الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
مقدمة
فتعالوا في هذا المجلس من مجالس الذكر نتذكر وإياكم ما كان عليه سلفنا، وننظر في حالنا، لعل الله يحيي في نفوسنا الرغبة في العمل الصالح، والمسارعة إلى الخيرات: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
حال السلف مع الوقت
إن معرفة أخبار الماضين مما يحمس النفوس للعمل ويطرد عنها غبار الكسل.
إنهم عرفوا قيمة الوقت، رجال عرفوا الله، وصدقوا المرسلين.
إنهم اغتنموا أعمارهم وشبابهم وأموالهم وصحتهم.
إنهم عرفوا قيمة هذه النعمة "نعمة العمر".
كانوا يغتنمون أيام دهرهم في عبادة الله ، فكيف كانوا؟ وماذا فعلوا؟
هكذا فعل هؤلاء سلفنا، فما حالنا نحن؟
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ونيته للخير قائمة.
إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا.
هكذا كان أولئك السلف، لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
كنت تراه دائماً مشغولاً، إما أن يحدث أو يقرأ أو يسبح أو يصلي، وقد قسم النهار على ذلك.
كانوا يقولون: أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها.
أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يباحث عند الموت، فزاره بعض عواده، فقال لتلميذه إبراهيم بن الجراح: يا إبراهيم ما تقول في مسألة؟ قال: في مثل هذه الحالة وأنت في النزع، قال: ولا بأس بذلك، ندرس لعله ينجو به ناج، ثم قال: يا إبراهيم أيما أفضل في رمي الجمار أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ قلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك؟ قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء، يعني الجمرة الأولى والثانية، فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده، يعني الجمرة الأخيرة الكبرى، فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت باب الدار حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله.
عبيد الله بن يعيش يقول: أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وانا أكتب الحديث، فهكذا كان يشغلهم كتابة الحديث عن الطعام.
الطبري المفسر المحدث الفقيه حافظ الوقت كان يصلي الظهر يجلس يكتب في التصنيف إلى العصر، ثم يجلس للناس يقرئ ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس إلى العشاء الآخرة، ثم يدخل منزله، قد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وقفه لله عز وجل، مرت عليه أربعين سنة لا يمر عليه يوم منها إلا يكتب في أربعين ورقة.
الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه حتى يستفيد حتى من مشوار الوقت في المشي.
سليم الرازي أحد أئمة الشافعية -رحمه الله- نزل داره يوماً فرجع، فقال: قرأت جزءاً في طريقي.
وهكذا كان بعضهم إذا أراد أن يبري القلم بعدما ذهب حده يحرك شفتيه بذكر الله، وبمسائل العلم لئلا يمضي الزمان وهو فارغ.
يقول ابن عقيل: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، اختصار أوقات الطعام، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لماذا؟ لأن الخبز يأخذ وقتاً في المضغ، أما سف الكعك على الماء فإنه يوفر وقتاً، وهكذا للمطالعة، أو تسطير فائدة غنيمة يجب أن تنتهز.
أين هذا من أصحاب البوفيهات المفتوحة اليوم الذين يقضون الساعات الطوال فيها والتسالي والمشهيات والمقبلات قبلها وبعدها؟
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: كتبت بأصبعي هاتين ألفي مجلد.
قال الذهبي: ما علمت أحداً من العلماء صنف مثل هذا الرجل، كان يجمع برايات أقلامه فلما مات سخن بها الماء الذي غسل به، ففاض منها، من برايات الأقلام، استعملت حطباً لتسخين الماء الذي غسل به عند موته.
وشيخ الإسلام تبلغ تصانيفه ثلاثمائة مجلد، قال الذهبي: وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد، وهكذا في سننه وكلامه وإقدامه وكتاباته، رأى طلابه أمراً عجيباً -رحمه الله-.
وهكذا النووي كان لا يضيع وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا بالاشتغال في العلم وطلبه، ست سنين متواصلة لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد العشاء الآخرة، ويشرب شربة واحدة عند السحر، وربما امتنع عن بعض الطعام قال: أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم.
ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية كان فقيهاً، كان من أهل العلم، إذا أراد أن يصنف توضع له الأقلام مبرية جاهزة، ليس واحد عدد، ثم يولي وجهه إلى الحائط، ويأخذ بالتصنيف إملاءً من خاطره، فيكتب مثل السيل إذا انحدر، ينتهي قلم يرميه يأخذ الثاني والثالث، وهكذا.. لأنه لا يريد أن يضيع وقتاً في بري الأقلام، همة السلف كانت في هذا العلم، طلبه، حفظه، المحافظة عليه، تدريسه، التأليف فيه، التصنيف كما سيأتي.
العمل.
هتف العلم بالعمل | فإن أجابه وإلا ارتحل |
هدي السلف في العبادة
ثانياً: هديهم في العبادة، قراءة القرآن، والصيام، والبكاء.
كان علقمة يقرأ القرآن في خمس ليال.
الأسود صاحبه كان يقرأه في ست.
عبد الرحمن بن يزيد في سبع.
مسلم بن يسار كان إذا صلى كأنه وتد لا يميل يميناً ولا شمالاً.
وهكذا عطاء كما صحبه ابن جريج ثمان عشرة سنة لما كبر وضعف كان يقوم الليل بمائتي آية من البقرة، فكيف أيام الشباب؟
ونحن كيف يضيع ليلنا اليوم؟
سلفنا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 16 - 17].
كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17 – 18].
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64].
هكذا كان الحال فأي شيء صار الحال اليوم؟
كانوا يحيون ليلهم بطاعة ربهم | بتلاوة وتضرع وسؤال |
وعيونهم تجري بفيض دموعهم | مثل انهمار الوابل الهطال |
في الليل رهبان وعند جهادهم | لعدوهم من أشجع الأبطال |
بوجوههم أثر السجود لربهم | وبها أشعة نوره المتلالي |
قال محمد بن المنكدر: ما بقي من الدنيا إلا ثلاثة: قيام الليل ولقاء الإخوان وصلاة في جماعة.
باقي اللذات ما عاد لها طعم.
يقول مخلد بن حسين: "ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله ويصلي فأغتم" يعني كيف حالي بالنسبة لحاله ثم أعزي نفسي بهذه الآية: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة: 4].
قام أبو حنيفة ليلة بقوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46] يرددها ويبكي حتى أصبح.
يقول إبراهيم بن شماس: كنت أرى أحمد بن حنبل يحيي الليل وهو غلام.
يقول أبو بكر المروزي: كنت مع أحمد نحواً من أربعة أشهر بالعسكر رباط وجهاد وصلاة وعبادة لا يدع قيام الليل وقراءة القرآن، فما علمت بختمة ختمها مع أنه ختم كثيراً، لكن كان يسر بعمله.
البخاري يقوم يتهجد من الليل عند السحر، يقرأ ما بين النصف إلى الثلث من القرآن.
ابن عبد الهادي يقول عن قيام ابن تيمية: إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه.
وهكذا يقول ابن حجر عن شيخه العراقي تربية جيل عن جيل، هذا أبو الروح وذاك أبو النطف، فأبو الروح مقدم، قال ابن حجر: لازمته فلم أره ترك قيام الليل، بل صار له كالمألوف.
السلف كانوا في قيام الليل على أنواع المقل والمستكثر، منهم من كان يحيي الليل كله حتى ربما صلى الصبح بوضوء العشاء.
ومنهم من كان يقوم شطره (نصفه).
ومنهم من كان يقوم ثلثه.
منهم من كان يقوم سدسه.
منهم من كان لا يراعي تقديراً، يصلي حتى يغلبه النوم فينام.
منهم من كان يصلي من الليل ركعات محدودة.
منهم من كان يحيي بين العشائين ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون بين الطرفين.
ألم يأتك نبأ عباد بن بشر الصحابي الذي رمي بثلاث سهام في جسده فينتزعها ويمضي في صلاته، وهكذا كان يحرس النبي ﷺ وأصحابه.
عامر بن عبد قيس لا يزال يصلي من طلوع الشمس إلى العصر وينصرف وقد انتفخت ساقاه، فيقول: يا أمارة بالسوء إنما خلقت للعبادة، يقولون له: أتحدث نفسك وأنت في الصلاة؟ قال: أحدثها بالوقوف بين يدي الله.
لم يكن ذلك مقتصراً على الرجال بل حتى النساء "كنا نحضر أم الدرداء" كما في الرواية تحضرها نساء عابدات يصلين عندها تنتفخ أقدامهن من طول القيام.
بل حتى الجواري والإماء، هذه جارية الحسن بن صالح لما باعها لقوم كانت إذا صلت العشاء افتتحت الصلاة تصلي، وربما إلى الفجر وتقول لأهل الدار: يا أهل الدار قوموا، يا أهل الدار صلوا، فيقولون لها: نحن لا نقوم إلا إلى الفجر.
جاءت إلى الحسن بن صالح قالت: بعتني لقوم سوء ينامون الليل كله، ما عندهم قيام ليل؟ أخاف أن أكسل؟ ردني ردني فرأف بها وردها.
وهكذا كانت امرأة الهيثم بن حجاز لا تكاد تنام من الليل، ولكن زوجها ما كان يصبرها معها، فكان إذا نعس ترش عليه الماء وتنبهه، وتقول: أما تستحي من الله إلى كم هذا الغطيط، قال: فوالله إن كنت لأستحي بما تصنع.
بذل السلف أموالهم في سبيل الله
ثالثا: نفقاتهم في سبيل الله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].
الإنفاق في سبيل الله يشمل الإنفاق في الجهاد، في إعداد الغزاة، في ترميم الثغور والحصون، وهكذا في ترقية العلوم النافعة، وجميع المشروعات الخيرية والمحتاجين والفقراء والمساكين، وعلى أبواب الخير توزع الصدقات، ولإقامة الطاعات تنفق.
يأتي عمر بن الخطاب يريد أن ينافس أبا بكر الصديق فيأتي بنصف ماله، ويقول: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً، يعني ما سبقته ولا يوم، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال رسول الله ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهما الله ورسوله، فقلت: لا أسابق إلى شيء أبداً.
وهكذا ربما كان الواحد منهم يتصدق بإفطاره ويبقى جائعاً.
تصدق ابن عمر بطعام إفطاره وطوى الليل جائعاً.
تصدق أحمد بن حنبل بطعام إفطاره، طرق الباب عليه مسكين قبل المغرب فقدم له إفطاره وبات طاوياً.
وكان بعضهم تعد له زوجته طعام الإفطار في الصباح فينوي الصيام، ويأخذ الطعام معه إلى الدكان يتصدق به في الطريق، ثم يرجع إلى أهله عند المغرب فيفطر هنالك، لا يظنونه إلا أنه مفطر في النهار.
ويطفئون السراج ليأكل الضيف، وذلك فعل الصحابي وزوجته أبو طلحة حتى لا يحرج الضيف على الطعام القليل الموجود فيأكله كله، ويبقى أبو طلحة وزوجه وأولاده في جوع يتقلبون، لكن في رحمة الله عز وجل في الحقيقة ينقلبون، ضحك الله من صنيع فلان وفلانة، هكذا فعل هؤلاء.
سعيد بن العاص كان يجل الفقير أو المحتاج أن ينظر إلى وجهه، ووجهه يتغير عند الطلب والذل والمسكنة، كان يعشي الناس في رمضان فتأخر عنده ليلة من الليالي شاب من قريش بعدما تفرق الناس، فقال له سعيد: أحسب الذي خلفك حاجة؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، فضرب سعيد الشمع بكمه فأطفأها، ثم قال: ما حاجتك؟ قال: تكتب لي إلى أمير المؤمنين أن علي ديناً وأحتاج إلى مسكن وخادم؟ قال: كم دينك؟ قال: ألفا دينار، وذكر ثمن المسكن والخادم، فقال سعيد: نكفيك مؤونة السفر، اغد فخذها منا، فكان الناس يقولون: إن إطفاء الشمعة أحسن من إعطائه المال.
لماذا؟
لئلا يرى في وجهه ذل المسألة، أطفأ الشمعة، لئلا يرى في وجه الفقير ذل المسألة وهو يسأل.
زين العابدين، أصحاب صدقات السر، علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، لما مات غسلوه وجعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، قالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
كان ناس في المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل.
لم يكن ذلك خاص بالرجال، حتى النساء، لما دعا النبي ﷺ الصحابيات إلى الصدقة امتلأ ثوب بلال من أقراطهن وخلاخلهن وسخبهن وأسورتهن يلقينه في ثوب بلال.
روى البخاري في الأب المفرد وهو حديث صحيح: أن عائشة كانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته على الفقراء.
أما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً للغد.
وزينب بنت جحش أم المساكين تعمل بيدها، لأنها ما كان عندها، تعمل بيدها وتكسب لتتصدق به في سبيل الله.
وهكذا ذهبت حميدة متعبدة، قالت عائشة عنها: مفزع الأيتام والأرامل.
الهمة العالية في العمل هكذا كان هؤلاء.
طلب السلف للعلم
رابعاً: طلبهم للعلم، يكثر التعب في التحصيل عندما يكون الشيء نفيساً خطيراً.
العلم كان لا ينال بالراحة ولا بالنوم ولا باللذات، قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا أقدر؛ لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس، وقت الدرس هو وقت البيع، وإذا انتهى الدرس كان البائع قد ذهب، قال ابن القيم: أما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، من طلب الراحة ترك الراحة، كيف؟ من طلب راحة الآخرة ترك راحة الدنيا، ينبغي لطالب العلم أن يكون حريصاً على التعلم في جميع أوقاته ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً، هكذا لا يقضي في نومه وطعامه إلا الضرورة، استراحة يسيرة لإزاحة الملل.
وهكذا من أراد أن يكون على ميراث الأنبياء، ابن عباس ابن عم رسول الله ﷺ يبلغه الحديث عن رجل يأتيه، والرجل نائم في بيته في القيلولة، يفرش ابن عباس رداءه ويتوسد على باب الرجل، الريح تسفي عليه التراب، فيخرج صاحب البيت ويراه، ويقول: يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك.
ابن معين خلف له أبوه ألف ألف درهم، يعني مليون، أنفقها كلها في تحصيل الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه.
هكذا لقاء الشيوخ والسماع لئلا يفوت، عندما دخل على عبد بن حميد وسأله عن حديث حماد، قال له: لو كان من كتابك؟ فقام الشيخ ليأتي بالكتاب ليحدث به فقبض يحيى على ثوبه، وقال: أمله علي الآن فإني أخاف ألا ألقاك، فأمليته عليه ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه، يخاف أن يقبض أحدهما في هذه البرهة.
مكحول كان عبداً لما أعتق بمصر قال: لم أدع بها علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق ثم المدينة فلم أدع بهما علماً إلا حويته، ثم أتيت الشام فغربلتها.
شعبة وما أدراك ما شعبة، قال: إني لأذكر الحديث يفوتني فأمرض، أمير المؤمنين في الحديث.
سعيد بن المسيب يسير الأيام والليالي في الطلب.
وهكذا يرحل سعيد بن جبير إلى شيخه ابن عباس ليسأله عن قراءة في قوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء: 93] هل هي منسوخة؟ قال: ما نسخها شيء.
رحل في تفسير آية واحدة من الكوفة إلى المدينة.
عكرمة يقول: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب وابن عباس في الدار، حتى توزيع المهمات قائم.
وكان ابن مسعود يفتي في صف وتلميذه في صف على أبواب كندة في الحج .
وهكذا الحسن البصري رحل إلى كعب بن عجرة الصحابي، قصته معروفة في قضية الحج عندما ملأ القمل شعره، فالنبي عليه الصلاة والسلام رحمه وأذن له بحلق شعره، وإخراج الفدية، لماذا رحل الحسن البصري إلى كعب بن عجرة في الكوفة؟ سافر؟ قال له: ما كان فداؤك حين أصابك الأذى؟ قال: شاة، هذه كلمة واحدة رحل فيها.
ولذلك كان للعلم بركة؛ لأنه كان ينال بالطريق الصعب.
اليوم أقراص الليزر معبأة بمائة ألف حديث، عشرات الآلاف من الأحاديث لكن أين البركة؟
هذه المعلومات قد جمعت والبحث بالجذر والكلمة واللواصق والعبارات والمعاني، ومع ذلك أين العلم الذي رسخ؟
كان نفس المشايخ يظهر في الطلاب، كان هناك تربية، تعليم وتربية، وليس فقط تحفيظ وتلقين، وإنما معه تربية، كل واحد يأخذ عن شيخه وعن شيوخه أنواعاً من الأدب، بالإضافة إلى العلوم والمعارف.
عبد الوهاب الأنماطي كان بكاؤه أثناء مجلس الحديث يعمل في نفس تلميذه ابن الجوزي العمل العظيم في بناء قواعد الإيمان في نفسه، قال علي بن الحسين: قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، يعني بعد العشاء فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته، فمازلنا نتذاكر هذا يقول حديثاً وهذا يقول حديثاً قال: حتى جاء المؤذن للصبح، يصبرون على العلم.
أما الرحلة في طلبه، أبو حاتم الرازي يقول: أحصيت ما مشيت على قدماي زيادة على ألف فرسخ، الفرسخ خمسة كيلو مترات، يعني خمسة آلاف كيلو، هذه مشاها على قدميه، وليست رحلة بالتذاكر الجوية، يقول: لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركت الإحصاء، قال: أما ما سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فلا أحصى كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر من قرب مدينة سلى في المغرب الأقصى إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان أحد الرواة فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة رقيت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً، هذا سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين، وخرجت المرة الثانية، وكان سني في هذه الرحلة سبع وأربعون.
ما تركوا طلب العلم ولا الرحلة في جمعه، لا شباباً ولا كهولاً ولا شيباً لا صغاراً ولا كباراً، كان النهم بمعرفة فقه الكتاب والسنة، حديث رسول الله ﷺ، مسائل العلم التي يجمعونها، لكن هذه التعب كان يرسخ العلم في نفوسهم، يمشون على فقرهم، ربما لا يملك أجرة الدابة وهذه الأسفار كم تكلف؟ ومن الذي يطيق أن يدفع النفقات؟
لذة العلم كانت تنسيهم تعب طلبه، قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه من قبل فتود أعضائي أن لها سمعاً تتنعم به مثل ما تنعمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرصي الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال، قيل: كيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.
هكذا فعل هؤلاء، فماذا فعلنا نحن؟ لا نكاد نصبر في الدرس، وهكذا إذا حضرنا درساً في الأسبوع رأيناه كثيراً جداً، ولكن بعضنا لا يحضر حتى درساً في الأسبوع.
وإذا أردنا قراءة كتاب مللنا من أول الصفحات، وهكذا..
إذًا، كيف والكتاب الإلكتروني موجود، والوسائل المختلفة موجودة، والتعليم بالشبكات قائم، وسماع الدروس موجود في شبكة نسيج العنكبوت، كل الوسائل متوفرة، وأشرطة التسجيل والكتب والطبعات الفاخرة المذهبة الملونة، وهكذا هي أحاديثها مخرجة، كتب مخدومة مشكولة.
أولئك كانوا يقرؤون مخطوطات يفكون رموزها يفرح الواحد منهم جداً إذا عثر على نسخة من حديث فلان الراوي، وفلان الراوي.
العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك.
لا يستطاع العلم براحة الجسد، يقول محمد بن عبدوس: أنه كان يصلي الصبح بوضوء العشاء ثلاثين سنة، خمسة عشر سنة في الدراسة، وخمسة عشر سنة في العبادة، يقسم الليل نصفين: نصف دراسة، ونصف عبادة، قال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً، فقالوا: هو عليل، اليوم الشيخ مريض؟ فماذا فعلوا؟ رأينا سمكة أعجبتنا، اشتريناها، لما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، الدرس الذي بعده صار وقته فمضينا ولم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن، فأكلناها نيئة، لم نتفرغ أن نشويها.
دببت للمجد والساعون قد بلغوا | جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا |
وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم | وعانق المجد من أوفى ومن صبرا |
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله | لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا |
الكيا الهراسي -رحمه الله-: من الأئمة الكبار في مدرسة سرهنك بنيسابور، كان فيها قناة ليلها سبعون درجة، يقول: كنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة، مرة في الصعود والنزول، وهكذا أفعل في كل درس، يعني مائة وأربعين مرة يعيد كل درس، فمن أين ينسى مثل هذا؟
وبهذا صاروا أئمة يقتدى بهم.
هكذا فعل أولئك القوم.
شعبة بن الحجاج ممكن يطوف المدن من أجل حديث واحد، سمع حديثاً فاستغربه، شعبة سمع عن إسرائيل عن أبي إسحاق حديثاً يقول لأبي إسحاق: من حدثك بهذا؟ قال حدثني: عبد الله بن عطاء، عن عقبة.
عبد الله بن عطاء سمع من عقبة فأين عبد الله بن عطاء؟ يريد شيخ الشيخ فقيل له: عبد الله بن عطاء بمكة، قال فرحلت إليه بمكة أردت الحديث فسألته الحديث الفلاني من الذي حدثك؟ قال سعد بن إبراهيم، يقفز مالك بن أنس يقول لشعبة: سعد موجود في المدينة لم يحج هذه السنة، قال: فرحلت إلى المدينة، فسألت سعداً عنه من الذي حدثك؟ فقال: الحديث من عندكم، من زياد بن مخراق هو الذي حدثني، فقال شعبة: أي شيء هذا الحديث بينما هو كوفي إذ صار مكياً، إذ صار مدنياً، إذ صار بصرياً، فأتيت البصرة فسألت زياد بن مخراق من الذي حدثك؟ قال: ... لا يعجبك من الذي حدثني؟ قلت: لا بد أن تخبرني به؟ قال: حدثني شهر بن حوشب، شهر -رحمه الله- كان قد اختلط وفيه ضعف، فقال شعبة: دمر علي هذا الحديث، والله لو صح لي هذا الحديث عن رسول الله ﷺ كان أحب إلي من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين.
الناس ينقدون، يتعبون، ويرتاح من بعده في معرفة صحة السند، وهل الحديث صحيح أو لا؟ وما هي آفة السند؟ كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل كما يقول شعبة، يعني لا يساوي شيئاً.
وهكذا كانوا يحجزون الأماكن في الدروس حتى لا تفوت، قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس عند علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس الغد فنقعد طول الليل مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً نسمع فيه.
الآن عالم كبير في مسجد يلقي درساً، عنده ثمانية، اثنان يشخرون عند الأعمدة، وواحد يكلم بالهاتف الجوال؛ لأن الشيخ لا يبصر.
أيها الإخوة: الوضع مزري، ونحتاج إلى نفضة، ننفض بها غبار النوم عنا والكسل.
البخاري كان يقوم في الليل إذا أراد أن ينام من خمسة عشرة إلى عشرين مرة، يأخذ القداحة فيوري ناراً ويسرج، ثم يخرج أحاديث ويعلم عليها، يكتب فوائد ثم يضع رأسه، يتذكر فائدة يقوم مرة ثانية يوقد السراج يكتب الفائدة يرجع لينام، يتذكر فائدة يوقد السراج ويكتب الفائدة عشرين مرة في ليلة، معه واحد خادم شاب مع ذلك كان يصلي وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، فقال له الشاب: إنك تحمل على نفسك ألا توقظني؟ قال: أنت شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك، قال البخاري: لما طعنت في ثماني عشرة، يعني صار عمري ثمانية عشرة عاماً جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقواليهم، وفي الليالي المقمرة يكتب.
وهكذا كان ثلاثون من علماء مصر فيما سبق في وقت يقولون: حاجتنا من الدنيا، ما نشتهي من الدنيا ولا شيء إلا النظر في تاريخ محمد بن إسماعيل؛ لأن البخاري ألف كتاب التاريخ، وهكذا أملى عليهم أحاديث وأملى عليهم كتباً -رحمه الله- يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، واختار كتابه الجامع الصحيح البخاري من ستمائة ألف حديث، ما وضع فيه حديثاً إلا اغتسل وصلى ركعتين، يستخير الله أن يضع هذا الحديث في كتابه.
فليس بغريب أن يكون لكتابه هذا القبول وهذه الصحة وهذه الشهرة.
هكذا كان قد تخلفت عنه نفقته مرة فجعل يتناول الحشيش الأخضر من الأرض يأكله، ولا يخبر بذلك أحداً.
أسد بن الفرات المجاهد الذي مات شهيداً في جزيرة صقلية، الذي حفظ القرآن والموطأ، وتفقه على مذهب مالك، وكان أمير المجاهدين في جيش صقلية، الذي كان استشهد وفي يده اللواء يقرأ سورة يس، هذا لما انقطع لقراءة القرآن وعلومه حضر عند محمد بن الحسن الشيباني فقال له: إني غريب، قليل النفقة، والسماع منك نزر، والطلبة عندك كثير، فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن، لما رأى حرصه، كانوا يهتمون بالطلاب النجباء قال: اسمع مع العراقيين، مع الطلاب من أهل العراق في النهار، وقد جعلت لك الليل وحدك فتبيت عندي وأسمعك أي الحديث، قال أسد: وكنت أبيت عنده، وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست، ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي حتى أتيت على ما أريد من السماع.
الشافعي -رحمه الله- يقول: كانت نهمتي في الرمي، تعلم الرماية لأن هذه سنة، ومن تعلم الرماية ثم نسيها فهي نعمة كفرها، كان يتعلم الرماية وطلب العلم، قال: فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، وسكت عن العلم، فقال عمرو بن سواد: أنت والله في العلم أكبر منك في الرمي.
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- كان يجيد الرمي.
وهكذا قال بعض أصحابه: كنا معه مرة في الفلاة فطار طائر فأخذ الشيخ البندقية فصاده، والطائر في الهواء، هكذا بدون التدقيق الذي يكون عند الرماة، وكان يخرج لأجل هذه الرماية، ليس للصيد، ليس به هم الصيد.
الشنقيطي كان يلبس فردة خضراء، وفردة لون ثان؛ لأنه لم يكن أصلاً يهتم بالثياب، ولا بالنعال؛ من زهده بالدنيا -رحمه الله-.
الشافعي جزأ الليل ثلثه الأول يكتب، وفي الثاني يصلي، وفي الثالث ينام.
وهكذا لما أشكل على بعض النحويين باباً من النحو أنفق ثمانين ألف درهم حتى حذقه.
الإمام أحمد -رحمه الله- رئي ومعه محبرة، والمحبرة هذه من شأن الطلاب، وليست من شأن الشيوخ الكبار، فقال له قائل: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين ومعك المحبرة؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
وقال: أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.
كانت همم عند هؤلاء في الدراسة والتدريس.
الطبري يقول لطلابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ يقولون: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة، قال: نكتب يا طلابي؟ قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، قال: إنا لله، ماتت الهمم، فاختصر نحو ذلك في ثلاثة آلاف ورقة. ولما أراد أن يملي التفسير قال لهم نحواً من ذلك ثم أملاه على نحوه من قدر التاريخ.
ممكن يجوعوا في طلب العلم، ممكن يضطروا للسؤال في طلب العلم، محمد بن خزيمة ومحمد بن جرير ومحمد بن هارون الروياني ومحمد بن نصر المروزي جمعت بينهم الرحلة في طلب العلم بمصر، جمعوا نفقاتهم حتى فنيت النفقات، وليس عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، اجتمعوا ليلة في منزل كانوا يؤون إليه، يتناقشون في الجوع الذي مسهم، فاتفق رأيهم أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام؛ لأنه لا يريد ولا واحد منهم أن يخرج ويسأل، لكن الآن يهلكون من الجوع، خرجت القرعة على ابن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الاستخارة، فاندفع في الصلاة، فإذا برجال من قبل السلطان، والي مصر أحمد بن طولون يدقون الباب ففتحوا الباب، فقالوا: أيكم محمد بن نصر؟ قيل: هو ذا، فدفع إليه صرة فيها خمسين ديناراً، يعني من الذهب، قالوا: أيكم محمد بن جرير فأعطاه خمسين ديناراً وكذلك للروياني ولابن خزيمة، ثم قال لهم: إن الأمير كان قائلاً-نام نوم القيلولة-، فرأى في المنام خيالاً أو طيفاً يقول له: إن المحامد جياع، إن المحامد الأربعة هؤلاء في بلدك جياع وأنت نائم، قم، فقال: سأل من هم المحامد؟ هل يوجد في مكان واحد مجموعة محامد ؟ قالوا: نعم، دخل البلد أربعة، هؤلاء، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.
الهمم في قراءة المطولات، قال عز الدين بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام مثل المحلى لابن حزم، والمغني لابن قدامة، قال الذهبي: صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما: السنن الكبرى للبيهقي، ورابعهما: التمهيد لابن عبد البر، فمن حصل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقاً.
ممكن تكون حادثة غريبة هي السبب أن تجعل عامياً عالماً، من كبار العلماء ابن حزم كيف صار عالماً؟ كان شخصاً عادياً جداً، شهد جنازة، دخل المسجد فجلس ولم يركع، يعني لم يصل تحية المسجد، فقال له رجل: قم صل تحية المسجد ، كان عمره ستة وعشرين سنة، فقام وصلى ركعتين، لما رجعوا من الصلاة على الجنازة دخل المسجد فأراد أن يصلي ركعتين، فقال له قائل: اجلس ليس هذا وقت صلاة، هذا الكلام قبل المغرب، قال: فانصرفت وقد حزنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون، فقصدته فأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت عليه وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحوا ًمن ثلاثة أعوام.
قصة ممكن تبدو قصة عادية، واحد دخل المسجد ما هو وقت نهي من جهله جلس، قال له واحد: قم صل تحية المسجد، دخل مرة ثانية في وقت النهي أراد أن يصلي على ما علمه الأول جذبه واحد وقال: ليس ذا وقت صلاة.
طبعاً: الراجح أن تحية المسجد من ذوات الأسباب وأنها تفعل حتى في أوقات النهي، وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله تعالى-.
الفيروز آبادي لا ينام حتى يحفظ مائتي سطر.
النووي كان كل يوم يقرأ اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً في الوسيط، في المهذب، في الجمع بين الصحيحين، صحيح مسلم، في اللمعة لابن جني في إصلاح المنطق، في اللغة لابن السكيت، في التصريف، في أصول الفقه، في اللمعة لأبي إسحاق، في المنتخب لفخر الدين، درس في أسماء الرجال، ودرس في العقيدة، وهكذا..
هؤلاء كيف صاروا علماء؟ كيف صاروا كباراً؟
هؤلاء ممكن الواحد يكون حلاقاً، أتى شخص يحلق عنده، الحلاق هذا كان يسمع أشياء من بعض الزبائن، وكان من زمان الحلاق ممكن يجيه زبون شيخ، طالب علم، دكتور في الجامعة، نحوي، مفسر، فقيه، محدث، أديب، لغوي، فهذا كان يصيد الفوائد وهو ذكي، فجاءه أحد الشيوخ مرة ليحلق رأسه عنده فانتبه لذكاء الحلاق، وأنه يسأل أسئلة ويثير أشياء، فلم يزل به حتى سجله في الجامعة، وهكذا خرج هذا الرجل واحداً من المشايخ من الكتاب المعاصرين في هذا الزمان.
كان شيخ من قديم منادياً بدار البطيخ، يحرج على البطيخ، ولكن لما صدقت نيته في طلب العلم صار عالماً من كبار العلماء.
وهكذا كان الشيخ حافظ الحكمي يرعى الغنم في جيزان، لما وهبه الله سرعة في الحفظ والذكاء، وقيض الله له الشيخ عبد الله القرعاوي المصلح أخذ بيده فصار الحكمي من العلماء، ومات وعمره خمسة وثلاثون سنة، وهناك كتب له لم تطبع إلى الآن، لا زالت مخطوطة.
توفي قريباً العالم الفقيه ابن بسام -رحمه الله- من تلاميذ الشيخ السعدي، ومن أصحاب ابن عثيمين، قال لي: كنت أنا وابن عثيمين نتناوب في تسميع القرآن، فيبدأ بالثمن الأول من أول القرآن يسرد عليه، ثم أنا أسمع له الثمن الثاني، ثم هو يسمع لي الثمن الذي بعده وهكذا إلى نهاية المصحف.
الختمة التي بعدها إذا كان هو الذي بدأ أنا الذي أبدأ حتى الأشياء التي أنا ما قرأتها أقرأها، والتي لم يقرأها يقرأها، وهكذا كان في مساعدة لبعضهم، ولذلك يهون الطلب عندما يقيض الله رفقة صالحة، كانت الرحلة في طلب العلم على صعوبتها قائمة كما تقدمت أمثلة، ومن قبلهم موسى عليه السلام نبياً ورحمة عندما رحل إلى الخضر في طلب العلم، وقطع المسافات الطويلة.
عقبة بن الحارث الصحابي سافر من مكة إلى المدينة ليسأل عن مسألة واحدة في الرضاع.
جابر بن عبد الله سار إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد من المدينة إلى الشام، طرق الباب خرج إليه اعتنقه، قال: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت، وأنا لم أسمعه.
ويرحل في طلب العلم كما تقدم من المسافات الطويلة الكثيرة.
أما الهمة في قراءة الكتاب الواحد وليس الكتب الكثيرة فقط، الكتاب الواحد كم مرة كان يعاد، ربما يتخرق من كثرة الإعادة، أبو عرب القيرواني يقول: وجدوا في آخر أحد كتب عباس بن الوليد الفارسي أنه درسه ألف مرة.
وهكذا قال أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن التبان: أنه درس المدونة لمالك ألف مرة.
وهكذا قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري: قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة، والأسدية خمساً وسبعين مرة ، والموطأ خمساً وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة، والمبسوط ثلاثين مرة، والبخاري أكثر من ستين مرة، ومسلم نحواً من عشرين، وهكذا همة عالية سواء في القراءة أو في التأليف.
طلب السلف للحق وسعيهم للوصول إليه
وهكذا كانوا أيضاً في الدعوة في طلب الحق، في السعي في الوصول إلى الحق، كانوا عظاماً، وفي الثبات عليه فلنبدأ بهذا رابعاً: همتهم في هذا، كيف كانوا؟
زيد بن عمرو بن نفيل الذي أخبر النبي ﷺ عنه أنه يأتي أمة وحده، الرجل هذا كان موحداً يسند ظهره إلى الكعبة يقول لقريش: ما أعلم أحداً على دين إبراهيم غيري" [صحيح البخاري: 3828].
وهكذا لما عرف بأن إبراهيم الخليل كان حنيفاً مسلماً صار على دينه، كان قد خرج إلى اليهود زيد بن عمرو فلقي عالما منهم، قال: إني أريد أن أكون على دينكم؟ أخبرني عنه؟ قال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال: أنا فررت من غضب الله، أنا ما أتحمل غضب الله، خرج لقي نصرانياً، قال: أريد أن أكون على دينكم؟ قال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله، قال: أنا فررت من لعنة الله، أنا لا أتحمل لعنة الله، دلني على شيء آخر؟ قال: إلا أن تكون حنيفاً، ما بقي إلا الدين الحنيفية، قال: ما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم الخليل، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان يعبد الله، فلما رأى زيد ذلك رفع يديه وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم [صحيح البخاري: 3827].
فكان موحداً مع أنه ما كان يعرف شعائر التعبد التفصيلية، لكن على دين إبراهيم الخليل، على التوحيد، فذهب يطلب الحق ويبحث عن الدين الصحيح.
وهكذا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- كان لأب من المجوس من عباد النار، يحش النار يوقدها ليعبدها مع قومه، لكنه بفطرته عرف أنه لا يمكن أن تكون هذه النار هي الإله الذي خلق، فيستحق العبادة، فسمع بقوم من النصارى فأتاهم، وهرب من أبيه، وهرب من البيت، وذهب للشام، ودخل الكنيسة هناك ليتعلم دينهم، وكان الأسقف رجلاً فاسقاً سيئاً، مات وهو يخزن قلال الفضة والذهب، فدل القوم على ثروته فأخذوه وصلبوه ورجموه، قالوا: لا ندفنه أبداً، وجاء برجل بدلاً منه، وضعوه، لازمه سلمان، رآه يصلي، زاهد في الدنيا، يقوم الليل، أحبه، فكان معه إلى أن مات، لما حضرته الوفاة قال: إلى من توصي بي؟ قال: أي بني والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، فلان الحق به، ذهب سلمان إلى ذلك الرجل بعدما مات صاحبه الأول، وقال: إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، بقي عنده إلى أن أوشك على الموت، قال: من توصي بي؟ قال: يا بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به، لما مات وغيبه ودفنه ذهب إلى نصيبين، فأخبره بالخبر ولزمه وأقام عنده، فكان خير رجل، ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ثم إلى فلان ثم إلى فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ قال: يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، وبقي عنده حتى صار عند سلمان بقرات وغنيمة، لما أنزل أمر الله بهذا الرجل الأخير وطلب منه أن يوصي به إلى شخص آخر، قال: أي بني والله ما أعلم أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، يهاجر إلى أرض، مهاجره بين حرتين بينهما نخل، وهذه علامة المدينة فيها حرتان شرقية وغربية، صخرية سوداء، ونخل في الوسط، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، ثم مات وغيب، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب، قبيلة تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي، قالوا: نعم، فأعطيتموهما وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني وباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده، ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، فبينا أنا عنده إذا قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها، الذي وصفها لي هذه نفسها ، فأقمت بها وبعث رسول الله ﷺ وسلمان لا يدري، وأقام بمكة وسلمان لا يدري، وهاجر إلى المدينة وسلمان لا يدري، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي إذا أقبل ابن عم له يهودي حتى وقف عليه، فقال: يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم مجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني الرعدة، حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا، أقبل على عملك؟ فقلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال، وكان عندي شيء قد جمعته، يعني من تمر من رطب، فلما أمسيت وأخذته ثم ذهبت إلى رسول الله ﷺ وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول اللهﷺ لأصحابه: كلوا وأمسك يده فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت وجمعت شيئاً، وتحول رسول الله ﷺ إلى المدينة، يعني من قباء إلى المدينة، ثم جئت فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله ﷺ منها وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله ﷺ وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدبرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله ﷺ استدبرت، وعرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله ﷺ: ((تحول)) فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس [رواه أحمد: 23737، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
هكذا كانت الرحلة في طلب الحق، البحث عن الحق.
وهكذا كانوا يفعلون، وهكذا حدث لأبي ذر الذي سمع عن النبي ﷺ بمكة وأرسل أخاه ورجع إليه بأخبار، قال: ما شفيتني، تزود هو وذهب حتى لقي النبي ﷺ وآمن به.
أما المناصرة بالحق، فإن مؤمن آل فرعون ضرب لنا مثالاً عظيماً عندما ناصر موسى ، ودافع عنه، وأفشى السر، كان يكتم إيمانه نصرة لموسى : وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر: 28] ذكر قومه بعاقبة المكذبين وخوفهم بيوم القيامة، وذكرهم بتكذيبهم ليوسف ، وفوض أمره إلى الله، واحتمى بجنابه من الذي يشبهه بالموقف؟ أبو بكر الصديق، الدفاع عن الحق.
إذاً، السعي للوصول إلى الحق، ثم الدفاع عن الحق، وصاحب الحق، والداعية إلى الحق.
أبو بكر كان من أشجع الناس، عن محمد بن عقيل ، قال : خطبنا علي بن أبي طالب ، فقال: أيها الناس أخبروني بأشجع الناس ؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين، قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس، قالوا : لا نعلم، فمن ؟ قال: أبو بكر ، أنه لما كان يوم بدر، جعلنا لرسول الله ﷺ عريشاً، فقلنا: من يكون مع رسول الله ﷺ ليلاً ؟ يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله، ما دنا منه إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله ﷺ، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى عليه، فهذا أشجع الناس، فقال علي : ولقد رأيت رسول الله ﷺ، وأخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلتله، وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحداً ؟ قال : فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا ، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله .
كذلك المؤمن في سورة يس عندما خرج وجاء من أقصى المدينة، رجل ممتلئ رجولة، يسعى، مجتهداً في الدفاع عن الأنبياء.
وهكذا تثبت ماشطة بنت فرعون على الحق حتى يلقي فرعون أولادها أمامها في القدر الذي يغلي بالزيت، فتلوح عظامهم بيضاء على سطح ذلك القدر، ثم لما أراد أن يلقيها، قال: لك حاجة؟ قالت: إني لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قال: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق.
وهكذا أمر بأولاده فألقوا واحداً واحداً إلى أن انتهى إلى صبي لها مرضع، فكأنها تقاعست، فقال: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة [رواه أحمد: 2821، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
حال السلف في إنكار المنكر
خامساً: كيف كانوا في إنكار المنكر، وجرأة الموقف في إيضاح الحق، والجهر به والصدع، ولو كان على الكبار والولاة؟ قصة مروان مع أبي سعيد الخدري، لما خرج مروان يريد أن يخطب قبل صلاة العيد، لماذا؟ قال: الناس لا يسمعون لنا، قالوا: أنت تغير السنة، الخطبة بعد الصلاة؟ قال: الناس لا يسمعون لنا إذا خطبنا بعد الصلاة، يصلون العيد ويمشون، يريد أن يسمعهم مجبرين، فبنى المنبر، وأراد أن يرتقيه قبل الصلاة، أبو سعيد أخذ بثوبه فجذبه، فشد مروان الثوب وعاند وطلع، فقال أبو سعيد: غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقال: ما أعلم والله خير مما لا أعلم.
وهكذا كان أحمد بن حنبل في درس مرة فسمع حس طبل فقام من الدرس حتى أرسل إليهم فنهاهم..
أبو مسلم الخولاني -رحمه الله- لما قام مرة إلى الأمير قال: السلام عليك أيها الأجير، فقال الحاشية: السلام عليك أيها الأمير، فقال أبو مسلم: السلام عليك أيها الأجير، فقال الأمير: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يريد، فقال له: اعلم أنه ليس من أجير استرعي رعية إلا رب الرعية سائله عنها، فإن داوى مرضاها وجبر كسراها وهنأ جرباها، أي طلاها بالزبد لتبرأ، الجرب مرض في الإبل، هكذا يعالج، ورد أولاها على أخراها، ووضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء وفاه أجره، وإن كان لم يداو مرضاها ولم يهنأ جرباها ولم يجبر كسراها، ولم يرد أولاها على أخراها، ولم يضعها على أنف من الكلأ وصفو من الماء لم يؤته أجرها لم يؤته الأجر، فانظر أين أنت يا فلان؟ قال: يرحمك الله يا أبا مسلم وأذعن.
حبس معاوية مرة العطاء، أخره عن الناس، مرتبات من بيت المال، وصعد المنبر، قام إليه أبو مسلم قال: لم حبست العطاء يا معاوية؟ إنه ليس من كدك وكد أبيك ولا من كد أمك حتى تحبس، فغضب معاوية غضباً شديداً، ونزل من على المنبر، وقال للناس: مكانكم وغاب عن أعينهم ساعة ثم رجع، فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار وإنما تطفئ النار بالماء، وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبا مسلم إنه ليس من كدي ولا كد أبي، فهلموا إلى عطائكم.
وهكذا سعيد بن المسيب -رحمه الله- يقوم بالحق فيضرب ستين سوطاً فلا يجيب.
سعيد بن جبير يبحث عنه الحجاج ويلقي عليه القبض ولما جيء به إليه، قال الحجاج: ائتوني بسيف عريض، وكان الحجاج إذا أتي إليه بشخص، قال له: أكفرت بخروجك علي؟ فإن قال: نعم، خلى سبيله، فقال لسعيد: أكفرت بخروجك علي؟ قال: لا، قال: اختر أي قتلة أقتلك؟ قال: اختر أنت فإن القصاص أمامك، يعني بعد الموت.
أما حطيط الزيات والمواقف الجريئة عند الحجاج، فإن حطيطاً كان صواماً قواماً، عرف الحجاج عنه وأخذه، استدعاه فقال حطيط لمن معه: إني قد عاهدت الله لئن سئلت لأصدقن، ولئن ابتليت لأصبرن، ولئن عوفيت لأشكرن ولأحمدن الله على ذلك، فقال له الحجاج: ما تقول في؟ قال: أنت عدو الله، تقتل على الظنة بدون دليل وبرهان قاطع، قال: فما قولك في أمير المؤمنين؟ قال: أنت شررة من شرره، وهو أعظم جرماً، قال: خذوه، ففظعوا عليه العذاب، ففعلوا فصبر ولم يصح، فأتوه فأخبروه، قال: قطعوا لحمه وصبوا عليه الخل والملح، فصبر ولم يصح، فأتوه فأخبروه، فقال: اخرجوا إلى السوق فاضربوا عنقه،-رحمه الله-.
كم عمره؟ ثمانية عشرة سنة.
ابن أبي ذئب -رحمه الله- لما حج أبو جعفر المنصور دعاه، قال: نشدتك الله ألست أعمل بالحق؟ ألا تراني أعدل؟ قال: أما إذا نشدتني لله فأقول: ما أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة، وتدع أهل الخير.
ولما دخل المنصور المسجد النبوي قام الناس إلا ابن أبي ذئب فقيل له: قم، قال: إنما يقوم الناس لرب العالمين.
سفيان الثوري يقول: إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول دماً.
أتي المهدى بسفيان الثوري، لما دخل عليه سلم سفيان ولم يسلم بالخلافة، وسياف المهدي قائم على رأس المهدي بسيفه متكئ عليه ينتظر متى الأمر؟ فأقبل المهدي على سفيان، قال: يا سفيان تفر منا هاهنا وهاهنا، تظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، أمسكناك وألقينا عليك القبض، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم في يحكم فيك ملك قادر، يفرق بين الحق والباطل، فقال السياف: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ المهدي كان فيه خير، قال: اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى لسعادتهم؟ يعني هو يذهب شهيدا ونحن نذهب إلى جهنم، اكتبوا عهداً لسفيان بقضاء الكوفة، وألا يعترض عليه أحد في حكم، سفيان أخذ الخطاب وخرج رماه في نهر دجلة، وغاب عن أنظار الناس، فلم يعرف أين هو.
الأوزاعي، لما فرغ عبد الله بن علي، هذا من دعاة بني العباس الذين وطؤوا لهم في أول الأمر، وكان سفاكاً للدماء، لما فرغ من قتل بني أمية بعث إلى الأوزاعي، وكان قد قتل يومئذ نيفاً وسبعين من بني أمية، قال الأوزاعي: دخلت عليه والناس صفان، قال: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ فتفكرت، ثم قلت: لأصدقن واستبسلت للموت، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث: الأعمال بالنيات [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907]، وبيده قضيب ينكت به، ثم قال: ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ يعني بني أمية، فرويت له قول النبي ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة [رواه البخاري: 6878، ومسلم: 1676] قال: أخبرني عن الخلافة وصية لنا من رسول الله ﷺ نحن آل البيت؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله ﷺ ما ترك علي أحد يتقدمه، قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك أحرم، فأمرني فخرجت فجعلت لا أخطو خطوة إلا قلت: إن رأسي يقع عندها، وهكذا كان ذلك سفاكاً للدماء، صعب المراس، لكن الله نجا الأوزاعي بصدقه.
وابن النابلسي -رحمه الله- لما أخذه جوهر، هذا العبيدي، هذا الكافر الباطني، قال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب عليه أن يرمي في الروم سهما وفينا تسعة؟
قال رحمه الله: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجبت أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، قال: لماذا؟ قال: لأنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية، فأمر جوهر أن يسلخ من جلده فطرح على وجهه بالأرض وشق السلاخون عرقوبيه ونفخ كما تنفخ الشاة، ثم سلخ وهو يقرأ القرآن بصوت قوي، ثم غشي عليه ومات -رحمه الله-.
كان الدارقطني إذا ذكره يبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب: 6].
شمس الدين، القاضي في عهد الدولة العثمانية، لما حضر يزيد بن محمد، أحد السلاطين العثمانيين إلى المحكمة الشرعية بين يدي الشيخ ليشهد في قضية، رد الشيخ شهادة السلطان ولم يقبلها، قال السلطان: ولم؟ قال: لأنك تارك لصلاة الجماعة، فابتسم السلطان، ولعل الله أراد به خيراً ثم أمر ببناء مسجد أمام داره ولم يترك صلاة الجماعة بعدها.
وهكذا كان أهل العلم على الحق ثابتين لا يلينون ولا يتزلزلون.
شيخ الإسلام الهروي أبو إسماعيل الأنصاري يقول: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت.
القاضي المنذر بن سعيد البلوطي، قاضي قرطبة، لما عمل أمير المؤمنين في الأندلس قبة بالذهب والفضة، وبعدما تم الإنجاز العظيم هذا، ودخل الأعيان وأخذوا مجالسهم، جاء منذر بن سعيد فقال له الخليفة كما قال لمن قبله: هل رأيت أو سمعت أحداً من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا؟ فبكى القاضي وأقبل ودموعه تتحدر، ثم قال: والله ما ظننت يا أمير المؤمنين أن الشيطان يبلغك هذا المبلغ أن أنزلك منازل الكفار، قال: لم؟ قال الله : وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف : 33] وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ [الزخرف : 34] وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف : 35] فنكس الخلافة رأسه، ثم قال: جزاك الله عنا خيراً وعن المسلمين، الذي قلت هو الحق، وأمر بنقض سقف القبة.
هذا من بيت المال بأي حق يوضع؟ يرد إلى بيت المال.
جهاد السلف في سبيل الله
سادساً: فيما فعله أولئك القوم: الجهاد في سبيل الله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ [البقرة: 216] دافعوا عن بيضة الإسلام، وغزوا في سبيل الله، ودخلوا نحور العدو، دانت لهم البلدان، لما أراقوا الدماء في سبيل الله، من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق.
هذه البسالة والبطولة التي كان يبديها سلفنا -رحمهم الله- شيء عجب، فكان أنس بن النضر لما مات في بدنه ثمانون ضربة ورمية وطعنة.
كذلك جعفر الطيار في بدنه في مؤتة تسعون ضربة ما بين طعنة ورمية وضربة بسيف.
الزبير يوم اليرموك قال له أصحابه: ألا تشد فنشد معك؟ قال: إن شددت كذبتم، قالوا: لا نفعل فحمل حتى شق الصفوف فجاوزهم وما معهم أحد ثم رجع، فأخذ الروم بلجامه، ضربوه ضربتين على عاتقيه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، فهناك ثلاثة آثار في عاتق الزبير، اثنتان في اليرموك عن يمين وشمال، وواحدة بينهما في بدر، قال عروة ولده: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير.
لما يتربى عبد الله بن الزبير عند هذا الرجل كيف يكون؟ لذلك كان فارساً وعمره عشر سنين، حتى أن الزبير وكل به رجلاً لا يقتحم الأعداء، فكان عبد الله يجهز على جرحى الروم، يطوف على جرحى الروم بعد المعركة، والذي يجد فيه نفس يجهز عليه.
يقول خالد بن الوليد : لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية، ما صبرت في يدي إلا صفيحة لي يمانية، سيف يماني هو الذي صمد في يده، تقطعت أسيافه الستة .
وهكذا كانت البطولات والشجاعات، والبراء بن مالك يوم اليمامة لما تحصن بنو حنيفة في بستان مسيلمة الذي كان يعرف بحديقة الموت، يقول لأصحابه: ضعوني على الترس وألقوني فيلقونه من فوق السور، فينزل كالصاعقة على رؤوس الكفار يقاتلهم وحده، ويقتل عشرة ويفتح الباب، جرح يومئذ بضعاً وثمانين جرحاً.
وهكذا كان جليبيب لما قال ﷺ بعد المعركة: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً، قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال : لكني أفقد جليبياً فطلبوه فطلب في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي ﷺ فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه ثم حمله النبي ﷺ ليس له سرير إلا ساعدي رسول الله ﷺ، فحفر له ووضع في قبره [رواه مسلم: 2472].
أحد المحدثين كان من شيوخ البخاري اسمه أحمد بن إسحاق، هذا الرجل عجيب في شجاعته، يقول البخاري: ما بلغنا أنه كان مثله، يعني في الشجاعة، يقول مرة وقد أخرج سيفه: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف كافر، وإن عشت قتلت به ألفاً أخرى، ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي.
أرسل الكفار يوماً في عمل كمين لهذا الرجل خمسين فارساً، انتقاء، لما خرجوا حاصروه هجم عليهم وقاتلهم فقتل تسعة وأربعين، وأمسك الخمسين، وقطع بعض أعضاءه وأرسله رسولاً ليخبر قومه بما حصل.
طارق بن زياد لما دخل الأندلس في ألف وسبعمائة رجل و "تذفير" هذا نائب البطريق الذي صار القتال ثلاثة أيام ثم جاء الملك بنفسه بفرسان وجيش عرمرم، قال طارق: إنه لا ملجأ لكم بعد الله إلا سيوفكم، أين تذهبون وأنت في وسط بلادهم والبحر من ورائكم محيط بكم، وأنا فاعل شيئا إما النصر وإما الموت؟ قالوا: وما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم، الآن الهدف القائد فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك فقتل ملكهم، وجمع كثير من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلا ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا النفر اليسير.
وهكذا كان علي بن أسد -رحمه الله- كان رجلاً في البداية غير متدين، كان صاحب معاصٍ، ومن الذين أسرفوا على أنفسهم، سمع واحداً يقرأ في الليل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] قال: أعد؟ أعاد، قال: أعد؟ أعاد، قال: أعد؟ أعاد، ثلاث مرات رسخت، نفعت، اغتسل ثم غسل ثيابه، ذهب في العبادة حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي البعير من كثرة الصلاة، غزا البحر فلقي الروم فارتبطوا بمراكب العدو، قال: اليوم أطلب الجنة، لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً، فاقتحم بنفسه في سفينة من سفنهم، فما زال يضربهم وينحازون، ويضربهم وينحازون حتى مالوا في شق واحد كلهم، فانكفأت السفينة فغرق وغرقوا جميعاً.
أما أبو الغادية الذي كان يوماً من الأيام مع المسلمين في المعارك البحرية بقيادة معاوية كان الروم قاموا بتجهيز طنجير مملوء بمادة مشتعلة، يقذفوه على سفن المسلمين تحترق بمن فيها، فنظر أبو الغادية إلى رجل من الروم قد أمسك بالطنجير ليقذفه، فرماه أبو الغادية بسهم فقتله، وخر الطنجير في سفينة الروم فاحترقت بأهلها، وكانوا ثلاثمائة، فكان يقال: رمية سهم أبي الغادية قتلت ثلاثمائة نفس.
أما ابن فتحون -رحمه الله- الذي خرج إلى علج رومي كان قتل من المسلمين ثلاثة، يطلب البراز يخرج مسلم يقتله، يخرج مسلم يقتله، ثلاثة، فجعل النصراني يمشي متبختراً يقول: هل من مبارز؟ واحد لاثنين، واحد لثلاثة، ثلاثة من المسلمين لواحد من الفرنج؟ فتضايق المسلمون جداً، وقالوا للمستعين: ليس لها إلا أبو الوليد بن فتحون، فخرج أبو الوليد بقميص كتان واسع الأكمام، وركب فرساً بلا سلاح، وأخذ بيده سوطاً طويل الطرف، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه، فتعجب النصراني منه، كيف ما يخرج إلا بسوط، وحمل كل منهما على صاحبه، فلم تخطئ طعنة النصراني سرج ابن فتحون فتعلق برقبة فرسه، ونزل الأرض لا شيء منه في السرج، ثم استوى على سرجه، وضرب النصراني بالسوط على عنقه فالتوى السوط على عنقه، فأخذه بيده فاقتلعه، وجاء به إلى المسلمين، فألقاه بين أيديهم.
وهكذا كان البطال رأس الشجعان والأبطال من أعيان أمراء الشاميين، كما يقول الذهبي، هذا الرجل بعث سرية إلى أرض الروم، فغابت واختفت، واختفى خبرهم، ما درى ماذا صنع أصحابه المسلمون؟ فركب بنفسه وحده على فرس حتى جاء إلى عمورية، وكان فيها النصارى فطرق بابها ليلاً فقال له البواب: من هذا؟ قال البطال: أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق.
إذاً، تنكر في سياف ملك النصارى، يقول: أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ لي طريقاً إليه، فلما دخلت على البطريق إذا هو جالس على سرير، فجلست معه على السرير إلى جانبه، يعني أنه شخصية مهمة مثله، وهو أصلاً أهم منه ثم قلت له: إني قد جئتك في رسالة فمر هؤلاء فلينصرفوا، فأمر من عنده فذهبوا، ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه، الآن يظن أنها رسالة من ملك النصارى، ثم جاء فجلس فاخترطت سيفي وضربته، يعني ليس بحده لكن بعرضه، وقلت: أنا البطال فأصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة؟ فأخبرني ما خبرها؟ قال: هم في بلادي، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد صدقتك، فقلت: هات الأمان؟ فأعطاني الأمان، فقلت: ائتني بطعام فأمره أصحابه فجاؤوا بطعام فوضع لي، فأكلت فقمت لأنصرف، فقال لأصحابه: اخرجوا بين يدي رسول الملك فانطلقوا يتعادون بين يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي، فإذا أصحابي هنالك فأخذتهم ورجعت.
هذا الرجل كان يسأل الله الشهادة، قد شغل بالجهاد عن الحج، فكان يسأل الله الحج قبل أن يستشهد، وفعلاً حج في السنة التي استشهد فيها رحمه الله تعالى.
وكان من المسلمين أيضاً من انتدب للقاء الإفرنج في البحر، وكانت غزوات عظيمة بين المسلمين والنصارى في البحر: حسام الدين لؤلؤ العادلي الذي لما خرج الإفرنج في البحر خرج وأدركهم، وأحاط بهم، واستسلموا وقيدهم، وكانوا أكثر من ثلاثمائة مقاتل، وأقبل بهم إلى القاهرة، وكان يوماً مشهوداً.
وأما بطولات صلاح الدين ونور الدين وعماد الدين فإنها مشهورة معروفة كثيرة، ومن الأشخاص الذين مروا في تاريخ الإسلام عندما وصل الأسبان إلى جزر الفلبين بقيادة ماجلان، مكتشف رأس الرجاء الصالح، هذا النصراني ماجلان قاد جيشاً من النصارى إلى الفلبين، وكان أهل الفلبين من المسلمين عام 927 ميلادي، نزل الأسبان على أرض الفلبين يظنون أن أهلها على الوثنية، لكنهم لاحظوا أنهم فوجئوا بالمسلمين بصوت واحد، فانهزم الصليبيون، وكان قائدهم ماجلان قد جاء إلى ناحية الجزر الجنوبية، ودخل على ملكها المسلم: لابو لابو، وقال له: إنني باسم المسيح أطلب منك التسليم، ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد، فرد عليه الأمير المسلم: إن الدين لله، وإن الإله الذي أعبده إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم، ثم أخذ لابو لابو المسلم الفلبيني ماجلان بيده وقتله ودمر فرقته ورفض تسليم جثته للأسبان، فانسحبوا خائبين.
وهكذا حتى غزى الأسبان بعد ذلك الفلبين، واستولوا عليها بعدما جاهدهم المسلمون جهاداً كبيراً.
لقد كان للمسلمين صولات وجولات كثيرة، فهذه الصحراء وهذه البحار، وهذه الأدغال شاهدة على جرأتهم وشجاعتهم، الأمثلة كثيرة، لم تكن فقط في الرجال، وإنما حتى النساء، فأم سليم التي كانت تحمل الخنجر أيام حنين فرآها النبي ﷺ معها الخنجر، قال: ما هذا يا أم سليم؟ قالت: اتخذه حتى إذا دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، فجعل رسول الله ﷺ يضحك، فقالت: يا رسول الله، وكانت المقاتلة الشجاعة أم موسى اللخمية مع زوجها في اليرموك، وجال الرجال جولة فأبصرت علجاً يجر رجلاً من المسلمين، رومي نصراني أسر مسلماً، فأخذت هذه المرأة عمود الفسطاط، ثم دنت من ذلك النصراني فشدخت به رأسها، وأقبلت على أخذ سلبه -رحمها الله-.
وهذه الأمة فيها خير عظيم، والتاريخ يعيد نفسه في أشياء، وسنن الله الكونية ثابتة تجري.
الخاتمة
وإذا كان لنا من مثل هذه الوقفات دروس وعبر أن نأخذها فإن علينا أن ننظر اليوم في حالنا ونقارن بأولئك القوم ونقول لأنفسنا: هلم إلى العمل؟
ولنذهب لنأخذ بكتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ، فإن الأيام التي تمر بنا الآن أيام صعبة تحتاج إلى عمل سريع، والله وإلى إغاثة عاجلة نسأل الله أن يكشف الضر فإنه ليس لها من دون الله كاشفة.
ولنعلم بأن المسلمين قد آتاهم الله من الخيرات والإمكانات والعقليات والقوة ما لو اجتمعوا على دينهم لا يمكن أن يهزمهم الكفار.
وينبغي أن نشحذ هممنا وعزائمنا بأخبار سلفنا فإن المواجهة آتية، ولا بد مع معسكر أهل الشرك.
نسأل الله أن يثبت أقدامنا، وأن ينصرنا على القوم الكافرين.
ونسأله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.
ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، ونسأله أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.