الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله الحكيم الخبير الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، الحمد لله الذي خلق بإحسان، الذي أحسن كل شيء خلَقه وبدأ خلق الإنسان من طين، الحمد لله الذي صنع بإتقان، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88]، الإتقان الإحكام، الإتقان الإحسان، الإتقان الذي فيه جودة الصنعة وحُسن التقدير، والله خلق كل شيء وهو الواحد القهار، وخلْقُه يدل على حكمته سبحانه، ولو أن الملاحدة في هذا الزمان وما أكثرهم الآن وخصوصًا في أجيال الشباب، قد نظروا في صُنْع الله تعالى ما تطرق إليهم الإلحاد أبدًا، فقد سُئل أبو حنيفة - رحمه الله - تعالى من قبل ناس من الملاحدة عن دليل وجود الصانع؟ فقال: ما تقولون فيمن قال لكم: إني رأيت سفينة مشحونة مملوءة بالأمتعة والأحمال في البحر محاطة بالأمواج المتلاطمة، وتجري وهي مستوية بين تلك الرياح ليس فيها ملاّح يُجريها ويقودها ولا متعاهد يدفعها ويسوقها، فهل يجوز ذلك عندكم؟ قالوا: هذا شيء لا يقبله العقل! قال: فيا سبحان الله، إذا لم تقبل عقولكم وجود سفينة تمشي مستوية بلا ربّان، فكيف يجوز أن يوجد هذا الكون بلا خالق ومقدّر يسوقه سبحانه ويدبّر أموره؟ فبكوا ورجعوا إلى الحق" [شرح الطحاوية: 1/35].
وسُئل الإمام الشافعي - رحمه الله - عن دليل وجود الخالق؟ فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، يعني الحرير وتأكله النحل، فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا ويخرج منها اللبن، وتأكله الظباء فيخرج منه المسك، وهو شيء واحد" .
وسئل أحمد - رحمه الله - عن هذا السؤال فقال: "ها هنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذِ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح" [معارج القبول بشرح سلم الوصول: 1/111].
ماذا يقصد الإمام أحمد؟ يقصد البيض كيف يخرج من تلقاء نفسه إلا وهناك من خلقه وأخرجه
تأمل في نبات الأرض وانظر | إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات | بأحداق هي الذهب السبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات | بأن الله ليس له شريك |
الإتقان سمة واضحة في خلق الله تعالى، أتقنه أحكمه، العمل المحكم هو المتقن.
وقد قال ﷺ : مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة. من زاوية من زاوياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين [رواه مسلم: 2286].
الإتقان مطلب شرعي وضرورة عصرية
الإتقان مطلب شرعي، الإتقان هو الإحسان المأمور به، وقد أمر الله تعالى بالإحسان فقال: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]، والله يحب الإتقان في العمل: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه [رواه البيهقي في الشعب: 4930، والطبراني في الأوسط: 897، وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته: 2761].
وهو سبحانه يحب الإحسان وقد قال أهيب بن ورد - رحمه الله - لا يكن هم أحدكم كثرة العمل ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه فإن الله لم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً وإنما قال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7].
مظان الإتقان في الشريعة
ونجد في الشرع مجالات كثيرة للإتقان ففي الوضوء مثلاً يقول ﷺ: من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره [رواه مسلم: 601].
وفي الصلاة يقول: أقيموا الصلاة إتقاناً وإحساناً وضبطاً وتوفيراً لشروطها وقياما بها.
وفي تكفين المسلم قال: إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه [رواه مسلم: 2228].
في الدفن قال: احفروا وأعمقوا وأحسنوا [رواه النسائي في الصغرى: 2010، والطبراني في الكبير: 447، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: 2010].
وفي التربية وبالذات لمن عنده بنات، وكذلك من عنده مملوكة أيما رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وإذا كان له بنات فأحسن تربيتهن كن له ستراً من النار [رواه البخاري: 97].
والإتقان في قراءة القرآن نجده معبراً عنه بالمهارة الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة [رواه البخاري: 798]
والإتقان في العلم بحفظه وفهمه ومذاكرته والعمل به وتدريسه وإتقان قواعده، من لم يتقن الأصول حُرم الوصول.
إتقان الصحابة في جمع القرآن وحفظه وضبطه
لقد حرص المسلمون على كتاب ربهم حرصًا عظيمًا، وأنت ترى يا مسلم في جمع الصحابة للقرآن إتقاناً عجيباً، لقد أُسندت المهمة إلى رجل شاب ثقف لقن ذكي نبيه وهو زيد بن ثابت ﷺ، يقول مستشعراً المسؤولية والحمل الثقيل: "فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب - جمع عسيب وهو جريد النخل - واللخاف - جمع لخفة وهو الحجارة الرقيقة - وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيرها، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، حتى خاتمها براءة. [رواه البخاري: 4986].
في عهد عثمان تم الجمع الثاني للقرآن بغاية الإتقان وصارت في مصحف واحد، فقد كان الجمع الأول هي جمع هذه الألواح واللِّخاف والصحف والعُسُب.
الجمع الثاني: جعله في مصحف واحد كتابة وبالخط المعروف وتوزيع هذه في الأمصار فالنسخة الأولى كانت في عهد الصديق، قام بتلك المهمة لجنة يرأسها زيد بن ثابت ، كذلك حصل في عهد عثمان تولاها أيضاً، وكان التنفيذ في أواخر سنة 24 للهجرة وأوائل سنة 25 وكان فيها لا يكتب إلا ما تحقق أنه قرآن وما قد استقر في العرضة الأخيرة ومالم يُنسخ لفظه أولاً.
ثانياً: لا يُكتب إلا بعد عرضه على جمع من الصحابة.
ثالثًا: إذا اختلفوا في شيء كتبوه بلغة قريش؛ لأنه بلسانهم أنزل، أصل.
رابعًا: المحافظة على القراءات المتواترة ولا كتب أي قراءة غير متواترة.
خامسًا: اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات يرسم بالخط محتملاً لها جميعاً، وكانت الكتابة بدون نقط، ولذلك كلمة فتبينوا يمكن أن تقرأ أيضاً فتثبتوا وهي قراءة حمزة والكسائي، وهكذا يعملون، وتعلمون الخط العثماني قابل للقراءتين جميعًا، وهكذا استوعب مصحف عثمان القراءات، وبدأ هذا المنهج الدقيق وانتهى على هذه الأسس، ووزعت نسخ في البلدان وأمصار المسلمين الرئيسة، وما سواها أتلف لئلا يختلف الناس.
الإتقان في جمع السنة النبوية
وجدنا الإتقان في جمع السنة النبوية أيضاً، فقد انتدب عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - لهذه المهمة العظماء كالزهري وغيره، وإذا نظرنا إلى صحيح البخاري لماذا راج وساد وعلا وانتشر وصار أصحُّ كتاب بعد كتاب الله؟ السبب واضح فيه درجة الإتقان، درجة الإتقان في صحيح البخاري وهو الذي يقول: "صنّفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته حُجّة فيما بيني وبين الله" [سير أعلام النبلاء: 12/405]، وقال: "ما وضعت في كتابي حديثًا إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصلّيت ركعتين وتيقنت صحته" [طبقات الحنابلة: 1/274].
ولذلك كان المحدِّثون يوثقون الراوي بالإتقان ويضعفونه بعدم الإتقان، من الميزات العظيمة لصحيح البخاري - رحمه الله - أن البخاري يشترط لإثبات اتصال الإسناد المعنعن، يعني أي حرف عن في أي إسناد من البخاري لا بد أن يكون قد تتبع ثبوت اللقاء والسماع من الراوي لشيخه ولو مرة وعدم الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان السماع كما هو شرط مسلم - رحمه الله -.
ثانياً: الرواة عند البخاري - رحمه الله - طبقات، وكذلك عند علماء الحديث فليسوا جميعاً في طبقة واحدة، فمثلاً الزهري - رحمه الله - من المكثرين، رواته طبقات، أعلى طبقة الذين لازموه حضراً وسفراً وليلاً ونهاراً والمدة الطويلة ورووا عنه سمعوا منه الحديث مرارًا ثم من لم يسمع منه إلا الحديث الواحد.
من إتقان البخاري - رحمه الله - في صحيحه أنه لا يخرّج إلا عن الطبقة الأولى من أصحاب الضبط والحفظ والملازمة، إذن عنده شرطان: طول الملازمة وجودة الحفظ، ولا يخرّج إلا عن الطبقة الأولى من طبقات طلاب الشيخ، وإذا نزل إلى الثانية وهكذا، فبناء على هذا جاء صحيح البخاري بغاية الإتقان فهذا واحد من الأسباب.
مثال كان من صحيح البخاري على الإتقان، ونجد أيضاً أن الكتب التي سادت في الأمة هي الكتب المتقنة، فعلى سبيل المثال: صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ونحوهم، بناء على الإتقان الذي فيها انتشرت وصارت المراجع، لم يكونوا يستعجلون في إخراج الكتاب، بل كانوا يقضون فيه السنن الطوال، أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - يقول: "كنتُ في تصنيف هذا الكتاب - يعني الغريب المصنّف - أربعين سنة وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في الكتاب فأبيت ساهرًا فرحًا مني بتلك الفائدة وأحدكم يجيئني فيقيم عندي أربعة أشهر أو خمسة أشهر فيقول: قد أقمت الكثير!" [سير أعلام النبلاء: 10/496].
ثم جاء وقت يقيمون ثلاثة أسابيع، وجاء وقت يقيمون ثلاثة أيام، وجاء وقت يقيمون ثلاث ساعات وبعدين صار طلب العلم سفري، وفرق عظيم بين السفر والسفري.
ابن عبد البر - رحمه الله - مكث ثلاثين سنة في تأليف كتاب: "التمهيد" ولذلك جاء بغاية الإتقان والتحرير والدقة، الصحابة رضوان الله عليهم امتازوا بهذه الميزة، وهذه الميزة الآن التي نفتقدها كثيراً في الصنائع والأعمال من العبادة وأنت نازل، انظر إلى صلوات الناس، انظر كيف يتوضؤون، انظر إلى حجهم كيف يحجون، وانظر إلى أعمالهم التي يعملونها هل فيها إتقان؟ زيد بن ثابت ذهب به للنبي ﷺ وقيل له: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني فقرأت ق فأعجب ذلك النبيﷺ وقال: يا زيد تعلّم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي يعني لا في قراءته ولا في كتابته فأخاف إن وظفت يهودياً يكتب لي أو يقرأ لي الكتب التي تأتي بها الرسل من الملوك والأمراء، الذين أرسلهم أيضاً والعمال أخاف أن يزيدوا فيه وينقصوا، قال: زيد: "فتعلّمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته أتقنته وعلمته، فكنت أكتب له إذا كتب يعني أراد الكتابة وأقرأ له إذا كتب إليه" [رواه أبو داود: 3645، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3645].
صور من الاتقان في العصور السالفة
لم يكن الإتقان في سلفنا مقتصراً على العبادات وطلب العلم والتأليف والتعليم، بل كان حتى في أعمالهم الدنيوية والصنائع والمسألة هذه لها شواهد في كتاب الله.
الاتقان في البناء عند ذي القرنين
الإتقان في البناء، قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف: 94 - 95]، ما أحتاج الأجرة، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ صنع من عجزهم سداً، فقال: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ فأعينوني بقوة فيها إشعار لهم بأنهم يستطيعون العمل وأنهم يمكن أن ينجزوا وأن يقوموا بالمهمة، فأعينوني بقوة، وهو لا يحتاج إليهم، عنده قوة، ماذا يحصل إذا أعنتموني؟ تصلون إلى الغرض الذي من أجله أنتم تطلبون أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف: 95] ثم أتى بخطة مفصلة متقنة مدهشة آتُونِي زُبَرَ الْحَدِ [الكهف: 96]، اجمعوا لي قطع الحديد واجعلوا بعضه فوق بعض، حتى إذا ساوى بين الصدفين وملأ الفراغ بين الجبلين بقطع الحديد،، ما هي المرحلة التي بعدها؟ الآن الثالثة، الأولى: اجمعوا قطع الحديد، والثانية: اجعلوا بعضه فوق بعض ليملأ المكان، والثالثة: أوقدوا النيران قال: انفخوا، هاتوا المنافخ، حتى إذا جعله ناراً وانصهر وصار طبقاً واحداً والتصق بعضه ببعض، انتقل إلى المرحلة الرابعة: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف: 96]، وهو النحاس المذاب ليكون سبيكة غير قابلة للاختراق بإذن الله تعالى، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف: 97]، هذه النتيجة، الإتقان في الصنعة أدّت إلى النتيجة وهي أن يأجوج ومأجوج لم يستطيعوا لا التسلُّق عليه ولا خرقه من سمكه وإتقانه وإحكامه وقوته.
الاتقان عن نبي الله سليمان عليه السلام
تعلمنا من سليمان دروسًا كثيرة، فقد سخّر الله له الجن ومعه أيضاً الإنس والجنود، ومعه الطير والحيوانات، فصنعوا له صنائع كثيرة جداً ومنها: صنعوا قصراً من زجاج، كل شيء فيه من زجاج الجدران والأرضيات، هل رأيت قصراً كله من زجاج؟ لكن سليمان صنعه، قال: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل: 44]، فهذه كله سقفا وجدرانا وأرضا مملس ناعم من قوارير، وكانت تظنه من ماء ولذلك لما دُهشت بالنتيجة قال إنه صرح ممرد من قوارير يعني زجاج، سلمت واستسلمت: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل: 44]، هي ملكة وعندها مملكة وعندها جنود وعندها صُنّاع وعندها أموال وعندها إمكانات، وتعرف ما الذي يمكن من الذي لا يمكن، ولذلك أول ما استقبلها بعرشها منصوباً وهذا الصرح الممرد من قوارير استسلمت قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
النبي ﷺ في قضية البنيان، يقول طلق بن علي: جئت إلى النبي ﷺ وأصحابه يبنون المسجد فكأنه لم يعجبه عملهم - يعني في الخلطة - فلما رأيت عملهم أخذت أحذق المسحاة أضبطها وأصلحها - هذه المجوفة من حديد - فخلطتُ بها الطين فكأنه أعجبه أخذي المسحاة وعملي، فقال: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين [رواه أحمد: 31، وحسّنه محققه الأرنؤوط]، وفي رواية: قدموا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسّا وأشدكم له سبكا رواه أحمد في مسنده وقال المحقق: إسناده قوي.
وفي لفظ: "فقلت: يا رسول الله ألا ننقل كما ينقلون؟ أشتغل بالنقل؟ قال: لا ولكن اخلط لهم الطين يا أخا اليمامة فأنت أعلم به فجعلتُ أخلط لهم وينقلونه.
إذن، النبيﷺ كان حريصاً في الإتقان في الخلطة؛ لأن البنيان سيكون من الخلطة.
انظر الآن الغش في الخلطات، خلطات الإسمنت يقول لك: هذا ضغط كذا، وما فيه الحديد هذا مواصفات كذا، وما يطلع منه، غش في الصنعة، وغش في العمل، وفي البناء غش، وذلك ترى هذه العمائر كيف يصبح حالها؟ بسرعة تنسد المجاري وتطفح المياه وتشقق الجدران وتكثر الحوادث في الكهرباء، وانكشاف الأسلاك وتعريها؛ لأنه لا يوجد إتقان، ما في إتقان من المصنع من المواد الخام إلى المقاول إلى العُمّال إلى الطريقة إلى المهندس إلى الخرائط، لا يوجد إتقان، يقول لك: هذا عمل تجاري من أجل الحجاج بسرعة أليسوا هؤلاء أوادم؟ ألا يوجد مصطلح الآن في سوق البناء يقول لك: شغل مكة؟ لماذا؟ أليس المفروض أن هذه أفضل بلد في العالم يكون فيها أفضل شيء؟ فإذن، مع الأسف بعض الناس يقول نريد نؤجر لحجاج! أنت تسكن وتؤجر، أليست الأجرة مقابل المنفعة فتسكنهم في ماذا؟ ولما تؤجر العمارة على مستأجرين لو يستأجرون ليسكنون طيلة السنة ليس فقط في الحج أليسوا سيعيشون فيها؟ فكيف والمجاري ليست متقنة، والكهرباء ليست متقنة، واللياسة ليست متقنة، ولذلك تكثر الحرائق والحوادث، يكون البيت منغصًّا على أصحابه، ليست القضية لا يوجد إتقان؟
انظروا إلى الإتقان في التخطيط في قصة يوسف الذي قام بكل مهارة بإعداد خطة سباعية سباعية سباعية سباعية أربعة عشر سنة لمواجهة الأزمة الاقتصادية لم يكتف بتأويل الرؤيا بل قدم برنامج عمل قال: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا [يوسف: 47]، أعطاهم الحل مجاناً استشارة، هم قبل أن يأخذوا رأيه أعطاهم الحل قال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ [يوسف: 47] ،تزرعون سبع سنين متواليات وتستثمرون موسم الخصب الذي سيكون في هذه السبع والأمطار وتعدون للمستقبل، ثم بين لهم نظام التخزين قال: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ [يوسف: 47]، لأن بقاء حبوب القمح في السنابل في سنابلها يحافظ عليها من السوس والعفونة فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لا تفركوه وتخرجوه فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا يسرع إليه الفساد، ثم تأكلون بمقدار اقتصادي ليبقى لكم ما يقيتكم في السبع الشداد، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ [يوسف: 48]، مجدبات متواليات تستهلك ما كان في سني الخصب، وبشّرهم بأن العام الخامس عشر سيكون عام خصب فقال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف: 49]، من وفورة الثمار يغاث الناس بالمطر ويشتغلون بالغلات وعصر الزيت، كان نتيجة الخطة المتقنة خروج الناس سالمين وإلا وقعت بهم المجاعة ومات الآلاف المؤلّفة من البشر، ولذلك الخطة بفضل الله كفت أهل مصر وعمّت حتى من هو خارج مصر، ولذلك جاء أولاد يعقوب من فلسطين وكانوا في بادية، يعقوب وأولاده كانوا في بادية، ما كانوا في مدينة حاضرة فهم أهل إبل، فلما تسامعوا بما في مصر جاءوا، وكان مجيئهم بعد ذلك نعمة من الله، جَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: 100] وصار النفع العظيم الذي شمل ناس خارج مصر، حتى من القادمين من فلسطين وغيرها بهذه الخطة المتقنة.
الاتقان في غزوة الخندق
إذا نظرنا إلى غزوة الأحزاب نحن الآن نستعرض شواهد الإتقان في الكتاب والسنة حتى نؤصِّل هذا المفهوم شرعاً؛ لأننا والله معروف لدينا قبل أن يعرفه الغرب وقبل أن يوجد الغرب هذه المواصفات والأنظمة وقبل أن يكون عنده الإتقان، هذا موجود في الشرع والدين، الإتقان ليس وليدة مكتشفات الغرب والشرق، هذا من أصل ديننا وشريعتنا، لما سارت قريش وغطفان والعرب في عشرة آلاف ليحاصروا المدينة أو ليقتحموا المدينة، وكانت المدينة محاطة بالحرتين من الشرق والغرب، ومن الجنوب بنيان وبساتين، فما هي الجهة المكشوفة؟ الجهة الشمالية، فهذا هو المنفذ الوحيد للجيش الغازي ولذلك لما طرح سلمان فكرة الخندق واستثمرت الخبرات وأمر النبي ﷺ بحفر الخندق من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية انظر إليه في إتقانه خلال أيام لا بد من إنجاز المهمة لأن الخبر وصل أن قريشاً قد سارت ومعها أوباش العرب فلا بد من إنهاء المهمة في أيام، وزِّع الحفر بين المسلمين، انظر إلى إتقان الخطة والتنفيذ، وزِّع الحفر بين المسلمين فأُعطي كل عشرة أربعين ذراعًا وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع وعمقه لا يقل عن سبعة أذرع وعرضه لا يقل عن تسعة؛ لئلا يمكن اقتحامه، لقد تمت هذه المهمة مع برودة الجو وقلة الطعام الذي أصاب المسلمين، حتى أن النبي ﷺ ربط على بطنه الحجر، لكن هذا العمل كان متقناً بحيث أن الكفرة لما وصلوا وقفوا حائرين، اضطروا إلى أن ينصبوا خيامهم لعملية حصار، لكن لا قتال، اقتحام ما استطاعوا، وكان المسلمون يحرصون النقاط التي فيها يمكن أن يحصل منها اقتحام، ولذلك نادرًا ما حصل وما استطاع الكفرة وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب: 25].
انظروا إلى الإتقان في الصنائع في سير الأنبياء قال الله عن داود: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10]، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ سابغات تغطي جسد المقاتل كله، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ: 11]، الحلْقة على قدر المسمار، لو كانت أكبر من المسمار صارت الخلخلة ولو صارت أضيق من المسمار فصمها وكسرها، ولذلك قال الله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ الحلقة على قدر المسمار أن اعمل سابغات، سابغات تغطي جسد المقاتل حتى لا يخترقه شيء، انظر إلى الإتقان في الصنعة وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سبأ: 11]، عمل الدروع السابغة وهو من أول من عملها من الخلق بصفائح الحديد، وكان هذا الإتقان معروفاً في جهاد هذه الأمة، ففي سنة سبعمائة وثمانية للهجرة ورد الخبر بأن متملك قبرص اتفق مع جماعة من ملوك الفرنج على غزو دمياط، فجمع السلطان الجاشنكير المنصوري المملوكي الأمراء وشاورهم فاتفقوا على عمل جسر من القاهرة إلى دمياط يمنع نزول الفرنج أيام النيل؛ لأن النيل كانت له أيام فيضان فيطفو على الطرقات، فأراد السلطان أن يعمل طريقًا مرتفعًا لا يطفو عليه النيل ولا يصله الفيضان، يمكِّن الجيش من الانتقال في حال نزول الفرنجة، وندب لذلك الأمير جمال الدين أقوش الحسام، فاستدعى المهندسين ورتّب العمل واستقر الحال على ثلاثمائة جرافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وكان هو بنفسه يركب دائمًا لتفقد العمل واستحثاث الرجال وما زال كذلك حتى أنجزه في أقل من شهر، وكان ابتداؤه من قليوب من ضواحي القاهرة وآخره بدمياط، يعني مائة وتسعين كيلو مترًا تقريبًا، وعرضه من أعلاه أربع قصبات، ومن أسفله ست قصبات، يمشي فيه ستة فرسان بالعرض صفًا واحدًا.
إتقان محمد الفاتح في فتح القسطنطينية
نجد أن الإتقان إذا ذهبنا إلى محمد الفاتح - رحمه الله - في إتقانه في العمل في فتح القسطنطينية، لما كانت لها الأسوار العظيمة، وكانت سلسلة طويلة، سلاسل من جهة البحر تمنع دخول السفن ولا يستطيع الجيش الغازي أن يحاصر القسطنطينية طويلاً؛ لأنه سيكون في مكان مكشوف، فأمر محمد الفاتح - رحمه الله - أولاً ببناء حصون يستقر فيها المقاتلون المسلمون ولا يضطرون للرجوع.
وثانياً: كانت خطة سيقان الأشجار المطلية بالدهن والشحم والتي حملت فوقها السفن وانزلقت على السلاسل فتمكّن المسلمون من إدخال ثمانين سفينة في ليلة واحدة ففوجئ الفرنجة بالصباح أن عندهم ثمانين سفينة حتى ظنوا أن السلاسل قد حُطّمت لكنهم رأوها كما هي في مكانها، وأمر بعمل هذه المدافع الضخمة وتكفل لأي جندي مسلم يقتل بأن عائلته نفقتها عليه وأمر بأن ترفع إليه أسماء الذين يبلون بلاءً حسناً وعمل الخطط العظيمة المتقنة التي كانت نتيجتها اقتحام القسطنطينية وسقوط أكبر معقل للصليبين في العالم في ذلك الوقت وكانت ضد سقوط القسطنطينية عارمة جدًا، وصارت الهيبة في نفوس النصارى والصليبين في أوروبا نتيجة هذا الفتح العظيم، وتسامع العالم، كان أكبر حدث في العالم في ذلك الوقت، وألقى الله به من الرهبة في نفوس الأعداء ما لا يعلمه إلا هو، يعني صار فيه خوف عظيم، فزع من المسلمين، وصارت لهم الرهبة الكبيرة في قلوب عدوهم فعرفوا من هؤلاء.
ومن أحكام الشرع المتعلقة بقضية الإتقان أن مخالف الإتقان يضمن إذا تسبب بإهماله وتفريطه، انظر إلى المصائب في عالم الطب، ناس تشتغل في الطب وشهاداتها مزورة، جراحون أطباء بنج ثم كيف تجرى العمليات ؟ كثيراً ما تنسى أشياء في بطون المرضى ويحدث تسمم ويحدث نزيف ويحدث قطع أعصاب ويحدث ويحدث من المآسي في المستشفيات بسبب الإهمال وعدم الإتقان، وتذهب أرواح وتحصل عاهات مستديمة ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: من تطبّب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن [رواه الترمذي: 4588 ، والنسائي: 4830، وابن ماجه: 3466، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة: 2791].
قال ابن القيم - رحمه الله -: قال: من تطبّب ولم يقل من طبّ؛ لأن لفظ التفعُّل يدل على تكلُّف الشيء والدخول فيه بعُسر وكُلْفة وأنه ليس من أهله، كتحلّم وتشجّع، وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى الطبّ ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف النفوس، فيلزمه الضمان لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم" [زاد المعاد: 4/127].
وكذلك لو أهمل في العلميات، لو أهمل في العلاج، الآن يقولون: أعطاه دواء غير الدواء الصحيح، أعطاه جرعة زائدة البنج كان فوق اللازم، النتائج: وفيات، شلل، عاهات، يطول المرض المعاناة، والجرح إذا رُمّ على فساد تبين فيه إفساد الطبيب، فيتقيح بعد ذلك، لماذا نرى عدم الإتقان؟ لماذا ترى عدم الإتقان حتى في الحفظ؟ لا تتقن الحفظ ستنسى لكن لو أتقنت الحفظ، ولذلك بعض المسلمين كانت طريقتهم في الحفظ أن يقرأ المحفوظ عشرين مرة بعد أذكار كل صلاة، وهذا معناه أنه سيقرأ هذا المحفوظ وهذا القدر مائة مرة يوميًا، كيف ينساه؟ يصعب، ولما سئمت عجوز من ترداد أحد العلماء لمحفوظه قالت: أنت تردد كم مرة، أنا الآن أقرأها عليك، قال: اقرئي فقرأت سمعته يمكن أربع مرات، بعد أيام قال: أعيدي عليّ ذلك، فعجزت، قال: أرأيت لم أكرره، وكان بعض العلماء في طلبه للعلم كان يسكن في جبل فينزل درجات الجبل، فكان يكرره في كل درجة، والدرج إذا كان سبعين درجة معناه سبعين مرة، هذا التكرار ضروري جدًا للخزن، وهذا الفرق بين الذي يستوعب ويعي ويحفظ، والذي تتبخر منه المعلومات، وكثير من الطلاب في الاختبارات يذاكرون مذاكرة اختبار لا مذاكرة تعلُّم، يعني مفعولها أربعة وعشرين ساعة، ولذلك إذا انتهى الاختبار تبخرّت؛ لأنها على طريقة القراءة والحفظ للاختبار غدًا، يقول بكرة الاختبار، فشتان شتان بين ما أُخذ تدريجيًا وكُرر عشرات المرات ومئات المرات، ولذلك ليس بالضرورة، هذه الشهادات لا تعبر حقيقة عن العلم فقد يكون الواحد ما عنده شهادة علمية أغزر بكثير ممن عنده شهادة، هذه قضية عدم الإتقان سواء كان في البناء أو في الطب أو في تعلم العلم أو حتى في حفظ القرآن لماذا نجد الآن الخلل في الإتقان هذا حتى في الدراسة والتدريس؟ الآن لماذا الجيل يقول: ما يفهم المدرس ما يشرح لا يجيد الشرح؟ ما في إتقان، وهذه سلسلة، يتخرج من الجامعة، من الثانوية، إذا تخرج بلا إتقان، ودرّس بلا إتقان، كيف سيخرج الجيل؟ في ضياع في العملية التعليمية؛ قل لي: ضع مليارات في الأجهزة والمقاعد السبورات الإلكترونية والمباني والأنظمة الإدارية، لكن في الأخير طريقة الشرح وتوصيل المعلومة التعليم نفسه التدريس نفسه، لا يوجد إتقان، ما قيمة كل هذه الأشياء؟ ولذلك غياب ضعف واعظ الله في قلب كل مسلم، ضعف واعظ الله في قلوب المسلمين، غياب الشعور بالرقابة الإلهية، ضعف الإيمان يولّد هذا، فيصبح العامل يؤدي العمل بأي طريقة، أو لا يؤديه أصلاً، الآن الأداء الوظيفي، فيه شكاوى كثيرة في قضية الأداء الوظيفي والغياب والتسرُّب والقدوم المتأخر والانصراف المبكر، أسهل عبارة إذا جئت لموظف يقول: تعال غدًا، ما تأخذ شيئاً، كلها تدخل بيانات وقّع انقل ورقاً اعمل، لازم 24 ساعة؟ فإذا صار ما في رغبة في العمل، كسل، لأن قضية مراقبة الله في أن هذا الراتب وهذا المال الذي سيأتي في آخر الشهر موضوع على عمل معين ما قام به الشخص ما أداه حق الأداء، انظر إلى أبي دجانة لما كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يعلّمهم درساً: من يأخذ هذا السيف بحقه قام أبو دجانة قال: "أنا" وأخذه بحقه [رواه الحاكم: 5019، وقال حديث صحيح].
هذه قضية بحقه، قضية الإتقان في القيام بالمهمة، تأتي من نفوس مؤمنة هي تستشعر رقابة الله تعالى، أما إذا جئت الآن في الغش في المواصفات لماذا؟ الشوارع أحياناً تظهر فيها تفسخات والله تصير قاعاً صفصفاً، الشارع ما صار له شهر مسفلت، كيف؟ هناك غش في المواصفات وإهمال في العمل وإهمال في الاستلام وإهمال في الرقابة حتى المهندس الذي يستلم العمل، وإذا صار فيها رشوة، خذ المقسوم ووقع على الاستلام، إذا هو أصلاً ليس موجوداً على رأس العمل ولا يراقب الغش، إذا كان المقاول يريد ذلك والعامل متربي على ذلك والذي يستلم المهندس المستلم يسمح بذلك، ماذا ستكون النتيجة؟ وهذه وراءها خسائر كبيرة للمسلمين في سياراتهم وفي أرواحهم؛ لأن هذه الطرقات بعض الفساد الذي فيها سيؤدي إلى إزهاق الأرواح، بل العجب أن بعض التجار يذهب إلى الصين لتصنيع بضائع فيذهب إلى أردأ مكان ويقول: المواصفات ما هي مشكلة، صنع لي بأي شيء، فقط أريد بسعر كذا، فهو أصلاً يعرف أنه ذهب إلى مصنع رديء، وهناك فيه مصانع خاصة للعرب تصنّع للعرب، والله حتى أنهم يأتون أحياناً في المعارض العالمية فيأتي هذا في المعرض الصيني يقول: أنت من أين جئت؟ شغلكم هناك وهي نفسها الصين تصنّع لأوروبا، حتى يجرؤ لا يمكن مواصفات وأشياء وشغل ولا شك أن هذا يعني تعس عبد الدينار هذا الذي يقدم على رقابة الله، ما يبالي برقابة الله ولا يبالي بمصالح المسلمين ولا يبالي.
ثانياً: الجهل.
الجهل الذي ولد عدم الإتقان فتصور الآن لما ينجح الطبيب بالغش أو المهندس بالغش لما ينجح واحد من الجامعة بالغش كيف تتوقع هذا يشرف؟ كيف يطبق مواصفات؟ ماذا فيها إذا كان هو نجح بالغش؟
الكسل والإهمال واللامبالاة
كذلك ثالثاً: الكسل والإهمال واللامبالاة، كسل في تعلم الصنعة، وكسل في اكتساب الخبرة، ما يهتم الواحد يطور نفسه ولا مستواه ولا العلم الذي تعلمه ولا يأخذ دورات جديدة ولا يتابع ماذا أحدثت البشرية من أشياء مستجدة في الشيء الذي يتخصص فيه، ومن الأسباب: الأنانية والطمع، فهو عنده أنه تكون أرباحه أعلى شيء، انظروا يا إخوة إلى مثال قريب: أرسل لي واحد رسالة قبل يومين يمكن رسالة بالجوال: أنا صاحب حظيرة أغنام يأتيني بعض أصحاب المطاعم لشراء المريضة والهزيلة أبيعهم؟ أنت يا صاحب المطاعم أنت مؤتمن على صحة المسلمين، أنت مؤتمن على قوت المسلمين، هؤلاء يأكلون عندك، هؤلاء مسلمون، يذهب يشتري لهم، يلفون على حظائر الغنم وتجار الغنم، يبحث من عنده مريضة ويشتريها واطبخ وعليها توابل ولا أحد، وبعد ذلك تظهر الأمراض في الناس، بالله ما هذا؟ لهذه الدرجة الأمانة ذهبت، إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة [رواه البخاري: 59].
أين الإتقان الذي أمرنا به الشرع؟ حتى مطعم وطباخ، ليست أجساد المسلمين أبدان المسلمين، ما هي أمانة؟ فإذا كانت المطاعم كذا والمستشفيات كذا ماذا تتوقع النتائج؟ الأنانية والطمع، يريد أرخص شيء أقل شيء تكلفة أقل كذا، وإذا ذهبت إلى الورش في تصنيعهم وإصلاحهم للأشياء تخرب بسرعة لا يوجد إتقان، وضعف العزيمة، عامل آخر العزيمة الصادقة تحمل صاحبها على إتقان العمل وتحمُل المسؤولية وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
ومن الأسباب: عدم الصبر؛ لأن العمل المتقن يحتاج إلى وقت، العمل المتقن يحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى صبر، وعديم الصبر يريد الأشياء بسرعة والأشياء بسرعة، النتائج غير متقنة.
الاستعجال وعدم إعطاء الوقت الكافي
ومن الأسباب الاستعجال وعدم إعطاء الوقت الكافي متفرع مما قبله من قضية عدم الصبر وقد قال ﷺ : التأني من الله والعجلة من الشيطان
ومن الأسباب غياب الحساب او المحاسبة فإذا كان أمن المسيء العقوبة سيستمر في الإساءة ولماذا يغير؟ ما الذي يدفعه للتغيير؟ انظر إلى ذي القرنين - - رحمه الله - - وهو من أعدل الملوك في العالم، لا يعاقب مطلقاً ولا يثيب مطلقاً، قال: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف: 87 - 88].
من أسباب عدم الإتقان: ضعف المواد المستخدمة أصلاً.
إذا كان الخام أصلاً فيه فساد مهما صارت الصنعة جيدة، ولذلك بعض الناس يسترخص وتكون النتيجة على حساب هذا الذي يشتري الشيء، وسرعان ما يتلف، ما ينكسر.
ومن الأسباب: كثرة الأعمال، والإنسان له طاقة محدودة فكيف سينجز كل هذه الأشياء في هذا الوقت؟ ولذلك قالوا قديماً: "من علامات الضبط الإقلال" أحياناً تجد عالماً ما له إلا كتاب واحد، هذا هو، ليست مسألة ألف كتاب، ليست عبرة، العبرة بالكتاب المتقن وهو الذي يبقى، وانظر إلى هذه الكتب -سبحان الله- التي بقيت مثل فتح الباري لابن حجر - رحمه الله - كم سنة جلس في تأليفه ويقرأ كل قطعة على طلابه وتستخرج الأخطاء والأشياء هذه اللفظة أحسن وهذه اللفظة كذا، ويرسل بها إلى آخرين من أهل العلم فيقرؤون ويراجعون وسنوات طويلة؟ ما عنده مانع، يبقى سنوات طويلة حتى ينجز العمل بإتقان، ولذلك يكون الكتاب مهوى أفئدة طلبة العلم؛ لما فيه من الفوائد العظيمة والإتقان، حسن الترتيب، حسن التصنيف، حسن التبويب، حسن الفهرسة، حسن العبارة، وحتى أسماء كتبهم لو تأملت فيها تجد أن هذا الكتاب ما يمكن يكون هو اختاره ربما في كذا نصف ساعة، يمكن عكف على اختيار اسم كتابه مدة، فكيف بالكتاب نفسه؟
وسائل ترفع من مستوى الإتقان
الآن كيف نرفع من مستوى بحيث يصير هناك دافعية للإتقان؟
الإخلاص لله تعالى
أولاً: لا بد من الإخلاص لله تعالى، لا بد من احتساب الأجر في الإتقان، لا بد من أن يكون هناك إحساس مراقبة الله تعالى للعبد، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك [رواه البخاري: 50، ومسلم: 8].
هذا أصلاً معنى الإحسان، وحتى ولو غاب الرقيب، إن الذين يخشون ربهم بالغيب، الآن الغرب عندهم أنظمة ورقابة وعقوبة، لكن لو غاب شيء من هذا فلتت؛ لأن واعظ الله ليس في القلب، غير موجود، لكن المسلم حتى لو غاب الرقيب ووجدت ثغرة في نظام هذا العمل وغاب الرقيب، عنده رقيب، ولذلك الإتقان في المجتمع الإسلامي الحقيقي هو أضعاف غيره لوجود هذه العوامل المجتمعة - سبحان الله - حتى الإتقان في الصدقة، الربيع بين خثيم قال لأهله: "اصنعوا لي خبيصًا" يعني حلوى "فاخرة فصنعوا له فدعا رجلاً به خبل" يعني جنون فجعل يلقمه وذاك يسيل لعابه، فلما ذهب قال أهله: أتعبتنا وما أكلتَ؟ تكلّفنا وما صنعنا وما يدري هذا ماذا أكل، قال الربيع: "لكن الله يدري" [رواه ابن أبي شيبة: 24540].
الاستفادة من تجارب الآخرين
من الأمور المعينة على الإتقان الاستفادة من تجارب الآخرين، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ولا بد أن يكون هناك تقييم وتقويم، تقييم مستمر لمعرفة درجة العمل، وتقويم الخلل في العمل وإذا صار هذا؛ مراقبة الجودة في العمل وسد الخلل وإصلاح الخلل، لاحظ: مراقبة الجودة في العمل وإصلاح الخلل، هذا يجب أن يجري حتى في المؤلفات والتدريس حتى في دروس العلم الشرعي، لا بد يكون هناك إتقان، وقيل: لا تطلب سرعة العمل، ولكن اطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ؟ بقدر ما يسألون أو ما ينظرون في إتقانه وجودته.
التخصص في الأعمال
ومن الأسباب المعينة كذلك: التخصص في الأعمال.
كان فيما سبق جهابذة تجده ضارباً بحظ وافر في التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك من فنون العلم وفروعه، الآن مع ضعف الهمم ومحدودية القدرات، لا بد من التخصص مع أخذ ما لا بد منه من كل شيء، وبعد ذلك يتخصص، عندنا ما لا يسع المسلم جهله، وفيما لا يسع طالب العلم جهله، فهناك قدر معين من المتون ينبغي أن يتقنها أي طالب علم متخصص، ثم يتخصص، كما أن هناك قدر معين من العلم يجب أن يتقنه كل عامي مهما كان تخصصه بعد ذلك طب هندسة، لكن مقدار من العلم الشرعي لا بد أن يتقنه في العقيدة والتوحيد في الفقه في التفسير والحديث لا بد من قدر معين أن يتقنه، الأحكام المهمة في العبادات الأساسية لا بد، وبعد ذلك من الأسباب: تشجيع المتقنين، كانت أوقاف المسلمين من ضمن نفقاتها ومصروفاتها تشجيع المتقنين، طبعاً التشجيع نعم بالكلام والدعاء مهم جداً والنبي ﷺ أثنى على أشخاص لأمور فيهم: إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة [رواه مسلم: 17]، وأثنى على حياء عثمان وأثنى على صفات في أصحابه، قال: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالاتنا سلمة [رواه مسلم: 1807].
سلمة بن الأكوع، على رجليه استنقذ مال المسلمين من الكفار، وعندهم سلاح وعندهم دواب، وليس معه إلا جعبة سهامه ويعدو على قدميه، فهو مدحه قال: خير رجالاتنا سلمة كما أنه مدح أبا ذر على صدق حديثه: أصدق لهجة من أبي ذر [رواه أحمد: 7078، وابن ماجه: 156، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 156].
ما أقلّت الغبراء فكذلك كان ﷺ يكافئ بالماديات، انظر إلى حديث: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه [رواه البخاري: 3142، ومسلم: 2]، ثم لا بد ان يكون هناك أخذ الشيء من أهل فنه، إذا كانوا الآن يقولون: صناعات الساعات سويسرا وصناعات السيارات ألمانيا وصناعة الإلكترونيات اليابان، كذلك أنت إذا أردت أن تأخذ علوم القرآن، الفرائض، اللغة، مصطلح الحديث، هناك متخصصون، الأخذ عن المتخصص مفيد للغاية في تحقيق الإتقان، بل مخالطة هؤلاء المتخصصين تُكسب خبرات، ثم فُتح مجال الإبداع والتجديد في الأشياء التي تقبل ذلك، فمثلا في أمور الدنيا المجال واسع جدًا، ذكر أهل التاريخ أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون اعتنى عناية بالغة ببلاد الجيزة وعمل على كل بلد بها جسراً أو قنطرة وكانت أكثر بلادها هذه المنطقة تشرق يعني فيها جفاف لعلوها، مشكلة جفاف فعمل جسر أم دينار في ارتفاع اثنتي عشرة قصبة حبس الماء حتى روت تلك الأراضي كلها وأحكم عامة أرض مصر قبليها وبحريها بالترع والجسور وكان يركب بنفسه لتفقد أحوالها، وكان أحياناً بعض المهندسين يقولون له: هذه ما يمكن تنفيذها وأصلاً لو أمكن لسبقوك إليها يعني المتقدمين، فكان يرفض يقول: لم لا نحاول؟ فزاد في أيامه خراج مصر زيادة هائلة في سائر الأقاليم لإتقانه في التخطيط والعمل حتى في مجال الزراعة، تصور الان بعض بلاد المسلمين فيها أنهار وفيه زرع على شواطئ الأنهار وزرع في أراضٍ مجاورة للأنهار، يعني ما يصل ماء النهر فيزرعون على مياه متيسرة، تخيلوا أن بعضهم لما حسب للمزارعين، تكلفة مدّ الماء من النهر إلى أراضيهم، طلعت أقل من فرق الزكاة، الذي يسقي بماء الزكاة والذي على الأنهار وهذه بدون مؤنة ولا كلفة الزكاة العشر كاملاً، والذي يحفر البئر ويستخرج ويتكلف تكون زكاته نصف العشر، وإذا كان بعض الأشهر على الأمطار وبعض الأشهر على الآبار ثلاثة أرباع العشر، الآن هذه الأراضي ليست بعيدة من النهر، فيستعملون فيها على ماء المطر وعلى الآبار وعلى ..، أهل هذه المنطقة ما تكلفوا يمدوا من النهر ماء، أيش يبغى لها؟ بعض المواطير لسحب الماء فقط، فمن الكسل تركوها، قالوا: الماء موجود، ما هو موجود، ما يطلع نصف الأرض يزرع، ونصف ما يزرع على المطر إذا جاء، ما جاء ماتت، حسبوا لهم طلع تكلفة نقل الماء من النهر أقل من الزكاة فرق الزكاة يعني الآن لو نقلوا الماء من النهر وتكلفوا ستكون الزكاة كم ؟ نصف العشر، وإذا قالوا: نزرع لكن على الموجود سيكون عليهم العشر، فظهر أنهم لو نقلوا مع الفائض الزراعي مع نصف العشر لأنه ليس عشر الآن سيكون أرخص، ولكن لا توجد همّة.
ثمرات الإتقان
أولاً: سبب لنيل رضا الله .
ثانياً: تحصل به بركة.
ثالثًا: يحفظ الله به، يعني فيه قوة للأمة في دينها ودنياها، وتحصل به الأرباح، الآن هذه الأجهزة المتقنة انظر إلى أسعارها كم صارت؟ فالإتقان سبب عظيم للنجاح.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإحسان والإتقان والإيمان، إنه رحيم رحمن.
اللهم اجعلنا ممن قاموا بدينك يا رب العالمين واجعلنا ممن أعنتهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.