الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فنسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً على طاعته، ونشكره أن هيّأ هذا اللقاء، وأشكر الجمعية - جمعية طب الأسرة - أو جمعية الأسرة والمجتمع، على تنظيم هذه الندوة، وأرحّب أيضاً بالأخ الفاضل الدكتور عدنان البار مشاركًا في هذه الليلة وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نسمع فيها.
مقدمة
والحقيقة أن عقد مثل هذا الاجتماع في المسجد فيه إيضاح لفكرة وتصوُّر مهم؛ وهو أن الحياة من الدين، وأنه لا فصل للحياة عن الدين كما يقول أعداء الإسلام، وأن كل ما خلقه الله في هذا الكون ينبغي أن يكون مسخّرًا في طاعته وعبادته، ومن ذلك الخبرة الطبية التي ينبغي أن تُسخّر في طاعة الله ، وأن تكون عوناً على عبادة الله ، وأن الطب لا يُضاد الدين ولا يصادمه، بل هو مما حث الشرع على تحصيله؛ لأن فيه منفعة للناس، والذين يفصلون بين الدين والطب، والدين والاقتصاد، والدين والاجتماع، والدين وعلم النفس، ونحو ذلك من الأشياء، هم أناس مجرمون، بل هم ملحدون؛ لأن الدين يشمل كل هذه الأشياء، وقد جاءت الشريعة بتصورات واضحة في جميع هذه المجالات فلعل مثل هذه الندوة تكون موضحة لهذا المفهوم، وأن الدين والإسلام يحث على تحصيل العلوم التي تنفع المسلمين، وأن بعض الأحكام الشرعية كما سيتضح إن شاء الله تحتاج لخبرة طبية؛ بحيث لا يستطيع العالم أن يقطع في بعض المسائل إلا بعد رأي الطبيب في الحكم الشرعي.
وفي بداية هذا اللقاء هذه بعض الوقفات التربوية مع الصيام:
تحصيل التقوى من الصيام
الصيام فرضه الله لتحصيل التقوى، والتقوى طاعة الله سبحانه باتباع أوامره واجتناب نواهيه وهذا الصيام مدرسة يتعلم فيها المسلم الإخلاص؛ لأن الصيام سرٌ بين العبد وربه، وكذلك فإنه لا يمكن لأحد أن يطلع على صيام أحد إلا الله ، فعند جمهور أهل العلم يمكن أن يفطر الصائم بالنية، ويوقف صومه وينهيه بالنية ولذلك فإن المسألة في الحقيقة سرٌ بين العبد وربه، وهذا أحد الأوجه التي ذكر أهل العلم في سبب إضافة الصيام لله فقال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به [رواه البخاري: 1904، ومسلم: 1151].
وإذا استطاع الإنسان أن يتخذ من هذا الصيام درسًا في الإخلاص لجميع الأعمال الأخرى فإنه يكون قد فاز بحظ عظيم، فإن الإخلاص هو سرٌ الأعمال وروحها، وبدونه تصبح الأعمال باطلة، فهو الذي يعلّمنا الإخلاص في الصدقة والإخلاص في العبادة، والإخلاص في طلب العلم، وغير ذلك من أعمال البر والخير.
الصيام يكسر حدة النفس ويقضي على أشرها
والصيام أيضاً هو كسر للنفس وقضاء على الأشر والبطر الذي يصيبها، فإن النفس بالأكل والشرب والنكاح قد تصبح عدوانية وتفرح فرحًا مذمومًا كفرح قارون الذي قال له قومه: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76]، ويسبب هذا الأشر والبطر الاعتداء ويسبب معصية الله ، فكان كسر النفس بالصيام دافعاً للابتعاد عن الأشر والبطر، وكذلك فإن فيه تهذيب للشهوة، تهذيب للشهوة واضح جداً وهذا مأخوذ من قوله ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء [رواه البخاري: 5065، ومسلم: 1400].
فإذن، الصوم يكسر الشهوة؛ ولأجل ذلك نصح النبي ﷺ الأعزب الذي لا يستطيع النكاح أن يصوم؛ لأن الصوم يضعف شهوته ولا يحتاج إلى الاختصاء، وقد جاء أبو هريرة وهو شاب للنبي ﷺ يستأذنه في الاختصاء ويقول له: إنه شاب فقير لا أجد ما أنكح به وأحتاج للنكاح فائذن لي أن أختصي، فنهاه النبي ﷺ عن ذلك واستأذنه أيضًا بعض الصحابة الآخرين بالاختصاء فنهاهم عن ذلك [رواه أحمد: 6612، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة: 1830]. وأرشد إلى ما فيه إبقاء الحواس وإبقاء الأعضاء، ومع ذلك يمكن أن يهذّب الإنسان نفسه به ألا وهو الصيام فليس فيه بتر عضو ولا قطع شيء من الجسم ولا ضرر يلحق بالجسم، ولكنه الصيام الذي يطفئ نار الشهوة ويقللها، وكذلك فإن الإنسان يعرف قدر نفسه ويرجع إلى حجمه الحقيقي؛ لأن كثرة الأكل والشرب تسلل الكسل والبلادة في التفكير فعند ذلك يمكن للإنسان أن ينطلق إذا فرغ بطنه إلى التفكير في آلاء الله وآياته، والفكر مع البطن الممتلئ لا يعمل، لكن إذا فرغ البطن استطاع الفكر أن يعمل، وهذا لا يعني الجوع المميت الذي يشغل الإنسان، وإنما هذا الصوم في هذه الفترة لا شك أنه ينشّط الفكر ويجعل الإنسان متهيأ للتفكير.
الصوم فيه تربية للإرادة
وكذلك فإن فيه تربية للإرادة، فإن الصيام ولا شك يسبب للإنسان بعض الحالات من النزق والتهيج العصبي ولكن المسلم يضبط نفسه ويضبط أعصابه، وهو - الصيام - وإن أصاب الإنسان بشيء من التهيُّج الذي أمر الصائم بأن يضبط نفسه وأن يقول: إني صائم لمن قاتله أو شاتمه، فهو كذلك يضعفه ولا شك، وهذه مسألة لا بد أن نكون مراعين فيها للواقع، والنبي ﷺ قد أمر المجاهدين بالفطر قال: أفطروا فالفطر أقوى لكم [رواه مسلم: 1120]، فلا يقول إنسان: إننا لا بد أن ننتج في الصيام كما ننتج في غير الصيام، بل إن النبي ﷺ نصح المجاهدين بالإفطار لأجل أنه أقوى لهم، فإذن، الإنسان إذا ضعُف عرف قدره وقيمته وزال عنه الإحساس بالتجبُّر الذي يشعر به بعض أصحاب الجاه والمنصب.
الصيام يكسر العادات التي تأسر الإنسان
وكذلك فإن الصيام يكسر العادات التي يكون الإنسان أسيرًا لها، فلا تسيطر على الإنسان عادة الطعام أو عادة النكاح، بل إنه يكسرها بالصيام فيصبر على الجوع والعطش، ويصبر على النكاح والشهوة.
والإنسان قد يبدو ضعيفًا أمام شهواته، ولكن الصيام يربي فيه الصبر والامتناع عن مواقعة هذه الشهوات، أحد المسلمين من الذين كانوا يدخنون، أخذه بعض الأعداء فعذّبوه ما كان تعذيبه الشديد عليه، منعه من التدخين، حتى أنه انهار أمامهم لما أخرجوا له سيجارة بعد فترة طويلة من منعه من التدخين، فإذن بعض الناس قد يصابون قد يقعون تحت وطأة العادة التي تكون عادة مباحة أو عادة سيئة، ولكن لا بد أن تكون النفس لها إرادة قوية تخرج بها من سلطان العادات، فصار هذا الصيام مخرجًا للنفس من هيمنة وسيطرة العادات، وفيه من الحكم الكثير الكثير وشعور المسلمين بالتكافل، ولذلك نلاحظ أن الناس يهتمون بإطعام الطعام في رمضان، فإن الجوع يدفعهم للشعور بجوع الفقراء، فيكثرون الطعام وإعطاؤه في رمضان.
في الصيام وحدة للمسلمين
وكذلك فهو يوحّد بين المسلمين في الصوم والفطر، والمسلمون كالجسد الواحد وهم أمة واحدة، ولذلك قول جمهور العلماء إذا رأى الهلال واحد من المسلمين ثقة لزم المسلمون كلهم في العالم أن يصوموا، لزم الصيام كل المسلمين فهذه بعض الوقفات التربوية، وينبغي أيضاً أن يكون لدينا اندفاع لتنقية المكاسب من المحرمات، فإن الإنسان إذا أفطر على حرام كسبه من حرام وجاء ليفطر، فكيف يتأتى له الإفطار على ما حرّم الله؟ فالإفطار هنا يدفعه للتفكير بوجوب تصحيح الموقف وتنقية الكسب ويفكَّر كيف يفطر على حرام؟ وكيف يقول ذهب الظمأ وابتلّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله وهو يأكل حرامًا؟ وكيف يكون للصائم دعوة مستجابة وهذا يفطر على حرام، والنبي ﷺ قد ذكر: الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك [رواه مسلم: 1015].
فلذلك الصيام يدفع أصحاب المكاسب المحرمة للتفكير في واقعهم.
وأخيرًا فإنه لا بد لنا أن نكون من الذين يهتمون بإصلاح البيوت في رمضان، فإن رمضان مادام قد منعنا من شهوات مباحة في الأصل فمنعنا من الأشياء المحرمة، ما دام قد مُنعنا من أشياء مباحة في الأصل، فامتناعنا عن الأشياء المحرمة من باب أولى، ولا بد أن نربي الزوجة والولد على معرفة الصيام، رحم الله الصحابة الذين كانت المرأة فيهم تصوِّم ولدها فإذا صرخ من الجوع أعطتها اللعبة من العِهن يتلهّى بها عن الجوع حتى يتمّ يومه.
وينبغي علينا معشر الرجال ألا نرهق نساءنا أيضاً بمسألة الإكثار من الطعام وأنواعه والانشغال به، وينبغي أن نترك وقتاً لها لتعبد الله ونترك التكلُّف في المطاعم والمشارب وتنويع الأكلات؛ لأن هذا الشهر ليس شهر الأكلات في الحقيقة، وإنما هو شهر العبادة والقرآن، فأسأل الله أن يجعلنا ممن صامه حق صيامه وقيامه حق قيامه، وأسأله أن يجزينا الخير والثواب الجزيل.