الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سنسمع فيها، ونسأل الله أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم، ونسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة.
أهمية دراسة قصص الصحابة
إن دراسة قصص الصحابة -رضوان الله عليهم- لها أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول الله ﷺ على عينه، ولقنهم مبادئ الوحي، ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه.
ورسول الله ﷺ أعظم هذه الأمة قاطبة جنها وإنسها، ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات الإلهية كتاباً وسنة، فإن ذلك الجيل لا بد أن يكون جيلاً عظيماً، جيلاً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة.
وهذا الجيل عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول ﷺ، وانصهروا في تلك البوتقة الإيمانية التربوية، حتى خرجت تلك النماذج.
وصحابة الرسول ﷺ يتفاوتون في ميزاتهم، وصفاتهم الشخصية، ولذلك نجد أن أرأف الأمة: أبا بكر وأشدها في أمر الله: عمر، وأكثرها حياءً: عثمان، وأحسنهم قضاء بين الخصوم: علي بن أبي طالب، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل، وأعلمهم بالفرائض: زيد بن ثابت، وأكثرهم أمانة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن- أبي بن كعب.
فإذن، الصحابة -رضوان الله عليهم- كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت، ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات، تكون ذلك المجتمع المسلم.
ونحن سنلقي الضوء في هذا الليلة -إن شاء الله- عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية.
الصحابة -رضوان الله عليهم- كثير منهم دخلوا في الإسلام وهم كبار السن، ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب، ولكن عندما يسلم الإنسان تسليماً كاملاً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهلاً.
والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة، هو: أبو ذر الغفاري ، هذه الشخصية التي لا يعلم عنها الكثيرون.
وبعض من يعلم عنها شيئاً يعلمون عنها أشياء مشوهة، قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة، فمن الناس من يعتقد أن أبا ذر شخصية ضعيفة مهزوزة، ولذلك يقول الرسول ﷺ: إنك لضعيف ، ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنبين -إن شاء الله-.
نبذة مختصرة عن أبي ذر
فأما أبو ذر فإن اسمه: جندب بن جنادة -جُندُب أو جُندَب لغتان صحيحتان- ابن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار، وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة، قال الذهبي -رحمه الله- في السير: هو أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد ﷺ، كان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل، قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه.
وقال ﷺ مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: ما أقلت الغبراء -الأرض- ولا أظلت الخضراء -السماء- من رجل أصدق لهجة من أبي ذر [أخرجه الترمذي 3801 وابن ماجه 156 وأحمد 7078 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه]
أما بالنسبة لحديث الرسول ﷺ الصحيح الذي يقول: يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم [ أخرجه مسلم 1826]، فهذا التعليم منه ﷺ والإرشاد لأبي ذر ذلك؛ لأن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من الأحيان، مما قد لا يكون مع تلك الحدة جيداً في الإمارة، وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال، ولا بد من إنفاقه كله، ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل الله.
وأما من ناحية شخصية الرجل، فإنها عظيمة.
الروايات الواردة في قصة إسلام أبي ذر
وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو عن جزء من حياة أبي ذر، وهذا الجزء هو قصة إسلامه.
إن قصة إسلام أبي ذر من القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة.
وهذه القصة رواها الإمام البخاري -رحمه الله- والإمام مسلم في صحيحيهما، وغيرهما.
وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري ومسلم، ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره.
وبين الروايتين تغاير واضح في السياق، حتى إن بعض أهل العلم قالوا: إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين.
وبعضهم قال: يمكن الجمع.
والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة، ولذلك نحن سنقتصر -إن شاء الله- على إيراد الروايتين، وشرحهما، مع ذكر الفوائد فيهما، ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل العلم على رواية مسلم، وإن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين.
فأما رواية البخاري ومسلم فهي عن عبد الله بن عباس قال: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال ابن عباس: قال أبو ذر: "كنت رجلاً من غفار -قبيلة غفار- فبلغنا أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره".
وفي رواية: "أن ابن عباس قال: "لما بلغ أبا ذر مبعث النبي ﷺ بـمكة، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي" -مكة، لأنها في وادي- "فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق" أي الأخ "حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر".
وفي رواية: فقال: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر -ليس شعراً- فقال أبو ذر: ما شفيتني -أي ما أتيت لي بالكلام الذي يلبي حاجتي في نفسي- ما شفيتني فيما أردت، فتزود وحمل -أبو ذر- شنة له فيها ماء"، وفي طريقٍ: "فأخذت جراباً وعصا، حتى قدم مكة" -الآن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة الأمر، هل هو حق أم لا؟- "حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي ﷺ ولا يعرفه -لكن لا يعرف من هو الرسول ﷺ وكره أن يسأل عنه".
لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن الرسول ﷺ؟
هناك أسباب ذكرها ابن حجر -رحمه الله- قال: لأنه عرف أن السؤال عن رسول الله ﷺ يؤذي السائل، أو أن السؤال عن الرسول ﷺ يؤذي المسؤول عنه وهو الرسول ﷺ، أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول ﷺ لعداوتهم له، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه ولا يقابله.
ولذلك كان أبو ذر -رحمه الله- حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول ﷺ، حتى أدركه الليل.
وفي رواية: أنه قال: "وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام، وأشرب من ماء زمزم- فاضطجع ، فرآه علي بن أبي طالب، فعرف أنه غريب، من هيئته ومظهره، فقال علي: كأن الرجل غريب؟ -يقول: لأبي ذر كأن الرجل غريب؟ -قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل -أي حتى أضيفك- فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ذهب أبو ذر مع علي وما سأل علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء، حتى صار الصباح، ثم احتمل قربته -وفي رواية: قريبته، تصغير- وزاده إلى المسجد، خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي ﷺ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي للمرة الثانية، فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟" أي: كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى، يعرض عليه الضيافة، وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟
"أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث، فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء، ويرجع أبو ذر في الصباح إلى المسجد- فقال علي في المرة الثالثة: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟".
وفي رواية: فقال: "ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت" لو أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه أخبرتك؟
وفي رواية: أنه قال لـعلي: "إن كتمت علي أخبرتك، قال علي: فإني أفعل" أعطاه وعداً أن يفعل -الآن علي مسلم وليس بكافر-.
وقال ابن حجر: والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين، ولذلك يقول: فالراجح أن هذه القصة وقعت بعد البعثة بسنتين على الأقل، بسنتين فأكثر، أي: يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ لأن الرسول ﷺ هاجر بعد البعثة، أو أكثر، المهم أنه فوق اثنتي عشرة سنة، لماذا؟ لأن اثنتي عشرة سنة هو السن المعقول في أن رجلاً مثل علي يخاطب رجلاً ويضيفه، ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة- "فقال أبو ذر لـعلي : سمعنا أنه ظهر نبي في مكة، وأتيت أتحقق من الأمر وأسأل، فأخبره أبو ذر، فقال علي : إنه حق وهو رسول الله ﷺ.
وفي رواية: "أنه قال له: أما إنك قد رشدت" أي: قد أصبحت على الرشد، أنت فعلاً جئت لشيء صحيح وحق "وهذا وجهي إليه" علي يقول لأبي ذر: إنني متوجه إلى الرسول ﷺ، فيقول علي : "فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء" يقول علي: هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون بضغط شديد على الدعوة، ومحاربة عظيمة جداً، وتتبع مستمر لكل رجل يحاول الالتحاق بركب الدعوة، ولذلك فـإن علي بن أبي طالب كان لا بد أن يلجأ إلى طريقة لا تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه إلى الرسول ﷺ، فقال علي لأبي ذر: "فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك، قمت كأني أريق الماء".
وفي رواية: "قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله- فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت" معناها: أن تتابع سيرك فيما بعد، قال ابن حجر -رحمه الله-: ويحتمل أنه قالهما جميعاً، قال: كأني أريق الماء، أو كأني أصلح نعلي "فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ﷺ ودخل معه، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه الرسول ﷺ على أبي ذر، فسمع من قوله، فأسلم أبو ذر مكانه، فقال له النبي ﷺ: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك .
وفي رواية: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك- فقال: والذي بعثك بالحق، وفي رواية: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم"، يقول: لا أكتم الأمر، ولا أكتم إسلامي، وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم، أي: بين ظهراني المشركين في مكة، "فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وفي رواية: وضربت لأموت، يعني ضربت ضرباً مبرحاً، لا يبالي من ضربني لو أموت من هذا الضرب، وأتى العباس عم النبي ﷺ، رآهم وهم يضربونه فأكب على أبي ذر وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟".
وفي رواية قال: "ويلكم تقتلون رجلاً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام" انظر إلى ذكاء العباس يقول: أنتم الآن تريدون أن تقتلوا رجلاً من غفار، وطريق تجارتكم تمر من بلادهم، فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم "فأقلعوا عني -أي كفوا عني- ثم أصبحت الغد، فرجعت فقلت مثلما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع بالأمس -ثاروا إليه، فضربوه- فأكب عليه العباس فأنقذه" هذه رواية البخاري ومسلم.
أما رواية الإمام مسلم -رحمه الله- ففيها زيادة تفاصيل في بداية القصة وفي نهايتها، وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول ﷺ لأول مرة، أو طريقة مقابلة رسول الله لأبي ذر.
روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: "خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام -غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم الله القتال فيه- قال: فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا" هؤلاء الثلاثة أبو ذر وأنيس وأمهما كانوا لا يرضون عن فعل غفار، ولأجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار "فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك -الكلام موجه إلى الخال- فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك، أي: زوجتك، خالف إليهم أنيس" يعني: أنت إذا خرجت من هنا هو جاء إليهم من هنا، وكان أنيس جميل الخلقة "فجاء خالنا، فنثى علينا الذي قيل له -أي أفشى علينا وأشاع ما قيل له- فبلغ أخي هذا الكلام؛ فقال: والله لا أساكنك، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته" -قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا، والآن ماذا فعلت بكلامك هذا؟ هذه الإشاعات التي قال لك الناس، ونشرتها الآن، ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف- "ولا جماع لنا فيما بعد، لا نلتقي بك، فقربنا صرمتنا -وهي: القطعة من الإبل أو الغنم يقال عليها صرمة- فاحتملنا عليها، ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي -تأثراً من الخطأ الذي فعله- فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها".
وفي رواية: "فتنافر إلى رجل من الكهان، قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه، فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا" ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام: أنهم كانوا في الجاهلية، يتفاخرون بالشعر، أيهم أشعر من الآخر، ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من الآخر، فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق، فاحتكما إلى كاهن، وهذا عمل حرام، لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا، فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر، وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة- رهناً، وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي، فكسب أنيس، "فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه الحديث: "وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله ﷺ بثلاث سنين".
يقول أبو ذر: إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول ﷺ بثلاث سنين، فيقول الذي سمع منه القصة: "فقلت: لمن؟ -أي: لمن تصلي؟- قال: لله تعالى، قلت: فأين توجهت؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي" أصلي حيث يوجهني ربي، فالمؤمن يصلي لله.
وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجلاً في الجاهلية مثل قومه، ثم هداه الله إلى التوحيد قبل بعثة الرسول ﷺ، فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره، من الناس الموحدين، وبعضهم كان عنده علم من الأديان السابقة، كان أبو ذر على التوحيد، وكان يعلم أن الذي يستحق العبادة هو الله ، لكن لا يعرف كيف يصلي؟ ولا أين يستقبل؟ ولكن كان على التوحيد، على الفطرة،ـ ولذلك يقول: "صليت قبل أن آتي الرسول ﷺ بثلاث سنين" صلى قبل الإسلام بثلاث سنوات، وكان يتوجه حيث يوجهه الله "أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء" أصلي حتى أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصلاة، فألقى كأني كساء، أي: من تعب العبادة، حتى تعلوني الشمس، فتوقظه، فقال أنيس: "إن لي حاجة بـمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة".
وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين فنقول: إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة، ليعلم له خبر النبي ﷺ يقول أبو ذر: "فراث علي -أي: أبطأ عليه أخوه، لم يأت بسرعة- ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال لي: لقيت رجلاً بـمكة على دينك" فـأنيس الآن يرى أن أخاه على التوحيد، فقال: حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجلاً على دينك، يزعم أن الله أرسله.
وفي رواية قال لي: "أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس: الصابئ، هو أشبه الناس بك، قلت: فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس لأخيه: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه- فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر".
لا يمكن أن يكون شاعراً لأني أعرف أوزان الشعر وطرقه، فلا يمكن أن يكون كلامه شعراً "والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر".
هنا كأن أبا ذر قال لأخيه: إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل، والتي أتيتني بها غير كافية، أنت أتيتني بأشياء مجملة، فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال: "فأتيت مكة"، وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه: "كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا" أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول ﷺ، فقال: انتبه من أهل مكة، فإنهم قد أبغضوه وعادوه، وكادوا له.
وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت، والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ لأنهم عادوه، فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك: أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف.
قال أبو ذر: "فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت: أين الصابئ؟".
وفي رواية: "فتضاعفت رجلاً منهم" أي: بحثت عن واحد ضعيف مسكين، يقول أبو ذر: "وسألت هذا الضعيف قلت له: أين الصابئ؟" ما قال أين محمد؟ ولا أين نبي الله؟ قال: أين الصابئ؟
فلماذا سأل رجلاً ضعيفاً؟ لأن العادة أن الضعيف لا يخشى منه، فيجيب بسذاجة وبساطة، ولا يخشى منه أن يكون رجلاً شريراً، فهو ضعيف، لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة، بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال: "فرفع صوته عليّ، فقال: صابئ، صابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم" أي: نبه كفرة قريش قال: الصابئ، الصابئ، هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم، كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر، فيقول: "فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر، حتى خررت مغشياً عليّ".
والنصب: هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم، فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه، كأنه الصنم الذي عنده الدماء، تصور كيف؟ رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر، قال: "فخررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت- فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها".
وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها "ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني" فالبطن إذا سمنت تتثنى، واللحم إذا سمن جداً ينثني، فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى، فهذه الثنيات تسمى: "عكن"، ولذلك في حديث: هيث المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول ﷺ ثم منعه الرسول ﷺ من الدخول؛ لأنه قال: إذا فتح الله عليك الطائف فعليك ببنت فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة، ولذلك يقول هذا الرجل: إذا فتحت الطائف عليك ببنت فلان؛ لأنها تقبل بأربع أي: أنها من شدة سمنها من الأمام أربع ثنيات، وإذا أدبرت من الخلف تصير الأربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى، لأن العظم الفقري ينصف العكن هذه، فهذا الرجل ليس بذكر ولا أنثى.
وهذه طبعاً خلقة من الله فيه ناس من هذا القبيل، وكان يدخل على النساء، وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة، فلما رأى الرسول ﷺ أن ذلك الشخص بدأ يصف النساء، يقول: هذه كذا، فمنعه من الدخول على نسائه ﷺ.
والشاهد: يقول أبو ذر: "فتكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع".
وفي رواية: "سَخفة جوع" سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه من ماء زمزم، سمن جداً، وما أحس بالجوع مطلقاً.
فقال: "وما وجدت على كبدي سخفة جوع" أي: ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به، قال: "فبينما أهل مكة في ليلة قمراء" أي مقمرة "أضحيان" أي: مضيئة "إذ ضرب على أصمختهم، أو أسمختهم" أصمختهم، أي: آذانهم، ومعنى ضرب الله على آذانهم أي: أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، مثل قول الله : فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11] أي: ناموا.
وأبو ذر الآن مختبئ بين الكعبة وبين أستارها، قال: "إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت أحد" في هذا الوقت، لأنهم ناموا- من كفار قريش إلا امرأتان منهم تدعوان: إساف ونائلة، يعني الصنمين، قال: فأتتا عَلَيَّ في طوافهما، في المكان الذي هو فيه، فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، أبو ذر الآن يسب آلهة المشركين، ويقول لهاتين المرأتين: زوجوا إساف من نائلة، إساف ذكر، ونائلة أثنى، قيل أنهما كانا يريدان فعل الفاحشة في المسجد الحرام، فمسخهما حجرين، ثم عبدوهما الناس.
المهم فقال: انكحا أحدهما الأخرى، فما تناهتا عن قولهما، بل استمرتا على الطواف، قال: فأتتا علي في اللفة التي بعدها، فقلت: هَنٌ مثل الخشبة، غير أني لا أكذب.
والهن في لغة العرب يطلق على الفرج، أو الذكر كناية، لفظ لطيف يطلق على الفرج، ماذا يريد أبو ذر ؟ سب آلهة المشركين وعيبها، بأقذع السباب، وهذا جائز؛ كما قال أبو بكر للمشرك في غزوة الحديبية: "امصص بظر اللات"، لأنها كانت أنثى، فقال أبو ذر: هن مثل الخشبة، غير أني لا أكني، يعني الآن أقول لكم، أقول قصة الإسلام: هن، لكن لما قلت للمرأتين الكافرتين ما قلت: هن، قلت الكلمة الأصلية، يعني، نكاية في سب آلهة الكفار، فانطلقتا تولولان، والولوة الدعاء بالويل، وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا، والأنفار جمع نفر أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة، يعني تتمنى هاتان المرأتان أن يكون فيه ناس من الكفار ينصرون الصنمين، قال: فاستقبلهما رسول الله ﷺ وأبو بكر وهما هابطان، أبو بكر والرسول ﷺ كانا في ذلك الوقت متجهان إلى الكعبة المسجد الحرام والمرأتان خارجتان من المسجد الحرام فالرسول ﷺ رأى المرأتين مرتعبتين فقال : ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم، يعني ما في شيء أقبح منها، وجاء رسول الله ﷺ حتى استلم الحجر الأسود وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى خلف المقام ركعتين، وهذا يدل على أن أي طواف يشرع فيه الصلاة خلف المقام ركعتن وأن هذا ليس خاصاً بطواف العمرة أو طواف الحج وإنما هو عام في كل طواف، من السنة أن يصلي الإنسان ركعتين خلف المقام، ثم صلى فلما قضى صلاته قال أبو ذر: فأتيته فإني لأول من حياه بتحية الإسلام، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك ورحمة الله، وهذا فيه جواز رد السلام وعليك ورحمة الله، وإن كان المعروف المشهور من حاله ﷺ وحال الصحابة والسلف أنهم كانوا يكملون الرد في السلام فيقولون: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ولكن يجوز أن يقول الإنسان وعليك ورحمة الله، يعني تقدير وعليك السلام ورحمة الله، ثم قال الرسول ﷺ لأبي ذر ممن أنت؟ قلت: من غفار، قال فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، الرسول ﷺ لما قال أبو ذر من غفار فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي : كره أني انتميت إلى غفار، لماذا الرسول ﷺ كره؟ فاستنتج أبو ذر أن الرسول ﷺ كره أن هذا طلع من غفار، فذهبت آخذ بيده، فقدعني صاحبه، وفي رواية: فمنعني صاحبه، وكان أعلم به مني، من هو الصاحب؟ أبو بكر، ثم الرسولﷺ كان مطرقاً، قال: ثم رفع رأسه فقال: متى كنت ها هنا؟ قال: قلت :كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال: فمن كان يطعمك؟ قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة، إنها طعام طعم، يعني تشبع شاربها كما يشبعه الطعام، هذا من بركة ماء زمزم، والصحيح أن بركتها لا تزول بالانتقال يعني لو واحد جلبها من مكان إلى آخر، لأن فيها نقاش بين العلماء ولذلك الرسول ﷺ كان يستجلب ماء زمزم هو في المدينة يرسل إلى أحد أصحابه في مكة أن يرسل له بماء زمزم إلى المدينة فلا بأس، وهذا الدليل على مشروعية جلب ماء زمزم من مكة إلى المكان الذي يسكن فيه المسلم.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول الله ﷺ وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، يعني بقيت ما بقيت، ثم أتيت رسول الله ﷺ فقال إني قد وجهت لي أرض ذات نخل، يعني إني أريت جهتها لا أراها إلا يثرب، وهذا قبل أن تسمى المدينة طيبة أو طابة، من أسماء المدينة : المدينة أو طيبة أو طابة، يثرب نهى الرسول ﷺ عن إطلاق هذا الاسم عليها فيما بعد ولهذا يكره أن يسمي الإنسان المدينة بيثرب وإنما يقول المدينة أو طيبة أو طابة، وأما إطلاق بعضهم المنورة على المدينة فليس له أصل وليس بمعروف وإنما هي تسمى المدينة أو طيبة أو طابة، لكن الناس هكذا قالوا: مكة المكرمة والمدينة المنورة، لماذا؟ ما تدري.
فيقول الرسول ﷺ: هل أنت مبلغ عني قومك؟ أنت ممكن أنك تذهب وتدعو قومك الآن؟ هلا ذهبت إلى غفار ودعوتهم إلى الإسلام؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، فأتيت أنيس رجع الآن أبو ذر من مكة إلى المكان الذي فيه أنيس وأمه فقال أنيس: ما صنعت؟ قال صنعت أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك، أنا ما أكره دينك، فإني قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت، هذه بداية الخير، فاحتملنا يعني ركبنا إبلنا حتى أتينا قومنا غفارًا فأسلم نصفهم بالدعوة إلى الله، نصف القبيلة، وكان يؤمهم أيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم، كان يؤمهم يعني يصلي بهم الصلوات، وقال نصفهم الباقي: إذا قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلمنا فقدم رسول الله ﷺ المدينة فأسلم نصفهم الباقي وهذه بقية البركة، انتهت؟ لا، وجاءت أسلم، قبيلة ثانية غير قبيلة غفار، فقالوا : يا رسول الله إخواننا يعني غفار نسلم على الذي أسلموا عليه فأسلموا، فقال رسول الله ﷺ غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله، من كان السبب في إسلام القبيلتين ؟ أبو ذر، شخصية عظيمة، ما هي سهلة.
بعض الفوائد والعبر المستفادة من قصة إسلام أبي ذر 00:49:43
نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة:
أهمية سلامة الدين
أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها، فإننا نلاحظ أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ لأن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام، ومع أن هذا وقع في الجاهلية، لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان، ولذلك إذا كان الإنسان في مكان فيه منكر لا يستطيع أن يغيره، ولا يستطيع البقاء، ربما لا يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة، فلو أن شخصاً -مثلاً- سافر إلى بلاد أخرى ليدرس، فرأى منكرات حين عاش هناك، وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة، أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه، وأحس بضغوط فعلاً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف، فهل يجوز له أن يبقى لإتمام دراسته؟
لا.
بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى.
ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟
لا.
بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.
الحذر من تصديق الشائعات والتهم
والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب، وقد يقولون له كلاماً : إننا نخشى عليك، نخاف عليك، حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه.
قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم.
وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس.
وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد.
وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة، مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً، تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها.
ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها.
ولعلنا نفرد -إن شاء الله- درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها؟ وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء؟
البحث على الحق
الشيء الآخر أن الإنسان أحياناً يفعل معروفاً، ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف، فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير للناس، لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله، فقد يحسن شخص إلى الناس، ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم، وفي لحظة من اللحظات، يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها منّ: ألم أعطك كذا وكذا؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة، فيقول له مرة من المرات: أما أعطيتك كذا؟ ويذكر له حاجة واحدة، فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله.
ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم، أو إحسان مال، أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد، أن لا يمنوا، ولا يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف.
الباحث عن الحق يوفقه الله
وكذلك قوله: "وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله ﷺ بثلاث سنين" هذه النقطة يؤخذ منها: أن الإنسان الذي يبحث عن الحق، فإن الله يوفقه ولو إلى شيء منه، فقد كان أبو ذر مقتنعاً بالتوحيد، كان مقتنعاً أن الله واحد، وأن الناس الذين يعبدون الأصنام هؤلاء مشركون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا هو الحق، ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية، يصلي لله، ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فلا بد أن يصل إليه، وقد يصل إليه على مراحل، أي: أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية الأخرى، ثم إلى الجزئية الأخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.
تشابه أهل الحق في العقيدة
وكذلك قول أنيس لأبي ذر: "أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك، أو لقيت رجلاً بـمكة على دينك" هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون، وأهل التوحيد يتشابهون، ولو لم يلتق أحد منهم بالآخر، أو كان بعيداً عنه كل البعد، فلو رأيت رجلاً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل، في اعتقاده، وعمله، وعبادته، وجميع الأشياء.
ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء.
ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا.
وعمر كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله ﷺ لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى كان فيها رأي عمر بن الخطاب موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله .
فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟
فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.
أهمية المعرفة
وكذلك نأخذ من كلام أنيس: "لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر" نأخذ منه أهمية المعرفة، أن معرفة الأمور تأتي بمعرفة خلفيات الأشياء، فيستطيع أن يحكم عليها، فلأن أنيساً يعرف أوزان الشعر، وطرق الشعر، ويعرف أقوال الكهان، وعنده خلفية عن هذه الأشياء ما ضُلِّل وما صدَّق أن الرسول ﷺ كاهن ولا شاعر، ولذلك لا بد أن يكون للإنسان المسلم خلفية عن الواقع، وأن يعلم الأمور حتى لا تتشابه عليه الأشياء، فتكون نظرته غير صائبة، وغير صحيحة، فلا بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كلام الكهان، ومن قبل كانت المذاهب الهدامة: الكهانة والسحر، إلى آخره، أما الآن فقد اختلفت الأمور وزادت، فالكهانة والسحر موجودة، لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة، فلا بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة، وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار حتى لا يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع، والأعمال التي تعمل، وليست لوجه الله، وإنما يراد من ورائها الصد عن سبيل الله.
نصيحة المسلم لأخيه
وكذلك فإن هذا الأخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة، قبل أن يذهب إلى مكة، فقال: "كن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا" فقد زوده بالنصيحة، والمسلم أخو المسلم، ينصحه، فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان، وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده، فعليك أن تقدمها له، وتقول: يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا، واحذر، أو استغل كذا، فإن هناك -مثلاً- خيراً، لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث، وهناك رجل عالم بالأصول، أو قابلت مرة من المرات رجلاً يعلم اللغة العربية، فانتهز الفرصة، قابل فلاناً، فعليك النصيحة له.
المهمات العظيمة لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه
كذلك بعض المهام: لا يكفي الإنسان فيها كلام الأشخاص، فهذه قضية رسول ونبي ظهر، وهي قضية خطيرة، وليست سهلة، وليست مثل شخص يقول: اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني، إن هذه قضية تحدد مسار الإنسان وتحدد مصيره، وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة الإنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكلام أخيه، بل قال: ما شفيتني، وذهب بنفسه.
فإذن، بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.
ذكاء أبي ذر
وكذلك ذكاء أبي ذر في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم، انظر قال: "فتضاعفت رجلاً فسألته"، فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول ﷺ، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: " فتضاعفت رجلاً" ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول ﷺ وأين محمد ﷺ؟ وإنما: "تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ".
وهذا فيه ذكاء في البحث.
التحري والدقة
ويجب أن نعلم أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه.
ولذلك كان كلام ابن حجر -رحمه الله- دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.
إعانة الله المريد الوصول للحق
وكذلك فإن الله يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى بالأشياء المادية، فلا يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط، وإنما مثل ما أن الله أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثلاثين يوماً بدون طعام، يعينه لأنه يريد أن يصل إلى الحق.
إغاظة الكفار
وكذلك فإن في فعل أبي ذر تجاه الأصنام فيه إغاظة الكفار، وسب آلهتهم وغيظهم، وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم، أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم - إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم لله ودين الإسلام ونبيه ﷺ مثل النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم، تقول: هل هذه عقيدة عقلاء، أن الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد؟ وأن الأب الإله ينظر إلى ولده الإله وهو يصلب ولا يستطيع أن ينقذه؟ وكيف يموت الله؟ فهناك أشياء يمكن أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة، فهؤلاء الناس عندهم تخطيط في إضلال المسلمين وتشكيكهم.
ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغلاة في صورة ميزان، فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة، وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى الأعلى، ومكتوب على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فالصليب راجح، والمسجد فوق، وكتب هذا الخبيث على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق، لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي: أن أصحاب الصليب هم الأثقل.
فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين، أن يظهرها الإنسان.
وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل.
لكل مقام مقال
ونلاحظ أن لكل مقام مقالاً، فكان أبو ذر ، أديباً جداً هنا، يقول: "فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني" أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة "هن" هذه كناية، قال: "غير أني لا أكني" لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت.
وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقالاً يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.
اقتناع الكفار بالشبه المتعلقة بآلهتهم
وفيه: أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة، وأن المرأتين ولولتا، فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن الآلهة؟! فاعتقادهم في الآلهة اعتقاد كبير، ولذلك قال: "فانطلقتا تولولان ثم قالتا للرسولﷺ: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم"، وجلستا تقولان: "لو كان ها هنا أحد من أنفارنا؟".
فإذن، لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، قال الله عنهم: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 68] أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: 6].
لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به؟ فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً.
وكذلك فإن رسول الله ﷺ كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر .
سبب وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده على جبهته لما قال أبو ذر: "من غفار"
وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول ﷺ يده على جبهته لما قال أبو ذر: من غفار؟
لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول ﷺ فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟!
وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: "متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟" حتى توثق منه ﷺ، ثم كلمه عن الإسلام.
تبجيل أهل العلم للرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في هذا أيضاً: تبجيل لرسول الله ﷺ، وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر، فمنعه من أن يمسك يد الرسول ﷺ ويرجعها، وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية؟
"وكان أعلم به مني"، وأنه يأتي من الأعلم، وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات الله.
تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة
وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة، ولو في أمور معاشهم، فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً، فلا يقول له مثلاً: هل يكفيك معاشك؟ أو أين تسكن؟ أو كذا، وإنما يقول له بداية: هل تريد أن تعتقد بكذا؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا فقط.
بينما نجد أن الرسول ﷺ اهتم بأبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته، صحيح أنه جاء للحق، لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام فلابد من الاهتمام بهذه الأشياء، ولا نقول: هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة، المهم الدعوة، والمهم الحق والأدلة، والمهم المبادئ، لا، وإنما حتى هذه الأشياء مهمة، فراحة الناس والأشخاص، والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة، راحتهم الشخصية مهمة جداً، وضيافتهم للاستئناس، يقول أبو بكر: "ائذن لي في طعامه الليلة" حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم، ويكرم ذلك الرجل الذي أتى، وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فلا بد من تعويضه بشيء من الإكرام.
المرحلية في الدعوة والتخطيط لها
وكذلك فإن الرسول ﷺ كان مرحلياً مخططاً لدعوته، وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها، ماذا كان يقول له؟: "ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني" قالها لـعمرو بن عبسة، وقالها لـأبي ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي: ارجع إلى أهلك؛ لأن هذه مرحلة استضعاف، ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان الاضطهاد مثل مكة، ولذلك لما انتقل الرسول ﷺ إلى المدينة، جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا، وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها، جاء النصف الأول وجاء النصف الثاني وأسلموا، وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع الإسلامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم، والحرب قائمة، فهذا من حكمة الرسول ﷺ وبعد نظره، في تخطيطه لأمور دعوته.
الصدق في الدعوة
وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة، يفتح الله على يديه مغاليق قلوب الناس، فأبو ذر صادق اللهجة، عرض الكلام على أخيه فأسلم، ثم على أمه فأسلمت، ثم على القبيلة فأسلم نصفهم، وهذا ليس شرطاً، فقد يكون هناك أناس صادقون لا يستجاب لهم، لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق، وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخلاص، ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر، ولا يدل على المتابعة الصحيحة، ولا بد أن أولئك من الأئمة المضلين، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له.
فضل الدعوة
والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول ﷺ: عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم .
وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله ، ونشر الخير بين الناس.
عدم اليأس من تأخر الناس في قبول الحق
كذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق، فلا نعدم منهم الأمل، فقد يقول لك شخص: أريد أن أفكر في الأمر، أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول: أفكر، قد أحتاج إلى وقت؟
لا تقل: إما أنك تسلم الآن وإلا اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين.
هؤلاء القوم أسلم نصفهم، والنصف الباقي قالوا: إذا قدم رسول الله ﷺ أسلمنا، ما قال: لا، تسلموا الآن وإلا، فقد يتريث بعض الناس، وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إلا في عمل الآخرة، وفي قبول الحق، لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا، ما يريد أن يعتنق بسرعة، ولا يلتزم بسرعة، ولا يستقيم بسرعة، لكن اصبر عليه.
وكذلك فإن هداية الله عظيمة، فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق، وكانوا يسرقون الحجاج، وهذه من الجرائم العظيمة، ثم هداهم الله فأصبحوا من أعوان وأنصار الإسلام، وكانوا من سراق الحجيج، فلا تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه الله .
التفاؤل بالأسماء الحسنة
وكذلك الأسماء الحسنة تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول ﷺ: غفار غفر الله لها لو كان اسمهم: "كعب" أو كان اسمهم: " حرب" أو " كلب" مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول ﷺ على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.
الاستفادة من تاريخ الأمة
وأما بالنسبة لرواية البخاري ومسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ وهذه من الأشياء المهمة جداً، هذه القصص التي حدثت، هذه قصة الدعوة، هذا تاريخ، فهذه ليست مسألة سهلة، هذا تاريخ لا بد أن ينقل إلى الناس، ولا بد أن يتعلموه، ولا بد أن يقدم إلى الأمة رصيد التجربة للأجيال القادمة.
ولذلك الآن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟
مثل ابن عباس ، قال: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ .
فهذا الرصيد لا بد أن يقدم للأجيال حتى تستفيد منه، وهذه القصة، قصة عظيمة، وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي الاهتمام به؛ لأن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتشابه، وللمعتبر أن يعتبر.
تشويق السامعين وشد انتباههم
وبعد ذلك هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس في التعليم: "ألا أخبركم؟" ماذا في هذا الأسلوب؟
إنه تشويق للسامعين "ألا أخبركم بإسلام؟" ما قال: يا جماعة، أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟
فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة.
الدقة والعمق في البحث عن الحق
والناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس.
فإذن، هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فـأبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، وعلي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله.
فإذن، أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق، وأن هذا هو الطريق المستقيم.
ركوب الأهوال في سبيل الحق
ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله ، حتى يصلوا إلى الحق.
اهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة
واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فـعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.
وكذلك فإن الاطمئنان يكون فعلًا نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى الاطمئنان، ولما اطمأن أبو ذر لعلي فاتحه بالأمر، وعلي كان حريصًا على شخصية الرسول ﷺ وكان حريصًا على أبي ذر ولذلك أشار له بهذه الإشارات الخفية، وهذه الأشياء الخفية أو هذه الإشارات متى لجأ إليها علي؟ لما كان الجو فيه شدة.
فإذن، لجأ إليها عند الشدة، وما كانت هذه الأشياء منهجاً ينتهج دائما، وإنما كان شيء يفرضه الواقع، وتفرضه الطبيعة التي كانت موجودة وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب مع أبي ذر.
وأظن الوقت انتهى وبقي الحقيقة نقطتين أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق لأجل المصلحة أيضًا، وحسن العباس في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش، فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر.
وبعد ذلك فإن تلك الشخصية العظيمة شخصية أبي ذر الغفاري الذي تحمل ما تحمل لأجل الوصول إلى الحق والتعرف على الرسول ﷺ ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه، واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول ﷺ ظل ثابتًا، وكان لا يخشى في الله لومة لائم، حتى تأذى بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عنا المسلمين كل خير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.