الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 - 71].
إخواني: أحييكم في هذه الليلة وقد انقضى شهر رمضان، ونسأل الله أن يجعلنا بعد رمضان خيراً مما كنا قبله.
وتصرم مواسم العبادة يكون له في النفس نوع من الحزن والتأثر، ولكن العزاء أن المسلم يدخل في عبادة بعد أن يخرج من عبادة فهو لا يزال يتقلب في منازل العبادات ومراتبها.
وأحييك -أيها الأخ- فأقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وإننا إذا خرجنا من شهر صيام فإننا لا نزال على العهد مع الله في العبادة في المحيا إلى الممات.
أهمية مصاحبة الأخيار
ولا شك أن من أنواع العبادة: حضور مجالس العلم، ومصاحبة الصالحين؛ لأن صحبة الأخيار من علامات الأبرار، وصحبة الأخيار من دين الإسلام، وصحبة الأخيار من مقتضى عقد الولاء الذي عقده الله بين المؤمنين، وموالاتنا للمؤمنين تفرض علينا أن نصاحبهم.
فمصاحبة الأخيار إذاً من المواضيع العقدية، مواضيع العقيدة قبل أن تكون موضوعاً من مواضيع الآداب أو الأخلاق والسلوك: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22].
فمودتنا إذاً لأهل الإيمان من صميم هذا الدين.
وينبغي أن يتذكر المسلم يوم يعض الظالم على يديه فيقول: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [الفرقان: 27 – 28].
وعند انتقائك للإخوان والمصاحبة للأصدقاء تذكر يوم يكون: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
وإذا أردت أن تلازم أشخاصاً فتدبر حديثهﷺ: لا تصحب إلا مؤمناً [رواه أحمد: 11337، وحسن إسناده محققو المسند].
ولقد عظمت منزلة الصديق عند أهل النار، قال الله -تعالى- عنهم: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100 - 101] فأهل جهنم يتمنون صديقاً يكون لهم فيه نوع من العزاء وهم يتعذبون في النار، فافتقدوا فيما افتقدوا الصديق.
أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم، والرجل بلا إخوان كاليمين بلا شمال.
منزلة الإخوان عزيزة في النفس، موقع الإخوان كبير، قال أيوب السختياني -رحمه الله-: "إذا بلغني موت أخ لي، فكأنما سقط عضو مني".
ولأن الإخوان والأصدقاء والخلان لهم أثر كبير، ف المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل [رواه أحمد: 8417، وقال محققو المسند: "إسناده جيد"].
تفحص الناس الذين تحتك بهم وتماشيهم وتخالطهم وتزاورهم وتلبي دعوتهم وتدخل بيتهم ويدخلون بيتك. انظروا إلى فرعون مع هامان كيف أضله وزين له الشر؟
مثل الجليس الصالح كمثل العطار إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه، هذه صفة الجليس الصالح كما ورد في الحديث الصحيح.
وفي رواية أخرى: مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة [رواه البخاري: 2101].
فوائد الجليس الصالح
والجليس الصالح -أيها الإخوة- له فوائد كثيرة جداً، وله صفات مهمة جداً؛ جليسك الصالح يأمرك بالخير، وينهاك عن الشر، ويسمعك العلم النافع، والقول الصادق، والحكمة البليغة، ويبصرك آلاء الله، ويعرفك عيوب نفسك، ويشغلك عما لا يعينك، وإن كان قادراً سد خلتك، وقضى حاجتك، ثم لا تحتاج بعد الله إلى سواه.
إن ذكرته بالله طمع في ثواب الله، وإن خوفته من عذاب الله ترك الإساءة والظلم.
يجهد نفسه في تعليمك، وإذا غفلت ذكرك، وإذا أهملت بشرك وأنذرك، يجيبك سائلاً، ويذكرك غائباً، ويعتني بك حاضراً.
هذا الشخص الذي يغفر زلتك، ويقيل عثرتك، ويستر عورتك، وإذا اتجهت إلى الخير حثك عليه، وكان لك عوناً عليه، وإذا تكلمت سوءاً حال بينك وبين ما تريد، وقال: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف: 29].
وصالح إخوانك لا يمل قربك، ولا ينساك على البعد.
يسرك إذا حضرت بحديث، ويشهد بك مجالس العلم وحلق الذكر وبيوت العبادة، ويزين لك الطاعة، ويقبح لك المعصية، وما يزال ينفعك حتى يكون كبائع المسك وأنت المشتري، ولصلاحه لا يبيع عليك إلا طيباً، ولا يعطيك إلا جيداً، وإن أبيت الشراء فلا تمر بشارع إلا وهو معبق بالطيب قد ملأت الريح المعاطس والأنوف.
أيها الإخوة: إنكم إذا أردتم أن تعرفوا فلاناً من الناس كيف هو؟ وكيف حاله؟ ما صلاحه؟ ما أخلاقه؟ ما دينه؟ انظروا إلى أصحابه:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
وصاحب أولي التقى تنل من تقاهم | ولا تصحب الأردى فتردى من الردى |
وما ينفع الجرباء قرب صحيحة | وما ينفع الجرباء قرب صحيحة |
ممكن الإنسان يتعلم التدخين ببساطة من سوء، لكن نادراً ما يتعلم الإنسان ترك التدخين من صاحب، ولذلك فإن الأصحاب ثغرة خطيرة ينبغي أن يلتفت إليها المسلم لإصلاحها، فإنه يجيئه الشر والخير من أصحابه، أوصى بعض الصالحين ولده لما حضرته الوفاة، فقال: يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحبه مدة وانظر في حاله وجربه.
اصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، واصحب من إذا مددت يدك للخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها[بداية الهداية، ص: 65].
قال الشافعي -رحمه الله-: "لولا القيام بالأسحار، وصحبة الأخيار، ما اخترت البقاء في هذه الدار" {موارد الظمآن لدروس الزمان: 2/ 202].
ونسب إلى أبي الدرداء قوله: "لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً: الظمأ لله بالهواجر، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر"[إحياء علوم الدين: 4/ 409].
والأخيار الأبرار الأتقياء إذا وجدوا في مجتمع جذبوا أشباههم أو انجذبوا إليهم وسرى تيار المحبة بينهم؛ لأن الإسلام يؤلف بين قلوب أتباعه، ويربط الإخوان بعضهم ببعض، فهؤلاء المتشاكلون هؤلاء المتشابهون هؤلاء الذين هم على منهج واحد وعلى دين واحد لا شك أنهم يجتمع بعضهم إلى بعض.
لو أن مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق ومؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن ومنافق واحد لجلس إليه، وإن أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة، وأنت أحياناً تدخل مكاناً أو تدخل طائرة من الطائرات فينجذب قلبك إلى بعض الركاب انجذاباً ولو لم تكن رأيته من قبل، لكن الشبه في الهيئة والسمت وعلائم التقوى أو الفسق هي التي تجذب كل شكل إلى شكله، وكل شبيه إلى شبيهه.
فأنت -أيها المسلم- إذا أردت أن تعرف ما موقعك في مرضاة الله، فانظر إلى الناس، إلى أصناف الناس، إلى أي نوع أنت تميل؟ وإلى أي صنف أنت ترغب، وتشتهي الجلوس والمخالطة؟ فإذا نفر قلبك من أهل الدين فأنت مريض فداوي نفسك، حتى تجد نفسك تميل إلى أهل الخير.
إذا صرت تميل إلى أهل الخير فأنت بخير، وإذا رأيت نفسك تميل إلى أهل الشر والفجور والخلاعة فاتهم نفسك واستدرك عمرك قبل فوات الأوان.
إذا رأيت نفسك تميل إلى الأخيار وتحب مجالستهم فإنك صاحب خير، وإذا رأيت نفسك تميل للذهاب مع المجرمين وأنت من أهل الخير ففيك شعبة من شعب النفاق.
إذا رأيت نفسك أحياناً تميل إلى مجالسة أهل الشر والمجرمين والمنافقين والفسقة وأنت من أهل الخير في الظاهر ففيك شعبة من شعب النفاق اتهم نفسك وعالجها.
صفات جليس السوء وأثره السيء
ولا شك أن أهل السوء لهم صفات كثيرة كما جاء في القرآن وفي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقال علي : "لا خير في صحبة من يجتمع فيه هذه الخصال: من إذا حدثك كذبك، وإذا ائتمنته خانك، وإذا ائتمنك اتهمك وإذا أنعمت عليه كفرك وإذا أنعم عليك من عليك"[الآداب الشرعية: 3/ 565].
وينبغي اختيار الناس واختبارهم قبل المؤاخاة في ثلاثة أشياء مهمة: عند هواه إذا هوى، وعند غضبه إذا غضب، وعند طمعه إذا طمع، فتنظر ميله ثم تقرر بعد ذلك هل يصلح صاحباً لك أم لا؟
وقرين السوء لا ينبغي الاستهانة بأثره، وكثير من الشباب والناس عموماً يعملون على جهتين ويسيرون في خطين، فإذا جاؤوا إلى أهل الخير جالسوهم، وإذا ذهبوا إلى أهل الباطل خالطوهم، يظنون أنهم أصحاب سياسة، وأنهم ناجحون في التعامل مع الجميع، وأنهم يجمعون الأقطاب المتنافرة، وأنهم شعبيون، وهذا غلط وضلال، فإن الإيمان إذا كان صحيحاً، والعقيدة إذا كانت مستقرة فإنها تقضي تولي المؤمنين والتبري من الكفرة والفسقة والمنافقين، ولا يمكن أن يجتمع في الإنسان محبة لأهل الإيمان ولأهل الكفر والفسوق في وقت واحد، ولذلك الذي يحس بهذا الشيء فإن فيه شعبة من النفاق ينبغي عليه أن يتخلص منها كما قدمنا قبل قليل، قرين السوء إن لم تشاركوه في إساءته أخذت بنصيب وافر من الرضا بما يصنع وهذا فيه إثم.
وكذلك فإنك تضطر للاحتياط لحفظ كرامتك من أن يمزقها أو يسمعك في نفسك ما لا تحب وأنت لا تبدي ولا تعيد، وإن رضيت بصنيعه فهو كنافخ الكير على الفحم الخبيث وأنت جليسه القريب فإنه يؤذي ثيابك وبدنك ويملأ أنفك بالروائح الكريهة، ومن سكت على معصية فهو شريك فيها، والساكت عن الحق شيطان أخرس، ولذلك فإن الذين يجلسون مع طائفتين ويخالطون الفريقين هؤلاء ينبغي عليهم أن يتأملوا قول الله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
كما يحتاج أن يتأملوا قول الله : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68].
تذكر كلما جلست مجلساً فيه أهل فسق دون مصلحة شرعية لا لنصيحة ولا لدعوة ولا لتمشي في حاجة مسلمين وإنما تجلس معهم جلوس استئناس وانبساط، كلما جلست مجلساً مع فساق أو ناس من المجرمين أو فيهم نفاق تذكر قول الله :وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] فينبغي عليك أن تفارق المجلس فوراً: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68]..
وإن الازدواجية الموجودة عند بعض الناس الآن في هذا الزمان من مماشاتهم لأهل الشر ولأهل الخير في وقت واحد، هذا خلق ذميم، ولا بد أن تتصارع الرغبتان في النفس حتى تغلب إحداهما الأخرى، ولن يستطيع أن يواصل على منوال واحد، ولن يستطيع أن يواصل على منوال واحد، وقد قالوا: الصاحب ساحب، الصاحب ساحب، يسحب إلى الخير أو إلى الشر، والناس مجبولون على التشبه، يتشبهوا بعضهم ببعض هذه القضية نفسية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الناس كأسراب القطا؛ مجبولون على تشبه بعضهم ببعض" [مجموع الفتاوى: 28/ 150].
فلا تصحب أخا الجهل | وإياك وإياه |
يقاس المرء بالمرء | إذا هو ماشاه |
قياس النعل بالنعل | إذا ما هو حاذاه |
وللشيء على الشيء | مقاييس وأشباه |
وقد ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- فائدة في "صيد الخاطر" قال: "من رزقه الله -تعالى- العلم والنظر في سير السلف، رأى أن هذا العالم ظلمه، وجمهورهم على غير الجادة" يعني على غير الهدى والطريق المستقيم "والمخالطة لهم تضر ولا تنفع" [صيد الخاطر، ص: 349].
فالعجب لمن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق من المخالطة، فالمشكلة الآن الموجودة عند كثير من الناس أنهم يتساهلون في الجلوس مع الفسقة ومع قليلي الدين ومع أصحاب الأعمال السيئة التساهل في القضية، التساهل في الموضوع، فإن هو لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم، افترض أنه ما تشبه بهم ولا أخذ عنهم شيئاً، ما الذي سيحدث؟ على الأقل يفتر عن الأعمال الصالحة، لو ما صار مثلهم في الفسوق، وما صار مثلهم في الإجرام، ولا في الأعمال السيئة على الأقل، سيفتر عن الأعمال الصالحة؛ لأن البيئة والجو له تأثير ولا شك، وإنما ينبغي الكلام له، وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليستفاد منه، وهذه فيها فائدة؛ لأن بعض الناس يخالطون من هو أدنى منهم في كثير من الأحيان، ولا يحرصون أن يخالطوا من هو أعلى منهم، وكيف ترتقي أنت في المدارك والمدارج؟ وكيف ترتقي في المراتب إذا كنت لا تجالس من هو أعلى منك؟ إذا كان الإنسان دائماً يجلس مع من هو أدنى منه فإنه سينقص، فإذا جلس مع من هو أعلى منه يزيد، فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي إلا إذا كانت للتذكير والتأديب، فإن الإنسان يجلس مع من هو أقل منه من أهله وولده وبعض الأصحاب والجيران من أجل إفادتهم هم وأن يستفيدوا والأجر الدال على الخير كفاعله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، فأنت أحياناً تجلس مع من هو دونك.
لكن بأي غرض؟ بأي هدف؟ أن تعلمه وتؤدبه وتدعوه وتنصحه، لكن الأصل أن تسموا نفسك للجلوس مع من هو أعلى منك، وأعلم منك، وأفضل أخلاقاً منك، وأتقى منك، وأورع منك، فهذا الذي تستفيد منه، أما أن تجلس مع من هو دونك دائماً فأنت تنقص باستمرار، ولأجل خطورة رفيق السوء وصاحب السوء كان ﷺ يقول في دعائه ما يلي: اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء ومن ليلة السوء ومن ساعة السوء ومن صاحب السوء ومن جار السوء في دار المقامة .
ومن صاحب السوء، هذا الشاهد، كان ﷺ يستعيذ من صاحب السوء.
وتأمل اليوم في عصرنا، ما الذي جر النكبات على الناس إلا أهل السوء الذين يجلبون لهم الفواحش والمسكرات؟ مخدرات وخمور وخراب بيوت، وغالب الذين يخرجون من المخدرات ويعودون إليها لا يعودون إلا برفقاء السوء في الغالب.
وهؤلاء الآن صاروا عبئاً كبيراً في المجتمع، وصاروا شريحة لا يستهان بها، أصحاب الخمور والمخدرات والمسكرات هؤلاء أعداد كبيرة يتزايدون، كيف ينقل بعضهم إلى بعض المخدر؟ كيف ينقل بعضهم إلى بعض هذه المسكرات إلا بالمخالطة والمقارنة لهؤلاء؟ وقرين السوء قد ينقل أيضاً فواحش، فهو قد ينقل أفلاماً أو مجلات، ثم قد يدل على بيوت دعارة، وقد يعطي أرقاماً ونحو ذلك، أو يشجع على السفر معه إلى بلد كفر أو فجور وانحلال، قرين السوء يسرب أفكاراً مسمومة، قرين السوء يسرب كفراً أحياناً، هذا واحد كان يعطي صاحبه رواية كامل موسى وغيرها من الروايات التشكيكية التي تجعل الإنسان يكفر بكل شيء، ويشك في جميع الحقائق، وهذه مدرسة تهدم العقيدة من العلمانيات وتوزع روايات عبير وغيرها، ثم تتأثر إحدى الطالبات بها فتقول: أنا يهودية، وتستعمل بعض البنات للمخدرات بسببها، وتطلب من الطالبات كتابة مواضيع إنشائية عن الحرية.
أيها الإخوة عوداً إلى موضوعنا مصاحبة الصالحين، تكمن أهمية مصاحبة الصالحين وخطورة هذا الموضوع وحساسيته في منهج الإسلام في لم الشعث وتنظيم المسلمين، الإسلام يطلب تكثير سواد المسلمين، ورؤيتهم حشوداً متضاعفة وليسوا فرادى متقطعين، واعتزال الصالحين في المجتمع للمجتمع وعكوفهم يفوت فرائض إسلامية مهمة كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقارعة المنافقين بالحجة واللسان وإقامة الدليل والبرهان على من كفر وعلى من فسق وعلى من دخلت إليه الشبه، كيف سنصلح المجتمع إذا كنا بمعزل عنه؟ كيف ستقام الفرائض إذا لم ننتظم في مجتمعات إسلامية؟
إن مقولة: "أريد أن أكون مسلماً عادياً" من المقولات الخطيرة التي انتشرت بين كثير من الناس، يقولون لك: لا نريد أن تكلفنا فوق التكاليف الفردية، أنا أعرف الصلاة والزكاة والعبادات، أركان الإسلام وغيرها، أعرف المحرمات، أبتعد عنها، لا نريد أن ندخل في نشاطات إسلامية، لا نريد أن نكون في أوساط تعمل للدين.
هذا لب الموضوع الآن، موضوع مصاحبة الصالحين كانت تلك هي مقدمته، وصفات الصالحين وصفات الطالحين وخطورة قرناء السوء.
لكن الموضوع الذي نحن بصدده الآن موضوع مصاحبة الصالحين تكمن أهميته في أن الصالحين ينبغي عليهم أن يقوموا لله بالعمل والدعوة والتضحية والجهاد في سبيل الله .
وهذا القيام يقتضي من الصالحين أن يتكاتفوا ويتعاونوا ويتناصروا وأن ينتسبوا لهذه الملة، وأن يسلكوا في سبيل الله ، وأن ينتظموا في حقل هذا الدين.
إننا لا زلنا نعيش مهزلة اسمها: "أريد أن أكون مسلماً عادياً" نعيش تقصيراً أو قصوراً في فهم الدين من الناس الذين يقولون: نحن نريد أن نعيش أفراداً صالحين في المجتمع، لكنهم لا يريدون أن ينتظموا في سواد المسلمين الذين يعملون للإسلام فيكفرون هذا السواد، لا يريدون أن يتحركوا حركة بفاعلية، حركة جماعية تقتضيها طبيعة هذا الدين.
الوضع -أيها الإخوة- أخطر من أن يواجه بشكل فردي، وضع المسلمين الآن -يا جماعة يا أيها الأحباب يا أيها المستمعون- أخطر من أن يواجه بشكل فردي، الآن الخطر مدلهم ومحدق من كل جانب، وكل يوم ينفتح علينا باب جديد للشر، وثغرة جديدة للفساد، وكوننا نصر على أن نعيش فرادى لا رابط بيننا، ولا حركة فاعلة جماعية موجودة في أوساطنا هذا من قلة الفقه، قال الله: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الذين آمنوا.
فلماذا نصر على مبدأ الفردية التي أقل ما فيها الحرمان من البركة؟
نحن لا ندعو الناس ولا ندعو الشباب ولا ندعو أنفسنا أن يجتمع بعضنا مع بعض اجتماعات مؤانسة ومشابهة طباع؛ كما قال الله عن بعض المذمومين: مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [العنكبوت: 25].
نحن الآن لا نريد أن نجتمع اجتماعاً يود بعضنا بعضاً على منكر من المنكرات، ولا نريد أن نجتمع اجتماعاً يكون فيه نوع من مشابهة الطباع والميولات العاطفية، وهذا طبعه يشبه طبعي، وميولاته تشبه ميولاتي، لا ندعو أبداً إلى هذا.
ندعو إلى الاجتماع على منهج لا على عواطف، ندعو إلى الاجتماع على تحقيق الطريق لإقامة المجتمع الإسلامي وليس على مؤانسة شكل وتشابه طباع.
فالذي يفهم هذه الحقيقة فإنه سيتجه للعمل من زاوية أخرى لم يكن يحس بها من قبل.
كثير من الطيبين التزموا بالإسلام ظاهراً في السنن، سنن الفطرة، بعض سنن الفطرة، وابتعاد عن المنكرات، وقيام بالواجبات، وصلاة الجمعة والجماعة، وأشياء من الصدقات، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وزيارة المقابر، لكنهم لم يزالوا في مبدأ أمرهم في فهمهم للحركة الفاعلة التي يجب أن تكون لأتباع هذا الدين، عملية تضافر الجهود واتساق المجهودات المختلفة في بناء واحد، لبنة بعضها فوق بعض متماسكة، تتحرك بحركة منتظمة لنصرة الدين، هذا المعنى لا يزال مفقوداً ومغبشاً عليه كثيراً في عقول الكثيرين.
الاجتماع على طاعة الله، وليس الاجتماع على مؤانسة.
الاجتماع على المنهج، وليس الاجتماع لضياع أوقات وتلاقي أمزجة.
متى تتحول الاجتماعات من اجتماعات مؤانسة ومشاكلة طباع وتقارب أمزجة وميولات عاطفية؟ متى تتحول هذه المجتمعات إلى مجتمعات فاعلة منتظمة مخططة تعمل لنصرة الدين وتتتبع خطط الأعداء وترد عليها بالطريقة المناسبة وتدعو لهذا الدين وتتآزر في التربية والارتقاء بالنفس وتهيئ الأجواء لتنمية الصالحين واستقبال التائبين؟
هذه الأوساط إذا تكونت فاجتمعت على طاعة الله وتوحدت على نصرة شريعته وتآزرت على الجهاد في سبيله فإن هذه المصاحبة للصالحين تكون قد أخذت النمط المطلوب والاتجاه المراد لتحقيق التغيير: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11].
فوائد مصاحبة الصالحين
وإذا سألت -أيها الأخ المسلم- ما فائدة مصاحبة الصالحين بهذا المعنى الآن؟
المعنى الأشمل الأعمق الذي ركزنا عليه قبل قليل، ماذا تعني مصاحبة الصالحين الآن من هذا المنطلق ومن هذا المفهوم ومن هذا البعد؟
إنها تعني أموراً كثيرة جداً.
وأسرد لك أكثر من عشرين فائدة فيما يلي في ميزات ونتائج مصاحبة الصالحين:
تعلم العلم الشرعي
أولاً: تعلم العلم الشرعي: الإنسان بلا شيخ يضل وبلا موجه في طلب العلم يزل.
ومن الصعب أن نوجه الناس إلى الكتب ونقول: اقرؤوا بأنفسكم، وتعلموا كلٌ بمفرده، فإذا لم يكن لك شيخ أو طالب علم يوجهك على الأقل، إذا لم يوجد علماء تصاحبهم، فلا بد أن يكون للشيطان عليك مدخل في الطلب بهذا إذا تحمست للطلب أصلاً، فمصاحبة الصالحين تورث التحمس لطلب العلم. كشف الجهل، وإيجاد المنهج والسير عليه، ورأي الجماعة في الفهم أقرب إلى الصواب من رأي الواحد. والمساعدة على تعلم العلم الشرعي بوجود الحلق وأهل الحلق إلا مجموعة من الصالحين تتعلم معهم.
وجود الحلق العلمية التي تفتح لك السبيل لتعلم دين الله وللتفقه في شريعة رب العالمين، وللتبصر في سنة سيد المرسلين، معرفة معاني الآيات والأحاديث والأحكام الشرعية، معرفة الحق والباطل والحلال والحرام، تعلم العلم الشرعي.
الحماس للطاعات
ثانياً: الحماس للطاعات: أنت لوحدك تفتر وليس عندك من الدوافع ما يدفعك إلى المسارعة في أعمال الطاعات إلا الأشياء الذاتية، والأشياء الذاتية معرضة للبرود والفتور.
ومن أوجه الحماية من البرود والفتور في مسائل الطاعات: أن يكون الإنسان محاطاً بجو من الصالحين يخالطهم ويصاحبهم، فإذا رأى صيام الصائمين تحمس، وإذا رأى قيام القائمين اندفع، وإذا رأى تلاوة التالين للذكر الحكيم أقبل على كتاب الله ليقوم بحقه.
التعاون في الدعوة إلى الله
ثالثاً: التعاون في الدعوة إلى الله : فإنه من المعلوم أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى مجهودات جماعية.
وهذا العصر الذي نعيش فيه من تشابك وسائل الفساد والمنكر وتضافر جهود المفسدين في الأرض لتخريب أجيال المسلمين لا شك أنها تحتاج إلى جهود جماعية مقابلة لها.
وأما بعثرة جهود فردية فإنها لا تؤتي الثمار المطلوبة.
كيف تتعلم فن الدعوة إلا في أوساط الصالحين، إلا في مصاحبة الدعاة الصالحين، ثم تنطلق داعية تعاون وتؤازر في دعوتك.
الحماية من الانحراف
رابعاً: الحماية من الانحراف:
لولا الصالحون لهمت في الأسواق ترمي أرقاماً وتلتقط أرقاماً بمعاكسات ومغازلات، أليس ذلك صحيحاً؟
لولا الصالحون لعكفت على الأفلام تستقبل فيلماً جديداً وترجع فيلماً قديماً وتتبادل وتستأجر وتشتري من الناس والمحلات.
لولا الصالحون لتعرضت لأنواع من الانحرافات الفكرية والسلوكية وكنت منطلقاً في الشهوات بغير حدود ومنغمساً في أوحال المعاصي والرذائل وتائهاً في محيط الانحرافات الفكرية تتخطفك المذاهب العقلانية تارة والجبرية تارة والقدرية تارة وأفكار الخوارج تارة والعلمانيين تارة، وتصبح نهباً لكل طامع من الحداثيين وغيرهم من أهل الشر.
هذه انحرافات كفرية.
فجو الصالحين يوفر لك الحماية من الانحرافات الفكرية.
هناك كثير من الناس عندهم انحرافات فكرية خطيرة، فكرية يعني عقدية انعكست على أفكارهم بسبب افتقادهم لأجواء الصالحين، لا يعيشون في أجواء الصالحين، ناس يعيشون تحت مطارق الجبر يتبعون مذهب الجبرية ويعتقدون به وهم في هذا القرن، لماذا؟
لأنهم وقعوا فيما حذر منه ﷺ بقوله: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية [رواه أبو داود: 547، وأحمد: 21710، والحاكم في المستدرك: 765، ]كانوا أقصى الناس عن محيط الطيبين وعن مصاحبة الصالحين ولذلك نهبوا فعلاً، صاروا نهباً للأعداء.
أتساءل أحياناً وأنا أسمع إلى الرسائل الموجهة من الناس إلى برنامج معين مثلاً في إذاعة لندن، ناس كثيرون يوجهون أسئلة، وأولئك الأعداء يكونون لجاناً، ويخصصون أشخاصاً للمتابعة، ويعلنون عن صناديق البريد، ويطلبون من الناس مكاتبتهم لاستقطاب الناس، لاستقطاب العقول، هذه حرب نعيشها، حرب من أهل الباطل نعيشها، والناس يكتبون لهم، وتجد في بعض الرسائل والعناوين، ما هو فقط عناوين مدن، وإنما عناوين قرى تأتي أهلها الموجات الإذاعية يطلبون من الناس الكتابة.
ولا أسعد على هذا الجاهل من ظهور اسمه في المذياع والإذاعة، وخصوصاً إذا كانت إذاعة خارجية، فيحس بالانتشاء، وبأنه صار مشهوراً، وبأنه قد التفت إليه وكان مفقوداً ضائع الهوية في مجتمع المسلمين.
فأقول: هؤلاء الناس الذين يكاتبون البرامج المختلفة في الإذاعات الأجنبية الكفرية ولو كانوا يتسمون بأسماء أو يأتون بمذيعين عرب، لكن الحقيقة هي دعوة انحلال وإلحاد وكفر.
والغريب أن هؤلاء يتجهون بأسئلة أحياناً دافعها الإخلاص وهي عبارة عن استفتاءات شرعية، فيستفتون إذاعة لندن في حكم مصافحة المرأة الأجنبية وسماع الأغاني وأخذ الفوائد من البنوك والتأمين التجاري، ونحو ذلك، وأولئك المجرمون لا يتوانون في انتقاء بعض الذين يدرسون أو يدرسون في جامعات بلاد الكفر أو الذين ينعقون بتيارات التغريب في مجتمعاتنا ليجيبوا على الأسئلة إجابات عوجاء ومشوهة، وهي في الحقيقة ليست من الإسلام بشيء.
هؤلاء الناس سبب أصيل وأصلي من أسباب المشكلة التي يعيشونها والتي دعتهم للالتجاء إلى هؤلاء المنحرفين والكفار أنهم لا يتنعمون بأوساط صالحين يعيشون بينهم، ليس هناك بيئات إسلامية تحتضنهم، ليس هناك محاضن إسلامية تتبناهم، ليس هناك مجموعات إسلامية تنتشلهم من الأوحال التي يعيشون فيها وبالذات أوحال الجهل، ولو أنهم رزقوا محيطات إسلامية لما خرجوا إلى الخارج يبحثون عن الحل في ذلك السراب يحسبه الجاهل ماء، يحسبه الناظر ماء، وهو سراب بقيعة.
أليس من المسؤولية الملقاة على عاتقنا أن يتخطف أبناء الإسلام ويجتذبون إلى تلك الدوائر المشبوهة ولا تكون هناك دوائر إسلامية تحتضنهم وتساعدهم وتجيب على أسئلتهم؟
فالخلاصة: أن مصاحبة الصالحين هي وسيلة مهمة جداً للحماية من أنواع الانحراف الفكري والسلوكي.
مصاحبة الصالحين وسيلة لاكتساب الأخلاق الحميدة
خامساً: مصاحبة الصالحين وسيلة لاكتساب الأخلاق الحميدة، وأحياناً تكون هذه الأخلاق لا يمكن اكتسابها إلا في أوساط الصالحين، الأوساط الجماعية التي يعيش فيها الصالحون، خذ مثلاً: الإيثار والتضحية، كيف تتعلم الإيثار وتتعلم التضحية إذا عشت لوحدك؟
وقل مثل ذلك في المصابرة.
مصاحبة الصالحين وسيلة لتنمية المهارات
سادساً: تنمية المهارات: إننا إذا نظرنا إلى المحيطات التي يعيش فيها الصالحون لوجدت هناك نماء في المهارات الكتابية والخطابية والبحث ومنهج البحث، ووجدت حتى في قضية التعامل والتعارف وخدمة الآخرين، هذه مهارات مكتسبة، تكتسب من أين؟ تكتسب من العيش في محيط الصالحين، تكتسب من مصاحبة الصالحين.
تكامل الشخصية الإسلامية
سابعاً: تكامل الشخصية الإسلامية: الشخصية الإسلامية فيها جانب فكري وجانب عقدي، جانب أخلاقي، وجانب سلوكي تعاملي، جانب إيماني، جانب علمي، جانب عاطفي، فيها جوانب كثيرة، كيف توجه هذه الجوانب؟ كيف تكمل هذه الشخصية؟
بعض الناس يعيشون ضموراً في شخصياتهم.
بعض الناس عندهم طاقات ومواهب لا يعرفونها من أنفسهم، لا يمكن أن يكتشفوها إلا إذا عاشوا في أوساط الطيبين والصالحين.
طبعاً يمكن لقائل أن يقول: إن الذي يعيش في أوساط أهل الشر تنمو طاقاته؟
وهذا صحيح، كثير من أهل الشر، كثير من المفسدين احتضنهم أهل الشر، احتضنوهم، درسوهم، أنفقوا عليهم، ابتعثوهم ودرسوهم على حسابهم، ولكن انتقوا لهم معاهد وجامعات، انتقوا لهم أوساطاً، انتقوا لهم أساتذة أيضاً، وحولوهم على أناس معينين، فجاءت النتائج شجرة خبيثة ونمت لهم طاقات، ولكن مدارها على الإجرام وإضلال الخلق.
ولذلك نحن إذا أقمنا أوساط الصالحين واعتنينا بها فانتسب الناس إليها انتساب تربية وليس انتساب تحزب وتعصب.
طبعاً هذا مفهوم من الكلام، فإننا ليس فقط ننمي طاقات الطيبين، وإنما نحمي طاقات الناس أن تتجه وتتشكل سهام في ظهور المسلمين.
العون على الدنيا
ثامناً: العون على الدنيا: تكاليف الدنيا في هذا العصر شاقة، حتى قضايا الماديات، وقضايا أين تزور زوجتك؟ أين تذهب؟ إلى أين؟
الزوجة لا بد لها من بيوت تزورها ويزورونها، نساء لا بد لهن من وسط، أولادك من يخالطون؟
التعاون حتى في الدلالة على البضائع والأشياء الرخيصة والجيدة والبحث.
لو أردت تبحث حتى عن زوجة، والزوجة من متاع الدنيا، الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة.
البحث عن زوجة، لو أن عندك أناساً صالحين لتيسرت لك الأمور.
إذا أردت أن تقترض، الناس الآن يعيشون مشكلة ديون وأزمة سلف واقتراض، وكثير منهم يلجئون إلى البنوك الربوية، لماذا؟ يقول: ما عندي أحد يسلفني، لو أن هناك لأهل الخير جمعيات ما احتاج هذا أن يذهب إلى البنك الربوي وأن يتسبب في لعن نفسه، لعن الله آكل الربا وموكله ، وهو يأكل الربا؛ لأنه يعطي البنك فهو مغذي وهو يدفع الربا، كلهم ملعونون، الآخذ والمعطي سواء.
كان يمكن أن يوجد هناك أشكال من التعاون تسد حاجة المحتاج، تسد حاجة المحتاج وخلة الفقير. الشفاعة الحسنة، الشفاعة الحسنة في وظيفة، في أي شيء تحتاج فيه شفاعة حسنة معرفة وواسطة خير واسطة خير، كثير من الأحيان تتوفر عبر وجود الإنسان في وسط أهل الصلاح؛ لأن الناس الآخرين إما يريد مالاً مقابلها أو يريد منفعة، ما يخدمك لوجه الله، أول شيء يحسبها ما مصلحتي من التوسط لفلان؟ أول شيء ما مصلحتي؟
أما صاحب الخير معروفة مصلحته، مصلحته معروفة، من استطاع أن ينفع أخاه بشيء فلينفع.
معروفة المصلحة عند الله رب العالمين، فهو يرجو من الله، حتى الاستعارة، حتى استعارة الأواني واستعارة الأشياء، عندما يوجد هناك مجتمعات طيبة، أشياء كثيرة من أمور الزواج تتيسر.
الاستعارة قائمة وموجودة، استعارة كتب حتى كتب العلم، استعارة الأشياء عموماً.
النصرة في الحق والحماية والمؤازرة والدفاع
تاسعاً: النصرة في الحق والحماية والمؤازرة والدفاع: أنت إذا أردت أن تنكر المنكر تتعرض لأذى أهل الباطل، والناس الآن إذا وجدوا في شريعة غاب القوي يأكل الضعيف، لو لم يكن لك ظهر أو مؤازر أو أناس يقفون معك تبتلع وتؤكل وتذهب كشربة ماء، ووجود الإنسان في وسط الطيبين يحميه، يحميه من أشياء كثيرة، موسى بسبب وجود إنسان، إنسان فيه خير، قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20]، وذلك النبي قال له قومه: وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود: 91].
إذاً، وجود الإنسان في بيئة خير، في وسط قوم صالحين يقويه ويغذيه ويسنده ويؤازره، هذه وسيلة حماية ودفاع.
ونحن الآن نعيش في هذا الجو في هذه الدنيا، والمسلم الآمر الناهي عرضة للأذى، وإذا لم يوجد له نصراء مساندين من الناس يؤكل.
النجاة من اليأس
عاشراً: النجاة من اليأس: إن الواقع الذي يشهد ضعفاً للمسلمين وهيمنة للكفار ويوماً بعد يوم تسمع نوعاً جديداً من التسلط من قبل أعداء الله، نوع جديد من التسلط يبعث يأساً في النفوس ويقول الإنسان في نفسه: متى ينتصر الإسلام؟ إنهم يهيمنون شيئاً فشيئاً ويقوون أنفسهم شيئاً فشيئاً ويسيطرون علينا شيئاً فشيئاً ويأكلوننا ويقطعوننا شيئاً فشيئاً، متى ننتصر؟
هذا اليأس ينبغي ألا يدخل ويتسلل إلى النفس فما هي الطريقة، أنت لوحدك إذا قرأت الأرقام التي تصرفها الكنيسة لوحدك تصاب بنوع من اليأس والاحباط، تقول: ما عندنا عشر معشار هذه الأشياء، وأنت لو قرأت أخبار هيمنة الكفار أو أنواع العتاد العسكري الذي يملكونه تصاب أيضاً بنوع من اليأس، لكن الإنسان عندما يكون محاطاً بأهل خير يوعونه ويقولون له: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196 - 197] ماذا يحصل له؟
الذين يقولون له: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249].
الذين يوعون بأن الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36].
نعم، يصدون عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
الرأي السديد وسهولة الاستشارة
الحادي عشر: الرأي السديد وسهولة الاستشارة: إنك إذا كنت مصاحباً للصالحين، فإنك ستحتاج وليس هناك أحد لا يحتاج إلى رأي سديد، استشارة خالصة سديدة صحيحة في زواج، في بيع، في شراء، في أشياء كثيرة، في وظيفة، في انتقال من مكان إلى مكان، في انتقاء جامعة، كلية، معهد، مدرسة، في شراء كتاب، في أي شيء، يحتاج إلى رأي، من الذي يدله؟ وأين يجد الرأي؟ من الذي يشير عليه؟ أين يجد الاستشارة الصادقة؟ العالم المادي الآن يأخذون أجرة على الاستشارة، هذا مكتب استشاري، يستشيرونه بفلوس، يعطيهم الرأي بنقود، وأنت تجدها مجاناً من أهل الخير، أنت تجدها بالمجان بلا ثمن بلا مقابل، رأي وسديد أو مجموعة آراء تعطيك تغذية في المجال الذي تريد فيه المشروع.
ارتفاع المعنويات
والثاني عشر: ارتفاع المعنويات: المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، أنت لوحدك إذا أردت أن تجابه من أصعب الأمور، لكن إذا كان معك إخوانك ارتفعت همتك وزادت معنوياتك تحس أنك لست لوحدك، ارتفاع المعنويات مهم، مهم جداً، وهو عكس اليأس الذي ذكرناه قبل قليل.
التخلص من المعاصي
والثالث عشر: التخلص من المعاصي: عندك معاصٍ ودخلت في وسط قوم صالحين، احترام المجلس وتوقير المجموعة يفرض عليك التخلي عن المعاصي، اجتماعهم على الصلاح وأنت الشاذ بينهم يشعرك بوحشة تفرض عليك أن تتخلص من هذه المعصية لتكون معهم في الطهر والنقاء والبراءة من الدنس وأوحال المعصية ونزغات الشيطان.
كم من الناس تخلصوا من معاصٍ بسبب دخولهم في وسط طيب.
كم من الناس لما خالطوا الصالحين ترك الموسيقى والتدخين والعلاقات مع النساء الأجنبيات، كيف تركوها؟ إن دخولهم فرض عليهم أن يتطبعوا بطباع الوسط الجديد.
إن دخولهم فرض عليهم أن يتخلوا عن ألبسة الجاهلية وأرديتها الردية.
إن دخولهم زكى أنفسهم.
إن دخولهم أوجد معانٍ سامية لا يمكن أن يقارنها ارتكاب معاصٍ ورذائل وسفاسف مثل هذه.
التخلص من العادات السيئة والسلبيات الشخصية
الرابع عشر: التخلص من العادات السيئة: العادات السيئة والسلبيات الشخصية، فيه ناس عندهم خوف، تردد، تهور، جزع، إلخ..، هذه العادات كيف يتم التخلص منها؟
بمخالطة أقوام إذا خفت شجعوك، وإذا تهورت سكنوك، وإذا ترددت ثبتوك وجرءوك، وإذا جزعت صبروك. هؤلاء الأشخاص هؤلاء الصالحون هم المرآة التي ترى بها نفسك، والمؤمن مرآة أخيه، فأنت ترى عيوبك بواسطتهم وتغير بناء على تسديدهم وتوجيههم.
البركة
الخامس عشر: البركة: قال رسول الله ﷺ: البركة في ثلاث: الجماعة، والثريد، والسحور [رواه الطبراني في الكبير: 6127].
البركة التي تتضمن معنى النماء والزيادة والمضاعفة والتكثير، واختصار الوقت، وعمل مهمات كثيرة في وقت قصير، هذه كلها تدخل في البركة.
البركة مع الجماعة، مع الوسط الطيب الصالح.
مصاحبة الصالحين بركة، بركة في العمر، بركة في الوقت، بركة في المال، بركة في الجهد، تعطيك أشياء لا حدود لها.
البركة في ثلاث: الجماعة، والثريد، والسحور.
الجماعة، يد الله مع الجماعة، لو كنت في مكان ما في إلا قلة من الصالحين فكنت معهم هؤلاء جماعة، أنت تحصل يومياً على أنواع من البركة بمخالطتك لهم.
تحصيل الأجر بالمصاحبة
السادس عشر: تحصيل الأجر بالمصاحبة: أنت إذا أطعت رسول الله لما قال لك: لا تصحب إلا مؤمناً [رواه أحمد: 11337، وإسناده حسن]، ألست تؤجر؟ ألست تؤجر على هذه المصاحبة؟ أليس فيها حسنات؟ أي نفع أعظم من هذا؟
إذاً، مصاحبة الصالحين تشتمل على كل هذه الفوائد.
حفظ الوقت والعمر من الإهدار
السابع عشر: حفظ الوقت والعمر من الإهدار: إذا حسنت الصحبة إذا ما صارت الصحبة عبارة عن مؤانسة طبع وميول عاطفية وتشاكل أو تجمع على مشاكلة في الأهواء والأمزجة.
إذا حسنت الصحبة ففيها حماية من إهدار الوقت والعمر؛ لأن جهودك تتركز، لأن الجهود تتركز وتنصب في المجرى الصحيح، ولا تضيع منك هدراً، هناك من ينصح، هناك من يعلم، هناك من يرشد ويسدد ويوجه، هناك من يقول لك: أنت الآن تهدر وقتك، كف عن هذا، من يدلك على طريقة تختصر بها الوقت.
ذكر الله -سبحانه وتعالى-
الثامن عشر: ذكر الله : "أولياء الله تعالى الذين إذا رؤوا ذكر الله".
لو ما في الصالحين إلا أنك إذا رأيتهم ذكرت الله يكفي، كان القعنبي -رحمه الله- إذا دخل، إذا مر بمجلس فرأوه قالوا: لا إله إلا الله، أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله كما قال ﷺ، أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله .
بعض السلف كان عندهم هذه الخاصية، إذا خرج على الناس مما يرى في وجهه من تلألؤ النور والإيمان والبشاشة والضياء في وجهه من آثار الحسنات، قيل: لا إله إلا الله، إذا رؤوا، مجرد الرؤية تذكرك الله.
الإخوان زينة في الرخاء وعدة في البلاء
التاسع عشر: هؤلاء الإخوان زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وهم خير معين على تخفيف الهموم والغموم، ولا سيما إذا ألمت بك الخطوب، وضاقت بك الدروب، وأعيتك المسالك، خرج ابن مسعود مرة على أصحابه فقال: "أنتم جلاء حَزَنِي"[روضة العقلاء، ص: 92].
وقال أكثم: "لقاء الأحبة مسلاة للهموم"[الآداب الشرعية: 3/ 606].
إذا وقعت في دين، في نكبة، في مصيبة، خففوا الأحزان، إذا مات لك قريب أو حبيب وجدت من يعزيك، ليس عزاء تجاري، وإنما عزاء حقيقي.
بركة المجالس والخير الذي يعم
العشرون: بركة المجالس والخير الذي يعم وإن كنت غير بالغ مبلغهم في العلم، ألم يقل الله للملائكة لما قالوا له: فيهم فلان ليس منهم، قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [رواه مسلم: 2689].
قال رسول الله ﷺ: ما جلس قوم يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء قوموا مغفوراً لكم.
ما جلس قوم يذكرون إلا ناداهم مناد من السماء قوموا مغفوراً لكم.
ما يقومون من مجالسهم إلا مغفوراً لهم.
إذا حسنت النية وعظم الإخلاص وانتقيت المجالس وابتغي بها وجه الله، ما يقومون إلا وهم مغفور لهم، فأي فائدة أعظم وأجل؟
مصاحبة الصالحين تعرفك بصالحين آخرين
الحادي والعشرين: مصاحبتك للصالحين تعرفك بصالحين آخرين، فتنتفع بهم وتتوسع دائرة معارفك، وتجد مجالات أكثر للالتقاء والأخذ والاستفادة.
كم من شخص تعرف على واحد من الصالحين فبطريقه تعرف على أفواج، وبواسطته دل على أناس كثيرين من أهل الخير.
التواضع الذي يصيبك لرؤية علمهم وصلاحهم
الثاني والعشرون: التواضع الذي يصيبك لرؤية علمهم وصلاحهم، والسعي للتشبه بهم في دينهم وتقواهم، ثم التنافس معهم في الصالحات، التنافس هذا الجو الجماعي يشعل التنافس، يذكي روح التسابق في الخيرات والمسارعة في وعمل الخير.
مصاحبة الصالحين سبب للدخول في معشر الآمنين يوم الفزع
الثالث والعشرون: أن مصاحبة الصالحين سبب للدخول في معشر الآمنين يوم الفزع:الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ[الزخرف: 68 - 67].
الانتفاع بدعاء الصالحين بظهر الغيب
الثالث والعشرون: الانتفاع بدعائهم بظهر الغيب: ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة.
نيل محبة الله بمصاحبة الصالحين
والرابع والعشرون: سبب محبة الله لك إذا صاحبت الصالحين: ألم يقل رسوله ﷺ في حديثه القدسي: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في [رواه أحمد: 22030، وقال محققو المسند: "حديث صحيح"]، فهؤلاء المتحابين المتجالسين المتزاورين المتباذلين يحبهم الله.
ثم إنهم أخيراً سبب للنجاة يوم القيامة، قال ﷺ: المرء مع من أحب [رواه البخاري: 6169 ومسلم: 2640].
الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ ما عمل مثلهم، ليس على مستواهم في الأعمال الصالحة، عبادته أقل، علمه أقل، حماسه للخير أقل، لكن المرء مع من أحب، الأعرابي سأل الرسول ﷺ قال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ يرى أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وغيرهم وسعد وأبا عبيدة، يرى عظماء المسلمين وعلى رأسهم رسول الله ﷺ، لكن الأعرابي يعرف أنه دونهم في العبادة والتقوى والعلم والجهاد والبصيرة، فأراد أن يطمئن على مستقبله إذا هو أكمل المشوار وسار إلى نهاية الطريق، ما هي العقبى؟ قال له ﷺ: ((المرء مع من أحب))، ما فرح الصحابة بشيء فرحهم بتلك البشرى المرء مع من أحب تحشر معهم، وتنجو معهم، وتأمن معهم، وتدخل الجنة معهم، فماذا تريد؟
ثم اعلم -رحمك الله تعالى- أن هؤلاء الصالحين لهم حقوق، وليس المجال الآن لذكر حقوقهم، فهذه قضية أخرى، وتحتاج إلى محاضرة أخرى، لكن أنت تخالط بالمعروف، وتزور تزور، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ، طرفي النهار: بكرة وعشية" [رواه البخاري: 6079].
ماذا عنون عليه الإمام البخاري -رحمه الله-؟ "باب هل يزور صاحبه كل يوم بكرة وعشياً"[صحيح البخاري: 8/21].
طبعاً هذه قضية تعتمد على ظروف الشخص وظروفك أنت أيضاً، أو تعتمد على ظروفك وظروفه والإمكانات والوقت والدوام والأسرة والمشاغل، لكن لا بد من التزاور، تزورهم وتكون معهم.
من هم هؤلاء الصالحون؟
لقد بينا سابقاً صفات هؤلاء في محاضرة ماضية، ومنها:
إنهم أصحاب سنة لا أصحاب بدعة.
إنهم أصحاب علم لا أصحاب جهل.
إنهم أصحاب خلق لا أصحاب بذاءة.
إنهم أصحاب دعوة ونشاط وهمة في خدمة الإسلام وليسوا أصحاب كسل وخمول واجتماع على سفاسف وعلى عواطف وعلى ضياع وقت وإهدار أعمار ونوم عن خدمة الإسلام، وصفاتهم كثيرة، لكن هذه منها. ما هي مظان وجودهم؟ أين يوجدون؟
في أماكن كثيرة، لا يخلو منهم عصر أو مصر ولله الحمد، لكنهم يقلون في مكان ويكثرون في آخر، ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
ومن مظان وجودهم: المساجد.
المساجد مظنة وجود الصالحين، أين تبحث عنهم؟ تدق بيوت الناس؟ صعب، تبحث عنهم في المساجد، وتتفطن من المساجد منهم هؤلاء أهل الصلاح لتخالطهم لتتعرف عليهم، الوسيلة والمفتاح من المسجد تكون الانطلاقة.
فإن قلت: إنني أكون في مكان أو بلد أبتعث، أكون في ديرة أو قرية ليس فيها من هؤلاء النوعية؟ من هذه النوعية التي تتكلم عنهم، أو يكون الإنسان في زمن فتنة فماذا يفعل؟
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: كان الرجل في بداية الزمان، هذا معنى الكلام، إذا أظلم قلبه، أو مرض لبه قصد زيارة بعض الصالحين فانجلى عن نفسه ما أظلم منه.
أما اليوم تغيرت الأحوال، هذا يتكلم عن يومه هو، فكيف لو رأى يومنا نحن، قال: فإذا الكلام إذا عدم الرجل أهل خير، عدم أهل الصلاح ما وجدهم، ماذا يفعل؟
وكلام وكتاب العزلة للخطابي -رحمه الله- مؤسس على هذا الحالات التي تكون فيها العزلة مشروعة وشرعية ومفيدة ومطلوبة، قال: فالأولى للرجل اليوم أن لا يزور إلا المقابر، ولا يفاوض إلا الكتب التي قد حوت محاسن القوم، وليستعن بالله -تعالى- على التوفيق، فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته، وإن غلبت عليه العبادة زاد في اجتهاده، وليجعل خلوته وأنيسه النظر في سير السلف.
إن لم تجد أصحاباً خالط كتب العلماء، وإذا لم تجد صالحاً تزوره فزر المقبرة.
وختاماً: فنقول: لولا الصالحون كما نبه هذا الأخ لولا الصالحون لعشنا بشر، وصارت عيشتنا منغصة، وصار وضعنا في غاية الضنك والشدة.
فإذاً، وجود الصالحين نعمة من الله، فكيف نشكر النعمة إلا بملازمتهم ومجالستهم ومؤاخاتهم وخدمتهم والتعلم منهم والاقتداء بهم، وتكفر نعمة الصالحين بهجرانهم والتكلم فيهم والتثريب عليهم وقطع العلاقات معهم وإهمال حقوقهم وتضييعها وعدم الاستفادة منهم ولا الأخذ عنهم ولا التأثر بهم.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين يحرصون على مصاحبة الصالحين.
اللهم اجعل إخواننا من أهل طاعتك، وارزقنا برهم وصلتهم يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا صحبتهم في الدنيا والآخرة، واجعلنا ممن يستمع قولهم فيتبع أحسنه، وممن يتأثر بهديهم ويقتدي بهم.
اللهم رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].
ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتحابين فيه المتزاورين فيه والمتباذلين فيه والمتصاحبين فيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأرجو من إخواني التسديد والدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.