أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أثر التحفيز والتشجيع على النفس
في ظل ما نعيشه من الأحداث المفجعة والأزمات الموجعة والصراع العالمي بين الإسلام والكفر، وهذا الزمن الذي عم فيه كثير من اليأس والقنوط على المسلمين، وخيم على قلوب كثير منهم الإحباط، وأطبق على أفئدتهم؛ ألا يجدر أن تتحدث الأقلام عن أهمية صناعة الأجيال، وتربية الأبطال، وإبراز المواهب، وصقل النفوس، لتتربى على الإيمان، والعمل والبناء، وتحقيق المشروعات العظيمة لنهضة هذه الأمة؟
فانهض، فقد طلع الصباح، ولاح مُحْمَرُّ الأديم، تبلد في الناس حب الكفاح، ومالوا لكسب وعيش رتيب، يكاد يزعزع من همتي سدور الأمين وعزم المريب.
أنت، من حولك، إخوانك وزوجتك وأبناؤك وطلابك، وأنت بحاجة إلى أن تجعل من الجميع أفراداً نافعين، وأنت تعمل ما يمكن عمله في نفوسهم للتميز والإبداع.
إن التحفيز والتشجيع اليوم في ظل الخمول الموجود وما تحتاجه الأمة من العمل الكثير أمر مهم جداً.
إنها معرفة كاشفة، وبصيرة نافذة، وقدرة واعية؛ لتربية الإبداع والتميز في النفوس.
وهذا الترشيد اللازم لكي تقبل على الطاعة والعبادة وعلى الجهاد والعلم والدعوة، وعلى الصبر على الأذى، وعلى تربية النفس والآخرين.
وربما كلمة طيبة صادقة، وابتسامة رقيقة تصنع الأعاجيب: لقد أصبحت رجلاً يا بني! هذا ما كنت أوده منك! تلك هدية! وهذه شهادة تقدير!
إن التحفيز والتشجيع عامل عظيم اليوم في عملية التعليم.
لقد أثمر نتائج عجيبة.
لقد كانت هذه الأعطيات وهذه الهبات وهذا التمكين والتقريب مما جمع عزم سحرة فرعون على مناصرته على الباطل: فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 41 - 42].
فما الذي حفزهم على المواجهة أمام موسى ؟
إنه وعدهم بأجر عظيم لهم، وأن يقربهم ويدخلهم في خاصته إذا انتصروا على موسى . تلك الدفعة النفسية المعنوية التي تعطيها للشخص لكي يقوم بقول أو عمل أو مهمة سلوك نحو الأفضل أو استمرار في النجاح.
لو قيل لك: إن هذا العمل الذي تقوم به لك عليه جائزة كبيرة، فإنك ستتحمس.
وهذه القضية موجودة في ديننا بشكل واضح.
وقد حفز الله نفوس المؤمنين للعمل بما أعطاهم من الأجر والثواب، فترى النصوص الكثيرة في الوعد بجنات النعيم وما في الآخرة من الفضل الجزيل، هذا الذي يجعل المؤمنين يتحمسون.
إن الذين درسوا علم النفس قد وصلوا في نهاية الأمر إلى أن التحفيز مفتاح مهم لتغيير سلوك الإنسان نحو المطلوب، وأنه لو لم تكن هناك رغبة داخلية فإن هذه الرغبة يمكن إنشاؤها بعوامل التحفيز المختلفة.
ومن هنا كان لابد أن يكون في الأمة من الماهرين والماهرات من يحسن هذه العمل.
وإذا كانت الشركات قد أخذت بمبادئ التحفيز الإداري من عمل الزيادات والمكافآت والشهادات والتقدير وحفلات التكريم والثناء، وإبراز أسماء المتفوقين في الأعمال، فما بالنا نحن اليوم في أعمال الدعوة والعلم؟
إننا نحتاج إليها أكثر؛ لأن الغاية أنبل، والهدف أسمى.
إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه.
وهناك في المسلمين من عنده قدرات طيبة في مجال القيادة والأخذ باليد، فهؤلاء الذين يقودون لابد لهم من استصحاب هذا الدافع المهم للنفوس في العمل.
الحوافز الدينية والدنيوية في القرآن
إن القرآن الكريم استعمل في دفع النفوس للأعمال الحوافز الدينية الأخروية والدنيوية الطيبة، وقال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [الأعراف: 96].
بل إنه كان في دعوة الأنبياء مرغبات لا تقتصر على الآخرة، بل تعم الدنيا اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12].
فماذا يريدون أكثر من هذا؟
وإذا كانت الحوافز الأخروية هي الأساس في نفس المسلم، وهذه الأشياء الدنيوية مثل أن ينسأ له في أثره، وأن يوسع له في رزقه، وأن يعمر له في داره تأتي تبعاً، فلا بد أن نربى على هذا، لابد أن نتربى على هذا، فمثلاً: وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار [رواه أحمد: 25259، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
وكذلك: من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه [رواه البخاري: 2067 ومسلم: 2557] هذه المحفزات في الدنيا على العمل الصالح ليست هي السابقة في نفوسنا؛ لأن حديث: من وصلك وصلته [رواه البخاري: 5988] يطغى عندنا ويزيد على هذه الأمور الدنيوية، ولكن الكل يعمل عمله في النفوس.
أيها الإخوة: إننا نحتاج كثيراً إلى تذكر نصوص الرجال وما أعد الله للمؤمنين يوم القيامة، نحن نعلم ثقل الشهوات والمحبوبات والمرغوبات المطلوبات النفسية، ولكن هذا لا يعني بأن نقتصر عليها، لقد قال : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14]، لكنه قال لنا: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 15].
إن النبي ﷺ ذكر لأصحابه أنواعاً من الخير في الآخرة ليجتهدوا، عن عبد الرحمن بن ساعدة قال: كنت أحب الخيل؟ فقلت: يا رسول الله هل في الجنة خيل؟ فقال: إن أدخلك الله الجنة يا عبد الرحمن كان لك فيها فرس من ياقوت له جناحان يطير بك حيث شئت قال الهيثمي: "رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [رواه الترمذي: 2544، وأحمد: 22982، وحصنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3755].
وعن أنس قال رسول الله ﷺ: إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة قال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة؟ قال ﷺ: أكلتها أنعم منها قالها ثلاثاً، وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها وجود إسناده المنذري وحسنه الألباني [رواه أحمد: 13311، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3740].
والنبي ﷺ قال لهم في صلاة الكسوف لما تكعكع إلى الخلف: إني أريت الجنة فتناولت منها عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا متفق عليه [رواه البخاري: 1052 ومسلم: 907].
كان الأعراب يأتون إلى النبي ﷺ فكان يذكرهم بنعيم الجنة ويخاطبهم بمخاطبات متعددة في أمور يعرفونها، يربط لهم بين النعيم الديني وما يعرفونه، يربط لهم بين النعيم الأخروي وما يعرفونه في الدنيا؛ فعن عتبة بن عبد قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ، فقال: ما حوضك الذي تحدث عنه؟ فذكر الحديث، وفيه فقال الأعرابي: يا رسول الله فيها فاكهة؟ يعني الجنة، قال: نعم، وفيها شجرة تدعى طوبى، وهي تطابق الفردوس فقال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليس تشبه شيئاً من شجر أرضك، ولكن أتيت الشام؟ قال: لا، يا رسول الله، قال: فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال: فما عظم أهلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك لما قطعتها ما قطعت عرض الشجرة هذه في الجنة، حتى تنكسر ترقوتها هرماً، لو انكسرت ترقوة هذه الناقة من الهرم وهي تسير ما قطعت هذه المسافة، قال: فيها عنب؟ قال: ((نعم))، قال: فما عظم العنقود منها؟ قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يقع ولا ينثني ولا يفتر قال: فما عظم الحبة منه؟ قال: هل ذبح أبوك تيساً من غنمه عظيماً فسلخ إهابه؟ يعني جلده فأعطاه أمك، فقال: ادبغي هذا، ثم افري لنا منه ذنوباً؟ يعني اصنعي لنا دلواً من هذا الجلد؟ ((يروي ماشيتنا)) قال الأعرابي: نعم، فعلاً قد حصل هذا بين أبي وأمي، قال: "فإن تلك الحبة تشبعني وأهل بيتي" قال النبي ﷺ وعامة عشيرتك [رواه أحمد: 17642 والطبراني في الأوسط: 402، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 3729].
لقد كان النبي ﷺ يذكر أصحابه ويحفز نفوسهم إلى أمور، بعضها ثقيلة على النفوس مثل إعالة البنات، لكنه يقول: من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه [رواه مسلم: 2631].
كان القرض صعباً ويقول الناس: ما قيمة الصبر على رد المال؟ أين قيمة الزمن الذي نصبر فيه؟
فتأتي الآيات والأحاديث في فضل القرض لكي تشجع الناس على الإقراض والصبر على المقترض.
كان الخمر منتشراً في الجاهلية، فجاءت أنهار من الخمر ذكرت في القرآن لأهل الجنة عوضاً على الصبر عن خمر الدنيا، ومن شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة.
لما كان الظلم فاشياً في الجاهلية وكان قائلهم يقول:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه | يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم |
جاء التشجيع على العدل: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن [رواه مسلم: 1827].
لما كان العيال ذوي مسؤولية ثقيلة على الأب، قال ﷺ: فإني مكاثر بكم الأمم [رواه أبو داود: 2050 وابن ماجه: 1846، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 3091].
كان التحفيز بالعطاء الدنيوي أيضاً، ولكن في مواطن الخطر يقول ﷺ: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه [رواه البخاري: 3142 ومسلم: 1751].
وقال ﷺ يوم بدر: من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا.
وذكر العلماء في أحكام أمير الجيش أنه ينفل يعني يعطي من الغنيمة أشياء مخصوصة غير النصيب الخاص لكل مقاتل من أبلى بلاء حسناً، أو كان في أمر خطير صبر شيئاً لم يصبر مثله غيره فإنه ينفله، لماذا؟
تحفيزاً له.
كانت الغنائم عند من قبلنا تجمع وتحرق بعد نهاية المعركة، ونحن في ديننا وشرعنا توزع الغنائم على المقاتلين بعد أخذ الخمس لبيت مال المسلمين.
نحن وعدنا بالحسنيين إن جاهدنا في سبيل الله مخلصين: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة : 52] فوز ونصر في الدنيا وجنة عرضها السموات والأرض في الآخرة.
أساليب الثناء من النبي -صلى الله عليه وسلم- تحفز عباد الله المخلصين
لقد كانت أساليب الثناء من النبي ﷺ تحفز عباد الله المخلصين، وكذلك الآخرين أن يقتدوا بهم، فيقول ﷺ: نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح حديث صحيح [رواه الترمذي: 3795، والبخاري في الأدب المفرد: 337، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 275].
عندما يقول النبي ﷺ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ [رواه البخاري: 2924] يتحمس الصحابة من كبار السن ليكونوا في الجيش الذي أرسله معاوية لفتحها.
كانت الألقاب التي تطلق حقاً وليس ابتذالاً وتزييفاً، كانت تلك الألقاب تفعل فعلها في النفوس: خالد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين [رواه أحمد: 16823، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 6257].
كان المؤلفة قلوبهم وهم في حال الضعف في الإيمان والإسلام يعطون لكي يحفزهم ذلك على قبول الدين وعلى الثبات عليه.
كانت الحوافز من نوع من أحيا أرضاً ميتة فهي له [صحيح البخاري: 3/ 106] حافزاً كافياً لكي تقبل النفوس على زراعة الأراضي وعمارة الأراضي واستصلاح الأراضي ليكون ذلك رافداً عظيماً في دعم القوة الاقتصادية للمسلمين.
لقد كان فعل الخير ينطلق حتى في أعمال الدنيا؛ لأن الإنسان موعود بالأجر إذا أنفق على أهله وعياله، وكانت الفرص تقتنص كالتبكير في التجارة لما يسمع عن فضلها، فقال صخر الغامدي قال رسول الله ﷺ: اللهم بارك لأمتي في بكورها ، وكان صخر رجلاً تاجراً، فكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله [رواه الترمذي: 2606، وابن ماجه: 2236، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1693].
التحفيز على عمل الآخرة وثوابها وأجرها
كان الناس يلمسون الآثار الإيجابية للوعود الصادقة، وكانت حوافز، لم تكن القضية مقتصرة على التحفيزات الدنيوية -أيها الإخوة- بل كان التحفيز بعمل الآخرة وثوابها وأجرها هو الأصل، عندما تبخل النفوس بالأموال تأتي الحوافز في الآيات: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 18].
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245] فيقول الصحابة: الله يقترض منا.
وهكذا ما نقص مال عبد من صدقة [رواه الترمذي: 2325، والطبراني في الكبير: 855، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2463].
وهكذا وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل [رواه البخاري: 1410].
ولو قيل للناس اليوم: إن هنالك استثمارات في مساهمات أو أسهم وتجارات تعطي خمسين في المائة ومائة في المائة ومائتين في المائة لاندفعوا جداً، فكيف ونحن نرى في النصوص سبعمائة في المائة وأكثر من ذلك؟ عندما تكون الكلمة الصادقة واستنهاض الهمة محفزاً لأبي دجانة أن يأخذ سيف النبي ﷺ، يستنهض هممهم يوم أحد، ويقول: من يأخذ مني ؟ لسيف جعله ﷺ في يده، فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم: أنا أنا، قال: فمن يأخذه بحقه فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: أنا آخذه بحقه" [رواه مسلم: 2470].
وفي رواية قال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: تقاتل به في سبيل الله، حتى يفتح الله عليك أو تقتل يأخذه يتبختر وعليه عمامة حمراء قد عصب بها رأسه، يقول:
إني امرؤ عاهدني خليلي | إذ نحن بالسفح لدى النخيل |
ألا أقيم الدهر في الكبول | أضرب بسيف الله والرسول |
[سيرة ابن هشام ت السقا: 2/ 68].
والكبول جمع كبل، وهو القيد الضخم.
ويقول ﷺ: إنها مشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن [رواه الطبراني في الكبير: 7/104].
إنه عليه الصلاة والسلام يحفز من يصلي أربعين يوماً في جماعة يدرك تكبيرة الإحرام بشهادتين، ليست من شهادات التفوق في الدنيا، لكنها شهادة براءة من النار وشهادة براءة من النفاق.
عندما يقال للناس فضل الاحتفاظ بالوضوء، يقول عدي بن حاتم : ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء .
وهكذا يرغبون في الأذان لفضله..
وهكذا يرغبون في التبكير للمسجد لفضله.
وهكذا..
التحفيز والثناء على المحسن من أخلاق الأولين
لقد كانت قضية التحفيز والثناء على المحسن خلقاً عند الأولين، وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: أن ارفعوا إلي كل من حمل القرآن، حتى ألحقهم في الشرف من العطاء، وأرسلهم في الآفاق يعلمون الناس. فعندما ترى الأجيال أن هذا سيكتب اسمه إلى أمير المؤمنين، وأنه سيعطى عطاءً، وأنه سيكون معلماً في الآفاق، فتشرئب النفوس إلى هذا.
وكانت نصوص الإخلاص تمشي بجانب هذه النصوص الأخرى المحفزة جنباً إلى جنب في وقاية النفس من ابتغاء الإنسان بعمله الدنيا، وقد كتب الأشعري إلى عمر : أنه بلغ من قبلي ممن حمل القرآن ثلاثمائة وبضع رجال.
هكذا كانت أساليب التحفيز التربوية تعمل عملها.
يقول عمر بعد توليه الخلافة: "فمن يحسن نزده، ومن يسيء نعاقبه".
ويقول علي لأحد الولاة في خطابه: لا يكن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان، وإساءة لأهل الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.
فإذاً، عدم التسوية بين أهل الإحسان وأهل الإساءة مبدأ مهم جداً، لما تولى هارون الرشيد كتب أيضاً إلى الولاة وأمراء الأجناد: أما بعد: فانظروا من التزم الأذان عندكم فاكتبوه في ألف من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجالس العلماء ومقاعد الأدب فاكتبوه في ألفي دينار من العطاء، ومن جمع القرآن وروى الحديث وتفقه في العلم واستبحر فاكتبوه في أربعة آلاف دينار، وليكن ذلك بامتحان الرجال السابقين لهذا الأمر، أهل الخبرة يقررون، وأهل العلم الكبار يقدرون.
وهكذا يقول الرشيد: من المعروفين به من علماء عصركم وفضلاء دهركم فاسمعوا قولهم، وأطيعوا أمرهم، فإن الله -تعالى- يقول: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59].
هذا في عصر قوة الأمة الإسلامية كانت الحوافز المشجعة لهؤلاء على طلب العلم والتبحر فيه.
قال ابن المبارك -رحمه الله- بعد ذلك: "فما رأيت عالماً ولا قارئاً للقرآن ولا سابقاً للخيرات ولا حافظاً للحرمات في أيام بعد أيام النبي ﷺ وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه".
ما صار بعد النبي ﷺ والصحابة كثرة في حفاظ القرآن وطلاب العلم والسابقين بالخيرات مثل ما صار في عهد الرشيد، فكان في عهد الرشيد الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين.
الله أكبر، هذا الخبر العظيم والقصة في عهد الرشيد يذكرها ابن قتيبة في كتاب "الإمامة والسياسة".
هكذا تساس النفوس، وهكذا تستنهض الهمم، وهكذا يحفزون.
واليتيم في حجر أمه عندما يرى منه نجابة وسرعة حفظ ويكتشف يؤخذ، كان أبو يوسف -رحمه الله- من تلاميذ أبي حنيفة، لكن كيف أصبح بهذه المنزلة؟ ما أصبح عن تشجيع عظيم من شيخه، لقد كان يتيماً، فذهبت به أمه إلى القصار الذي يغسل الملابس، وجعلته عنده أجيراً على دانق في اليوم يكسب به أكلاً يسد به جوعته.
وكان أبو يوسف الذكي، كان أبو يوسف الألمعي -رحمه الله تعالى- يذكرنا بقصة الغلام في أصحاب الأخدود، كان أبو يوسف وهو يتيم قد وضع أجيراً عند غسال يمر على حلقة أبي حنيفة، فيسمع منه فيقف ويطيل المكث، فتضايقت أمه جداً، واستمر أبو يوسف ينصت وأبو حنيفة يشجعه، حتى جاءت أم اليتيم إلى أبي حنيفة، فقالت: والله ما أفسد هذا الغلام غيرك، قال: وما ذاك؟ قالت: جعلته صبياً عند القصار ليكسب دانقاً يأكل به ما يسد جوعته، فأنت تمنعه من هذا، قال: مري يا رعناء، امشي، أنت لا تفهمين، إنما أعلمه أكل الفالوذج بدهن الفستق، قالت: أنت تعلمه أكل الفالوذج بدهن الفستق؟ وهذه أكلة ملوك، وكان أبو حنيفة يعطي بعد ذلك أبا يوسف مائة، مرتباً، ومضى أبو يوسف في طلب العلم وسار في هذا المشوار، حتى صار عالماً كبيراً وقاضياً عظيماً، حتى دعاه هارون الرشيد يوماً إليه، ووضع المائدة إكراماً له، فلما طعم جيء بطعام خاص، فقال هارون لأبي يوسف: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا كل يوم، قال: وما هذا؟ قال: فالوذج بدهن الفستق، فابتسم أبو يوسف، فقال هارون: مم ذاك؟ قال تذكرت أمراً، قال: إلا أخبرتني به؟ فذكر له القصة، فقال هارون: يرحم الله أبا حنيفة كان يرى بعين بصيرته ما لا يرى بعين رأسه.
ناس كانت تلتقط ويحصل الاهتمام الكافي بها، وتمضي في المشوار والطريق فيصبحون علماء وكبار.
كلمات النبي -صلى الله عليه وسلم في استنهاض الهمم-
أيها الإخوة: لقد كانت كلمة النبي ﷺ: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض [رواه البخاري: 1901] كافية في استنهاض همة عمير بن حمام الأنصاري لكي يمضي إلى الله شهيداً.
لقد كانت كلماته ﷺ وهو يقول لأصحابه: من يردهم عنا وله الجنة؟ كافية في مضي أولئك الرهط إلى الله -تعالى- يقتلون واحداً في إثر واحد دفاعاً عن رسول الله ﷺ، حتى قال: ما أنصفنا أصحابنا [رواه مسلم: 1789].
لقد كانت كلمة النبي ﷺ: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد لما ضاق المسجد بأهله، ما هو المقابل؟ قال: بخير منها في الجنة فيقول عثمان: فاشتريتها من صلب مالي. حديث حسن رواه الترمذي [رواه الترمذي: 3703 والنسائي: 3608].
وأيضاً لما وعد من يشتري بئر رومه ويجعلها سبيلاً وقفاً للمسلمين بما في الجنة، قام عثمان فاشتراها ودلوه واحد من دلاء المسلمين فيها لا تمييز.
إنه ﷺ لما قال لأصحابه: من تكفل لي ألا يسأل شيئاً وأتكفل له بالجنة ؟ كان ذلك دافعاً لثوبان ، وغير ثوبان لكي يبقوا على هذا الخلق إلى آخر حياتهم؛ لأن الحافز قوي وأثره مستمر معهم إلى نهاية العمر.
رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى [رواه البخاري: 2076] تلك الدعوة النبوية كافية لكي يبقى أناس على خلق السماحة في معاملاتهم، وعد بمغفرة الذنوب، وآخر بحب الله ورسوله، وثالث بحسنات ودرجات، فهذه صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.
والصلاة في الأقصى بخمسمائة ،وفي النبوي بألف، وفي المسجد الحرام بمائة ألف.
والأعداد تحدد أيضاً، من قتل وزغة في أول ضربة فله مائة حسنة.
عندما يقال: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ [رواه البخاري: 5015] تتحفز النفوس ليكون ذلك في سورة "قل هو الله أحد".
أنواع الحوافز وأقسامها
أيها الإخوة: إن الحوافز -كما قلنا- قد تكون في الدين وقد تكون في الدنيا، كما أنها تكون مادية وأخرى معنوية.
وإن بعض الحوافز اليوم التي تستخدم فيها إسقاط أمور سلبية؛ كإسقاط العقوبات والغرامات، بل يعطونهم تخفيضات في العلاج والتذاكر.
إن أنواع الحوافز التي نراها من تقدير معنوي وثناء وشهادة وحفل تكريم، وذكر الاسم، والإشادة بصاحبه، وكتابة ذلك، هذه كلها مفيدة جداً في تشجيع الطلاب ودفعهم للعلم.
وما يحدث من خطابات الشكر والتقدير ولوحات الشرف، ونحو ذلك؛ كان بعض المشرفين على حلقة تحفيظ يرسل إلي كلما أنهى طالب عنده حفظ القرآن باسمه ليقول: ساعدنا في رسالة بالجوال تشجع هذا الذي حفظ بثناء وإشادة لنقرأها على مسمع من هذا الطالب وإخوانه، فيكون في ذلك حافزاً لهم، يقول ابن جماعة -رحمه الله-: وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائداً عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعمن يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل، فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافراً تفقد أهله ومن تعلق به"، وهكذا..
التفقد من الحوافز العظيمة لاستمرار الطلاب في الدروس، وإذا كان الشيخ يأتي بيوتهم فيسأل عنهم، قال النووي: ينصح في ذلك وينبغي أن يتفقدهم ويسأل عمن غاب عنهم".
لكن فلان غاب أو حضر الجميع سواء.
لا.
التحفيز من هدي النبي-صلى الله عليه وسلم-
كان النبي ﷺ يتابع أهله في الأعمال الصالحة، في الصلاة وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طـه: 132].
وكان يثني على المحسن، وكان يستنهض الهمة للصبر بذكر الجنة، ويثني على الصابرين، ويقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة .
إن هذه المتابعة لهؤلاء الأتباع بالحق في المحنة والابتلاء مما يحفزهم على الصبر وعلى الثبات، بل إنه ﷺ عاد جابراً وهو مريض مغمى عليه فسكب على رأسه الماء من وضوئه ﷺ فأفاق، ومشى معه في قضاء دين أبيه من اليهود.
وكذلك تفقد حال سلمان فأعطاه بيضة من فضة ليقضي بها دينه.
وهكذا كانت المتابعات في المشكلات الاجتماعية والأسرية من أعظم الحوافز على الاستمرار في هذه الجماعة المؤمنة، قال ﷺ لما رأى جليبيباً فقيراً دميماً ولكنه من المؤمنين الصادقين يريد الزواج، قال لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك؟ فقال الرجل للنبي ﷺ: نعم وكرامة يا رسول الله، ونعم عيني، قال: إني لست أريدها لنفسي قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: ((لجليبيب))، فقال: يا رسول الله أشاور أمها، فأتى أمها فقال رسول الله ﷺ يخطب ابنتك، قالت: نعم ونعمة عيني، قال: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب. فوجئت المرأة، قالت: أجليبيب ابنه؟ أجليبيب ابنه؟ أجليبيب ابنه؟ يعني حتى يهتم به لهذه الدرجة ويخطب ابنتنا، هل هو ابنه؟ "لا لعمر الله لا نزوجه"، فلما أراد أن يقوم ليأتي النبي ﷺ ليخبره بالنتيجة عرفت البنت بما قالت أمها، فقالت: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله ﷺ أمره، ادفعوني فإنه لم يضيعني؟ فانطلق أبوها إلى رسول الله ﷺ فأخبره، قال: شأنك بها، فزوجها جليبيباً [رواه أحمد: 19784، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"].
وهكذا تتابع الأمور المالية أيضاً كما حصل من النبي ﷺ مع أصحابه.
وعندما يتفقد المصاب بابنه فيعزى، فقد كان ولد صغير يحضر من خلف ظهر أبيه في مجلس النبي ﷺ فيعتنق أباه وهو في مجلس العلم فيقعده بين يديه، فمات الولد، فامتنع الرجل عن حضور الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي ﷺ فقال: ما لي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي ﷺ فسأله عن بنيه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي، قال: فذلك لك [رواه النسائي: 2088، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2007].
فإذاً، هذه المتابعة وهذا التفقد من أعظم الحوافز.
وهكذا كان العلماء، وابن المسيب خطب ابنته الخليفة لابنه فلم يزوجه، وكثير بن المطلب بن أبي وداعة تلميذ فقير عند سعيد بن المسيب، لما توفيت زوجة التلميذ غاب تفقده، قال: توفيت زوجتي، قال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ قلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، قال: وتفعل؟ قال: نعم، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد وزوجه ابنته، فائقة في الجمال، فائقة في العلم، فائقة في النسب، خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، فزوجها طالب على درهمين وثلاثة.
التحفيز السلبي
أيها الإخوة: إن التحفيز الإيجابي والتحفيز السلبي كما يقولون من أقسام التحفيز يشير إليه علماء السلوك اليوم، ويقولون بأن ذلك من أعظم الأسباب الداعية لتقويم السلوك، فالإتيان بالمطلوب وترك المذموم، يقول النووي -رحمه الله-: "ومن قصر عنفه تعنيفاً لطيفاً ما لم يخش عليه تنفيره".
إذاً، هذا التعنيف على السلوك الرديء يعنفه ما لم يخش عليه التنفير؛ لأن التنفير مفسدته أعظم من التقصير حينئذ، لأنه قد يهمل في الحفظ ويقصر في الحضور، لكن إذا صار سلبياً بحيث لا يحضر أبداً، فإذاً السكوت أولى، لكنه قال: "عنفه تعنيفاً لطيفاً"، فكيف تجمع بين تعنيفاً ولطيفاً؟
إنها دقة واقتصاد في الكلام واختيار للألفاظ.
وهناك فرق بين أن تقول: إذا لم تكتب واجبك فسأضربك، وبين أن تقول: إذا كتبت واجبك سأعطيك كذا وكذا.
ولذلك فإنهم يكثرون من الكلام على التحفيز الإيجابي، والتحفيز السلبي إنما يكون في نواح.
أيها الإخوة: إن من أمثلة التحفيز السلبي -لأن التحفيز الإيجابي تقدمت له أمثلة كثيرة-: حرمان من مكافأة، حرمان من تشجيع، وعتاب، واستخدام أسلوب التجاهل التربوي في بعض المواقف، وحسم بعض الدرجات، والحرمان من شيء يحبه هذا الشخص، نوع من العقاب البدني المشروع، أو تهديد بعقاب، أو استدعاء لولي الأمر، ونحو ذلك، هذا مقوم ومفيد في معالجة بعض الأشياء، لكن نحن نريد تربية طيبة من البداية حتى لا نحتاج إلى الإكثار من هذه الأشياء السلبية؛ لأنهم يقولون اليوم: نضرب ونضرب فصار الضرب لا ينفع، النبي ﷺ كان يثني على من يصيب: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب في صدري، وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر [رواه مسلم: 810].
منقبة عظيمة، فيها تشجيع صاحب العلم، وصاحب الاستنباط الصحيح والاجتهاد الصواب، والمدح للمصلحة إذا لم يخش على صاحبه الإعجاب.
وكان أُبي في الرسوخ في التقوى من هو، اجمعوا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان، فكانوا في الدروس يحمضون إحماضاً طيباً، يذكرون أشياء من الأشعار والقصص والطرائف، لكي تعود النفوس مجتمعة على الدرس؛ لأنها إذا أكثر عليها من الجد ملت
لن يصلح النفس إن كانت مصرفة | إلا التنقل من حال إلى حال |
ومن نصائح المربين القدامى للمعلم: أن يترك فرصة للطلبة للترويح عن أنفسهم، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالعلم يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش.
إثارة الدوافع
أما إثارة الدوافع فإنها مهمة للغاية، إسحاق بن راهويه يعرض عرضاً على تلاميذه وفيهم محمد بن إسماعيل البخاري، هؤلاء النجباء الحفاظ الذين رباهم على عينه، يقول: "لو جمعتم لنا كتاباً فيما صح عن النبي ﷺ في سننه وأخباره وأيامه وسيرته؟" فتتحفز نفس محمد بن إسماعيل لجمع الجامع الصحيح لتكون تلك الكلمات بداية لمشروع عظيم.
المعلم القدير يجعل الطالب يتحسر على الدرس لئلا يتغيب مرة أخرى، فكان يزيد بن هارون إذا جاءه من فاته المجلس يقول: يا غلام ناوله المنديل؟ يعني حري أن يبكي الآن ويكفكف دموعاً تحتاج إلى منديل ليمسحها به.
وكان يزيد بن هارون مما يلاطف به من فاته المجلس ويعاتب به، يقول لمن طلب الإعادة: من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب.
المعلم النبيل ليس فقط معلم المدرسة، أنت أيها الطالب الجامعي معلم، وأنت أيها الأخ الأكبر معلم، أنت يا أيها الداعية معلم، وأنت يا أيها المربي والناصح معلم، وأنت يا أيها المدير للموظفين معلم، نحن يمكن أن نكون معلمين في أمور متعددة، لابد من أن يكون هنالك مراعاة للشعور، لابد أن يكون هنالك تحبب، التحبب مما يحفز، التحبب مما يجعلهم يواصلون المشوار، قال ابن جماعة: "وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم" استفصال الطلاب "وأن يخاطبهم بكناهم وأحب الأسماء إليهم".
وكان ﷺ يكني أصحابه إكراماً لهم [رواه مسلم: ].
استشارتهم في الأمور مما تزرع الثقة البينية.
صفاء السريرة للطلاب، سلامة الصدر لهم، إنهم يشعرون
إن العيون على القلوب شواهد | فبغيضها لك بين وحبيبها |
وإذا تلاحظت العيون تفاوضت | وتحدثت عما تجن قلوبها |
ينطقن والأفواه صامتة وما | يخفى عليك بريئها ومريبها |
الوجه الطلق والابتسامة الطيبة مما يحفز على السماع.
استنهاض الهمم بذكر القدوات
وكذلك فإن استنهاض الهمم بذكر القدوات فيمن مضى أمر مهم جداً: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
كان فيمن قبلكم يحفر له وينشر بالمنشار في مفرق رأسه حتى يقع نصفين، ما يصده ذلك عن دينه.
يسكن بين أظهرنا سنين، ثم يرجع على حاله، يعبد بوذا ويقدس البقرة، ويقول: الله ثالث ثلاثة، فمن الذي نهض إلى تشجيع هؤلاء ليدخلوا في الإسلام؟
وقف أحد الشباب عند محطة وقود يطلب من العامل أن يعبىء له ببضع ريالات، ثم جعل يسأله: مسلم أنت؟ قال العامل: لا، لست مسلماً؟ لا، لماذا لا تسلم؟ لا أعرف الإسلام، أنا أحضر لك كتاباً عن الإسلام، عندها صاح العامل: أنت كذاب، قال: أكذاب، لماذا؟ قال: أنا أعمل في هذه المحطة منذ خمس سنوات، وكل واحد يمر بي يقول: سأحضر لك كتباً عن الإسلام، وإلى الآن لم يحضر لي أحد شيئاً.
قارن بين كسلنا في الدعوة وبين همة أهل الباطل في الدعوة؛ لأن هذا من أعظم ما يستنهض به الهمم، ونحن نتحدث اليوم عن عاملين: التحفيز، واستنهاض الهمم.
القراءة عن سير بعض المنصرين فيها استنهاض لهممنا؛ لأنك عندما ترى أهل الباطل يدعون إلى باطلهم بهذه الطريقة الواحد أحياناً يستحي من هذا، وربما نشط في الدعوة، يقول أحد الأخيار: إنه كان في ألمانيا فطرق الباب طارق فإذا صوت امرأة شابة، فقال: ماذا تريدين؟ قالت: افتح الباب، قال: أنا رجل مسلم وليس عندي أحد ولا يجوز لي أن أفتح الباب، فأصرت وأصر، فقالت: أنا من جماعة يهوى اليهودية افتح الباب وخذ هذه الكتب والنشرات، فقال: لا أريد شيئاً، فجعلت تترجى فولى الباب ظهره، ومضى إلى غرفته، فوضعت فمها على ثقب الباب من الخارج وجعلت تتكلم عن دينها ومبادئها لمدة عشر دقائق، ولما انتهت أرادت أن تذهب، فقال لها: من وراء الباب؟ ولماذا أتعبت نفسك؟ قالت: أنا الآن أشعر بالراحة، لأنني بذلت ما أستطيع لخدمة ديني.
عندما يكون أهل الباطل بهذا الحماس.
ويدعى أحد الدعاة إلى قبيلة أفريقية من المنكوبين والجياع والذين أصابهم اللأواء والشدة فيأتي إليهم وهو على مضض؛ لأنه لم يكن يريد أن يخوض هذه الأوحال، ويتعرض للناموس الحامل للمرض، ويخاطر بنفسه، فلما وصل إليهم، جعلوه في خيمة نظيفة، وأتوا له بضيافة، ثم طلبوا منه أن يقوم في جولة ميدانية ليرى الوضع، فطلب منهم أن يؤجلوا ذلك لعله يرتاح، وربما يشاور نفسه في المضي في هذه المهمة، فأصروا عليه، فقام معهم في جولة، فرأى أناساً قد ازدحموا على بئر من هؤلاء سود البشرة وبينهم شابة صفراء الشعر بيضاء، قال: من هذه؟ قالوا: هذه منصرة بلجيكية عمرها ثلاثون سنة تقيم معنا منذ ستة أشهر، تشرب مثلما نشرب، وتأكل مثلما نأكل، وقد تنصر عدد من أفراد القبيلة بدعوتها.
فإذا كان هؤلاء يحتسبون في الباطل إثماً، فما بالنا نحن نقعد عن الدعوة إلى هذا الدين؟
عندما كان الأجر يحفز طلاباً للذهاب شهراً، الواحد يقطع المسافة في هذا شهر ليطلب حديثاً واحداً. وعندما كان ابن عباس يصبر في وقت الظهيرة على عتبة باب زيد بن ثابت، والريح تسفي التراب على وجهه وهو صابر لأجل أن ينال العلم، بل ربما سهر بعضهم إلى الفجر.
وربما بكر بعضهم إلى مجلس الحديث قبل الفجر ليأخذوا مواضعهم ليقتربوا من الشيخ؛ لأن عندهم مهمة. نحن -أيها الإخوة- بالنسبة لموضوع الآباء والأمهات حقيقة عليهم واجب كبير في تشجيع أولادهم لكي يتخلقوا بالأخلاق الطيبة ويتركوا هذه الأشياء السيئة.
وإن التصرفات الكثيرة التي يتصرفها الأبوان ويكون لها آثار طيبة في نفس الولد من ذكر وأنثى إنما تنشأ من المحفزات الطيبة من إبداء مشاعر الحب أو التقبيل أو التقدير أو الانصات أو الهدية أو الثناء، عندما يفعل شيئاً طيباً يثنى عليه، وكان ﷺ يثني على المحسن من أصحابه، ولذلك فإن الأولاد سينشأ عندهم دافع كبير للعمل إذا ما استعملنا معهم هذه الطريقة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تذكير الشخص بمكانته أحياناً ربما يردعه عن فعل سيئ أو يكفه عن شيء لا يليق، اختلف سيبويه والكسائي في مسألة بحضرة يحيى بن خالد فعلت أصواتهما، فقال يحيى: أنتما عالمان ليس فوقكما أحد يستفتى، ولم يبلغ من هذا العلم مبلغكما أحد، نشرف به على الصواب من قولكما، فما الذي يقطع ما بينكما؟ فقال الكسائي: العرب الفصحاء المقيمون على باب أمير المؤمنين الذين نرتضي فصاحتهم يحضرهم فنسألهم عما اختلفنا فيه.
فذكرهما بما هما عليه من المستوى العلمي ليبتعدا عن مثل هيشات الأسواق.
وإن حسن الاستماع والانصات ليعطي تقديراً، وإن الإشعار بالنجاح ليعطي حافزاً، وإن إعطاء شيء من الحرية ليكون معيناً على المواصلة، ألم تقل عائشة -رضي الله عنها-: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو" [رواه البخاري: 5236].
كم كان عمرها عندما تزوجها النبي ﷺ؟ وكان لها لعب، وكان لها بنات، وكان لها صاحبات، وكانت على مرجوحة أصلاً لما أخذت، وقد جعلها ترى لعب الحبشة، هذا المنظر الغريب العجيب بالحراب في المسجد وتنظر وتزداد من النظر.
إذاً، هذه الفرصة مهمة في تأليف قلوب هؤلاء المتعلمين والمتربين.
ضوابط التحفيز
وإن التجديد والتغيير بالمباح أمر طيب، ونحن يجب أن يكون عندنا ضوابط في التحفيز أيضاً، ومن ذلك: الصدق، فإن المرأة التي قبضت يدها لولدها: تعال أعطيك، قال: لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة [رواه أبو داود: 4991] كتبت كذبة.
وبعض الناس ربما يعطي من معسول الكلام؛ لأن الكلام رخيص بوعود كاذبة، ثم ينكر ذلك، يتنكر لما وعد، فماذا سيكون الأثر في نفس المتعلم؟ أو نفس الولد؟
يلقاك يحلف أنه بك واثق | وإذا توارى عنك فهو العقرب |
يعطيك من طرف اللسان حلاوة | ويروغ منك كما يروغ الثعلب |
من أقوى وسائل التحفيز: الثناء الصادق؛ لأن بعض الناس يكيلون بلا حدود، فلا يبقى لكلامهم وزن، حدثني رجل عن مدير دائرة حكومية كلما جاءته معاملة ليحفز الموظفين كتب: مستعجل جداً، فالمعاملة المستعجلة وغير المستعجلة يكتب: مستعجل جداً، وفي النهاية صار الموظفون لا يهتمون كثيراً، فجاءته مرة معاملة خطيرة للغاية، وقد عرف أن كلماته لم تعد تنفع، فكتب: مستعجل جداً والله العظيم.
إذاً، يجب أن تكون كلماتنا بقدر، حتى يكون لها معنى.
ومن الأمور التي تلزمنا بأن نقدر الكلمات ونضبط الألفاظ في الثناء والمديح: حديث النبي ﷺ: ويلك قطعت عنق صاحبك قاله لمن أسرف في الثناء، وعلى شخص يمكن أن يدخل في نفسه العجب أيضاً، ولذلك فلابد من التقدير، وقدر في السرد، لا يكون المسمار أكبر من الحلقة فيفصمها، ولا يكون أصغر فالحلقة تلعب، فالتقدير مهم للغاية.
وينبغي أن نربط الهمم بالآخرة؛ لأنها في الحقيقة للمخلصين هي الحافز الأكبر.
وأن نعدل في التحفيز، وربما بعض الناس يثني على محسن ولا يثني على محسن آخر، لماذا؟ ويعاقب مسيئاً ولا يعاقب مسيئاً يفعل نفس الفعل السيئ
وإذا المعلم لم يكن عدلاً مشى | روح العدالة في الشباب ضئيلاً |
[شوقي في المعلم]
وينبغي أن يكون هناك توازن في المكافأة، فربما نعطي أحياناً هدية كبيرة على عمل قليل بسيط، ونعطي هدية صغيرة على عمل كبير، فأين التوازن الذي يجعل الشخص يتلقى هذا التحفيز بطريقة صحيحة؟
وأن نختار الوقت المناسب لذلك.
وبعض التحفيزات قد تأتي بنتائج عكسية كما إذا استخدمت في إزالة سلوك غير مرغوب فيه بطريقة خاطئة، من الخطأ أن تكون المكافأة دائماً عن طريق التحفيز المشروط، فمثلاً: إذا فاجأت طفلك بمكافأة بسبب ممارسته للقراءة فإن الطفل سيقرأ أكثر، يعني أن تشجعه على القراءة، ثم إذا قرأ تعطيه هدية أحسن من أن تقول: إذا قرأت سأعطيك كذا، لأنه إذا أخذها مرة قد لا يستحليها بعد ذلك، لكن إذا فوجئ بشيء على عمل هو عمله بدون وعد سابق، فإنه يأمل أن تعيد له المفاجأة.
وأما بالنسبة لمثال سلبي على بعض هذه التحفيزات، فما يفعله البعض خطأ إذا بكى طفله مثلاً يقول: إذا سكت سأعطيك حلوى، فما معنى ذلك؟
إنها إرسال رسالة خاطئة للولد معناها كل ما أردت حلوى إزعق واصرخ.
ولذلك ينبغي التأمل في هذه الحوافز عند إعطائها.
نحن عندنا في عالم الأولاد كثير من الموهوبين في الحقيقة، وقد أفادت بعض الدراسات بأن نسبة المبدعين الموهوبين من الأطفال من سن الولادة إلى سن الخامسة تسعين بالمائة، وعندما يصل الأطفال إلى سن السابعة تنخفض إلى عشرة في المائة، وعندما يصلوا إلى الثامنة تصبح النسبة اثنين بالمائة، لماذا؟ ما الذي حصل في سنتين من الخامسة إلى السابعة انخفضت النسبة من تسعين إلى عشرة؟
ما أحد شجع، ما أحد حفز، ما أحد اكتشف الموهبة، ولذلك ماتت؛ لأن الطفل لا يرى أن هنالك اهتماماً أصلاً بما يفعله.
ومساكين أولئك الأولاد الذين يعيشون في أم تولت وعند أب مشغول، فلا يرون من المحفزات والمشجعات أبداً.
أيها الإخوة: عندنا استنهاض للهمم بأمور كثيرة؛ مثل تذكير الشخص بما يمكن أن يفعله، تذكير الشخص بمكانته، نحن من أمة خير أمة أخرجت للناس.
إن التعنيف يكبت الشيء، وقد ينقل الشخص من مكان إلى آخر نخسره، كان أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله- على مذهب الشافعي، ثم تحول إلى مذهب الحنفية بسبب حادثة جرت مع خاله المزني، وذلك أنه كان يقرأ عليه، فمرت مسألة دقيقة فلم يفهمها أبو جعفر، فبالغ المزني في تقريبها فلم يفهم أبو جعفر، فغضب المزني وقال متضجراً: والله لا جاء منك شيء، ما فيك أي فائدة، فقام أبو جعفر وتحول إلى أبي جعفر بن أبي عمران، وكان قاضي الديار المصرية وكان حنفياً، فتفقه عنده وصار من أعلم أهل زمانه، وإليه انتهت رئاسة الحنفية بعد ذلك، ولما صنف مختصره في الفقه، قال: رحم الله أبا إبراهيم يعني المزني لو كان حياً لكفر عن يمينه؛ لأنه قال: والله لا جاء منك شيء، ثم جاء منه شيء، صار عالماً.
فتغيير المكان أو الصدود عن الشيخ قد يكون له سبب من مثل هذا، وكان سيبويه إمام النحاة في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء ويستملي على حماد فلحن يوماً فرد عليه قوله، فأنف من ذلك فذهب إلى الخليل فبرع في النحو وصار إماماً، كان يمكن أن يسير في طريق المحدثين والفقهاء.
العناية بالمواهب
إن العناية بالمواهب مسألة مهمة، والنبي ﷺ لما رأى زيد بن ثابت قد حفظ السور كلفه بتعلم لغة يهود، وصار بعد ذلك يقوم بمهمات عظيمة وعلوم نافعة، ترجمة وقراءات، وعلم الفرائض، وكتابة الوحي والرسائل النبوية، قرب الرجل على موهبته وهو شاب صغير، لما اكتشفت الموهبة قرب، أصلاً قومه من الأنصار جاءوا به للنبي ﷺ، قالوا هذا حفظه غير عادي، النبي ﷺ لقنه السور ورآه في الحفظ كذلك، وكلفه بعد ذلك بتعلم لغة يهود وقال: إني لا آمنهم على كتابي، يعني بين له خطورة المهمة، ولذلك تحمس وأنهاها في بضعة عشر يوماً، تعلم لغة كاملة.
هذا أبو عبيدة يقول عنه: أمين الأمة.
وابن مسعود يقول عنه: غلام معلم.
والزبير حواري الرسول.
وهذا خالي فليرن امرؤ خاله.
شهادات نبوية مباركة.
هذا العالم الذي كانوا يعيشون فيه يدفعهم إلى المزيد، وأحياناً تكون الكلمة من عامي دافعة بثبات كما حصل مع أحمد -رحمه الله- أعرابي كانت كلمة من الأعرابي: يا أحمد اصبر، الناس ينظرون إليك.
اللص ثبت أحمد بن حنبل.
الشافعي كان متجه للشعر والأبيات ويأتي البوادي ويسمع منهم، فجعل بعدما أتى مكة يتمثل بشعر لبيد، فضربه رجل من ورائه من الحجبة، وقال: رجل من قريش ثم ابن المطلب رضي من دينه ودنياه أن يكون يعني بالشعر؟ ما الشعر؟
إذا استحكمت فيه قعدت معلماً يعني للشعر، تفقه يعلمك الله، قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي، ورجعت إلى مكة وكتبت من ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم كنت أجالس مسلم بن خالد الزنجي، وهكذا صار الشافعي رحمه الله -تعالى- فقيهاً.
عندما نعتني بالصغار فنوسع لهم ولا نطردهم من المجالس وندنيهم فإنهم سيكونون كباراً في المستقبل.
وهكذا كان يفعل عمر مع ابن عباس، ويأتي بالشباب إلى مجلسه.
إن إذكاء همم النوابغ ومن تتوسم فيهم العبقرية، هذا لصالح الأمة في النهاية، الذين ترجموا للإمام أسد بن الفرات قالوا: لما كان يأخذ العلم عن محمد بن الحسن -تلميذ أبي حنيفة-كان الشيخ إذا رأى تلميذه أسد غلب عليه النوم نضح على وجهه الماء ليجدد نشاطه شفقة أن يفوته شيء من الدرس، ويشعر التلميذ باهتمام الشيخ فيقبل ويزداد، ويشب الألمعي فيكون له مكان.
من أكبر المدارس العلمية التي امتازت بالتحفيز: مدرسة الأندلس العلمية، في الحقيقة أخرج لنا المسلمون في الأندلس نماذج من العباقرة في العلم، وكان هناك فرص عظيمة للإبداع والمواهب، وكان الشيخ له دور كبير في إبراز الطالب، فهذا ابن التلمساني أحد كبار علماء شمال إفريقيا سأله السلطان عن مسألة، الشيخ أجاب كثيراً السلطان، لكن هذه المرة قال للسلطان: إن تلميذي فلان يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال للتلميذ، وفهم السلطان المقصود، إبداء الاهتمام بالتلميذ؛ لأن رسالة من السلطان فيها سؤال للتلميذ شيء كبير، فأحسن التلميذ الجواب فأجازه وكافأه، وأحسن منزلته.
وهذا من الحكمة العظيمة ومن الإخلاص؛ لأن بعض الناس تراه إذا جاءه شخص يتعلم منه يقول: هذه أسرار المهنة، وأنا أعلمك وبعدين تأخذ مكاني؟ فيكون البخل بالتعليم والأشياء، يعني الأمة حتى تتطور وتتقوى لابد أن ينشر فيها مبدأ التعليم المجاني، ونقل الخبرات، وإجابة السؤال إذا سأل الشخص وهو يريد الاستفادة فعلاً.
ونحن مع أبنائنا -أيها الإخوة- نحتاج إلى ضبط ألسنتنا وضبط سلوكنا واكتشاف مواهبهم واستعمال الألقاب الإيجابية في التعامل معهم والتأهيل العلمي لهم، واستخراج الهوايات المفيدة وتشجيعهم عليها، وأن نروي لهم قصص الموهوبين، وأن نشجعهم ونعززهم، وأن نأتي لهم بما يزيد من ثقافتهم وعلمهم من الكتب المفيدة النافعة، وأن تكون الهدية والشكر والجماعات المدرسية والرحلات الأسبوعية والمسابقات المنوعة والجوائز والزيارات، يجب أن تكون تصب في هذا المصب في تطويرهم ودفعهم والارتقاء بهم.
ومن المهارات المهمة التي توجد في الحلقات سواء كانت في حلقات التحفيظ، حلقات التربية، مكتبات، إلى آخره، عوامل تجعل الأفراد يتشجعون ويتحفزون للعمل؛ لأن بعض مشرفي الأنشطة لا يزالون يشتكون من ركود الأحوال عند المشاركين والطلاب والنواب في الحلقات والأنشطة، فماذا يفعلون؟
إن مسألة المشاركة وأن يكون هذا معك في صلب العمل والصدق في الكلام وبيان الحقائق والاعتراف بالإنجاز والتشاور ومنح الفرصة لإبداء الرأي، والشكر والتقدير والثناء من الأمور المهمة جداً.
الحلقة للجميع، لماذا لا يشاركون في التخطيط لها؟ لماذا لا تجعل المشرفين الآخرين معك من أصحاب القرار؟
إن الاستبداد بالرأي في الحقيقة منفر، وهو سبب لكبت الطاقات وعدم انطلاقها، وقد ينام الواحد على شخصيات معه كان يمكن أن يطلقها وفاته الأجر العظيم بعدم إطلاقها وعدم تبنيها، وعدم تشجيعها، وصارت قضية ما أريكم إلا ما أرى، أين تنمية الشعور بالمسؤولية في الأمور؟ وأن لا تكون القضية أمر ونهي فقط وإنما إبداء العلل والأسباب والتفهيم، وأين روح الأخوة؟ ولذلك نقول: إذا ما سألنا عنهم، ما راسلناهم في المناسبات، رسالة جوال ممكن تفعل الشيء الكثير في نفسه، إذا ما استمعنا لأحاديثهم، إذا ما شاركناهم في همومهم، إذا ما أوكلنا إليهم هذه المهام وأثنينا عليهم في القيام بها، صحيح قد لا يقوم بها النائب مثل المشرف، والطالب مثل الأستاذ لكن يشجع، وأنت كيف كنت، كذلك من الله عليك، فانهض بمن معك.
والتذكير بالإخلاص دائماً مهم جداً.
نحتاج -يا إخوان- إلى إقامة دورات تدريبية في الأعمال المختلفة؛ لأن هذه الدورات التدريبية هي عبارة عن محفزات ومشجعات لهؤلاء سواء كانوا طلاب أو موظفين؛ لأنها اهتمام من الإدارة بهم، لأنها ارتقاء بمستواهم، وعندما يرافق هذا زيادة في أجرة مثلاً، لو كانوا من أصحاب المرتبات فسيكون لها قيمة كبيرة. إهداء الكتب المتخصصة لهؤلاء، قد ينبغ عندك في الشعر فتعطيه كتاباً فيه، وفي الفرائض فتعطيه كتاباً فيه، وفي الآلات والمحركات فتعطيه كتاباً فيه، فتكون هذه الأشياء التخصصية تعني بالنسبة له أنك مهتم بما عنده.
فهذه لمحات في موضوع التحفيز لاستنهاض الهمم.
التحفيز والتشجيع على الأعمال التطوعية
والقضية -أيها الإخوة- أولاً وأخيراً تحتاج إلى علم وحكمة وإيمان يدفع لهذا.
لقد تفوقت أمم من الكفار في الدنيا بمثل هذه الأساليب، وعندهم إدارة جيدة، وأنظمة للتحفيز والتشجيع، واكتشاف للمواهب، ورعاية، وفي أمور دنيوية، ونحن أحرى بنا أن نقتبس ذلك ونزيد عليه في أمور الآخرة.
ألا ترون بأن الأجر والثواب والجنة عندنا ليست عندهم، وأننا نرجو من الله ما لا يرجون، فلماذا إذاً لا يكون عندنا من التشجيع هذا؟
إن الأعمال التطوعية كثيرة التي يحتاج لها المسلمون اليوم، فأنت عندما تدعو المتطوعين، وتشعرهم بأهمية الأمر وتبين الحاجة إليهم، ولما قال ذو القرنين: فأعينوني بقوة، لقوم لا يكادون يفقهون قولاً، لقد أوجد عندهم حافزاً للعمل، أعينوني، مع أن عنده جيش عرمرم، لكن قال: أعينوني بقوة، يعني عندكم إمكانية للعمل، وأنا أريد جداً ونشاطاً وليس كسلاً، أعينوني بقوة، ستكون النتيجة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف: 95] وسداً، وما تريدونه وتتمنونه سيتحقق أعينوني بقوة.
ثم وضع الخطة وجزأ الخطة، لأن هؤلاء القوم إذا أعطيتهم الشرح الكثير دفعة واحدة لن يستوعبوا، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف: 96] مهمة واضحة وبيان قصير، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف: 96] فقط، قطع الحديد الكبيرة، فلما ساوى بين الصدفين وطرفي الجبل وصار الفراغ كله مملوءاً بالقطع، قال: انْفُخُوا [الكهف: 96] معلومة واحدة، مهمة واحدة، أمر واحد، ما تشابكت المهمات مع بعض وشرح طويل، انْفُخُوا [الكهف: 96]، وهو معهم في الميدان يشرف عليهم عملياً، وهذه مهمة جداً في تحفيز هؤلاء، حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا وصار الحديد كله منصهراً، قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف: 96] نحاساً مذاباً ليكون سبيكة عظيمة لا يمكن اختراقها، ففعلاً يأجوج ومأجوج: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف: 97] أملس لا يمكن التسلق عليه وهو في غاية الصلابة والسماكة، ولا يمكن أن يثقب ولا أن ينقب.
إذاً، كيف حفز ذو القرنين رحمه الله هؤلاء القوم؛ لأن يعملوا هذا الإنجاز، وجعل من هؤلاء المتخلفين أمة تصنع.
أيها الإخوة: لما نأتي بالمتطوعين فنرتب لهم الأوضاع، ونشرح لهم الأهداف، ونعرف كل واحد ماذا يحسن، ونكلف كل شخص بما يحسنه، وأصعب عمل داخل المؤسسات التي تريد أن تشغل المتطوعين تصميم الوظائف للمتطوعين، وجعل التكاليف مجزأة والمهمات مجزأة بحيث يتابع في كل واحدة، مع نظام متابعة جيد، مع شكر وتقدير له على عمله، مع مساعدته في المشكلات التي تطرأ له أثناء الطريق، ولو أنه انسحب مع اهتمام لماذا انسحب؟ أخذ رأيه في الموضوع، إن هذه الأمور مهمة جداً في تحفيز هؤلاء المتطوعين، ونحن نجد تقصيراً في المتابعة يؤدي إلى إحباط الكثيرين، وهذا أمر يجب أن نتعاون عليه.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسعي لنصر الدين.
اللهم اجعلنا ممن ينصر دينك يا رب العالمين.
اللهم اجزنا بالجزاء الأوفى، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180 - 182].