الذي يميز هذه من هذه النية، لو أردت أنك تزكي وتتصدق الذي يميز صدقتك من زكاتك النية، هناك أحكام فقط، أحكام النيات، غسل الجمعة وغسل الجنابة، تحصين من الشبهات، انظر الآن -سبحان الله- حتى لما تأتي الآن في نقاش الملاحدة، فالملاحدة يؤمنون بنظرية البيج بانج الانفجار العظيم وأن الكون جاء صدفة، صار انفجار عظيم وجاءت كل هذه الأشياء، عندما تناقش أنت بالعلم الملحد وتقول له: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يعني من العدم أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]، يعني لأنفسهم؟ وتقول له: قبل الانفجار العظيم ماذا كان؟ هو سيضطر على حسب الكلام الذي عنده أن يقول لك: كان عدماً، فتقول: إذا كان عدماً فما الذي انفجر؟ ثم كلامهم فيه هراء كثير، نحن نعرف أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه ما ترتب الكون والسماوات والأرض كله في لحظة انفجر ظهر كل شيء، لا، هناك استوى إلى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11]، فاستوى ثم قدّر اقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات: 31 - 32] الله ما خلقها كذا، هو قادر أن يخلقها بلحظة، لكن هو حكمته أن يخلقه في ستة أيام، هذه النظرية فاشلة بعرضها على الكتاب والسنة، وكذلك لو قلت له: أنت تقول: صار صدفة، ما رأيك لو أن انفجاراً حصل في مطبعة فطلعت قصيدة لشكسبير؟ يقول: لا، كلام مجانين، أيش رأيك لو أن إعصاراً هب على مستودع خردوات قام طلع طيارة بوينج؟ يقول: لا، وما رأيك لو هذه الصدفة تبعكم التي تقولونها ما في؟ ولو قلت لهم: أنتم تقولون: أن الكون هذا فيه أربع أنواع من القوى قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الصغرى والقوة النووية الكبرى، وكل واحدة لها مقدار معين موزون أيش طلعت صدفة وجاءت هذه المقادير المعينة مرتبة، الشاهد: الإنسان بالعلم يستطيع أن يناقش الملاحدة والكفرة والفجرة والمنحرفين وأعداء الدين، الله قال عن القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52]، يعني هذا لو ملحد ما جئته إلا بقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]، قال ابن القيم - رحمه الله -: "عن العلم به يعرف الله ويُعبد ويُذكر ويوحّد ويُمجّد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وتوصل به الأرحام، وبه تُعرف مراضي الحبيب وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب، وهو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع" [مدارج السالكين: 2/44].
هذا العلم يحكم في المال ويحكم في الحياة والموت، العلم يحمي صاحبه من البدع، ولذلك تجد ناساً كثيرين يريدون التقرب إلى الله لكن الطريق خطأ، مر عمر بن الخطاب بدير راهب من رهبان النصارى فناداه: يا راهب يا راهب، فأشرف عليه الراهب، هذا معتكف للعبادة، هم عندهم صوامع يدخل الصومعة ما يخرج، لا زواج ولا أولاد، فقط عبادة، يا راهب يا راهب، فأشرف عليه فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله : عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 3 - 5]، فذلك الذي أبكاني" رواه الحاكم وجوّد إسناده الحافظ ابن كثير.
هناك ناس لو يقال لهذا الراهب: أنت ماذا تفعل؟ يقول: أنا أتعبّد وأنا مواصل على العبادة وأنا أريد أرتقي، لكن وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ليس نائمًا، لا، عامل يشتغل عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يعني تعبان في العمل، "ناصبة" لكن النتيجة: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً لأنه على منهج منحرف على طريق شرك، مثل الذين يعبدون الله بالبدع، شغال في البدع، افرض أن واحداً مثلا عنده مسبحة أبو ألف وشغال فقط: الله الله الله الله الله، وإذا كان من منحرفي الصوفية يقول: هو هو هو هو من أين أتيت بها؟ قال: لا إله إلا هو، ضلال مبين، هذه ليست من الأسماء الحسنى، ضمير يا أيها العربي إذا كنت تفهم العربية، هذا ضمير ما هو اسم، ما تعرف الفرق بين الضمير والاسم، هذا الآن شغال أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين مرة لطيف لطيف لطيف لطيف، تقول له: ولله المثل الأعلى، لو فيه واحد اسمه سعيد تقول له: سعيد سعيد سعيد سعيد سعيد، يقول: ماذا تريد؟ أرهقتني، ولذلك هذه ليست عبادة في الإسلام، تقول: ربي اغفر لي، هذه مبتدأ وخبر، طلب ربي، دعاء، سبحان الله، الحمد لله، هذا معنى كامل، هذه جملة مفيدة، لكن هو هو هو، الله الله الله، هذه جملة غير مفيدة ولا يُعبد الله بهذا، وهذه عبارة مبتدعة، والنبي ﷺ ما تعبّد بمثل هذا المبتدع، مثل عامي عند بعض البلدان العربية يقولون: وفوق تعبك الله لا يعطيك العافية! هذه يقولونها أحياناً إذا أرسل واحد في شغلة، ذهب واشتغل لكن سواها أسوأ من هي التي الآن عليه فيذهب يقول له: فوق تعبك الله لا يعطيك العافية، كذا المبتدع هذا ودك تقول له: فوقك تعبك الله لا يعطيك العافية؛ لأنه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية: 2 - 4]. وهذه خطورة البدعة.
نعود، موضوع الارتقاء إلى الله ممكن كل الناس يقولون: نحن نرتقي، عندنا أوراد وعندنا شغل، وعندنا وعندنا، وطريقتنا وعبادتنا وشغل كذا بالبدع، ولذلك قال الشاطبي - رحمه الله-: "ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات" [الاعتصام للشاطبي: 1/165]. تاركين ليس فقط الزنا، الزواج، كل شيء وهؤلاء الأولين، أما هؤلاء التالين يمسكونهم بالشذوذ في الكنائس ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات وهم مع ذلك خالدون في جهنم، من يعتقد أن المسيح هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة وشغال في العبادة، وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103 - 104]. عدد من السلف قالوا: إن هذه تشمل الخوارج فكر الخوارج ومبدأ الخوارج، وعقيدة الخوارج، الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103 - 104].
لكن العبادة نفسها هذه لا بد منها في الارتقاء، لكن أي عبادة؟ العبادة الصحيحة، فلا يمكن أن يحصل ارتقاء بدون عبادة، وهذا الترقي في العبادة يحتاج إلى القيام بالفرائض وتكميلها على خير وجه.
الثاني: الإكثار من النوافل، سواء كانت من جنس الفرائض، صلاة قيام الليل، هذه نوافل من جنس المفروضة صيام، نوافل من جنس المفروضة، حج وعمرة نوافل من جنس المفروضة، أو كانت من نوع آخر، مثل: إفشاء السلام، عيادة المريض، وهكذا، فيجتهد قدر طاقته في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة، ويكمّل هذه.
يعني لو قال لك: دعاء الاستفتاح في الصلاة هذا مستحب، لكن من المكملات، أنت الآن لترتقي تأتي بالمكمّلات، تأتي بالمستحبات لترتقي، ألست تريد الارتقاء؟ تريد أن تصل إلى الدرجة الأعلى؟ وهكذا يقول بعد الصلاة: أستغفر الله ثلاثاً، هذه التسبيحات مستحبة، يعني لو واحد ما أتى بها ما يأثم، لكن ما هو غرض الذي يرتقي أنه فقط ما يأثم، لا، يريد الدرجات العلى، قال طاووس: "ما رأيت مصلّياً مثل ابن عمر أشد استقبالاً للقبلة بوجهه وكفيه وقدميه" [حلية الأولياء: 1/304]، يعني هو يدقق، ابن عمر في كل الصلاة في كل المستحبات حتى عندما يصلي، وهناك ناس الآن يعملوان كذا، هو الآن متوجه للقبلة كذا وهناك ناس يعملون كذا، أصابع القدمين في السجود مفرقة أو مجتمعة؟ هذه الأشياء كيف نحرك الأصبع في التشهُّد؟ كيف نضع الكفين؟ هذه المستحبات والمكملات والسنن مهمة في الارتقاء؛ لأنه ما الفرق بين العامي وطالب العلم؟ العامي يأتي لك بالواجب لكن ما يدقق في المستحبات السنن، بينما طالب العلم يرى السنن، ما هي السنة في هذا؟ كيف ورد في السنة حتى أفعل مثله؟ وما الأفضل؟ وأحياناً الواحد يتعب حتى يصل إلى الراجح ويحتاج إلى اجتهاد؛ النزول على اليدين وإلا على الركبتين في الصلاة، هذه فيها تعب حتى يبحث الواحد فيها، حتى هذه السنن فيها اجتهاد في البحث عن الراجح فيها، هناك راجح، ليست كلها واضحة متفق عليها ومعروف من الوهلة الأولى، فيه أشياء يبغى لك تبحث فيها، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2]، هذا من ميادين التسابق إلى الله.
وكذلك من فوائد الارتقاء: أن العبادة تصير لذة وليست ثقلاً، هذه واضحة، الذي يشتغل على المستوى الذي تحت فقط يريد يخلص ويسقط الفرض، ولذلك ما تدري كيف يؤديها؟ فقط نخلص، الذي يريد يرتقي إلى الله لازم يعمل ويعمل حتى يلتذ بالعبادة، في حديث رجل من خزاعة أنه قال: "ليتني صلّيت فاسترحت" فكأنهم عابوا عليه ذلك ما هذا الكلام؟ فقال: سمعت رسول اللهﷺ هذا صحابي يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها [رواه أحمد: 23088، وأبو داود: 4985، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7892].
وهناك فرق فرق بين أرحنا بها وأرحنا منها هذا الحديث يقول: أرحنا بها .
قال ثابت البناني: "كابدتُ الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة" [حلية الأولياء: 2/321].
وصل الأمر في الالتذاذ بقيام الليل عند بعض السلف أنه قال في دعائه: "اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لثابت أن يصلي في قبره" [حلية الأولياء: 2/319]. هذه اللذة والنعيم لا تُنال إلا بالمصابرة، الآن قيام الليل هذا سهل؟ بل فيه مكابدات ومشقات، وإذا صار في الشتاء وفي البرد، وإذا صار الوضوء بالماء البارد، قال أبو زيد: "سُقتُ نفسي إلى الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك"
المقصود أنه هذا قطع أول الطريق؛ لأن هذه المشقة لا بد منها في البداية، هل نتخيل أن الشاب يريد الالتزام بصلاة الفجر أن صلاة الفجر من أولها سهلة عليه؟ من أولها كذا كل يوم؟ لا، صلاة الفجر صعبة ليست سهلة؛ لأنه فيها أن تقوم من تحت وطائك ومن تحت الفراش ومن تحت الغطاء والدفء، وإذا كان مع امرأته وإذا كان كذا ويتوضأ وإسباغ الوضوء على المكاره وقطع النوم واللذة والراحة ويخرج للمسجد والجو بارد إذا كان في الشتاء، هذا ماذا؟ وفي الصيف صلاة الظهر، وهكذا، العبادة فيها مشقة، لكن إذا انقطعت المرحلة الأولى التي هي مرحلة المشقة يصل الواحد بعد ذلك إلى مراحل تحصل له بها لذة، سعادة، سرور، يصير عليه الوضع سهلاً، يصير تركه مؤلماً، يصير لا يستطيع أن يترك العبادة، سرت في دمه، صارت جزءاً من حياته وعادته ونظامه وهكذا، كلما تقرب العبد من ربه بالتعبُّد تقرب الله إليه، وهذا معنى مهم في التقرب والارتقاء، أنه أنت ليس من طرف واحد، من الإيجابيات في الموضوع، من الأشياء الجميلة في موضوع الارتقاء انه أنت الآن إذا ارتقيت تتقرب منه، لكنه ليس فقط من جهتك؛ لأنه قال في الحديث: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقرب إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة وهذا التقرب والهرولة كله على ما يليق بالله تعالى، نؤمن به على ما يليق بالله تعالى، هذا التقرُّب منه سيريح العبد ويضفي عليه أنواعاً من الفيوضات الإلهية وأنواعاً من السعادة والنعيم؛ مما يجعله أسرع في الارتقاء، يشعر بمعية الله، يحس بقرب الله منه، هذا وعد الله لا يخلف الميعاد، إذا قال: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً [رواه البخاري: 7405، ومسلم: 2675]. يعني هو يتقرب فعلاً، ثم تقربه إلى عبده أكثر من تقرب العبد إليه؛ لأنه قال هنا: "شبر" وهناك ذراع، والذراع أكثر من ضعف الشبر، إذا قلت: الشبر عشرون سنتي، الذراع ليس أربعين، أكثر من ذلك، أكثر من الضعف، هذا الارتقاء يعين عليه أنه أنواع، ليس كله قيام سجود حج طواف سعي رمي، ليس كله أعمال جسدية، هناك جزء مهم جداً منه قلبي وعقلي، ما تفعل شيئاً بجسدك وجوارحك البتّة الذي هو عبادة التفكر والتدبر قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101]، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185]، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190-191]، عبادة: وَيَتَفَكَّرُونَ هذه الآية التي في آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ النبي ﷺ قال: لقد نزلت عليّ الليلة آيات: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها معناها واجب من الواجبات صارت واجب؛ لأنه ما يهدد بترك مستحب، لن يقول: ويل على ترك مستحب، إذن: لقد نزلت علي الليلة لآية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها الوجوب لكن العبادة الشاهد منها التفكر نفسه.
قال عبد الرحمن بن سليمان: "سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل، الحد الأدنى الذي ينجو فيه من الويل، قال: "يقرأهن وهو يعقلهن" [تفسير ابن كثير: 2/190].
قال: على الأقل إنك تقرأ الآية وأنت تعرف معناها وتفسيرها أقل شيء ثم امتدادات والأبعاد وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هذه عبادة كبيرة، ومدى واسع للانطلاق.
سُئلت أم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: "التفكر والاعتبار" [حلية الأولياء: 1/208].
الإيمان، التفكر في النفس في السماوات في الأرض في الشمس في القمر في النجوم، يا إخوان الآن لو يفكر الواحد في قضية ربط البعث والنشور بإنزال المطر هذا من نقطة في بحر التفكر، نرى أن الله ربط في عدد من المواضع في كتابه بين البعث والنشور وبين إنزال المطر من السماء وأثره على الأرض، أين الربط؟ خذ مثلاً هذه الآيات -سبحان الله- كيف القرآن عندما يناقش؟ يضع الطرف الآخر الضربة القاضية والشيء الدامغ الذي ما يمكن التهرب منه، كفار العرب مشركو العرب كانوا ينكرون البعث ومن أسباب الإنكار يقولون: هذه العظام تصبح رميماً تفتها تتحول إلى تراب، كيف يبعثها الله؟ كيف يبعثنا وقد صرنا رميماً؟ هو ذكرهم بأنه هذا المطر ينزل على الأرض الميتة، وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ ماذا يحصل؟ الأرض ميتة ما فيها حياة ولا شيء أخضر ولا حاجة ميتة فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى [الحج: 5 - 6]، هي في نفس الموضع تجد الربط بين نزول المطر والبعث والنشور حتى يقرب إليهم يقول لهم: كما أحيا الأرض بعد موتها بالمطر سأحيي أجسادكم التي صارت رميماً وتراباً وبليت بالموت سأحييها بالمطر النازل يوم القيامة، سينزل الله مطراً تنبت منه أجساد العباد وكذلك النشور، لما قالوا: هذا كيف يصير الواحد ترابًا؟ خلاص كيف يرجع جسده؟ قال لهم في نقاش في الآيات: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ماذا تريدون؟ أنتم تقولون: لحم ودم، والجسد هذا ذهب وبلي وصار تراباً، لو إنك أنت مخلوق من حجارة أو حديد انظر كيف الرد عليهم؟ هذه صفعة ليست بسيطة لمنكري البعث قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ستُبعثون، حتى لو كنت من نوع ما يبلى من مادة مقاومة للبلى، لو كنت من حديد أو كنت من حجارة، ألا توجد جبال لما خلق الله الجبال إلى الآن موجودة الجبال ما بليت على مر السنين والعصور والقرون؟ لا، أنت يا منكر البعث يقال للكافر: يا كافر أنت منكر البعث كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم، تعال ما هو المعدن الذي ما يصدأ؟ أكثر المعادن قوة وصلابة وما يهترئ ولا يصدأ ولا ولا ويش هو يا دكتور؟ التيتانيوم؟ البلاديوم؟ ما هو؟ بلاديوم تيتانيوم، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [الإسراء: 50 - 51]، عندكم شيء له شأن، ما تبلى أصلاً سيبعثه الله، عندما خرجوا من هذه قال: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا الكافر كافر حتى الآن أقيمت عليه الحجة فانتقل إلى مَنْ من يعيدنا؟ ما قال: الله، قال: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء: 51]، لينبه على أن الإعادة أسهل من الابتداء الذي يعيدكم، الإعادة أسهل عليه من أنه فطركم أول مرة، وهذه مسكتة فسيقولون: متى هو؟ انتقلنا من كيف إلى من؟ إلى متى؟ قل عسى أن يكون قريباً فسينغضون إليك رؤوسهم، يعني أفسلت الإجابات والمحاجات والمجادلات فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلً [الإسراء: 51، 52].
الشاهد يا إخواني التفكر في القرآن، كيف يناقش القرآن؟ لأننا نحن الآن في زمن الآن زمن الانفتاحات الإعلامية ومواقع التوصل والقنوات والابتعاثات واللقاءت، الآن أنت الآن ترى كفاراً يومياً، ممكن يجادلك وجاهياً وعن بعد ويناقشك ملحد ما يؤمن بالبعث، وبعضهم من أبناء المسلمين الذين اجتالتهم الشياطين، والقرآن حافل بنقاشات عظيمة لكن تحتاج إلى استخراج حتى تعرف ومعرفة كيف تبدأ؟ ما هو الكلام معناه؟ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 3، 4].
أما مجاهدة النفس ومعالجة النية شيء ضروري جداً لمن يسير إلى الله ويريد أن يرتقي كما قال بعضهم: "ما عالجتُ شيئاً أشد على نفسي من النية" إنها تنقلب عليّ كلما أعدت نفسي إلى الإخلاص يأتيني وراد رياء من هنا، وارد سمعة من هنا وواردات الشيطان، ما يدعني، ولذلك لا بد من الاستمرار في مسألة حمل النفس على الإخلاص، تصحيح النية، أما مسألة استمرار المجاهدة حتى الممات يعني وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] كيف راح تطبقها هذه إلا أنك دائماً تبقى على الإسلام حتى إذا جاءك الموت في أي وقت أنت عليه، لكن لا تعرف متى ستموت فهو ما هو شيء تعرفه فتستعد له مسبقًا ولذلك ما في إلا أنك كن دائماً مستعداً هذا هو الحل الوحيد اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، قال عبد الرحمن بن مهدي: "لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً" هذا وصل التشبُّع.
قال الذهبي: "كانت أوقاته معمورة بالتعبُّد والأذكار" [سير أعلام النبلاء: 7/447].
قال إبراهيم الحربي عن أحمد بن حنبل: "لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس" [طبقات الحنابلة: 1/92]. ما في يوم إلا يجد أحمد أزيد من اليوم الذي قبله أزيد علماً وأزيد إيماناً وأزيد تدبراً وتفكراً وخشية وعملاً وأزيد تعليماً وبذلاً لنفسه في الخير والخلق، والمداومة شيء أساسي في الارتقاء إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل [رواه مسلم: 782]. كان إذا عمل عملا أثبته [رواه مسلم: 746].
ثم يا إخوان هذا الارتقاء من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حق اليقين هذه ارتقاءات فإذا أخبرك ثقة بأن الوادي ماء فصدقته هذا اسمه علم اليقين فإذا ذهبت إلى الوادي ورأيت الماء بعينك فهذا عين اليقين فإذا شربت من الماء هذا اسمه حق اليقين، أراد إبراهيم أن يرتقي، قضية الارتقاء مشروعة، شغل أنبياء ليس بدعة وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة: 260]، هو الآن نظرياً يؤمن بها لكن يريد أن يرتقي فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] أريد ان أزداد إيماناً، أريد أن أرتقي، أرى بعيني، أنتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، بعيني أرى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ أي شيء حمامة وغراب وأربعة مختلفة وقطعها واخلط الأجزاء مع بعض ريش وعظام ودم وصار هذا جزء من الحمامة على جزء من الغراب على جزء من طائر ضعها، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا وزع على جبال ما هو محلات قريبة ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن، أنت تقول: تعالي يا أيتها الطيور، يأتينك سعيا فيجتمع جناح هذا إلى جناح الآخر مع الرأس اللي هناك مع الرجلين ويتركب الطائر مرة أخرى وتأتي الحمامة حمامة والغراب غراباً، لاحظ قوله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة: 260]، سعياً يعني مشياً مع أن الطير يطير، ما قال تأتيك طيراناً، تأتيك سعياً وهي تطير، يمكن واحد سأل نفسه قرأ الآية وقال: كيف سعياً؟ أليست طيوراً؟ لماذا ما تأتي طيراناً؟ لماذا تأتي على الأرض وهي طيور؟ لأنها إذا جاءت سعياً أقوى وأبلغ في رؤيتها والتأكد منها، لو جاءت طيراناً يمكن يصير بعيداً فما يتأكد، هذه جناح، هذه رأس حمامة، لا، تأتيك سعياً تسعى إليك فتراها عن قرب، فعلاً هذه كلها حمامة، وهذه كلها غراب، هذه أبلغ -سبحان الله العظيم- طلب الترقي والارتقاء فعله إبراهيم ونحن عندما نقول: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وعندما نقول: الإسلام، والإيمان، والإحسان المرتبة الأعلى: أن تعبد الله كأنك تراه هذه مرتبة عالية إذا وصل الواحد إليها، أن تعبد الله كأنك تراه [رواه البخاري: 50، ومسلم: 8].
ويرتقي المؤمن في حب النبيﷺ، ويرتقي في حب الله وحب نبيه ﷺ وحب أوليائه، وهذا الارتقاء سنة عمرية، عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله؛ لأن أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي ﷺ: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك
فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي" حضر في قلب عمر من المعاني الإضافية التي ما كانت من قبل، لما سمع الكلام والشرط صار عنده زيادة إيمان ووصل إلى مرتبة أعلى وقال: "فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي ﷺ: الآن يا عمر [رواه البخاري: 6632].
الارتقاء في جانب الأخلاق
الارتقاء يكون أيضاً في الأخلاق، الارتقاء يكون في الصفات، الآن هناك صبر وهناك صبر جميل، أعلى الصبر الجميل ليس فيه جزع ولا تشكي ولا يشتكي، أحمد بلغه أن الأنين لو بدونه أحسن، تغلب على نفسه حتى في الأنين وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً [رواه أبو داود: 4682، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1578]، الأخلاق درجات ألا ترى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].
لما جاءت جارية ميمون بن مهران ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة وعنده أضياف وأمام الضيوف فعثرت وصبت المرقة على سيدها، هذه عملية إحراق ليست متعمدة، لكن ما هو التصرف المتوقع؟ أن يبطش بها، قالت: سيدي وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ قال: قد كتمت غيظي، قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك، قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: أنت حرة لوجه الله. [تفسير القرطبي: 4/207].
هذا الارتقاء، ارتقاء في التعامل حتى المسلم يرتقي من التعلُّم إلى التعليم، يتعلم ويعمل ويعلم هذه عمليات ارتقائية، يعرف الحق، يعمل به، ويعلّمه ويدعو إليه، يصبر على الأذى في سبيله، يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: 17]، هذه درجة أعلى، وهكذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وتدبُّر القرآن والدعاء، وصحبة أهل الفقه، ليست أي صحبة ولا أي أخيار، لا، هناك أخيار إذا صاحبتهم ترتقي، وهناك ناس ينزلوك تحت، وهناك ناس مكانك راوح، وهناك ناس تصعد قليلاً، وهناك ناس وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28]، يعني لابد أن يختار الواحد الشخصيات التي يعاشرها؛ لأنه بناء على صفاتهم يكون أيضاً مستوى الارتقاء ولازم يبادر ويغتنم كل الفرص في الارتفاع إلى الدرجات الأعلى لأنه لا يدري متى يأتي الموت استعانة بالله ومحافظة على الأذكار محاسبة للنفس وأن يكون في يقظة توقظ من الغفلة، وفكرة تأتي بعد اليقظة، بصيرة، إذا اجتمعت الفكرة الصحيحة العلم الصحيح يتكون عند الإنسان شيء اسمه بصيرة، مكن يميز فيها الحق من الباطل، يميز فيها الأمور المشتبهات، يميز فيها الأمور الخفية، الأنبياء درجات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة: 253]، أولو العزم، أعلاهم خمسة حتى هناك مراتب، حتى الأنبياء مراتب، الشاهد اليقظة والبصيرة والفكرة والبصيرة والعزم، هذه من منازل السائرين إلى الله ذكر ابن القيم في مدارج السالكين منازل مهمة، منزلة الصدق ومنزلة الخشوع ومنزلة الحياء ومنزلة الصبر ومنزلة الشكر" [مدارج السالكين: 1/143]، وهكذا نسأل الله أن يحيينا حياة طيبة وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً وأن يقربنا إليه وأن يجعلنا من السابقين، ونسأله سبحانه أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه والشوق إلى لقائه.