الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة والبشير والنذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، جاهد في الله حق جهاده، وعلمنا فأحسن تعليمنا، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ذكاء ابن تيمية وتجديده للدين
أيها الإخوة: لقد مر في تاريخ الأمة الإسلامية عظماء ومجددون لهذا الدين، رفع الله قدرهم في الدنيا، ونظن أن لهم البشرى والحسنى في الآخرة، ومن هؤلاء: شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- الذي كان مبرزاً منذ صغره، منذ أن جاء ذلك الشيخ من حلب إلى دمشق، فسأل عن اسمه لما بلغه من حفظه، فلما دل عليه، ومع شيخ الإسلام وهو غلام صغير لوح، فأمره أن يمسح ما فيه، وأملى عليه عشرين حديثاً، وسأله كم يحتاج من الوقت لحفظها؟ فكانت الكتابة كافية في حفظها فسردها عليه، ثم محاها وأملى عليه عشرين أخرى، وهكذا..، حتى عرف الشيخ أنه سيكون لهذا الغلام شأن عظيم.
وناظر شيخ الإسلام يهودياً، وكان عمر شيخ الإسلام إحدى عشرة سنة، فبين له كثيراً من الشبهات وأزالها، ولعل ذلك اليهودي قد أسلم من دعوة ذلك الغلام.
وأيضاً فإنه رحمه الله قد جلس للتعليم منذ سن مبكرة جداً، وقعد وهو ابن تسع عشرة سنة، وأفتى وهو ابن واحد وعشرين سنة، وأجرى الله على يديه كثيراً من الخير من تعليم الخلق وجهاد الأعداء ومقاومة البدع ونبذ الانحرافات والجرأة على من كانوا يتبوءون الأماكن العالية، ومع ذلك فإنه رحمه الله صدع بالحق وبين، كادوا له فصبر، وأوذي فسجن وضرب وجلد، ومنع من الكتابة والأوراق، وصودرت كتبه وهو صابر محتسب.
وهو الذي جاهد الكفار والمرتدين وكشف أستار المنافقين في عصره، وكان أماراً بالمعروف، نهاء عن المنكر، حتى إنه كان ليخرج مع تلاميذه فيغشون السوق فما وجدوا من أدوات المنكر أو أوعية الشراب كسروه وأراقوه، وأدب رحمه الله بيده، وصعد إلى الجبل مع بعض المسلمين، فكانت كسرة لأهل الباطل من الباطنية.
وخاطب الملوك وكتب إلى زعمائهم يدعوهم إلى الإسلام.
ومات في السجن -رحمه الله-، وقد خلف لنا تراثاً عظيماً، وكان مجدداً بحق، نصر الله به السنة، فهو الذي قاوم أهل البدع، وهو الذي بين عوار علم المنطق والكلام، وأعاد الناس إلى الحديث، والأخذ به، وقاوم بدعة التعصب المذهبي، ورجع بالناس إلى الدليل.
وهكذا كان رحمه الله مجدداً في مسائل أيضاً من الفقه، وصبر على إيذائه من أجلها.
مقاومة ابن تيمية لبدعة شد الرحال لزيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-
وكان من البدع التي قاومها: شد الرحل لزيارة قبر النبي ﷺ، فبقي على الحق ثابتاً رغم اتهامهم له وطعنهم في محبته للنبي ﷺ، وهكذا قاوم الصوفية وانحرافاتهم، وألف: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وناظرهم عدة مناظرات، وكشف باطلهم، وأرادهم أن يغتسلوا بالخل من دهن النارنج الذي طلوا به أجسادهم ليدخلوا في النار ولا يحترقوا بزعمهم، فاكتشف الحيلة.
وهو رحمه الله أيضاً قد رد على أهل الرفض واليهود والنصارى، وألف الكتب في بيان أقوال أهل البدع الزائغة، وأهل الأديان الباطلة، وكل ما سوى الإسلام من الملل فهو باطل.
جهاد ابن تيمية للتتار بنفسه وقلمه ولسانه
ومن المواقف العظيمة التي حصلت: جهاده للتتار، وجمع كلمة المسلمين لجهاد التتر بعد أن اكتسحوا البلاد الإسلامية، وعاثوا فيها تخريباً وتدميراً.
وهو الذي ذهب إلى مصر لاستنفار العساكر المصرية المسلمة، والإتيان بهم لمساندة إخوانهم في بلاد الشام ضد التتر، فكسر الله التتار.
وكانت جهود شيخ الإسلام في توحيد المسلمين والاستنفار للجيوش الإسلامية لحرب الكفار ويطوف على المقاتلين المسلمين يقرأ عليهم آيات الجهاد، ويأمرهم بالفطر في رمضان لأجل قتال العدو فإنه أقوى لهم، حتى كتب الله النصر لأهل دينه على عدوه.
وقد كتب رحمه الله كتابات في ذلك، ومن أجود هذه الكتابات كتابة ربط فيها بين ما حدث من غشيان هؤلاء الكفرة من التتر بلاد المسلمين، وكيف قام المسلمون بصدهم، وماذا حصل من المسلمين من طوائف من المنافقين مندسين فيهم، ومن أهل بدع وضلالات ومنافقين، وبعض الجبناء والخائفين والمرجفين، وكذلك ربط بين ما كان من تألب التتر على المسلمين، ومعركة الخندق التي خاضها النبي ﷺ مع أصحابه ضد المشركين.
وكتب كتاباً أو رسالة عظيمة نقرأ أكثر هذه الرسالة؛ لأننا نحتاج حقاً أن نتمعن في معانيها، وما انطوت عليه من الفهم الدقيق للكتاب والسنة والربط العجيب لهذين المصدرين بالواقع.
وكيف كان رحمه الله ينظر إلى الواقع من خلال الآيات والأحاديث وسيرة النبي ﷺ، فيقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته، وخيرته من بريته؛ محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
أما بعد: فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب: 25].
والله -تعالى- يحقق لنا التمام بقوله: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26 - 27].
فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله ﷺ في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه وابتلى بها نبيه والمؤمنين مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد ﷺ يتناولان عموم الخلق، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين؛ كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف: 111] أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة، كما يكذب في سيرة عنترة وغيره.
وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات: 25-26].
وقال في سيرة نبينا محمد ﷺ مع أعدائه ببدر وغيرها: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران: 13].
وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2]، فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها من الأمم.
وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة، فقال تعالى: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 60- 62].
وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المتقدمين" الطريق واحد، وعادة الله واحدة، "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها واستطار في جميع ديار الإسلام شررها وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول بهذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراً، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبداً، وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوماً بوراً، ونزلت فتنة" تمعن في كلام شيخ الإسلام "ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، حتى أصحاب العقول لم يستطع كثير منهم لم يستطع فهمها والإلمام بالأمور، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض" ميز الله هؤلاء من هؤلاء، "ميز الله أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان ورفع بها" الفتنة هذه المذكورة، وسنة الله واحدة في كل الأعصار والأزمان والفتن، "ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية كما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه، إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه".
التتر اجتاحوا البلدان "وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال فقط أهله وماله وينجو، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، ينقذ أصدقاء أعزاء إخوان، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، في الفتنة هذه بليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلاً، وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الإخبار بما يكون، وواطأت قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، حين تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، خاذل للإسلام والمسلمين، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.
فإذاً، الفتنة وهذه الطامة العظيمة قسمت الناس إلى ثلاثة أقسام، تبين أن الناس فيها ثلاثة أقسام:
قسم قائمين في نصرة الدين، وقسم مخذلين للدين وأهل الدين، وقسم أعداء الإسلام الخارجين عن شريعة رب العالمين.
وانقسم الناس انقسام آخر، تقسيم آخر، الأحداث قسمتهم، ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزاً من الله وتقسيماً، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 24].
ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله -تعالى- بعث محمداً ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولاً ثم إيجاباً له ثانياً لما هاجر إلى المدينة وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله فغزا بنفسه ﷺ مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين بضعاً وعشرين غزوة، أولها: غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك، أنزل الله في أول مغازيه سورة الأنفال، وفي آخرها سورة براءة، وجمع بينهما في المصحف، لتشابه أول الأمر وآخره، كله جهاد بدر وتبوك جهاد، طريق واحد، كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة، وكان القتال منها في تسع غزوات، وأول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف؛ لأن تبوك ما كان فيها قتال، هي غزوة لكن ليست معركة، أول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول وإن تباعد ما بين الغزوتين مكاناً وزماناً، فإن بدراً كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة ما بين المدينة ومكة، وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثانية، وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة، ثم قسم النبي ﷺ غنائمها، غنائم ماذا؟ حنين، بالجعرانة واعتمر من الجعرانة، ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهل الطائف زحفاً وصفوفاً، وإنما قاتلوه من وراء جدار، فآخر غزوة كان فيها القتال زحفاً واصطفافاً هي غزوة حنين، وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم، فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء، فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة وفيها النبي ﷺ وأصحابه، فخرج إليهم النبي ﷺ وأصحابه في نحو من ربع الكفار وتركوا عيالهم بالمدينة لم ينقلوهم إلي موضع آخر، وكانت أولاً الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار، فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفراً قليلاً حول النبي ﷺ منهم من قتل ومنهم من جرح، وحرصوا أي الكفار على قتل النبي ﷺ حتى كسروا رباعيته وشجوا جبينه وهشموا البيضة على رأسه، وأنزل الله فيها شطراً من سورة آل عمران من قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران: 121].
وقال فيها: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 155].
وقال فيها: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم تقتلونهم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ الآيات [آل عمران: 152].
وكان الشيطان قد نعق في الناس أن محمداً قد قتل فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله -تعالى-: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].
وكانت إشاعة مقتل النبي ﷺ في أحد تمهيداً نفسياً لموته ﷺ حقيقة بعد ذلك؛ لأن الخبر نفسه سيكون حقيقياً عند موته ﷺ، فكان هذا تمهيداً نفسياً، يعني الموقف نفسه، الخبر أن النبي ﷺ قد قتل مات جاء قبل في أحد، ثم تبين أنه غير صحيح، لكن كان ذلك الحدث تمهيداً نفسياً للصحابة للموت الحقيقي الذي سيحدث للنبي ﷺ في آخر حياته، لما أتى شيخ الإسلام بمعركة أحد والأحزاب بعدها يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: وكان هذا مثل حال المسلمين، هو الآن يستقرئ السيرة ويطبق على الواقع، يستقرئ السيرة كل كلامه هكذا، يستقرئ السيرة ويطبق على الواقع، يقول: وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والإعراض عن حكم الكتاب والسنة وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم في أول الأمر راضياً منهم بالموادعة والمسالمة شارعاً في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئاً في الإيمان والأمان وكانوا قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان، فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام، فالتتر كانوا على وشك الدخول في الدين والأمان والصلح مع المسلمين، لكن الله أراد أن تنقلب الأمور ويحدث الاقتتال، وكان في المسلمين معاصٍ وظلم وإعراض عن الكتاب والسنة، فأراد الله بانقلاب الأمور وحصول الاقتتال أن يظهر ما في نفوس الكفار من الخبث والمكر، وأن يظهر ما في نفوس المسلمين من الصدق أو النفاق والجبن ونحو ذلك، قال: فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم، لو انتصر المسلمون على الخلط الذي كان موجوداً فيهم والمعاصي والفواحش، لو انتصر المسلمون على ما فيهم، ماذا كان حصل؟ لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، لأنهم يقولون: نحن عصاة وانتصرنا ويستمرون على المعاصي، لكن عندما ينهزم المسلمون يقولون: من أين أوتينا؟ لا بد نصلح الأوضاع، بعد الهزيمة يقوم المسلمون لإصلاح الأوضاع، فتتحسن الأحوال.
فإذاً، الحكمة التي يقدرها الله لهزيمة المسلمين: أن ينظر المسلمون من أين أوتوا؟ ما هو سبب الهزيمة؟ فيروا في أنفسهم إعراض عن الكتاب والسنة وفواحش ومعاصٍ وظلم وبغي وإعراض عن فرائض الله وطغيان، فعند ذلك يجتهدون في تصحيح الأوضاع لينتصروا.
فلو قال واحد: ما بال المسلمون في هزائم؟ لماذا يريد الله من وراء هذا؟
فيقال: حكم كثيرة جداً؛ منها: أن يجتهد المسلمون في إصلاح أحوالهم فيعودوا للدين القويم، وإلا لو انتصروا على ما فيهم من النفاق والظلم والبغي لقالوا: انتصرنا بالرغم من فسادنا.
إذاً، نكمل على ما نحن عليه ولا يصلحون من أوضاعهم شيئاً، قال: لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين أيضاً، الهزيمة كانت رحمة، يقول شيخ الإسلام عن حادثة صارت في عهده: قبل عام من الانتصار شبيه بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة وقيل بسنتين قد ابتلي المسلمون عام الخندق، كذلك في هذا العام، هو يتكلم الآن عن عهده، ابتلي المسلمون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي ﷺ عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها سورة الأحزاب، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق، فيقول: المسلمون في أحد انكسروا، وفي الخندق ابتلوا باجتماع الأعداء الذين تحزبوا على النبي ﷺ وانهزموا بغير قتال، بل بثبات المؤمنين وأنزل الله سورة الأحزاب، قال: وظهر فيها سر تأييد الدين، قال: كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء، وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق، وذلك أن الله -تعالى- منذ بعث محمداً ﷺ وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسماً مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهراً وباطناً، وقسماً كفاراً وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسماً منافقين وهم الذين آمنوا به ظاهراً لا باطناً، وهذه الأقسام الثلاثة في أول سورة البقرة، وكان ﷺ يعلم بعض المنافقين ولا يعلم بعضهم كما بينه قوله: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] كذلك خلفاؤه بعده وورثته قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم.
وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون الزنادقة، قال: إن هؤلاء موجودين في المتفلسفة ويوجدون في المتصوفة والمتفقهة، لاحظ كلام شيخ الإسلام، يقول: النفاق موجود عند المسلمين في مختلف الطوائف، في المتصوفة موجود منافقون، في المتفلسفة أصحاب الفلسفة ويدعون الإسلام موجود منافقون، والمتفقهة تخصص في الفقه يوجد منافقون، قال: وفي المقاتلة والأمراء وفي العامة أيضاً، ولكن يوجدون كثيراً في نحل أهل البدع، لا سيما الرافضة ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والإسماعيلية ونحوها من المنافقين الزنادقة منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات يقول شيخ الإسلام: لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار، لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا واستيلائهم على الأموال واجترائهم على الدماء والسبي، لا لأجل الدين، إذاً يقول: هؤلاء المنافقون لهم ميل إلى التتر، لماذا؟ قال: لأن التتر لا يلزمون الناس بأحكام الدين، يتركون الناس وما هم عليه حرية، فلذلك هؤلاء يحبونهم يحبون العيش معهم، قال: والذين يكرهونهم من المنافقين الذين يكرهون التتر، لماذا يكرهونهم؟ لأنهم همجيون، أصحاب قتل، وإراقة دماء وأخذ أموال، لا لأجل الدين، يقولون: سبب الكره من بعض المنافقين المندسين في المسلمين أو مسلمين فيهم نفاق إذا كرهوا التتر، لماذا يكرهونهم؟ لأنهم ظلمة، قتلة، سراق، لا لأجل الدين، لا لأجل أنهم تتر خارجون عن الملة وعن الإسلام.
فالمعيار إذاً، في الكره عند هؤلاء الوحشية، فيكرهون أنهم وحشيون، ليس لأنهم كفرة، ولذلك بعضهم يقول: لو أن هؤلاء اليهود عاملونا بالحسنى نحبهم، لكن ما دام عندهم وحشية نكرههم، فإذا زالت الوحشية إذاً هنا المبدأ الكره في الإسلام البغض، البغض له ميزان، البغض له ميزان، فنحن نبغض لأجل الإيمان والكفر، وليس لأجل الوحشية وفقط، هذا سبب الوحشية، لكن السبب الأساسي ما هو؟ فلو عندك واحد مسلم لكنه ظالم يقتل ويسرق وينهب ويغتصب لكنه مسلم يصلي ويصوم، وعندك كافر مسالم موادع ما يؤذيك إطلاقاً وفي بالعهود والمواثيق والعقود يعطيك حقك تماماً على القرش، أيهما تكره أكثر؟
هذا ادعاء طبعاً، نحن نقول: الآن نكره الكافر أكثر وهو الصحيح، لكن لكفره؛ لأنه كفر بالله جريمته مع الله أكبر من جريمته مع الناس من جريمة ذاك مع الناس ومع الله أيضاً.
إذاً، لا بد نتجرد في قضية البغض ونبغض بناء على الميزان الشرعي، على الكفر، ثم على المعاصي، وليس أن نقول: على الوحشية والهمجية وإذا بقي يقول: الله ثالث ثلاثة خلاص ما دام أنه أخلاقه حسنة لا نكرهه، فهذه قضية مهمة.
ثم ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- قال: فهذا ضرب النفاق الأكبر، وأما النفاق الأصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها مثل أن يكذب إذا حدث ويخلف إذا وعد ويخون إذا اؤتمن.
قال: ومن هذا الباب الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين، قال النبي ﷺ: من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق [رواه مسلم: 1910].
إذاً، لانتفاء النفاق لا بد أن يكون إما غزو أو تحديث نفس إذا لم يستطع الغزو، فإذا استطاع غزا، وإذا ما استطاع على الأقل ماذا يفعل؟ يحدث نفسه به، وإذا لا غزا ولا حدث نفسه بالغزو، معناه أنه منافق منافق، مات على شعبة من النفاق.
وقد أنزل الله سورة براءة التي تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها.
وعن المقداد بن الأسود قال: هي سورة البحوث، لماذا سميت سورة التوبة بسورة البحوث؟ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين.
وعن قتادة قال: هي المثيرة، سورة التوبة تسمى المثيرة، لماذا؟ قال: لأنها أثارت مخازي المنافقين.
وعن ابن عباس قال: هي المبعثرة، والبعثرة والإثارة متقاربان.
وعن ابن عمر أنه قال: أنها المقشقشة، لأنها تبرئ من مرض النفاق، يقال: تقشقش المريض إذا برأ.
وقال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الإخلاص المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق.
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي ﷺ، سورة التوبة، غزوة تبوك عام تسع من الهجرة وقد عزى الإسلام وظهر فكشف الله فيها أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد، ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال، وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل، قال النبي ﷺ: شر ما في رجل شح هالع، وجبن خالع حديث صحيح [رواه أبو داود: 2511، وأحمد: 8010، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2268].
ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180].
وقال تعالى: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 16].
وأما وصفهم بالجبن والفزع، فقال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة: 56] يخافون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة: 57]، فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين، وما هم منهم، ولكن يفزعون من العدو، فـلو يجدون ملجأ يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو مغارات جمع مغارة سميت بذلك؛ لأن الداخل يغور فيها يستتر كما يغور الماء، أو مدخلاً وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك، مدخل يعني يشق الدخول فيه إما لضيق بابه أو لغير ذلك، أي مكاناً يدخلون فيه، ولو كان الدخول بكلفة ومشقة، لَوَلَّوْا عن الجهاد إِلَيْهِ إلى هذه الأماكن، وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء، قال وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
وكذلك قال في سورة محمد : فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ [محمد: 20] يعني فبعداً لهم، لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 44- 45]، فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول ﷺ في ترك الجهاد، وإنما الذي يستأذنه الذي لا يؤمن فكيف بالتارك بغير استئذان، إذا كان الذي استأذن في ترك الجهاد ليس بمؤمن منافق، كيف الذي يترك بغير استئذان؟ ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة في المعنى، فيقول رحمه الله -تعالى-: فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق، فإذا قرأ الإنسان سورة الأحزاب وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن ثم اعتبر هذه الحادثة، يعني من قتال التتر، بتلك يعني غزوة الأحزاب وجد مصداق ما ذكرنا، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة، كما انقسموا في تلك، وتبين له كثير من المتشابهات، وتبين له كثير من المتشابهات، قال: وكان مختصر القصة يعلق على قوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9]، يقول: وكان مختصر القصة أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم وجاؤوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد، واجتمعت أيضاً اليهود من قريظة والنضير، فجاؤوا في الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبي ﷺ ومجاورون له قريباً من المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد ودخلوا في الأحزاب، فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة وهم بقدر المسلمين مرات متعددة، فرفع النبي ﷺ، انظر إلى الحكمة الآن في إدارة المعركة وساحة المعركة.
ساحة المعركة طبعاً في المدينة، ماذا فعل النبي ﷺ؟ قال: فرفع النبي ﷺ الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، وضع النساء والصبيان في الحصون؛ لأن هؤلاء لا يقوون عن المواجهة، والإنسان مشغول باله، المسلم يقاتل وأهله وأولاده، فما هو الحل؟
أولاً: وضع النساء والصبيان في مكان آمن، حتى لا يكون بال المقاتل مشغول بهم، ويكونوا في أمان، ولا يؤخذون سبي وأرقاء عند الكفار وما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة، فهذا الإجراء الأول، قال: فرفع النبي ﷺ الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، ولم ينقلهم إلى موضع آخر، وجعل ظهرهم إلى سلع وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام، وجعل بينه وبين العدو خندقاً، هذه الإجراءات، والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة، وكانوا عدواً شديد العداوة لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات، وفي هذه الحادثة، شيخ الإسلام الآن يقارن بين حاله والغزوة، وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغول وغيرهم من أنواع الترك ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين وهو بين الإقدام والإحجام مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين، ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل بضعاً وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر وكان أول انصرافه راجعاً عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى.
إذاً، جاؤوا سابع عشر ربيع الآخرة ورجعوا حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى يوم دخل عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي، يقول شيخ الإسلام هو عن نفسه من هو الداعي هو يقول هو عن نفسه يقول أنه ذهب واجتمع بالعساكر وخاطبهم في هذه القضية، وكأن الله -سبحانه- لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف، وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة؛ كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9]، وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك، فإن لله فيه حكمة ورحمة.
وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو، فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضاً منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنه لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا، أعدونا في الثلج إلى شعره ونحن قعود لا نأخذهم؟ كيف التتر الله أنزل الثلج عليهم وصاروا محصورين في الثلج، ما رحنا نأخذهم ونقبض عليهم، وحتى علموا أنهم كانوا صيداً للمسلمين لو يصطادونهم، لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة، وقال الله في شأن الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 10-11]، وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغاً عظيماً، وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، أن عساكر من المسلمين رجعت، وهؤلاء الكفار يقتربون، وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام حتى يصطلوا أهل الشام، حتى يقضي هؤلاء التتر على أهل الشام جميعاً، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، ما في فائدة انتهى كل شيء، وهذا يظن إنهم يأخذونها ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، فبعض المسلمين الآن قال: الآن ما نهرب من الشام إلى مصر، لا، المصر هذه سيأخذونها سيأخذونها، فهو الآن عنده الشام، ذي فرغ منها وراحت وهي ما بعد راحت، ومصر ستذهب.
إذاً، قالوا: أين المهرب؟ اليمن، ونحوها، وهذا إذا أحسن ظنه، قال: إنهم يملكونها العام كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذهم منها، يقول: وحسن الظن الذي عنده حسن ظن قال: الآن هذه ستأخذ الشام ستأخذ، ثم تأتي عساكر المسلمين من مصر فيستردونها بعد سنة، وهذا ظن خيارهم، وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات أمانٍ كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العير، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، استولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، يقول: إن النصوص خفيت معانيها حتى على عدد من الطيبين الأخيار، واستولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، يعني ظاهره الخير اللحية، حتى الذين هم فيهم سمة الهداية وقعوا في الحيرة، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 11] ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم ويرفع به درجاتهم وزلزلوا بما يحصل لهم من هذه الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات، وهكذا...
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم، يعني الآن هو يتكلم عن حال الأخيار، يقول: الأخيار ضاعوا إلا من رحم الله، راحوا في حيرة، وأما الذين في قلوبهم مرض فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة، فذكروا هنا وفي قوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب: 60]، وفي قوله: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]، وذكر الله مرض القلب في مواضع: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ [الأنفال: 49].
فإذاً، هؤلاء تغلب عليهم أمراض ضعف الإيمان الجبن الفزع الحسد البخل الجهل الشكوك الشبهات وكلها أمراض، وقد جعل الله -تعالى- كتابه شفاء لما في الصدور، ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحداً، يعني لو صح قلبك ما خفت أحداً، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك، سبب خوفك أن الصحة ذهبت من قلبك، ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان، يجب علينا ألا نخاف الكفار، يجب علينا ألا نخاف الكفر؛ لأن الله قال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وهذا نهي، نهي، قال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175].
إذاً لا يجوز الخوف من الكفار، عبرة بليغة؛ لأن الله نهى عن هذا: فَلَا تَخَافُوهُمْ ، فتأمل الآن كم واحد متورط في هذا النهي، فَلَا تَخَافُوهُمْ ، لا يجوز الخوف من الكفار لا يجوز، لازم تتغلب عليه وتتعدى هذا الحاجز، وقال: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40]، وقال: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة: 44]، وقال: وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39]، وقال: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة: 13].
فدلت هذه الآية وهي قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب: 12] على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة التي توجب أمن الإنسان من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غروراً لهم كما وقع في حادثتنا هذه سواء.
ثم قال تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب: 13]، وكان النبي ﷺ قد عسكر بالمسلمين عند سلع، جعل ظهور المسلمين إلى الجبل حماية وراءهم الجبل، حتى لا يؤتوا من الخلف، وجعل الخندق بينه وبين العدو، فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة.
وقيل: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك.
وقيل: لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.
الاستجارة بهم يعني بمن؟ بالمشركين، لا طاقة لكم بالقتال، استجيروا بالمشركين وارجعوا إليهم.
هذا الآن الكلام في الآية التي في غزوة الأحزاب؟ وماذا قال الذين في قلوبهم مرض؟
يقول شيخ الإسلام معلقاً على المعركة التي صارت في عهده: وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين يسمعهم شيخ الإسلام ويبلغه كلامهم، كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتار، وقال بعض الخاصة، يعني فيهم خير وفيهم دين ليسوا من سقط الناس، ليسوا من المرتدين أو بعض الخاصة.
هذا كلام بعض الخاصة الآن: ما بقيت أرض الشام تسكن، بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر.
وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء.
الآن التوجهات النفسية للمسلمين، ناس يقولون: أحسن شيء نرحل نترك البلد كلها ونرحل إلى بلد ثانية.
وناس يقولون: ندخل مع التتر ننضم إليهم.
وناس يقولون: نستسلم.
هذه التوجهات التي كانت موجودة.
قال: فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة التي وقعت في التتر، كما قيلت في تلك يعني من المنافقين في غزوة الأحزاب.
وهكذا قال طائفة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض، وقوله تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 13]، وكان قوم من هؤلاء المذمومين.
والناس مع النبي ﷺ عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة يقولون: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، يعني مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل، والعورة في الأصل في اللغة: الشيء الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر، يقال: أعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره.
وقال بعض المفسرين: إن بيوتنا عورة اسمح لنا نذهب إن بيوتنا عورة، أي ضائعة نخشى عليها السراق.
وقال قتادة في قوله: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ : يعني بيوتنا مما يلي العدو فلا نأمن على أهلنا، فائذن لنا أن نذهب، نذهب من المرابطة معك، نحن الآن مرابطون، المسلمون مرابطون عند سلع، قال: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ يستأذنوه في الانصراف، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 13] أيش يعني وما هي بعورة؟
قال شيخ الإسلام: لأن الله يحفظها، ليست عورة لأن الله يحفظها: إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 13] قصدهم من هذا الاستئذان الفرار من الزحف والجهاد والمرابطة، وليس قصدهم حفظ الأهل ولا الأولاد ولا شيء، هم محفوظون، هو لماذا جعلهم أصلاً في الآطام والحصون؟ هم محفوظون، فيذهب ينسحب من المعركة، لماذا؟
يقول: العذر إن بيوتنا عورة، هذا عذر قبيح، ليست بعورة، الحقيقة الانسحاب الاستئذان لأجل الفرار، وما هي بعورة، هذا كشف داخل النفوس إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا .
قال: فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة.
هذه غزوة الأحزاب، وفي الغزوة التي يتحدث عنها شيخ الإسلام بالمقارنة ماذا قال الناس؟
قال: وهكذا أصاب كثيراً من الناس في هذه الغزاة صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ﷺ وقد كان يمكنهم إرسالهم إلى مدينة، بلد أخرى والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله؟
الآن واحد أرسل عياله واطمأن عليهم، لماذا يهرب؟
قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب: 14] فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة، وهي الافتتان عن الدين إلى الكفر بالكفر أو النفاق لأعطوا الفتنة، وجاؤوا بها من غير توقف، قال: وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم، ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام وتلك فتنة عظيمة لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات إما في حق الله وإما في حق العباد، كترك الصلاة وشرب الخمور وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة.
وكذلك يقول رحمه الله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 16]، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع من الموت ولا من القتل، فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون، ألم يفر أناس من بلد تقصف فقصفوا على طريق الهرب فماتوا؟
فأخبر تعالى أن الفرار لا ينفع من الموت ولا من القتل، فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون، والفرار من القتل كالفرار من الجهاد، وحرف "لن" ينفي الفعل في الزمن المستقبل.
والمقصود أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبداً، يعني لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره.
سبحان الله! انظر إلى استدلاله الذي يظن أن الفرار ينفعه مكذب لله؛ لأن الله قال ماذا؟ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 16]، والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن، يعني الواقع، فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا في المصائب، والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم في الفارين، وقل في المقيمين، الحراس المقيمين المرابطين الموت أقل من الذين فروا، الذين فروا أصابتهم مصائب أكبر، قال: فما منع الهرب من شاء الله، والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد ولا قتل، بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون، وهكذا سنة الله قديماً وحديثاً، والمنايا محتومة ولو شاء الله موت شخص سيخرج إلى المكان الذي سيموت فيه ويقتل فيه، سيجعل الله سبب يخرجه إلى ذلك المقتل المكان فيقتل فيه، ثم قال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب: 18] قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج.
إذاً، غزوة الأحزاب النبي ﷺ أين كان داخل المدينة أم خارج المدينة؟
خارج المدينة عند جبل سلع، ظهره للجبل ووجهه للخندق.
بعض المنافقين كانوا ينسحبون من مكان المؤمنين الجيش ويدخلون داخل المدينة، وإذا جاءهم أحد قالوا: اجلس معنا في البلد، ويكتبون إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم يثبطونهم عن القتال.
إذاً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب: 18] انسحبوا، تعالوا داخل البلد، انسحبوا من ميدان المعركة، انسحبوا هلموا إلينا، ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم، يثبطونهم عن القتال، وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بداً، يعني رغماً عنهم إذا جاؤوا مكان العسكر بالرغم منهم، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، يعني سجل حضور، يلف كذا يأخذ لفة أنه حاضر ويرجع للمدينة، يعني يحضر الميدان فقط خدعة، فانصرف بعضهم من عند النبي ﷺ فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ، فقال: أنت ههنا ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك، تعال معي أحسن، أحيط يعني يقصد النبي ﷺ أحيط به ولا أمل، فوصف المثبطين عن الجهاد وهم صنفان بأنهم إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره، فإذا كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما معاً، وإن كانوا في غير بلد الجهاد كيف يثبطون؟ إذا كان المثبطون في بلد الجهاد يثبطون غيرهم بالقول والفعل، انسحاب هذا الفعل، وبالقول طيب إذا كانوا في غيره كيف يثبطون؟ بالمراسلة.
قال: وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون كما جرى في هذه الغزاة، فإن أقواماً في العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواماً بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا قال الله فيهم: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب: 18، 19] أي بخلاء عليكم بالنفقة في سبيل الله، بخلاء عليكم بالخير والظفر.
ثم قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب: 19] يعني من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف، فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل، فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب: 19] ويقال: صلقوكم في اللغة، وهو رفع الصوت بالكلام، ومنه: الصالقة التي تصيح عند المصيبة، لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة.
الصالقة التي ترفع صوتها بالمصيبة، يقال: صلقه وسلقه، يعني رفع الصوت عليه وصاح إذا خاطبه خطاباً شديداً قوياً، ويقال: خطيب مسلاق، إذا كان بليغاً في الخطبة، لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير، كما قال: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب: 19]، وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا يعني من الحصار بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه وخالفتم الناس، فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت لو كنا سافرنا من قبل ما أصابتنا المصيبة وما أحاط بنا العدو وما حوصرنا.
وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا هذا العدو غركم دينكم، أنتم مغرورون بالإسلام، تظنون أنفسكم أنتم المسلمون أنكم ستقهرون العدو، إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 49].
وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم.
وتارة يقولون أنواعاً من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، حريصين على الغنيمة والمال إذا حصل، إذا كان وقت قسمة الغنيمة جاؤوا سراعاً، بسطوا ألسنتهم يقولون: أعطونا، أعطونا نحن كنا معكم، عند البأس أجبن الناس، عند الغنيمة أشح القوم، حريصين جداً على المال والغنيمة، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ [الأحزاب: 20] هاربين في الصحاري براً يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ، ودوا لو الأحزاب رجعوا أنهم في الخارج فقط يستقصون أخباركم وما حصل لكم، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ، لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، مع أن الأحزاب انصرفوا، والله ردهم والمنافقون بعد يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا.
ثانياً: إذا جاء الأحزاب تمنوا ألا يكونوا بينكم، بل هم في الأعراب في البادية فقط يسألون ما خبر المدينة؟ وما جرى للناس في المدينة؟
ثالثاً: أن الأحزاب إذا جاؤوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلاً.
وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم.
وهكذا كان المؤمنون يرجون الله واليوم الآخر، ويذكرون الله كثيراً، صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وهكذا كان هؤلاء الثابتين على دينهم يفعلون مع النبي ﷺ ويثبتون معه على الخير، ولذلك فإن الله يبتلي ليتبين في الواقع علمه وينكشف الصادق من الكاذب.
قال: وأيضاً فإن الله -تعالى- ابتلى الناس بهذه الفتنة ليجزي الصادقين بصدقهم وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين، وقد ذكر أهل المغازي منهم ابن إسحاق أن النبي ﷺ قال في الخندق: الآن نغزوهم ولا يغزونا [رواه البخاري: 4109] فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود ما غزوا المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة، كذلك إن شاء الله.
هذا تفاؤل ابن تيمية -رحمه الله- كذلك إن شاء الله هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسنوا ظنهم بالإسلام، فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، بما أرسل عليهم من ريح الصبا وهي ريح شديدة باردة، وفرق بين قلوبهم وشتت شملهم ولم ينالوا خيراً، إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها، كما كان هذا العدو يريد فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فرد الله بغيظهم ردهم حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه، فكان من حكمته أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم وقيل: كان سبب رحيلهم، وابتلى الله المسلمين ليتبين من يصبر على أمر الله ممن يفر، وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى يوم دخلت مصر عقيب العسكر واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه، فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو، فكان شيخ الإسلام يتنقل من ساحة المعارك من بلد المحاصرة دمشق إلى مصر لكي يجمع شمل المسلمين ويحرك الجيوش من هناك إلى هنا، وهكذا..
وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضاً وتعادياً، فالأحزاب ألقي بينهم تباغض وتعاهد كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، كما ذكر ذلك أهل المغازي؛ لأنه صار بينهم بعدها صار بينهم وقع بينهم الوقيعة بأسباب منها ما فعله ذلك المسلم من الوقيعة بين الكفار، قال: ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافاً إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك، وثبت المسلمون بإزائهم، وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن في ضعف شديد وتقربوا إلى حماة يعني اقتربوا منها وأذلهم الله فلم يقدموا على المسلمين قط، وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم فلم يوافقه غيره فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق حيث قتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيها عمرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين، كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين، وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم.
وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات، وبعضهم في جزيرة فيها، فرأى أوائل المسلمين فهربوا منهم، وأصاب المسلمون بعضهم وقيل غرق بعضهم، وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى ما بين عبور قازان أولاً وهذا العبور رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا، وثبت بإزائهم المقدم يعني أمير جيش المسلمين الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجراً عظيماً.
وقيل: إن كثيراً من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم يعني التتر بسبب الرفض وأن عند بعضهم منهم، ولذلك وعاونوهم، ومن أعان ظالماً بلي به، وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام: 129].
قال: ونحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهي الحصون، ويقذف في قلوبهم الرعب، وقد فتح الله تلك البلاد، ونغزوهم إن شاء الله فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه، فإن هذه الحادثة فيها أمور عظيمة جاوزت حد القياس، وخرجت عن سنن العادة، وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين وعنايته بهذه الأمة وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وخذل الناصرون فلم يلووا على شيء وتحير السائرون فلم يدروا من ولا إلى أين، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة وتخاذلت القلوب المتناصرة، ولكن ثبتت الفئة الناصرة وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة ففتح الله أبواب سماواته لجنوده القاهرة وأظهر على الحق آياته الباهرة وأقام عمود الكتاب بعد ميله وثبت لواء الدين بقوته وحوله وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساساً لإقامة الدعوة النبوية القويمة ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً" [مجموع الفتاوى: 28/424- 467].
الخاتمة
بهذا ينتهي خطاب شيخ الإسلام -رحمه الله- الذي كتبه ويظهر فعلاً دور العالم المجاهد الذي يثبت الناس بالإيمان والدين، ثم يطلب المناصرة من بقية المسلمين فهو في ميادين الجهاد.
وهو أيضاً العالم الذي يرى من خلال الكتاب والسنة مواقع القتال وأحوال الناس، يستعرض أحوال الناس على حسب الكتاب والسنة، وعلى هذه القدرة العجيبة في الربط بين تلك المعارك وغزوة الأحزاب لا يستطيعها إلا أهل الفقه في القرآن.
ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى أن نفقه هذا الفقه، وأن نستعين بالله -عز وجل- الاستعانة العظيمة، وأن نعلم أن لله نصر ينزله على من يشاء من خلقه، وأن لهذا النصر أسباباً لا بد من الأخذ بها، وأن رفع الروح المعنوية بين المسلمين في غاية الأهمية، وأنه لا يجوز الخوف من الكفار، وأنه لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية كما فعل النبيﷺ من جعل النساء والصبيان في الحصن وحفر الخندق، وجعل الجبل في ظهر المسلمين، وهكذا..، فإذا أخذ المسلمون بالأسباب، وكانت قلوبهم عامرة بالإيمان انتصروا.
وكذلك: فإن لله أحداث يكشف بها الحقائق، ويبلو بها الأخبار: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، ويظهر بها المخبئات التي في الصدور.
ولذلك ترى فعلاً من الذي يثبت من الذي لا يثبت.
وأخذنا من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- عبارات عظيمة في أن النفاق موجود في المسلمين في أقسام كثيرين منهم وطوائف، حتى من المتفقهة.
وأخذنا من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- فوائد عظيمة عندما رأينا قوله رحمه الله في أن بعض الناس الذين عليهم سيما الهداية تحيروا واضطربوا، ولذلك ليس كل من يظهر الالتزام والهداية أو يظهر الاستقامة أنه إذا جاءت الفتنة أو المحنة يثبت، بل إن بعضهم يتحيرون.
فإن قال قائل: فما هو الشيء الذي يوقف هذه الحيرة ويمنعها من أن تأتي إذا ادلهمت الخطوب؟
الجواب: الفقه في الكتاب والسنة، العلم والإيمان، العلم والإيمان، ولم يمتن الله على عبد بمثل أن يمتن عليه بحسن القصد وسلامة الفهم، حسن القصد وسلامة الفهم، ولذلك جاء في الأثر: "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند ورود الشهوات"، البصر النافذ عند ورود الشبهات، الأمور تختلط وتشتبه والفتن تأتي والناس يتحيرون، من الذي يرى الواقع بالعين المبصرة الواضحة؟ أهل الإيمان والدين، حسن القصد، وسلامة الفهم، فيه ناس عندهم حسن قصد، لكن ما عندهم سلامة فهم، فلذلك يضطربون ويتحيرون، وناس عندهم ذكاء، لكن ما أوتوا زكاء، فذكاء من غير زكاء، ماذا ينفع صاحبه؟
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يؤيد عباده المجاهدين في سبيله، وأن يكتب الذل والصغار على أعداء الإسلام.
اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأنزل بهم بطشك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
والحمد لله رب العالمين.