الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الجرافولجي وادِّعاء معرفة الغيب
فقد سبق الحديث في الدَّرس الماضي عن هذا الذي يسمُّونه بتحليل الشَّخصية من خلال اليد والكشف عن السِّمات الشَّخصية والانفعالات والسُّلوكيات والأمراض عن طريق أسرار خط الإنسان ومنحنيات توقيعه، ويستدلون بظاهر الخطِّ على أمور جسمية أو نفسية ويسمُّونه بالجرافولجي، وذكرنا أنَّه لا يوجد ارتباطٌ مبنيٌّ على علمٍ أو تجربة محسوسة بين الخطِّ وبين سمات الشَّخصية، وأنَّ هذا الادِّعاء لا يثبت علميًا، وأنَّه بدلاً من تقييم الشَّخص بسلوكياته وأفعاله وصفاته التي تُرى من خلال معاملته، فيتم تقييمه بناءً على خطِّ يده، وأنَّ خطَّ اليد عندهم يصبح حُجةً في اختيار النَّاس أو الأشخاص للوظائف وتحسين الاتصال مع الآخرين، وتحسين العلاقات الزَّوجية.
وقلنا: إنَّه قريبٌ من قراءة الخطوط في كفِّ الإنسان واستخراج حالاته النَّفسية وما يحب وما يكره ونحو ذلك، وأنَّ التنبُّؤات التي يخبرون بها من خطِّ اليد والتَّوقيع تحمل أحيانًا أخبارًا غيبية، ولا شيءٌ يجوز الجزم به من ذلك، ومع هذا لا يعتبرونه كهانات بل يسمُّونه علمًا أو فراسةً الخط، وذكرنا أمثلةً على بعض ما يقولونه ويتنبئون به في ذلك، وأنَّ من هذا الجرافولجي كلام في أمورٍ مستقبليةٍ أو أشياء ماضيةٍ أو خفايا، بل حتى ما تخفي الصُّدور وما في الضَّمائر، وأنَّه ينطبق على كثيرٍ من هذا الكهانة والعرَّافة والتَّنجيم، وأنَّ استكشاف المغيبات ومكنونات الصُّدور والرُّجوع إلى الماضي والعبور إلى المستقبل كُلُّ هذا من خصائص الرُّبوبية، ومن ادَّعى علم الغيب الذي استأثر الله به لنفسه فهو كافرٌ بالله العظيم، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام :59].
وذكرنا خطورة مثل هذه الادِّعاءات، وأنَّ قولهم: إنَّ هذا الجرافولجي يعتمد على علم النَّفس جملةً وتفصيلاً، وأنَّ هذه الدَّعوى فيها مغالطات، وأنَّ علم النَّفس علمٌ واسعٌ جداً، وتعلُّمه لا يمكن في خلال ثلاثة أيام ولا في دورةٍ مدتها ثلاثة أسابيع بل ولا في ثلاثة أشهر، فكيف يتمُّ اختصار هذا العلم -علم النَّفس- والخروج بهذه النَّتائج الكبيرة من خلال هذه المدَّة الوجيزة من الأوقات في الدَّورات؟.
ردُّ المختصين في علم النَّفس على الجرافولجي
كنا قد ذكرنا كلام بعض المختصين في علم النَّفس وهو يعلِّق على تسمية الجرافولجي بالعلم، يقول: يقودنا هذا الحديث إلى ضرورة التَّفريق بين العلم الحقيقي والعلم الزَّائف، يقول الدَّكتور أحمد الكسَّاب الشَّايع: فالأخير يتلَّبس بلبوس الأوَّل فيُشكِل على النَّاس التَّمييز بينهما، ولنتأمَّل طريقة العمل في الجرافولجي لنقف على أحد مظاهر الفرق بين الأمرين: ففي الجرافولجي يقوم الممارسُ بجمع ملحوظاتٍ هي عيِّناتٌ من الخطِّ ثُمَّ يبني على ذلك مجموعةً من الفروض والاحتمالات على الشَّخصية، وبالتَّحقُّق من صحة هذه الفروض يستخدم الملحوظات ذاتها التي بنى عليها فروضه من الأساس، وهذا خطأٌ منطقيٌّ ومنهجيٌّ، فالتَّحقق من الفرضيات لا يصحُّ أن يستخدم فيه الباحث نفس المادة التي سبقت، بل ينبغي أن يبني على مصادر مستقلةٍ وإلَّا أصبحت العملية محض عبث يفضي إلى ممارسات تندرج ضمن ما يسمى بالعلم الزَّائف، وهنا يجدر السُّؤال عن سرِّ بقاء هذه الممارسات حتى الآن بالرَّغم من وضوح ضعفها، فالواقع أنَّه ما زال هناك من يزعم تحديد شخصيات النَّاس من شكل تواقيعهم وخطوطهم، واقتنع بهذا بعض مدراء التَّوظيف في بعض الشَّركات، وأحَّد التَّفسيرات المحتملة -يقول الدَّكتور- لهذا هو شغف البعض في معرفة ذواتهم من جهة وجهلهم بالتَّقييم العلمي لما يقال لهم، إضافةً إلى أنَّ ما يُقال لهم من تفسيراتٍ تميل في الغالب لئِن تكون مجرَّد قوالب عامَّة تناسب كُلَّ شخصٍ، الأمر الذي يجعل الشَّخص ميَّالاً إلى تصديقها، وهو ما يُسمى بآثر باريوم أو أثر فور.
ما هو أثر باريوم، وكيف يستخدمه أصحاب الجرافولجي
ما هو أثر باريوم؟ هذا ملخَّصه: لدينا شيءٌ لكُلِّ واحدٍ من الجمهور، يعني: ممكن تقول كلامًا لمجموعةٍ من الأشخاص ينطبق على كُلِّ واحدٍ فيهم، فمثلاً: لو قلت -كما قد مثلنا سابقًا- أنت مررت بضائقةٍ ماليةٍ، فتقريبًا كُلُّ الأشخاص مرُّوا بضائقةٍ ماليةٍ فالكلام هذا ينطبق على كُلِّ واحدٍ من الجمهور، أو تقول مثلاً: ستتعرَّض لمصاعب ثُمَّ تتجاوزها، وهذا طبيعيٌّ فقد تكون مصاعب في الدِّراسة أو في البحث عن وظيفةٍ أو في البحث عن زوجةٍ أو في طلب رزقٍ أو نحو ذلك، فكُلُّ واحدٍ سيتعرَّض لمصاعب ثُمَّ يتغلَّب عليها، فهذا أثر باريوم أو فورر إفكت، وهذا كما قال: لدنيا شيءٌ لكُلِّ واحدٍ من الجمهور، فهذه الظَّاهرة النَّفسية التي تُشير إلى اتِّجاه الأفراد بإعطاء تقديراتٍ عالية الدِّقة لوصف شخصياتهم التي يفترض أنَّها صُمِّمت خصيصًا لهم، ولكنها في الواقع فيها تعميماتٌ وفيها غموضاتٌ وفيها كلامٌ ينطبق على كثيرٍ من النَّاس، ولذلك لو مثلاً أردت أن تتحدَّث مع بعض النَّاس وتقنعه أنَّ لديك علمًا بما في نفسه وتستخدم العبارات التالية على سبيل المثال: على الرَّغم من أنَّك بوجهٍ عام تملك شخصيةً متفائلةً إلا أنَّك أحيانًا تعلوك كآبةٌ دون أن تكون لديك فكرة واضحة لماذا، فهذه العبارة لو قيلت للجميع فهو كلامٌ أشبه بالخداع؛ لأنَّه كلامٌ عامٌّ، ولكنه ينطلي على بعض النَّاس ويقول: نعم كلامك صحيحٌ، أو لو قلنا مثلاً: بينما يراك غالبية النَّاس منبسطًا وسهلاً إلَّا أنَّك في حقيقة الأمر خجولٌ حتى النُّخاع، فممكن كثيرٌ من النَّاس يسمع العبارة هذه ويقول: هذه تنطبق عليَّ، يعني: هناك كثيرٌ من مثل هذه العبارات النَّفسية التي يسمعها بعض النَّاس ممن يسمى بخبراء الجرافولجي، وهي عباراتُ خداع تنطبق على مجموعة الأشخاص، أو حالة تمرُّ بأغلب النَّاس، ولذلك لو فكَّر فيها الشَّخص أولَ ما يسمعها فممكن يقول: كلامك صحيحٌ يا أيُّها المدرِّب، وفي الحقيقة لا يمكن هذا، فالاختصاصي المحترم لا يقبل منه مثل هذا الكلام؛ لأنَّه يقول هذا الكلام أشبه بعمليات الخداع للسُّذَّج فقط ليثق بالشَّخص الذي أمامه أنَّه يفهمه أو يعرف يحلل شخصيته.
ولو قلت مثلاً: بالرَّغم من أن فهمك عاليٌّ جداً إلَّا أنَّك أحيانًا تمرُّ بك مواقفٌ تستعصي عليك، حتى أنَّك في غاية السَّذاجة وتُحرج أمام الآخرين، وهذا الكلام ممكن ينطبق على كثيرٍ من النَّاس، فيُقرُّ بذلك ويقول: نعم أنا عندي فهمٌ ولكن أحيانًا تستغلق وتفوت عليَّ المسألة، فهذا أكيدٌ حتى أذكى أذكياء العالم ممكن تمرُّ عليه مسائلٌ تستغلق عليه حتى يستغرب أنَّ بعض النَّاس بذاك المستوى وما فهمها، فقد يكون الأوَّل على مستوى الفصل أو على الدُّفعة أو على الجامعة فتمُرُّ عليه مسألةٌ أحيانًا يصير على عقله غمامةُ ضبابٍ لا يدركها، وممكن شخصٌ آخرٌ أقلُّ منه بكثيرٍ يطالها، فهذا يعني دليلٌ على الضَّعف البشري، وأنَّ الإنسان مهما بلغ تصير له أحيانًا حالاتٌ تستغلق عليه، حتى كبار الخطباء مثلاً لو قلت له: بالرَّغم من قدرتك الخطابية إلَّا أنَّه أحيانًا تمرُّ عليك حالاتٌ تبدو فيها متلككًا متردِّدًا متحيِّراً وما تنطلق في الكلام، فهذا أمرٌ طبيعيٌّ وحالات نفسيَّة تحصل للكُلِّ، لكن هذا الكلام إذا سمعه شخصٌ ممكن يقول: هذه تنطبق عليَّ فعلاً أنت حلَّلت شخصيتي، فهذا -كما قلنا- كلامٌ عامٌّ وهذا أثر بارنيوم أو فورر إفكت، وهذا شيءٌ لا يحتاج إلى كثير ذكاءٍ ليقوله الشَّخص وبمثله يُخدع من يدخلون في بعض الدَّورات ليظنُّوا هذا تحليلٌ دقيقٌ للشَّخصية.
تلصق أحيانًا بالجرافولجي بعض مصطلحاتِ علمِ النَّفس؛ لإكسابه بُعدًا علميًا، ولكنَّه في الحقيقة وهميًا، وقلنا إنَّ هذا الجرافولجي قد تكون فيه بعض الجوانب الصَّحيحة، وضربنا أمثلةً من الخطِّ نفسه أنَّه أحيانًا يدلُّ على أشياء لها أسبابٌ واضحةٌ، وذكرنا مثالاً: ما لو أنَّك رأيت شخصًا كتب أسطرًا وفيه كثيرٌ من التَّشطيب، ويكتب ويمحو فقلت هذه شخصيةٌ متردِّدةٌ، لكن نفهم أنَّ العلاقة مفهومة: الشَّطب الكثير والمحو وإعادة الكتابة وهكذا، وذلك تدلُّ على شخصيةٍ متردِّدةٍ، لكن لا يمكن أن يكون مفهومًا أنَّ مثلاً الصَّاد إذا كانت مثلَّثة يدلُّ على ارتفاع في ضغط الدَّم، أو أنَّ السَّين إذا كانت تنتهي بحرف N فهذه مشكلة في الأنف، فما العلاقة في ذلك؟ لا توجد، فلا طبيًا ولا شرعيًا ولا قدرًا ولا واقعًا، فهي أشبه بالدَّجل والشَّعوذة والسِّمات العملية الصَّحيحة لتحليل الشَّخصية.
الرَّد على ادِّعائهم: أن الجرافولجي مبني على قواعد علمية
نحن الآن سنشرع في الرَّد على من يقول أنَّ الجرافولجي: هو تحليل الشَّخصية مبنيٌّ على قواعد في علم النَّفس، ومن يقول: إنَّ الجرافولجي يشبه الفراسة، ومن يقول: إنَّ الجرافولجي يشبه القيافة، وسنعرف ما هي القيافة.
نقول: أمَّا قولكم: إنَّ الجرافولجي هو تحليل الشَّخصية مبنيٌّ على قواعد علم النَّفس: فإنَّ تحليل الشَّخصية علمٌ موجودٌ له مختصُّون وأسسٌ علميةٌ وسلوكيةٌ، ومعطياتٌ حقيقيةٌ ومقاييس علميةٌ وطرقٌ اختباريةٌ استقرائيةٌ تكشف عن سمات أو ميول معينةٍ، وهناك مقابلاتٌ وأسئلةٌ وملاحظاتٌ في السُّلوك والمشاعر بحيث تُشكِّل صورة نتيجة ليقال بعد ذلك: فلانٌ متهوِّر أو فلانٌ عصبيٌّ أو فلانٌ ذكيٌّ حاد الذكاء أوفلانٌ انطوائيٌّ أو فلانٌ اجتماعيٌّ، فمثلاً: فلو كانت الأسئلة: هل تخاف من دخول مكانٍ مزدحمٍ؟ هل تخاف من ركوب الطَّائرات؟ هل تخاف من دخول الأماكن المظلمة؟ فهذه أسئلةٌ لها نهايةٌ تخرج منها بنتيجةٍ مثل أنَّ هذا الشَّخص عنده فوبيا رهاب من مواجهة الجمهور مثلاً، أو عنده رهاب من الظَّلام أو رهاب من الطَّيران وهكذا، فهذه غير تدوير الحرف: إذا كانت الألف تحت السَّطر كما قال أحد خبراء الجرافولجي: إذا كانت الألف تحت السَّطر مثلاً فهو إنطوائيٌّ؛ فهذه ليس لها علاقةٌ قد يكتب أحدُهم ألفاً تحت السَّطر وهو من أكثر النَّاس اجتماعية، فإذًا أساليب علم تحليل الشَّخصية له طرقٌ علميةٌ قائمةٌ على المقابلة والملاحظة والاستبانة والدِّراسة ومعايير مهنية.
وعلى سبيل المثال: يوجد أربعة محاور في هذا المحور الأول: ما يُسمى بالفحص الإكلينيكي المباشر، ويتم من خلال لقاءاتٍ مع الطَّبيب النَّفسي حيث يوجِّه من خلالها أسئلةً معينةً وحاوراتٍ لمعرفة أبعاد الشَّخصية بما يتمُّ ذكره عن نشأته، إذا جلس الشَّخص للفحص الإكلينيكي فيقول له الطَّبيب: حدثني عن طفولتك فسيحدثه وذاك يدوِّن ملاحظاتٍ، ثم يقول: حدثني عن مراحل انتقالاك، مثلاً: المراحل المفصلية في حياتك كانتقالك مثلاً من طالبٍ إلى موظَّفٍ، أو من عزوبيٍّ إلى متزوجٍ من كذا إلى كذا، فهذه تمثِّل خيوطًا متعدِّدةً تنسج صورةً يمكن أن يكون فيها محلِّل الشَّخصية، ويكون فيها ملامح عن صفاتٍ يخرج بصفات في هذه الشَّخصية.
المحور الثَّاني: ما يعتقده الإنسان عن نفسه فيما يخصُّ شخصيته، يعني: أحيانًا يسألونه سؤالاً مباشرًا: هل تشعر بالقلق أو بالتَّوتر أو بانشراح أو اكتئاب؟ هل عندك وسوسةٌ؟ هل تُعيد الوضوء؟ هل تعيد غسل النَّجاسة؟ هل تقضي وقتًا طويلاً في دورة المياه؟ هل تُكرِّر الفاتحة وتكبيرة الإحرام؟ هل عندك مثلاً تردُّداتٍ نفسية في الطَّلاق؟ هل تشعر كُلَّ مدَّةٍ أنَّك طلقت وأنت لم تطلق؟ هذه الأسئلة المباشرة للشَّخص وهو يقوِّم نفسه فهو المختصُّ في تحليل الشَّخصية، يُطلب منه أن يقوَّم نفسه ولا يعتبر النَّفسانيون هذا المقياس ذو مصداقيةٍ عاليةٍ إلَّا إذا كان الشَّخص متجردًا هو وعنده قدرة، وعنده عقلٌ راجحٌ يستطيع أن يحكم به على نفسه حكمًا صحيحًا، وإلَّا هم يعتبرون كلامه من القرائن فقط ولا يعتمد عليه اعتمادًا كاملاً، فإذا كان كلامُ الشَّخص عن نفسه الصَّريح لا يعتبر حاسمًا عند المختصين النَّفسانيين: فكيف بخطِّه وما ينتج من الجزم بناءً على خطِّه.
المحور الثَّالث: ما يُلاحظه ويظنُّه ويعتقده الأشخاص الذين يعرفون هذا الشَّخص عن قربٍ، فطلب معلوماتٍ من المحيطين بالشَّخص مهمةٌ في تحليل شخصيته، ويساعد الطَّبيب أو المعالج النَّفسي في الوصول إلى تقييمٍ صحيحٍ للشَّخصية، وهذا كأنَّنا نقول: كلام الشُّهود وشهادتهم في الإنسان.
المحور الرَّابع: الفحوصات: اختباراتٌ معروفةٌ لدى المختصين باختباراتٍ شخصيةٍ تُستَعمل عند المحلِّلين أو المعالجين النَّفسانيين، تقوم على أسئلة استبانات وإجابات التي فيها مفاتيح للتَّحليل والتَّفسير، ومن الاختبارات الشَّائعة في هذا: المعروفة باختبار مينسوتا لتحليل الشخصية ويتكون من 550 سؤالاً، وليس مجرَّد تواقيع وكتابات ورسوم لا، يل 550 سؤالاً تفصيليًا، وهذا فقط أردتُ أن أُمثِّل باستعمال محلِّلي الشَّخصية لبعض المحاور منها على أنَّ الجرافولجي شيءٌ وعلمُ النَّفس وتحليل الشَّخصية عند المختصين في علم النَّفس شيءٌ آخرٌ، لكنَّ أرباب الجرافولجي يريدون أن يقدِّموا لنا ما لديهم على أنَّه مأخوذٌ من علم النَّفس ومبنيٌّ على علم النَّفس، وليس كذلك في الحقيقة فالأساليب العلمية ليس فيها أشكال الحروف وتدوير الخطوط والتَّواقيع وزوايا ورسوم.
أين تكمن خطورة الجرافولجي؟
وخطورة مثل هذه الممارسات تكمن -كما قلنا- في إدِّعاءاتٍ لعلم الغيب، وإخبار عن مكنونات النَّفوس وإدِّعاء معرفة ما في الضَّمائر، والله هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور، بالإضافة للتَّغرير بالأشخاص والخداع وأكل المال بالباطل؛ لأنَّهم يقولون نحن نعالج، فهي طريقة ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم: الخطُّ هذا يدلُّ على أنَّ ضغطك مرتفعٌ فعليك أن تُغيِّر خطَّك لينخفض ضغطك، فهذا الكلام أساساً يرفع الضَّغط، فالآن يزعم أهل الجرافولجي أنَّه من غير مقابلة الأشخاص وبمجرَّد رؤية خطوطهم يعرفون كُلَّ المعلومات التي عنده.
يا أخي: أهل الطِّب النَّفسي يحتاجون إلى إجراء مقابلاتٍ واختباراتٍ طويلةٍ وعريضةٍ وتفصيليةٍ وإكلينيكي وكلام الشَّخص نفسه وكلام المحيطين به حتى يتوصلون إلى تكوين صورةٍ تُعطي شيئًا مفيدًا، وأنتم تقولون: نحن بمجرَّد ما نرى توقيع الإنسان وخطَّه نتجاوز من كُلِّ هذا الكمِّ الهائل من هذه المعلومات، فكيف تعتبر دراسة العلاقة بين شكل حرفٍ معيَّنٍ وبين سمةٍ من سمات الشَّخصية: كدراسة العلاقة بين الحرف الأوَّل من اسم الشَّخص أو لونه المفضَّل أو شكله المفضل إلى آخره وبين سمةٍ من سمات الشَّخصية؟
هذا كلام غير علميٍّ قد يسفر عن شيءٍ ما وفقاً لقانون الاحتمال، فأحيانًا ممكن يقول صاحب الجرافولجي: كلامًا يضربها ضربةَ حظٍّ ويكون صحيحًا، لكنه لم يخرج به على أساسٍ علميٍّ ولا تتكرَّر، وليست قاعدة ولا يصحُّ نقلها للآخرين على أنَّ هذا علم أبدًا، فهو الآن ممكن ينظر إلى الخطِّ ويقول: أنت مثلاً شكَّاك وموسوسٌ قد يكون صحيحاً؛ لأنَّ كثيرٌ من النَّاس عندهم من هذه العلل النَّفسية، وهذا يعود إلى الخداع الأوَّل الذي ذكرناه ضمن العلل النَّفسية المنتشرة على مستوى واسع، فالنَّاس ترى كم من شخصٍ فيهم مصاب بالعين مثلاً، وكم من مصابٍ بالسِّحر وكم من مصابٍ بالوسوسة وكم من شخصٍ عنده حالةُ اكتئاب، وخصوصاً في الزَّمن الذي نعيش فيه مع قلَّة ذكر الله وقلَّة العبادة وقلَّة التَّوكُّل على الله وضعف الصِّلة بالله وكثرة الحسد والعدوان والظُّلم، أطيافٌ واسعةٌ من العِلل فلو جاء أحد هؤلاء القوم وفتح عيادة الجرافولجي وبدأ يعمل: هات خطَّك توقيعك: أنت شخصٌ متردِّدٌ تتخذ قرارك ثُمَّ تتراجع عنه، يعني: فيمكن أيُّ واحدٍ فينا يتخذ قراراتٍ ويتراجع عنها، وهذا ليس تحليل الشَّخصية العلمي الصَّحيح المنهجي، هذا خداعٌ؛ لأنَّه من الممكن أن يخرج بنتيجةٍ واقعيةٍ أنَّه فعلاً هذا متردِّدٌ وهذا مكتئبٌ وهذا موسوسٌ وهذا غيورٌ، لكن كيف لو كانت المسألة أن يقول له: أنا أعرف ماضيك وأعرف ضميرك ومكنونات نفسك، وأعرف الأشياء التي ممكن أن تُصيبك مستقبلاً من الأمراض، وقبل أن تتزوَّج احضر لي خطَّك وخطَّ المخطوبة وأنا سأقرر لك هل ستتلاءم معها أم لا، ثُمَّ مثلاً يقول الظَّاهر أنَّه ليس لك فيها نصيب، فيرجع هذا ويقولون له لقد اتفقنا مع أهلها، يقول لهم: لقد أخبرني الجرافولجي أنَّه ليس نصيبٌ، فأقصد أنَّه ممكن مثل هذه الأشياء: شقاءٌ ومآسي مصائب، فصار النَّاس بدلاً ما يرجعون للعرَّاف يرجعون للجرافولجي، كان النَّاس في ما مضى من الزَّمان إذا أراد أحدهم أمراً وقبل أن يفعله يذهب للعرَّاف، فمثلاً كان قبل أن يسافر أو أن يشتري أو يبيع أو يتزوَّج يذهب للعرَّاف فيقول له اكشف لي هذا وانظر، وهذه هي أشكال الشَّعوذة: أشكالٌ إلكترونية، وأشكالٌ حديثةٌ، وأشكال قديمة تتلَّبس، وأحيانًا الشَّعوذة تأخذ صورةً علميةً أو صورةً تقنيةً تتطوَّر، وإبليس أيضاً نفس الشَّيء لا يظهر دائمًا للبشر بنفس الشَّيء، بل يغيَّر ويتطوَّر معهم حسب أحوال البشر: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف: 17].
فيأتيهم من باب التَّرجمة ومن باب دورات التَّنمية البشرية، ويأتيهم من أبواب مختلفة، فإبليس لا يأتيهم من باب واحدٍ فقط.
لماذا ليس الجرافوجلي معتبراً علمياً حديثاً
فإذًا أحيانًا يقول كلامًا صحيحًا؛ لكن هذا وفقًا لقانون الاحتمالات كما تقول الدَّكتورة سحر الكردي أستاذة الصَّحة النَّفسية المساعد: أين الاختبارات العلمية والمقاييس التي يستعملها هؤلاء؟ وأين شروط الاختبارات والمقاييس التي يعتمدون عليها والتي يشترطها علماء النَّفس ويعتمدونها؟ وانظر إلى الإعلان عن دورة جرافولجي للمدرِّب عبد الجليل الأنصاري وماذا يقول في الإعلان: برنامج تحليل التَّواقيع أحد أهم وأقوى، ففي الدِّعايات دائمًا يستخدمون أفعل التَّفضيل: أقوى أوسع أوَّل أفضل أكثر أعمق، وهكذا هي الإعلانات التجارية، أهم وأقوى برامج تحليل الشَّخصية وكشف الطَّرف الآخر من النَّاحية الاجتماعية والصِّحية والاقتصادية والنَّفسية والمهنية والسِّياسية والعلمية والفكرية والسُّلوكية والرِّياضية والعديد من الجوانب الأخرى التي تتعلَّق بشتى مجالات الحياة، وذلك لاصطياد الزَّبائن فإنَّ الزَّبون هذا قد يكون رياضياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو صحياً، أو أنَّه يريد أن يتزوج أو قد يكون عنده مرض ويريد له علاجاً، أو أنَّ عنده مشكلة اقتصادية، أو أنَّ صاحب هذا الإعلان يكتب: كما تتناول القواعد العامَّة في تحليل التَّواقيع، والتي بدورها تكتشف جوانب كبيرة من الشَّخصية بطريقة مميزةٍ ورائعةٍ.
إذاً: فما هو المكتوب في الإعلان؟ وما الذي ستتمكن منه في نهاية البرنامج؟ هذه عبارة عن دعاية، فلما تدخل في الدَّورة وتدفع ألفاً ألفين أو ثلاثة آلاف فما هي النَّتيجة؟ كشف الجوانب المهمة في شخصية الطَّرف الآخر بمجرَّد لمحةٍ سريعةٍ على التَّواقيع، يعني: التَّوقيع هذا سيخبرك عن الأول والتَّالي، ثانياً: معرفة القواعد العامَّة في التَّواقيع والتي تزيد على خمسة وثمانين قاعدة، ثالثاً: تحليل التَّواقيع بطريقةٍ احترافيةٍ ومتميزةٍ في كم من الوقت سيتمُّ الوصول لهذه النَّتائج في تقييم النَّاس وتحليل شخصياتهم، فلو أخذناها من النَّاحية العلمية الأكاديمية الخبراتية المهنية مثلاً: لو أردت أن توصل إلى تحليلٍ علميٍّ صحيحٍ أو دراسة سنوات، فهو يقول دورةُ ثلاثة أيَّام من الأحد إلى الثَّلاثاء عدد ساعات البرنامح خمسة عشر ساعة تدريبية، واعجبًا عن هذا العلم الضَّخم الذي سيكتسب في خمسة عشر ساعة تدريبية، ودورة أخرى لتصبح خبيرًا في تحليل الشَّخصية عن طريق التَّوقيع، في اليوم الواحد خمسُ ساعاتٍ تدريبية، لاحظ: ستصبح خبيرًا في خمس ساعات، وذلك يذكِّرنا بطريقة: كيف تتعلَّم الإنجليزية في خمسة أيامٍ! لغة من ألف كلمة وقواعد وتصريف للأفعال وتركيب الجمل، وهذا كُلُّه نفس هذا الشَّيء.
ولذلك الخبراء الحقيقيون كبروفسور استشاري هو داخلٌ ويضحك لما يقرأ مثل هذه الإعلانات، ويقول في نفسه: نحن أفنينا أعمارنا لمدة عشر سنوات أو خمسة عشر سنة من أجل أخصائي نفسي ومعالج واستشاري نفسي؛ وهذا يقيم الدَّورة بخمسة أيام وفي ثلاث ساعاتٍ ثم يصبح خبيراً في علم النَّفس، يقول أصحاب الجرافولجي: إنَّ الجرافولجي يقوم على علم النَّفس، إذاً علم النَّفس فيه مقاييسٌ معيَّنةٌ، وفحوصٌ إكلينيكيةٌ معينةٌ فأولاً تدرس الطِّب العام وبعدها التَّخصص وبعد ذلك هناك تدريبٌ سريريٌ ثم بعد ثلاث سنوات تنطلق إلى عالم التَّخصص، فحتى تصبح استشارياً فكم سنة تحتاج؟ ولما تسأل بعض هؤلاء الذين يدخلون في الجرافولجي: هل أنتم عندكم ثوابت في العلم هذا؟ يقولون: نعم كُلُّه ثوابتٌ وحقائقٌ، فهم لا يقولون هذه ظنونٌ واحتمالاتٌ.
الجرافولجي عند الغربيين من الخرافات
ولذلك يقول بعض الدَّارسين إنَّ الجرافولجي يُعتَبر إجراءٌ غير علميٍّ، ويصنَّف على أنَّه علمٌ زائف في الغرب، وهو في الميزان الشَّرعي: قولٌ بلا علمٍ، ومنه ما هو كهانةٌ سبق أن ذكرنا أنَّ كتاب أشهر خمسين خرافة في علم النَّفس هدم الأفكار الخاطئة الشَّائعة حول سلوك الإنسان أنَّ مؤلفي الكتاب مجموعةُ أستاذةٍ في علم النَّفس ذكروا أنَّ الجرافولجي خرافةٌ من الخرافات التي تُنسب إلى علمٍ النَّفس زوراً، وذكروا في الخرافة السَّادسة والثلاثين: كشف سمات الشَّخصية عن طريق الخطِّ وتحليل خطِّ اليد المعروف باسم علم الخطوط، يعتقد البعض أنَّه يمكن من خلاله الكشف عن بنيتنا النَّفسية؛ ولكن الحقيقة أنَّ علم الخطوط ليس إلا فرعاً من مجموعة من ممارسات العلوم الزَّائفة يسمى قراءة الأحرف، وافترض قارئوا الأحرف في أوقات مختلفة أنَّ بإمكانهم النَّفاذ إلى التَّكوين النَّفسي البشري المعقد عن طريق: تفسير ملامح الوجه، علم الفراسة وتعرُّجات اليد، قراءة الكفِّ ونتوءات الرَّأس علم فراسة الدِّماغ وسمات السُّرَّة تنجيم السُّرة، وأنماط تجاعيد الجبهة تنجيم الجبهة، وعروق أوراق الشَّاي وبقايا البن قراءة الفنجان واتجاهات أشعة الضُّوء المنعكسة من الأظافر تنجيم الأظافر إلى آخره.
نجح أهل الجرافولجي في جذب حشودٍ من الأتباع وأقنعوا كثيرًا من العوام أنَّ حرفتهم قائمةٌ على العلم، وكانت الجمعية الدَّولية لتحليل الشَّخصية عبر خطِّ اليد الموجود في شيكاغو تتباهى بأنَّ عدد أعضائها قد بلغ عشرة آلاف قبل أن تتعرَّض للإفلاس مؤخرًا، وتنتهي وقد وُجد مئاتٍ من خبراء الخطوط هؤلاء أعمالاً مربحة في جنوب كاليفورنيا، ووجد علم الخطوط مستقراً في بعض الدَّوائر، يعني: اقتنع نتيجة التَّرويج بعضُ مدراء الموظفين مثلاً في بعض الشَّركات أنَّ هذا مهمٌ فلازم نوظِّف في الشَّركة واحداً متخصص جرافولجي، حتى قبل أن يقدِّم أيُّ موظفٍ يقوم ليكشف لنا هل هذا يصلح للوظيفة أو لا يصلح.
من ادِّعاءات أصحاب الجرافولجي والرَّد عليها
يُعرض خبراءُ الخطوط مجموعةً متنوعةً من الأنماط فنأخذ منها أكثرَ خمسة شيوعاً، وهي الأول: يقولون أنَّ الكتابة هي شكلٌ من الأشكال الحركة التَّعبيرية، لذا من المؤكَّد أنَّها تُعكِس شخصياتنا، طبعاً الرَّد على هذا أنَّه قد ترتبط نزعةً عامَّة لدى الفرد، بحيث يكون ترك الطِّباع أو محبَّاً للسَّيطرة ارتباطًا ضعيفًا بلغة جسده، فما بالك بالكتابة التي هي أقلُّ وضوحاً من النَّاحية التَّعبيرية مقارنةً بالجسد، حيث أنَّه لا تتيح لنا الحكم على شخصية ذلك الفرد.
ثانيًا: يقولون خطُّ اليد هو خطُّ المخِّ، والرَّد على هذا أنَّها عبارةٌ صحيحةٌ بالفعل، فقد أظهرت الدِّراسات أنَّ خطَّ القدم عند بعض الأفراد يشبه خطَّ اليد، مما يُوحي بأنَّ نمط الكتابة هو شيءٌ من اختصاص أمخاخنا أكثر من كونه عمل لأطرافنا، بالإضافة إلى أنَّ الكتابة أو العطاس أو التقيؤ كذلك نشاطٌ يتحكَّم به المخُّ، إذًا لا يعطي دلالةً بأنَّ أيَّ نشاطٍ يتحكّم به المخُّ يرتبط بشكلٍ أو بآخرٍ بسمات الشَّخصية، يعني التَّقيؤ والعطاس والتَّثاؤب: أليست تصرُّفاتٌ جسديةٌ مرتبطةٌ بالمخِّ؟ فماذا تعكس؟ الذي تقوله في أنَّ الكتابة تعكس أشياءً معينةً في المخِّ قُله في التَّثاؤب والعطاس والتَّقيؤ والتَّجشأ إلى آخره، أليست أعمال جسد.
ثالثاً: يقولون أنَّ الكتابة صفةٌ فرديَّة والشَّخصية متفرِّدة، لذا تعكس كُلٌّ منهما الأخرى، والرَّد: أنَّه لا يُعدُّ التَّفرد سمةً نستطيع من خلالها القول بأنَّ أيَّ متفردٍ هو يشابه الشَّيء الآخر المتفرِّد ولا يعطي دلالةً على علاقةٍ خاصةٍ بينهما، فالوجوه يختلف بعضها عن بعض بقدر كافٍ يسمح باستخدامها كأداةٍ لتحديد الهوية الشَّخصية في رخص القيادة، لكنها لا تقول: أيُّ شيءٍ عن قدرة الشَّخص في القيادة، يعني: أنت الآن هات لي صورَ الأشخاص وحدِّد من خلالها الصُّورة مَن منهم يستطيع قيادةَ السِّيارة ومن لا يستطيع، فالصُّورة شكلُ الإنسان، ألسنا يا إخوان: نُخطئُ أحياناً في تقييم الأشخاص؟
قد تقول مثلاً: رأيت شخصاً يوحي بأنَّه مغفلٌ، لكن لما صار المدرِّس يسأل أسئلةً في الرِّياضيات فكان ذلك الشَّخص عبقري، فليس هو دائماً أنَّ الأشكال الخارجية تعكس تقييمًا صحيحًا للأشخاص، وأحيانًا يبدو أمامك شخصٌ مفتولُ العضلات طويلُ وجسيم، وتقول هذا من أشجع الشُّجعان، وقد تصبح مواجهة مع آخرٍ أصغر منه فيفرُّ منه، إذًا قد تقول: أنا الآن لو فسَّرت أنَّ هذا مقاتلٌ شجاعٌ فممكن يكون لها وجهٌ أخرى، يعني: أنَّه طويلٌ عريضُ جسيمٌ مفتول العضلات وهذا نوعٌ من الأسباب للنتيجة، ومع ذلك يمكن يكون الكلام غلطاً ويكذِّب الخبرُ الخبرَ الأفعالُ الصُّورَ، فكيف بما هو أغمض وأخفى وهو الخطُّ من الحجج عندهم؟
خبراء الجريمة الجرافولجي
رابعاً: يقولون: تستخدم الشُّرطة والمحاكم علمَ الخطوط، فلا بُدَّ أنَّها ذات فائدةٍ، أيُّ: أنَّ خبراء الجريمة يستخدمون تحليل الخطوط، نعم هذا صحيحٌ هم يحاولون الخروج بنتيجةٍ، فمثلاً: ممكن يقول: هذا خطُّ شخصٍ يبدو أنَّه غير مثقفٍ، فابحثوا على مجرمٍ صفته مثلاً أنَّه غير دارسٍ بمدارس خطٍّ، وهذا كما قلنا أنَّ بعض الأشياء في التَّحليل مفهومةٌ وممكن تكون لها ارتباطٌ صحيحٌ، لكن ذلك ليس بطريقة الزَّوايا والاستدارات التي يتحدث عنها أهلُ الجرافولجي، يعني: لما ضربنا مثالاً قلنا: شخصٌ يكتب سطراً ويترك سطراً تقول عنه هذا الإنسان عنده نوعٌ من الإسراف، فممكن أنَّ هناك نوعٌ من الرَّبط مفهومٌ، لكن أهل الجرافولجي يتكلَّمون عن غوامضٍ ومكنوناتٍ ومستقبلٍ كما قلنا، ولذلك فرقٌ بين هذا وهذا، فعلماء الجريمة لما يتكلَّموا في تحليل الخطوط أو تحليل رسالةٍ تركها المجرم أو المزوِّر فهم يخرجون بنتائجٍ، ممكن مثلاً يقومون بتحديد هذا الشَّخص الذي كتب هذا الخطَّ هل هو خطُّ امرأةٍ أو رجلٍ؛ لأنَّه مهمٌ في التَّعرف في الجريمة تحليل الوصول إلى أيِّ معلومةٍ تساعد في البحث لتضييق نقاط البحث فأولاً أنَّه يخبر بظنٍّ.
ثانياً: يوجود في علم الفراسة هذا، ولا علاقة له بقضية أنَّها قاعدةٌ عامَّةٌ مثلاً: إذا كانت الحاء مغلقةً وإذا كانت الحاء مفتوحةً، فهناك نساءٌ يكتبن الحاء مغلقةً وهناك نساءٌ يكتبن الحاء مفتوحةً، كما هو الحال عند الرِّجال أيضاً، فلا يستنتج ذلك من خلال الاستدارات والزَّوايا، لكن هناك بعض الأشياء في بعض السِّمات قد تغلب على خطوط النِّساء، وبعض السِّمات قد تغلب على خطوط الرِّجال ويوجد نسبةُ خطأ أحيانًا كأنَّ يقول شخصٌ هذا خطُّ امرأةٍ فإذا به خطُ رجلٍ وآخر يقول العكس، لكن سنعرف في علم القيافة أنَّه ممكن أحيانًا التَّوصل إلى نتائجٍ من قِبَل خبيرٍ أو من القائف، ولكن ليس بواسطة الجرافولجي، بل بشيءٍ يلقيه الله في نفس هذا، وشيءٌ من المواهب كأنَّ يعرف من أثر الرِّجل هل هذا امرأةٌ أو رجلٌ أو كبيرٌ أو صغيرٌ أو حاملٌ أو غيرُ حاملٍ، فهذه خبرةٌ وبنو مُرَّةٍ عندهم خصائصٌ في هذه لا توجد عند غيرهم، ومجزز المدلجي لما رأى أسامة وأباه زيدٌ قد ظهرت أقدامهما من اللحاف، وكان زيدُ بن حارثة أبيضاً كالقُطن وأسامة بن زيد أسوداً، ونظر مجزز وقال: "إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض". [رواه البخاري: 3525].
أيُّ: أنَّ هذا ابن هذا، وكان ردًا عمليًا على المنافقين الذين طعنوا في نسب أسامة من أبيه، ويعرفون أنَّ هذا يحبُّه النَّبيُّ ﷺ ويحب أباه، فنكايةً وإيذاءً للنَّبي ﷺ طعنوا في نسب أسامة من أبيه، فجاء الرَّجل هذا وهو صاحب القيافة الخبير، قال: "إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض" هذه قضيةٌ معرفةٌ بالخطوط التي في الأرجل أن هذه تشبه هذه، فهذه خبرةٌ وما لها علاقة في التَّنجيم ولا في الشَّعوذة، يعني: فالخبير لا يخبرك عن أشياء في المستقبل، ولا يخبرك عن مكنونات النُّفوس وما في الضَّمائر، ولا يقول: أنت عندك ضغطٌ مرتفعٌ أو عندك التهاب في المعدة، فهذا القائف ماذا يفعل؟ اكتشاف الشَّبه.
الفرق بين الفراسة الجرافولجي
وكذلك الفراسة، فهناك أشياءٌ ثابتةٌ في الدِّين ليس فيها نقاش، فالجرافولجي يختلف عن هذا تماماً ولو شابهه في جزئياتٍ بسيطةٍ فليست قواعد ودورات، بحيث أنَّه أيُّ واحدٍ يدخلها يتخرَّج متخصص فيها، فليس من علم الفراسة أنَّه يُعلِّم مثلاً ثلاثين شخصاً في دورةٍ، أو أنَّه يعلن لهم عن دورة فسجلون ثم يأتي مدرِّبٌ يكلِّمهم عن الفراسة ثم يخرج جميعهم من الدَّورة وعندهم فراسة، بل هذ شيءٌ يؤتيه الله من يشاء مثل تفسير الأحلام هل له دوراتٌ وأنَّه إذا دخل فيها الشَّخص يخرج مفسراً؟ لا هذا شيءٌ يؤتيه الله من يشاء، وليس في تفسير الأحلام شيءٌ اسمه من رأى حيةً معناها كذا ومن رأى فأرًا فكذا ومن رأى كلبًا فكذا، فليس له قواعد وممكن يكون هناك بعض الحالات مثلاً: أنَّه إذا رأى الحية فمعناها كذا، ولو رأى حيةً آخر فمعناها شيءٌ آخرٌ يختلف تمامًا، فتعبير الرؤيا شيءٌ يقوم على ما يلقيه الله في قلب المعبِّر، فأنت تقول له كيف؟ فيقول لك: وقع في نفسي كذا، كان عمر ملهماً وإلَّا لكان محدِّثاً، كان يقول للشَّيء فيصبح ظنُّه صحيحاً غالبًا، وقصته مشهروة معروفة مع سواد بن قارب، فالفراسة الإيمانية التي نتيجة الإيمان وأنَّ من كان قريبًا من الله يجري اللهُ الحقَّ على لسانه، فهذا شيءٌ والجرافولجي شيءٌ آخرٌ داخل فيه المسلم والكافر والبر والفاجر، والخلط بين خبراء الجريمة في الخطِّ والجرافولجي قد من الممكن أن يوصل إلى نتائجٍ خطيرةٍ؛ فمثلاً: لو حصل اختلاس في شركةٍ ووُجد هناك أثرُ كتابةٍ في مكان الجريمة، فطلبوا عينةً من خطوط الموظفين مثلاً، فعلماء الجريمة وعلماء الخطوط يقارنون خطَّ الرِّسالة الموجودة في مسرح الجريمة بالخطوط التي جُمِعت، فقد يكتشفون الخطَّ أو يقولون غالبًا هذا، لكن هل هذا جرافولجي؟ لا هذه مقارنة، والمقارنة أسلوبٌ علميٌ، فمثلاً لو قال لك شخصٌ: أعطيني أقرب شبهٍ بهذا الخطِّ من هذه الخطوط، فهذه تحتاج إلى خبراء الجريمة، ولكن ليس هذا الجرافولجي فهو شيءٌ آخرٌ.
استخدام المغالطات لترويج علم الجرافولجي الزَّائف
خامساً: يقول الجرافولجي: بأنَّ مدراء شؤون الموظَّفين في بعض الشَّركات عندهم ثقةٌ عمياءٌ بِنا وأنَّهم جرَّبونا ووجدوا نتائجاً مذهلة، هل إذا اقتنع بكم هؤلاء أو بعضهم لأيِّ سببٍ من الأسباب فهل صيَّر ذلك علمكم صحيحًا؟ ليس كذلك ويهتم خبراء الخطوط غالبًا بأدلَّة التَّاريخ الوظيفي السَّابق صحيفة الحالة الجنائية، وكذلك فإنَّ من ضمن الإفادات ما أدلى به جفري دين أجرى مراجعةً نقدية للإختبارات العلمية الخاصَّة بعلم الخطوط، وبعد إجراء تحليل مقارنٍ لأكثر من مائتين دراسة، اكتشف فشلاً واضحًا من جانب خبراء الخطوط في سمات الشَّخصية أو توقع الأداء الوظيفي، حيث أنَّه أتى بهؤلاء الذين قالوا نحن أهل الجرافولجي وأعطاهم مائتين خطٍّ لمائتين شخصٍ، وهؤلاء الأشخاص مصنفين حالات نفسية معينة، مثل: هذا موسوسٌ وهذا مكتئبٌ وهذا متردِّدٌ وهذا شجاعٌ وهذا جبانٌ وهذا كريمٌ، فهؤلاء مرصودةٌ صفاتهم وأخذ خطوطهم وأعطاها لهؤلاء أهل الجرافولجي، وقال: استخرجوا لي صفات هؤلاء الشَّخصيات، يقول: انتهت العملية إلى فشلٍ ذريعٍ، حيث أنَّهم كتبوا له أشياءً ليست صحيحةً أبداً، والتَّحليل الذي خرج مختلف تمامًا عن طبيعة الشَّخصية التي جيء بخطِّها، استخدام المغالطات لترويج هذا العلم الزَّائف.
الجرافولجي وعلم الغيبيات
هل من يقوم بتحليل الخطِّ يتحدَّث عن غيبيات؟ كما قلنا أنَّ هذا يقع منهم، وفي الوقت الذي يقوم فيه الأطباء بعمل تصوير للدِّماغ وأحيانًا يكون سكان دقيق جداً، فيأتي هذا الآن من خلال زوايا الخطِّ وتداوير سيعرف مثل أو أكثر مما يعرفه الأطباء في التَّصوير المقطعي للدِّماغ!
ويعرفون أكثر مما تقوله الأشعة المقطعية، ويقولون: نعرف بمجرَّد النَّظر إلى الخطِّ، فصاحب الكتابة المستقيمة من النَّاحية الإيجابية: قويُّ التَّركيز والدِّقة والواقعية، ومن النَّاحية السَّلبية: التَّسلط والجفاء والشَّك، فهذه عندهم عبارة عن قواعد، ويقولون في الجرافولجي هكذا، والكتابة المنحنية من النَّاحية الإيجابية: العطف والرِّعايا والسُّهولة والمرونة، ومن النَّاحية السَّلبية: قلة التَّركيز وسهولة التَّحكم به والتَّبعية، هل هذه قواعد صحيحة تنطبق على كُلِّ الأشخاص أنَّه إذا كان كتابته مستقيمةً وإذا كتابته منحنيةً وهكذا؟ فهذا ما قاله محلِّلُ الخطوط والخبير الجرافوجي أحمد البدري على أحد القنوات الفضائية، ويقول عندما سُئِل هل يمكن معرفة الأمراض عن طريق الجرافولجي؟
قال: معظم الأمراض نستطيع أن نكتشفها عن طريق الخطِّ، بل رُبَّما يظهر ألمٌ لم يأت بعد فتظهر بوادر الألم من خلال الخطِّ، ولما أرادت المذيعة أن تكتب بالقلم ليعرف أمراضها قال: لا القلم الفرومستر الخاص بالسَّبورة لا يُظهر الآلام، فلازمٌ يكون خطٌ له شروطٌ معيَّنةٌ، وعلي عبيد يتكلَّم في الجرافولجي على قناة سما دبي يقول: يظهر من خطِّ الأنثى إذا كانت حاملاً أم لا، وهل ما في بطنها ذكرٌ أو أنثى؟ فتسأل المذيعة: الإناث بعد ثلاثة أشهر لا تحتاج للطَّبيب ليخبرها بذكرٍ أو أنثى؟
فأجاب طبعاً الخطُّ يوضِّح بكُلِّ تأكيد إذا كان ذكر أم أنثى، وإذا كان في توأم أو واحد، هكذا بدون ألترا سوند وبدون موجات فوق صوتية وبدون أيِّ شيءٍ، فهذا علمٌ يطالب بتدريسه في الجامعات وهؤلاء كُلُّهم سيصيرون دكاترةً يدرِّسون ويأخذون رواتباً عاليةً على غرار المختبرات الطِّبية التي تقوم بفحص الدَّم والعيِّنات، فالآن معامل تحليل الخطِّ وجرافولجي لمعرفة المواهب وخفايا سلوك المراهقين والمراهقات، وتحليل التَّوافق الزَّوجي، طبعًا قالوا: لا نحن لا نحلِّل أيَّ عيِّناتٍ فلازم يكون الكاتب وقت الكتابة صافي الذِّهن ولا يستند على سطح أملس كالمرآة أو على جدار خشن، ولازم تكون على ورقة بيضاء ليست مسطرَّة، ولازم يكون باستخدام القلم الجاف، وعدد الأسطر لا يقلُّ عن ثمانية والتَّوقيع بعد الانتهاء من الكتابة والرَّسم على ورقةٍ جديدةٍ: سيارة أو شجرة أو منزل، ثُمَّ تُرسل الأوراق لإدخالها في الماسح الضَّوئي عبر القيمة وقيمة التَّحليل 280 ريال، ملاحظة: اختيار الميول الوظيفيَّة لطلاب المرحلة الثَّانوية إضافة مبلغ 25 ريال على القيمة الأساسية، تحليل التَّعرف على خفايا سلوك المراهقين أو المراهقات إضافة مبلغ 50 ريال على القيمة الأساسية، تحليل معرفة التَّوافق الزَّوجي أو مشاكل زوجية وحلَّها إضافة 50 ريال على القيمة الأساسية، تحليل المتقدِّمين على الوظائف ومدى كفائتهم إضافة 100 ريال على المبلغ الأساسي، تحليل اللغات الأجنبية إضافة 100 ريال على القيمة الأساسية، يمكنكم إيداع قيمة التَّحليل من خلال الحسابات الآتية، فماذا يُسمى هذا؟ هذا نهبُ الأموال وأكلها بالباطل، وبعد ذلك يقولون: فراسةٌ، فأين الفراسة؟ ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض النَّاس ونوع يُتعلَّم بالدَّلائل والتَّجارب والخلق والأخلاق ومشتركٌ بين المسلم والكافر وغيره، وقائمٌ على جودة ذهن المتفرِّس وحدة قلبه وحسن فطنته وظهور العلامات والأدلَّة على المتفرِّس فيه.
نماذجٌ من قصص الفراسة الصَّادقة
وهناك قصصٌ مشهورةٌ في هذا تبيِّن كيف الفراسة وكيف اكتُشِفت وكيف عُرفت، وليست هي بقضية زوايا وأشكال، وكذلك القيافة كما مرَّ معنا، ولنختم لكم بهذه القصَّة: ذكر أحمد بن طولون أنَّه بينما هو في مجلسٍ له يتنزَّه فيه، إذا رأى سائلاً في ثوبٍ خَلِقٍ، وكان أحمد ابن طولون حاكمًا فوضع دجاجةً في رغيفٍ وحلوى وأمر بعض الغلمان بدفعه إليه، فلمَّا وقع الرَّغيف الذي فيه الدَّجاجة في يد هذا السَّائل لم يَهُش ولم يعبأ به، فقال للغلام: جئني به هاته، فلمَّا تكلَّم معه واستنطقه أحسن الجواب ولم يضطرب، فقال هات الكتب التي معك واصدقني من بعثك فقد صحَّ عندي أنَّك صاحب خبرٍ، يعني: أنَّك جاسوس، وأحضر السَّياط فاعترف، فقال بعض جلسائه: هذا والله السِّحر، كيف عرفت ما قال؟ ليس عن طريق خطِّه وزوايا ومنحنيات وتوقيع ورسم شجر! لا، قال: ما هو بسحرٍ ولكن فراسةٌ صادقةٌ، رأيت سوءَ حاله، يعني: هو متنكِّر بزيِّ شحاذٍ ورثَّ الثِّياب فوجَّهت إليه بطعامٍ يشره لأجله الشَّبعان، يعني: شيءٌ لذيذٌ، فما هشَّ يده ولا مدَّ يده إليه فأحضرته فتلقَّاني بقوةِ جأشٍ وإجابات على الأسئلة، فلمَّا رأيت رثاثة حالة وقوَّة جأشة علمت أنَّه صاحب خبرٍ مبعوث مدرَّب، فكان كذلك.
فهذه دقة ملاحظة وفطنة وذكاءٌ، وعرف من علامةٍ صحيحةٍ تدلُّ أنَّه ليس شحَّاذاً، أرسل له دجاجةً مشويةً في رغيفٍ ولا يهشُّ ولا يمد يده إليها، فهذه ليست مثل الجرافولجي، ثُمَّ يأتي من يقول هذه فراسة الخطوط! لا هذه فراسةٌ صحيحةٌ.
على أيَّة حال: نختم بأننا نسأل الله أن يرينا الحقَّ حقًا ويرزقنا اتِّباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، هذا الدَّرس الأخير في هذه السِّلسلة بالنُّسبة لهذه الدُّورة، وسنكمل إن شاء الله في موضوعات أخرى في لقاءٍ قريبٍ إن شاء الله، ونسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد.