الحمد لله رب العالمين، العليم الحكيم، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له علام الغيوب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاء بالعلم من ربه والوحي منه سبحانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
مقدمة
فإن الاشتغال بالعلم من أعظم القُرب، وأجلّ الطاعات، وآكد العبادات، وخير ما أُنفقت فيه الأوقات، وشمّر فيه أصحاب النفوس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى الخيرات، تظاهرت على ذلك الآيات الكريمات، والأحاديث الصحاح المشهورات، وأقاويل السلف النيرّات، العلم مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله علينا، فلا إيمان ولا عمل إلا بالعلم، به يُعبد الله، ويؤدى به حقه، ويُنشر به دينه، والحاجة إلى العلم أعظم من الطعام والشراب؛ لأن قوام الدين والدنيا بالعلم، قال أحمد -رحمه الله: "الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثة، والعلم يُحتاج إليه في كل وقت"[1].
لولا العلم كان الناس كالبهائم، فما الذي فضّل هؤلاء البشر بما أعطاهم الله من العقول فاتبعوا بها دينه ووحيه، لم يأمر الله نبيه أن يطلب الزيادة من شيء إلا من العلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [سورة طه:114].
فهو شجرة جليلة المقدار، باسقة الأشجار، وارفة الظلال، يانعة الثمار، طلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، أهله هم أهل الخشية، وورثه الموقعون عن رب العالمين.
إشهاد الله تعالى للعلماء الربانيين على توحيده
ولما ذكر الله فضله في كتابه، ورفعة أهله، وما آتاهم من الدرجات، وما أشهدهم عليه من الحقائق الجليات، ومنها: إشهادهم على توحيده ، وأن النجاة لا تحصل إلا به، ودلّنا ﷺ على الفضل العظيم الذي لأهل العلم، وما يكون لهم من الملائكة، ومن النمل ومن الحوت ومن سائر المخلوقات من الاستغفار، ومع هذا كله نرى في كثير من الناس زهداً في طلب العلم، وتشاغلاً عنه، فهذا مشغول بتجارته وأسهمه، وهذا بطلب رزقه والبحث عن ما يشتري به، وآخر بالملهيات والمشغلات والسفر والسياحات، وهذا للاحتراف في الأعمال، وهذا للأسفار، ودخلت علينا وسائل الإعلام بأشكالها، فأشغلتنا القنوات، والإذاعات، والمجلات.
وزاد الشغل على شغل بوسائل اللهو والترفيه والألعاب، وصارت القضية اليوم إشغالاً بعد إشغال، وانشغالاً في إثر انشغال حتى ذكر أحد المدرسين أن بعض طلابه يقضي على بعض الألعاب في اليوم اثنتي عشرة ساعة، أربعة ملايين مراهق يقضون أكثر من ستة ساعات يومياً في تصفُّح الشبكة، فماذا يفعلون؟ وهنالك أوقات تُقتل بالقصص الغرامية والمقالات اللاهية العابثة، وإثارة الغرائز، وألعاب تستهلك الساعات الطوال، ونقاشات حول تلك الألعاب، فإشغال ثم انشغال بالمناقشات الفارغات، وهذا مغرم بأنواع زينات السيارات، وهذا مشغول بالترف الزائد، وملاحقة ما يقوّي البدن -لا لطاعة- وإنما لكثير من الانهماك في الملذات، أنواع اللباس والانشغال بها، والتسكع في الأسواق، قضاء الأوقات في المقاهي، وهذا إذا لم تعجبه المقاهي الشعبية فهنالك من المقاهي الحديثة ما يقضي به وقتاً طويلاً جداً جماعات المزاح، وأنواع الفُرجة، والصفق بالأسواق والمولات، وهذا دخل لدراسة علم الشريعة؛ لأجل أن يتخرج بعد ذلك في الوكالات والمرافعات التي تجلب الأموال الطائلات، وآخرون يقضون أوقاتهم منهمكين في استثمار الأموال.
كان أبو بكر الصديق تاجراً، وكان عبد الرحمن بن عوف كذلك، وكان عثمان أيضاً، ولكن لم تشغلهم تجارتهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطلب العلم، والجلوس عند النبي ﷺ.
وكان بعض مشايخنا يشتغل من رمضان إلى الحج على سيارة أُجرة، ثم يكسب بها قوتاً ينفقه على نفسه وأهله مشتغلاً بطلب العلم بقية السنة، أصبحت الأوقات اليوم موزعة بين الصفق في الشوارع بالسيارات، والسهر على هذه الشاشات، وقضاء الأوقات في أنواع الحوارات في المنتديات، ثم يأتي التلفزيون التفاعلي لإكمال ما نقص إن كان قد نقص شيء والمنافسة في الحلبة، وهكذا أقفرت كثير من حلق العلم، وقلّ عدد الطلاب، وصارت مشاهد بين الكتب في المكتبات المستعملة نذيراً خطيراً، ومع ارتفاع الكثافة السكانية لكن عدد الحلق ومن يأتيها في نقص، مع أن العلم يؤتى ولا يأتي، ومع ذلك فإن الكثيرين لم يستفيدوا حتى من التقنيات المعاصرة في طلبه، وهذا أضعف همم حتى بعض المشايخ في التدريس، لما كان الطلاب يأتون كان أبو الحصين الأسدي -رحمه الله- قد قضى خمسين سنة في مسجد واحد يعلّم الناس، ويفقههم، لم تفتر له همّة، ولم تنكسر له عزيمة، مع كثرة المشغلات السمعية والبصرية اليوم وأنواع الزينات والفرجة والأفلام ومتابعة مسلسلات الآكشن، وغيرها من الأشياء الترفيهية، والانتقال عبر هذا الريموت بالأزرار من مشهد إلى مشهد، قلّت القراءة جداً، وضعف الإقبال على كتب العلم الشرعي؛ لأن الانشغال قد حصل في الصحف والروايات، وهذه البرامج والمسلسلات.
إذا رأيتَ شباب الحي قد نشئوا | لا ينقلون قلال الحبر والورقا |
ولا تراهم لدى الأشياخ في حلق | يعون من صالح الأخبار ما اتسقا |
فذرهم عنك واعلم أنهم هملٌ | قد بدّلوا بعلو الهمة الحمقا[2] |
أسباب عزوف الناس عن طلب العلم
قلة الإقبال على العلوم الشرعية حتى في الجامعات، عزف الكثيرون لأجل الانكباب على الدنيا، والجري وراء الأموال، نعم، لقد صارت الحياة بتعقيداتها مسرحاً للسعي في الازدياد من الأموال، وعمل ثانٍ وثالث أيضاً، وقضية ارتفاع الأسعار، وكثرة الفواتير التي تستنزف الراتب، جعلت الناس يعيشون أيضاً في نوع من اللهث المتواصل وراء تحصيل أموال يسددون بها الفواتير، وضيق سبُل العيش، وحصول أنواع من الظلم، وكثرة التهافت أيضاً، وما يكون من قلة ذات اليد التي تشغل عن طلب العلم؛ لأن الفقر من الأعداء، وإذا صارت الفوضى موجودة، وكثر المثبطون، وعمّ التسويف، وصار التفريط في طلب العلم من الصّغر
إذا أنتَ لم تزرع وأبصرتَ حاصداً | ندمتَ على التفريط في زمن البذر[3] |
وفاتَ القطار، مع أن الأوان في طلب العلم لا يفوت حتى لو كان الإنسان قد بلغ من الكبر عتياً.
مصاحبة البطّالين اليوم، وقضاء الأوقات الطويلة في المكالمات، كلام لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[4].
لا يفيده لا في الدنيا ولا في الآخرة، وحصول التداخل في المهام والواجبات، وهذه الفوضى الموجودة البعيدة عن التنظيم أورثت كثيراً من الانصراف عن طلب العلم.
إن قضية الإشغال والانشغال إشغال من قبل أعدائنا، ومن أصحاب الكسب من وراء الترفيه وغيره، جعلت قضية الطرح المكثف للمسموعات والمرئيات والمقروءات بحيث تستولي على آلات كسب العلم الثلاثة وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].
فصارت هذه مشغلة، اليوم أسماعنا وأبصارنا وعقولنا مشغلة اليوم وعليها ضغط مكثف من هذا البث المتواصل الذي يحصل في العالم، والسعي والسباق للمستجدات، والموضات وملاحقة كل جديد، والإنفاق عليه أضاع أوقاتاً وأموالاً، ثم ليت السهر صار فيما يفيد كثير منه في المعصية، وفيما لا يفيد، كان علماؤنا يسهرون في الليل تدبراً، وقراءة، وحفظاً، وانشغالات كثيرين اليوم بالإشغالات التي حصلت والاستجابة للطرح المكثف الموجود، والقصف المتواصل على الأسماع والأبصار والأفئدة، هو الذي جعلها تنشغل عن المفيد من عبادة الله وتعلّم دينه، إذا كان بعض الصحابة قد تحسّر بقوله: "ألهاني عنه الصفق بالأسواق" في قضية ما فاته من الحديث[5]، فكيف بنا نحن؟ مع أن الذي اشتغل منهم بشيء إنما اشتغل به لنفقة أهله، ونفقة الأهل واجبة.
أنواع الانشغالات عن طلب العلم
ونحن نعلم أن الأشغال ليست على درجة واحدة، هناك أولاً انشغالات مبررة من جهة الأصل ومبررة من جهة المقدار كطلب الرزق، ومتابعة الأهل، وتربية الأولاد، إلى آخره.
ثانياً: انشغالات مبررة من جهة الأصل، لكن غير مبررة من جهة المقدار، كالانهماك الزائد في الأعمال التجارية والوظيفية مثلاً.
ثالثاً: هنالك انشغالات غير مبررة أصلاً وبعضها انشغالات محرمة؛ انشغال بمعصية، ترف، تزجية أوقات في الأسفار، واحد يقول شاهدت الفيلم الفلاني عشر مرات، وهكذا القصص الموجودة في الأجهزة اليوم وهي قصص غرامية تثير الشهوات وهكذا لما أغلقت الأنوار في العاصمة عند الساعة الثانية عشر ليلاً ارتفعت أسعار الاستراحات والشقق، لأنهم يريدون أن يسهروا، ولا بد لهم من نظام الرفقة، ولكن ماذا يكون فيها، فالتوسع في ملاذ الدنيا، والحرص على قضية الاستراحة، وأخذ الراحة، ثم الانشغال بتتبع كل جديد، وغشيان المولات، والصفق بالأسواق، والاستمتاع بالتمدد في الاستراحات والمقاهي، والكيف، وهكذا صارت اليوم بجاذبيتها وما فيها من الديكورات، وأنواع المشغلات داخل المحل، وطريقة الجلسة، وماذا تتناول، وماذا تطلب، وهذه القائمة الطويلة، ونحو ذلك، مصممة بحيث تقضي أطول وقت ممكن في المكان، وإذا تأملتَ في أي شيء كماليات ترفيه ليس إلا.
حال السلف والرعيل الأول مع طلب العلم
كان يحيى بن يحيى الليثي -رحمه الله- جالساً يوماً مع أصحاب الإمام مالك -رحمه الله- فقال قائل: قد حضر الفيل فخرج من في الدرس لينظروا إليه إلا هو ثبت، فقال له مالك -رحمه الله: "لمَ لم تخرج فتراه، إذا ليس بأرض الأندلس؟ فقال له يحيى: "إنما جئتُ من بلدي لأنظر إليك، وأتعلّم من هديك وعلمك، لا لأنظر إلى الفيل، فأُعجب به مالك وسمّاه: عاقل أهل الأندلس، وانتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس" كما فيترتيب المدارك وتقريب المسالك[6].
وأبو عاصم النبيل المحدث المشهور -رحمه الله- إنما لقّب بالنبيل؛ لأن الفيل لما قدم البصرة وخرج الناس إليه وانفض أصحاب ابن جريج عنه الجالسين لأجل الفيل إلا أبا عاصم، فقال له الشيخ: "ما لك لا تنظر، قال: لا أجد منك عوضاً، قال: أنت نبيل، يعني الدرس يفوت والفيل لا يفوت.
لهم همم لا منتهى لكبارها | وهمّته الصغرى أجل من الدهر |
قال الحافظ السلفي -رحمه الله- هذا ممن عمر: "لي ستون سنة ما رأيتُ منارة الإسكندرية إلا من هذه الطاقة"[7] يعني طاقة حجرته في المدرسة، منارة الإسكندرية من عجائب الدنيا السبع، لكن ما كانوا يخرجون هكذا لتزجية الأوقات وليس فقط للفرجة، الإنسان يحتاج إلى نوع ترويح نعم، ويمشي في الأرض وينظر فيها في خلق الله ما يستدل به على توحيده، ويزداد به إيماناً، ولكن قضية نُزهة البطّالين هذه، وهذه الأسفار القصد الزواج والطلاق، وزواج المسفار يجلس مع البنت أسبوعين، صرنا في قضية عالم الشهوة حتى في إثارة الشهوات ليست الأشياء المحرمة عند البعض -وهذا بلا شك أهون- تطلب المزيد في عالم الشهوة في بند الحلال، لكن هذه الإثارات صارت مشغلة فعلاً في قضية الشهوة، وقضية طلب مسيار واحد واثنين وثلاثة وأربعة، والداخل والخارج، ضغطاً متواصلاً على الأعصاب، وعلى الجسد، وإنهاكاً؛ لأن عالم الجنس اليوم صار يدفع إلى كثير من هذا، وصارت القضية بالتالي غشيان العيادات والأدوية والمقويات، صار هذا يحتل جزءاً كبيراً من الذهن والدماغ والقلب بدلاً من أن يكون طلب العلم في هذا.
الجمع بين طلب العلم وطلب الرزق الحلال
ولو نظرنا إلى حال الصحابة -رضوان الله عليهم- لما احتاجوا إلى طلب الرزق ماذا فعلوا.
جاءت قضية النوبات واقتسام الأوقات وتوزيع المهام والعملية التكاملية.
وكان عمر مع جار له يتناوبان، "كنت أنا وجار لي من الأنصار -يقول عمر - نتناوب النزول على رسول الله ﷺ، ينزل يوماً، وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، قال ابن حجر -رحمه الله- تعليقاً على الحديث الذي رواه البخاري: "وفيه أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه، وحال أهله، ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته"[8] لو اضطر للغياب، لكن الآن هم يغيبون عن الدرس أصلاً.
قال ابن حجر: "لما علم من حال عمر أنه كان يتعانى التجارة إذ ذاك ويتعاطاها، عثمان كان من أثرياء الصحابة، لكن لم يشغله ذلك عن طلب العلم، وأنفق الأموال في إعداد الجيوش في سبيل الله، وعبد الرحمن بن عوف لما احتاج دخل السوق، وباع واشترى، ولو نظرتَ في تجارات الصحابة فهي لا تخلو من قضية الاستيراد والصفقات، يرسلون قوافل، يشتري بضاعة من الشام يبيعها في المدينة، يشتري من اليمن يبيعها هنا، انتقال السلع من مكان إلى مكان، من مكان الوفرة إلى مكان الندرة يسمح ببيعها بسعر أعلى، فكسب الصحابة في عملية الاستيراد والبيع، كسبوا في قضية الصفقات.
دخل عبد الرحمن السوق تحيّن سلعة بسعر قليل، ثم باعها بسعر أعلى، وهكذا، عملية صفقات، يشتري ويبيع، يوفرون بها أموالاً لإعداد الأمة، وتقدم الأمة، والنفقة على أنفسهم وأهليهم.
وبعض الصحابة ما كان عنده رأس مال أصلاً، فهل ترك العلم، أو ترك الصدقة؟ أبداً، ماذا كانوا يفعلون؟
عن أنس بن مالك قال: "جاء ناس إلى النبي ﷺ فقالوا: "ابعث معنا رجالاً يعلّمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفّة وللفقراء، فبعثهم النبي ﷺ إليهم" الحديث[9].
معنى ذلك: الذي ما كان عنده رأس مال كان يحتطب، يقول الصحابي: "وكنا نتحامل" يعني: يؤجّر نفسه حمالاً؛ لكي يكسب شيئاً يشتري به ماء يضعه في المسجد، وهذا يشتري ماء اليوم يضعه في مسجد في صلاة الظهر، هناك عمال يأتون فيصلون وهم على عطش فيشربون، وخير الصدقة سقي الماء.
الشاهد: أن قضية العمل بالبدن في الاحتطاب والحمل كانت عند الصحابة الفقراء يكسبون بها قوتهم، ويتصدقون، وربّ درهم خير من مائة ألف درهم، لم يشغلهم هذا حتى عن معرفة كيفية التخاطب مع العبيد والخدم.
كان لابن الزبير مائة غلام، ولهم ألسن مختلفة، فكان يخاطب كل واحد بلسانه -بلغته- تعلّم اللغات.
وهذا زيد بن ثابت قد فعل ذلك، وتعلّم ثلاث لغات، كل واحدة بمعدل خمسة عشر يوماً".
قال حماد بن زيد: قال لي أيوب: "الزم سوقك، فإنك لا تزال كريماً على إخوانك ما لم تحتج إليهم"[10].
كان أبو حنيفة النعمان له دار كبيرة لعمل الخز، وعنده صنّاع وأجراء، يعني يدير شبه مشغل".
كان ابن المبارك له تجارة، وكان إماماً في الفقه والحديث والزهد.
كان عون الدين أبو المظفر ابن هبيرة الوزير عالماً كبيراً محدثاً وفقيهاً، ولم تشغله أعباء الوزارة عن طلب العلم، والتأليف والتصنيف، وكان مكباً مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه، كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء.
وحمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة، كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، فقيل له الزيات من أجل ذلك، ويعقوب بن سفيان الفسوي -رحمه الله- إمام أهل الحديث بفارس، كان يشتغل بنسخ الكتب بالأجرة ليلاً حتى يتوفر له ما يكفيه في طلب العلم نهاراً، والقفال المروزي من كبار علماء الشافعية، كانت صناعته عمل الأقفال.
وكان النووي -رحمه الله- يساعد والده بدكان له صغيرة، فلم يشغله ذلك عن قراءة القرآن وحفظه في سن مبكرة ونشأ الشيخ محمد بن إسماعيل الحايك عامياً، لكنه كان محباً للعلم، يحضر مجالس العلماء، ويجلس للسماع، والتماس البركة، ولا يفوته الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلاطفه، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، واشترى الكتب، وبدأ في طلب العلم الجاد، فصار من النابهين، وأتقن علوم الآلة حتى صار فريداً في زمانه في الفقه والأصول يأتيه الناس لحل المشكلات العويصة في المسائل فيجيبهم بما يعجز عنه الكبار.
وعلي كزبر كان خياطاً في سوق المسكية، يقول الشيخ علي الطنطاوي على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب وجلس في الحلقة في المسجد بعد ما يقفل الدكان، فقرأ ودأب في المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك مدة لا يفارق دكانه، ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم، فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس جديد بعد موت الشيخ، فافتقدوا المعيد الذي يقرأ بعد الشيخ، فلم يجدوا من يعيد الدرس، ففتشوا عنه، فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أُعجب به الحاضرون، فعُين مدرساً -هو نفسه صاحب الدكان- ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم.
الكسب في حياة الإنسان ضرورة، لكن الجمع بينه وبين طلب العلم لا بد منه.
ولو فرضنا حصول التزاحم، فما هو الذي يقدّم؟ وما هي القناعة التي يجب أن تقوم في النفوس حتى يكفيها ما يأتيها بحيث لا تبقى في حال لهاث متواصل من أجل جمع الأموال، قال النووي: "كان السلف اتفقوا على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة والصوم والتسبيح، ونحو ذلك من عبادات البدن"[11].
فكيف بمن يشغل اليوم بشبكة الإنترنت والخروج إلى البر ومتابعة المباريات وسوق الأسهم؟
ولا تحفل بمالك وألهَ عنه | فليس المال إلا ما علمتَ |
وليس لجاهلٍ في الناس معنىً | ولو ملك العراق له تأتّى |
وما يغنيك تشييدُ المباني | إذا بالجهل نفسك قد هدمتَ |
جعلت المال فوق العلم جهلاً | لعمرك في القضية ما عدلتَ |
وبينهما بنص الوحي بونٌ | ستعلمه إذا طه قرأتَ |
لئن رفع الغني لواء مال | لأنتَ لواء علمك قد رفعتَ |
وإن جلس الغني على الحشايا | لأنتَ على الكواكب قد جلستَ |
وإن ركب الجياد مسوّمات | لأنت مناهج التقوى ركبتَ |
وليس يضرك الإقتار شيئاً | إذا ما أنت ربك قد عرفتَ[12] |
لو كنت فقيراً قُدِر عليك رزقك فأنت على الكواكب، وقد عرفت ربك فأنت في المعالي والدرجات.
وقضية البحث عن الوظيفة المناسبة، والعمل الحُر، والانتقال في الأعمال حتى يصل الإنسان إلى نوع معين من التركيبة في العمل إلى الوظيفة يستطيع به أن يطلب العلم، هذا شيء مهم.
كان البخاري -رحمه الله- له قطعة أرض يكريها كل سنة بسبعمائة درهم، ولكن ينفقها في ماذا؟
قال الألباني -رحمه الله- عن نفسه: "من توفيق الله وفضله عليّ أن وجّهني منذ أول شبابي إلى تعلم مهنة تصليح الساعات، وذلك لأنها حُرّة لا تتعارض مع جهودي في علم السُّنة، فقد أعطيتُ لها من وقتي كل يوم ما عدا الثلاثاء والجمعة ثلاث ساعات زمنية فقط، وهذا القدر يمكنني من الحصول على القوت الضروري لي ولعيالي وأطفالي على طريقة الكفاف -هذه نقطة مهمة- وسائر الوقت أصرفه في سبيل طلب العلم والتأليف ودراسة كتب الحديث وبخاصة المخطوطات منها في المكتبة الظاهرية وقضية الأعمال المسائية وعدم الاكتفاء بالأعمال الصباحية هذا لابد ينظر فيه؛ لأننا في الحقيقة ينبغي أن نصل إلى نتيجة، هل نحن طلاب مال أو طلاب علم؟ هل نحن طلاب دين أو طلاب دنيا؟ لأن قضية الأولويات تحدد تحديداً مهماً في هذا الموضوع، فإذا رُزق الشخص من القوت ما يكفي فعليه إذن أن يدخل في هذه المجالات الشرعية بجدية.
ليست المسألة رفض مال يأتيك، ربما ينعم الله عليك بمال كثير من عمل قليل، هناك ناس يعملون بالجوال، صفقة واحدة ربما يكسب بها قوت سنتين، يدل واحد على أرض يأخذ نسبة من الدلالة تكفيه ثلاث سنوات، ليست المسألة الآن رفض الأموال التي تأتي، لكن المسألة قضية الانهماك، قضية الانشغال.
رابعاً: مهما كان الانشغال لابد أن يفرّغ المسلم وقتاً من وقته لطلب العلم، تعلُّم الفرائض، العبادات، المعاملات، أشياء هو يمارسها حتى في المهن، هذا الطبيب يجب عليه أن يتعلم أحكام العورات، معالجة قضايا النساء، عمليات التجميل، إذا كان له دخل في هذا، وأشياء كثيرة في أحكام التطبب، وحتى الأبحاث والجينات والوراثة، وزراعة الأعضاء، وكذلك فإن المدرس عليه أن يتعلم من الفقه حتى في القضايا المتعلقة بالعدل بين الطلاب، والمدير في أعمال الحقوق والعقود، وأحكام العقود والبنود، وتطبيق العقوبات، وما هو الجائز، وما هو التعسفي، وما هو العدل في هذا، وكيف يحكم في الأمر، وهذا التاجر الذي يجب أن يتعلم أشياء كثيرة في أحكام البيع والشراء، وما يتعرض له من العقود والتأمين، وفتح الاعتمادات والقروض، والرهن، وأنتم تعلمون بعض التجار لا يخرجون الزكاة، يقول: أنا أتصدق أكثر من الزكاة التي أخرجها، لماذا؟ يقول: لا أستطيع أن أخرج، زكاتي عشرين مليون، لا أستطيع أن أخرجها، تأصل حب الدنيا والمال، كيف يخرج هذه الملايين، لا تطيب بها أنفسهم لله، فلا يحسبون الذي يبخلون به خيراً لهم، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ [آل عمران:180].
ومسألة الانشغال لا بد أن يقنع الإنسان فيها نفسه بحد، وكثير من الناس يكرر حياته عدة مرات، فقد يكون مضى عليه ثلاثون سنة، هو في الحقيقة عمره سنة واحدة تكررت ثلاثين مرة، ليس عنده جديد، ليس عنده ارتقاء، ليس عنده تحصيل، لا يوجد عنده زيادة من الخير، والفيروز أبادي صاحب القاموس كان يقول: "لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر"[13]، لا بد. يقول أبو إسحاق الحربي عن أحمد: "ما وجدته في يوم إلا أزيد من اليوم الذي قبله".
ليس هناك شيء اسمه مكانك راوح، وتجار بعض الأسواق كانوا يفتحون محلاتهم من بعد صلاة الفجر ثم يفتحون المصاحف لقراءة القرآن حتى يبدأ الزبائن بالإتيان ويتوارثون هذا العمل أباً عن جد، وهذا سائق ليموزين خصص بين المغرب والعشاء يوقف السيارة هو الآن في المسجد.
كان موسى قائد أمة، فلما علم برجل أعلم منه عند البحر ركب إليه رغم انشغاله ببني إسرائيل، ولكن عن أمر الله تعالى لم يذهب إلا بعد ما أذن له ربه، وجاء وقال: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا [الكهف:62]
ذريني أنل مالا يُنال من العلا | فصعب العلا في الصعب والسهل |
تريدين إدراك المعالي رخيصة | ولا بد دون الشهد من إبر النحل |
خامساً: عدم التفرغ للعلم لا يعني ترك الطلب، إذا لم يستطع الإنسان التفرغ الكامل لطلب العلم أو الرحلة للعلماء الأجلاء الربانيين، فعلى الأقل يجتهد حسب وسعه وطاقته في إدراك ما يمكن إدراكه؛ لأن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، وكثير من الصحابة والمهاجرين طلبوا العلم مع تعدد مشغولياتهم وأسرهم وأولادهم وصفقوا في الأسواق، لكن ليس كل شيء في حياتهم الصفق في الأسواق، أبو هريرة ما صفق أبداً، قال: "إن إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم -في المزارع- وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله ﷺبشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون"[14].
فلا يقال: كيف أسلم في العام كذا وروى آلاف الأحاديث؟ التفرغ، الإنسان مع الشغل الذي عنده يستطيع أن يكون له ورد من القرآن يومياً، يستطيع أن يكون له ورد في الحفظ والتلاوة يومياً، ويستطيع أن ينتهز أنواع من المشاوير خصوصاً في المدن المزدحمة التي يُقضى فيها بمعدل ساعتين في السيارة يومياً في قضية المشاوير والذهاب والإياب، فماذا تسمع فيها؟ الله لما وفر لنا هذه التقنيات اليوم، هذه الحافظات الضخمة، أنت عندك الآن الأشرطة وعندك الأسطوانات المدمجة وعندك المشغلات وإم بي ثري وحتى لو كانت الدروس مصورة والإم بي فور وحتى هذه المشغلات تُركب على ولاعة السيارة ثم تلتقط على موجة الإف إم وتسمعها، وحتى هذه رسائل إم إم إس الطويلة المحولة، هذه الجوالات الآن لما يكون عندك يعني أنت الآن بمجرد الإبهام تتصفح، هذه الجوالات ذات الشاشات العريضة التي اخترعت الآن باللمس بالإبهام، أنت تقرأ كتب كثيرة الآن بالإبهام، ومنها طريقة الجوال هذه تقلب صفحة هذه الحركة تقلب صفحة، ومنها تنزل وتطلع وتذهب يمين ويسار.
عندما صار الكتاب إلكترونياً، والآن أمازون نزلت الكتاب الإلكتروني بقدر الكف شاشة تُقرأ حتى تحت الشمس درجة اللمعان خاصة، وهذه الشاشات ستتطور حتى أنهم سيطوون شاشة المحمول، يكون هذا اللابتوب شاشة تطوى، تقنية طي الشاشات، وإذا كانوا يتحدثون اليوم على شيء يُلف حول المعصم، واختراعات ستأتي، والعلم عند الله تعالى، أنواع الملفات بي دي إف وتحميل من مواقع على الجوال وعلى هذا المحمول وجامعات أونلاين تدرّس عن طريق الشبكة تتصل، هناك جامعات تدفع لبعض الطلاب الفقراء وتأخذ من الطلاب الأغنياء نقل الدروس المباشر هذه القنوات العلمية التي تحمّل على جوالك منها ما تقرأ به في مدة انتظار العيادة، في المستشفى، وعند الحلاق، وفي سائر أماكن الانتظار.
البث عن طريق الإنترنت تقنية الآي تي تي في التي يمكن عن طريق أي شبكة الآن تحميل من الخوادم ما يسمى بتقنية الديو إندماند بحسب الطلب تحمل والبث موجود وتختار البرنامج الذي تريده، إذا ما اغتنمت تقنية الآي في تي في هذه في إعداد قنوات علمية على الجوال مثل قنوات التلفزيون لكن فيها أنواع البرامج بكافة العلوم لكافة المشايخ، وبطريقة الحقن أو طريقة السحب والتحميل مع السرعات العالية اليوم التي تستطيع فيها الاستعراض بدون قضية التوقف وهذه يعني الأجهزة هذا جهاز الأندرويد من قوقل للتصفح والبحث، وهذا جهاز الآي فون من ماك للتصفح والبحث، وهذا في قضية تحميل مئات الآلاف من الصفحات.
الآن نحن نعيش في عصر التخزين العالي والسرعات العالية مع تطور وسائل البحث، يعني ذلك: لابتوب فيه اثنين هاردسك اثنين تيرا بايت يستخدم هذا الحجم الهائل، المكتبة الشاملة الآن ومحملة وحتى صور الكتب الأصلية المخطوطة، لو شكيت في هذا المطبوع المصفوف يمكنك أن تقارن بالأصل والمخطوطة لتتأكد، لكن المشكلة هي قضية الهمة والنية، وإلا والله لو صار عندنا نوايا صحيحة، وأهداف سليمة، وإخلاص لله، واستثمار الوقت المتاح، واغتنام مدة النشاط والقوة، وإنجاز الأهم فالأهم، وتعويض ما فات، ولكل زمان عمل، واستعمال الوسائل الحديثة، والمبادرة بالفرصة قبل الغصة، والتعاون، والحذر من البطالة والغفلة، واستثمار فترات الانتظار، والمطالعة مع التفكير حتى لو تمددت فأنت تعمل عقلك فيما قرأت.
وهكذا ترك التوافه والبدء بالعمل وطرد التسويف والجداول، التقنية ما تركت شيئاً، حجة الله علينا في هذا الزمان عظيمة، لقد كانوا -أي سلفنا الصالح رحمهم الله- في قضية الانشغال بالعبادة والعلم، واحد عنده صدق في العزم صاحب مخبز يشتغل من الرابعة صباحاً إلى قرب المغرب، المخبز من المغرب من السرداب المظلم والحرارة فيه مرتفعة وحفظ القرآن بقراءة ورش وحفص وكتاب التوحيد وسلم الوصول، والبيقونية، والأربعين النووية والآجرومية، والأصول الثلاثة، ومتن تحفة الأطفال، والجزرية، وعمدة الأحكام، وملحة الحريري، خبّاز في سرداب مظلم تحت درجة حرارة مرتفعة!، إذا كان هؤلاء بعض العمالة الأجنبية في الجري، وفي الصيد، وفي المشي، لابد يشغل الموسيقى، ويضع الجهاز هنا والسماعة هنا، وشغال ساعات طويلة، ضع إم بي ثري واسمع، لماذا نحن المسلمين، لماذا أهل الدين، لماذا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لا يستثمرون هذه الأوقات في طلب العلم، وقد تيسرت السبل؟ أين استدراك ما فات؟!
فيقول عمر: فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، كان عند الصحابة مبدأ التعاون في طلب العلم، كل واحد يحمّس الآخر، وكان بعض المشايخ يراجعون القرآن في الحفظ وهذا يسمع لهذا، هذا يسمع لهذا، والحرص على الطلب من البداية، ورغم كثرة الأعمال اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، صحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، قال ابن الجوزي: إني أذكر نفسي ولي همة عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين، وأنا قرين الصبيان الكبار، حتى أني كنت ولي سبع سنين أحضر رحبة الجامع فلا أتخير حلقة، بل أطلب المحدث فيتحدث بالسير، فأحفظ جميع ما أسمعه، وأذهب إلى البيت فأكتبه"، قال عمر: "تفقّهوا قبل أن تسوّدوا" وقال البخاري: "وبعد أن تسوّدوا"[15].
وروى الخلال أن رجلاً سأل أحمد إني أطلب العلم وإن أمي تمنعني من ذلك تريد أن أشتغل بالتجارة، قال: دارها وأرضها ولا تدع الطلب.
الصبر على طلب العلم وتحمُّل المشاق
ثامناً: الصبر على طلب العلم وتحمل المشاق، لا بد من تعب، ما يأتي العلم بالملعقة، دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزر، فكابروا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبر
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر.
وجوب تفريغ المقتدرين لطلاب العلم الشرعي
تاسعاً: واجب المقتدرين في تفريغ طلاب العلم الشرعي، كان فلان العالم له أخ ينفق عليه، وقال فلان لفلان: أنت أطلب وأنا أكفيك، دور الأغنياء الأثرياء في تفريغ الطلاب النابهين، ما هو أي طالب، لا بد أن يؤتى بالطالب النابه، الطالب الألمعي، الطالب صاحب القدرة على الحفظ والفهم والاجتهاد والاستنباط عنده ملكة هذا يفرغ خسارة أن يشتغل مثلاً بعمل وظيفي وعمل مكتبي، أو يشتغل في بر أو بحر، هذا لا بد أن يوجه لفهم الكتاب والسنة، قال الطبري في حديث: من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا: فيه من الفقه أن كل من أعان مؤمناً على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل العامل، فمن فطر صائماً أو أعان حاجاً أو معتمراً أو طالب علم فله مثل أجره، زمن الانشغالات الذي نعيش فيه اليوم سواء كانت كما قلنا انشغالات تجارية، انشغالات وظيفية، انشغالات دراسية، هناك ناس منهمكون في المختبرات والبحوث، ما عنده بحثت مسألة شرعية، أو في عالم الترف والقصص والمقاهي والرفقة، الآن لا بد من مقاومة التيار لا بد، ولا بد أن نكون جادين.
أولاً: لا بد أن تكون لنا همة عالية، قضية التأمل في أخبار من سلف يفيدنا في اكتساب شحنة تدفعنا للعمل، قضية استمراء الملذات والتلذذ بهذه الملهيات لا بد أن يكون له خط يعني يوقفه عند حده.
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي | من وصل غانية وطيب عناقي |
وصرير أقلامي على صفحاتها | أحلى من الدوكاء للعشاق |
الدوكاء: الجماع.
وألذ من نقر الفتاة لدفها | نقري لألقي الرمل عن أوراقي |
وتمايلي طرباً لحل عويصة | أحلى وأشهى من مدامة ساقي |
أأبيت سهران الدجى وتبيته | نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي[16] |
قال ابن الجوزي: "نظرتُ إلى علو همتي فرأيتها عجباً، ولذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن، وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس بغير فائدة، ولا يحل لهم ضياع الأوقات بدون فائدة"[17].
وقال ابن القيم -رحمه الله: "أعرف من أصابه مرض من صداع -لعله يقصد نفسه- وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيها، فإذا غلب وضعه"[18].
فإذا كان المنشغل يريد طلباً للعلم، ولا يسعى له، ولا يبذل له جهداً، فمتى سيحصل المراد، ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس، لا بد من وضع حد لهذه الانشغالات، يكتفى بما لا بد منه، ثم بعد ذلك تصرف الأوقات في عبادة الله وتعلم دينه، ولا بد من التعب، ومن رام العلوم بغير كد سيدركها إذا شاب الغراب، متى يشيب الغراب؟ ما ندري.
والناجحون لا يملكون وقتاً أكثر من غيره، ما عندهم إلا أربع وعشرين ساعة، لكن هو يعرف كيف يستعملها، وذاك الفارغ البطّال لا يعرف كيف يستعملها، ومن طلاب العلم من عنده ورد يومي في القرآن سبع وعنده دوام، طالب موظف وعنده حضور درس في آخر النهار، وعنده حاجات الأهل وعنده زوجة وأسرة ويصل الرحم، هنالك شيء اسمه البركة في الوقت، قال إبراهيم الحربي: "أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يُدرك بالنعيم".
تريد الراحة راحة الآخرة ما تأتي براحة الدنيا، رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام، فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها، من ذاق حلاوة العلم، الحلاوات الأخرى هذه تذهب
فلو قد ذقتَ من حلواه طعماً | لآثرت التعلم واجتهدتا |
ولم يشغلكَ عنه هوى مطاع | ولا دنياً بزخرفها فتنتا |
ولا ألهاك عنه أنيق روض | ولا خدر بربربه كلفتا[19] |
فقوت الروح أرواح المعاني غذاء الروح هي معاني الآيات والأحاديث، هذه غذاء الروح
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت وأن شربت
قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ قال: "أسمع بالحرف مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم به كما تنعمت به الأذنان، قيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: "حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته بالمال"، فقيل له: كيف طلبك له؟ قال: "طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره"[20].
ثانياً: البدء بالأهم، قيل لمالك: ما تقول في طلب العلم؟ قال: حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلزمه، فبعض الأشياء قليلة الفائدة وتحصيلها من المستحسنات وليست من الواجبات والقواعد، وفقدها ليس بنقص، والحاجة إليها قليلة، ومع ذلك فيه ناس يشتغلون بالمفضول عن الفاضل.
وإذا طلبتَ العلم فاعلم أنه | حمل فأبصر أي شيء تحمل |
فإذا علمتَ بأنه متفاضل | فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل[21] |
قال الخطيب البغدادي: "والعلم كالبحار المتعذر كيلها، والمعادن التي لا ينقطع نيلها، فاشتغل بالمهم منه"[22]، وعلم الديانة: علم التوحيد، علم التفسير، والحديث، هذا هو المطلع، ولذلك تعصب بعض المتخصصين في العلوم لتخصصاتهم أحياناً يأتي بنتائج عجيبة في كلام خاطئ، كما قال ذاك:
فإذا طلبتَ من العلوم أجلّها | فأجلها منها مقيم الألسن |
يعني: النحو
فأجابه الآخر:
فإذا طلبتَ من العلوم أجلّها | فأجلّها عند التقي المؤمن |
علم الديانة وهو أرفعها لدى | كل امرئ متيقظ متدين |
هذا الصحيح ولا مقالة جاهل | فأجلها منها مقيم الألسن |
لو كان مهتدياً لقال مبادراً | فأجلّها منها مقيم الأدين[23] |
واللغة مهمة في فهم الكتاب والسنة لكنها ليست في النهاية أهم من علم التفسير والحديث.
العلوم خمسة
العلوم خمسة: علم هو حياة الدين علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين وهو العظة والذكر، وعلم هو دواء الدين وهو الفقه، وعلم هو داء الدين وهو الانشغال بما حصل من الوقيعة بين المتقدمين السلف، وعلم هو هلاك الدين علم الكلام والفلسفة، الذي يريد العلمانيون الجدد الآن بالمناسبة فيما يدعون إليه من ضمن ما يدعون إليه أن يطرح بقوة إعادة الأمجاد إلى علم الكلام والفلسفة، فالمنافقون الجدد يريدون إثارة الشهوات وإثارة الشبهات، فمن الأشياء التي ينادون اليوم بإثارتها: العودة إلى علم المنطق والكلام وعلم الفلسفة.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في منظومته:
وبعد في العلم بحور زاخرة | لن يبلغ الكادح فيه آخرة |
لكن في أصوله تسهيلاً | لنيله فاحرص تجد سبيلاً |
اغتنم القواعد الأصولا | فمن تفته يحرم الوصولا |
ثم اغتنام أوقات الفراغ، لا يوجد موظف أو تاجر إلا ويجد وقتاً للفراغ، فلماذا إذن يأخذون إجازة شهر في السنة؟ هنالك أوقات فراغ، هنالك إجازات، هنالك صيفية ورسمية، وفراغ من العمل بعد الدوام، ونصف دوام في يوم كذا، هنالك أوقات فراغ، أصلاً بعض الموظفين عندهم أوقات فراغ في وقت الدوام، فمنهم من يقرأ فيها الجرائد، ومنهم من يقرأ فيها القرآن، ومنهم من يسمع فيها الغناء، ومنهم من يسمع فيها العلم، وهذه أوقات الانتظار التي تمر بنا بدلاً من التأفف جالساً في صالة المطار؛ لأن الطائرة تأخرت التأفف لا يجدي، أخرج جوالك وتصفّح ما حملته من نفائس العلم، وهذه يعني الجوالات الإسلامية فيما ترسله تحتاج إلى مراجعة رسائل قديمة، وهذه الذاكرات الإلكترونية التي يمكن أن تخزن فيها تلك الرسائل التي مر عليها سنة، مراجعة الفوائد الملتقطة مهم جداً في عملية الاستحضار والاستفادة وإعادة الاستفادة، كان بعض السلف يقرأ وهو يسير، أبو بكر بن الخياط النحوي كان يدرس في جميع أوقاته حتى في الطريق، وربما سقط في جُرف"[24].
الخطيب البغدادي كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه.
أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية كان منشغلاً بالتدريس وكان في وقته مرحولاً إليه، فكان إذا قام إلى داره يقرأ عليه في الطريق، وثعلب النحوي سبب وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر وقد صار عنده شيء من الصمم بحيث لا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس فألقته في حفرة فمات اليوم الثاني، الفتح ابن خاقان وزير المتوكل إذا ذهب للصلاة أو لقضاء حاجة يخرج أوراقاً يقرأ فيها في الطريق حتى يبلغ ذلك الموضع، الشيخ ابن باز -رحمه الله- حفظ ألفية العراقي وهو يتوضأ، في كل يوم يحفظ بيتاً أو بيتين حتى أكملها، تبارك الذي يبلغ الهمم ما لا تبلغه الأجساد.
أهمية التعاون في طلب العلم
رابعاً: التعاون، استعن بصديق، لكن بدلاً من الاستعانة بصديق في الكلام الفارغ، استعن بصديق استعن بأخ في الله، قد يداخلك الكسل والفتور، تحتاج إلى من يجدد لك الهمة، التعاون فيه بركة، كان جبريل يدارس النبي ﷺ القرآن، هذا يقرأ وهذا يسمع وهذا يسمع وهذا يقرأ وهو يقرأ بعد التناوب.
استغلال الدورات المكثفة والقصيرة مهم، وكثيراً ما تقام اليوم في المدن، فماذا فعلنا في استثمارها؟
ثم القراءة المثمرة والمواظبة عليها ولو صفحة في اليوم، قرأ الخطيب البغدادي البخاري الصحيح على أبي عبد الرحمن النيسابوري الضرير في ثلاثة مجالس، يقول ابن حجر: هذه من الكرامات، هذه ما حصلت يعني، اثنان منهما في ليلتين تبدأ القراءة من المغرب تقطع لصلاة الفجر، والثالث قرأ من ضحوة النهار إلى المغرب، ثم من المغرب إلى طلوع الفجر ففرغ من الكتاب، هذه ما تكون إلا سبحان الله، قد يعيد بعض اللاحقين أمجاد السابقين.
ذكر السخاوي أن شيخه ابن حجر قرأ السنن في أربعة مجالس، وصحيح مسلم في أربعة مجالس في نحو يومين وشيء"[25].
يسمونها دورات مكثفة، أين شغلنا في الدورات المكثفة؟
العز بن عبد السلام كان يخرج إلى المسجد يوم الأربعاء ومعه نهاية المطلب لإمام الحرمين، فيمكث في المسجد يوم الأربعاء والخميس والجمعة إلى قبيل الصلاة، فقرأ الكتاب كاملاً في ثلاثة أيام كتاباً ضخماً في الفقه الشافعي طُبع قريباً في واحد وعشرين مجلد.
نقل ابن رجب في ذيل الطبقات في ترجمة العلامة أبي البقاء العكبري أنه كان محباً للاشتغال بالعلم مكباً عليه ليلاً ونهاراً، ما يمضي عليه ساعة إلا وواحد يقرأ عليه أو مطالع له حتى أن زوجته بالليل تقرأ له في كتب الأدب"[26].
كان كثير من المشاهير لا يمشي إلا وفي يده كتب أو أجزاء يطالعها.
يقول ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه: "ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه"[27]، ويدخل جد شيخ الإسلام يغتسل ويُقرأ عليه من وراء الستار، يقول الشيخ علي الطنطاوي: أنا اليوم وأنا بالأمس كما كنت في الصغر أمضي يومي أكثره في الدار أقرأ، ربما مر عليّ يوم أقرأ فيه ثلاثمائة صفحة، ومعدل قراءتي مائة صفحة من سنة ألف وثلاثمائة وأربعين إلى سنة ألف وأربعمائة واثنين عندما تكلم بهذا، بعض الناس يؤتيهم الله قوة بالإضافة إلى قضية طلب العلم الإشراف على مجالس التحكيم والعمل رئيساً لمجالس الأوقاف والأيتام والمجلس الأعلى للكليات الشرعية وإلقاء دروس في الكلية والثانوية وخطبة الجمعة ومحاضرات في النوادي وحديث في الإذاعة ومقال يومي في الجريدة ويقرأ كل يوم مائة مائتين إلى ثلاثمائة صفحة وأنا مستمر على ذلك من يوم تعلمت القراءة وأنا صغير.
لو نعطى حب القراءة كحب التلفزيون والقنوات لفعلنا شيئاً كثيراً، أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، معظم النار من مستصغر الشرر، والسيل اجتماع القطر، اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط، تحفظ كل يوم نصف صفحة ستحفظ القرآن ولو بعد سنين، قراءة صفحة من التفسير كل يوم الهامش هذا الذي في إطار كتب التفسير المختصرة المطبوعة، القرآن في الوسط والتفسير حاشية، لو صفحة واحدة كل يوم، كان التنقيح والجودة شعاراً حتى في التأليف والتصنيف عند المتقدمين، كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام في أربعين سنة، كم عساه أن يكون لا يتجاوز مجلد، قال أبو عبيدة: "كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في الكتاب فأبيتُ ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة" يعني لا ينام من الفرح[28].
بلغت مؤلفات الشوكاني ثلاثمائة عنوان ما بين كتاب كبير ومتوسط وصغير، هو ذكر قاعدة في البدر الطالع في ترجمة شيخه علي بن إبراهيم بن عامر الشهيد قال: "وكنت أعجب من سرعة ما يتحصل له من ذلك -يعني التصنيف- مع شغله بالتدريس، فسألته بعض الأيام عن هذا فقال: "إنه لا يترك النسخ يوماً واحداً، لا بد كل يوم يكتب، وإذا عرض ما يمنع فعل من النسخ شيئاً يسيراً ولو سطراً أو سطرين، فلزمتُ قاعدته هذه فرأيت في ذلك منفعة عظيمة"[29].
كل يوم اعقد لك مجلس تفسير لو آية لو آية، هي ستنتهي بعد ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين يوم، لكن هناك آيات قصار، وهناك همم تكبر مع الوقت، ولذلك يبدأ الإنسان بأشياء قليلة دائمة فينتهي بأشياء كثيرة دائمة.
قال أبو هلال العسكري: "حكى لي بعض المشايخ أنه قال: رأيت في قرى النبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان"[30]، هذا في بلد أعاجم، كيف في بلد أعاجم كلهم خرج واحد عربي فصيح شاب صغير، فسألته عن سبب فصاحته مع لكنة أهل جلدته، قال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتاب الجاحظ فأرفع بها صوتي في قراءتها، فما مر بي إلا زمان قصير حتى صرتُ إلى ما ترى، الواحد أحياناً يقرأ وهو لا يفهم ما يقرأ مع كثرة القراءة يبدأ يفهم، ويصير عنده ملكة.
ثامناً: لا بد من الترتيب والمنهجية وتنظيم الأمور.
نصائح ثمينة للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في طلب العلم
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يذكر بعض النصائح للطلاب في هذا الباب:
أولاً: احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئاً معيناً تحافظ على قراءته بتدبر وفهم، وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
ثانياً: احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة رسول الله ﷺ ومن ذلك حفظ كتاب عمدة الأحكام.
ثالثاً: احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفاً من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً؛ لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
رابعاً: ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيداً، ثم انتقل إلى ما فوقها حتى تحصل على العلم شيئاً فشيئاً.
الآن اخترعوا في الغرب كتاب المشكلة لما تشوف بعض الشباب ويقرأ كتاب دان بروان يقرأ يعني يقرأ كتب فيها أربعمائة صفحة ويقول لك: هذه رواية هاري بوتر عالم، هناك ناس تقرأ، لكن ماذا تقرأ؟ هذه المشكلة، القمامة بالتدوير تتحول إلى أشياء مفيدة، لكن زبالات أذهان الكفار لا تجني من وراء رحى الأذهان إلا المر والعلقم.
الحرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وتقييدها
خامساً: احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيد كل شيء يمر بك من هذا القبيل، من حرم الأصول حرم الوصول.
سادساً: ناقش المسائل مع شيخك أو مع من تثق به علماً وديناً من أقرانك، وإذا ما حصلت الشيخ، ولو أنت تقدر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها وكيف ترد، قضية التردد، واحد من الطلاب يستشير شيخاً فيقول: هل أحفظ المنتقى أو البلوغ، وبعد خمس سنوات ما زال يطرح نفس السؤال: هذا أو هذا؟
إذا كنتَ ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ | فإن فساد الرأي أن تتردد |
وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً | وما الحزم إلا أن تهم فتعملا |
هذه المنهجية التي تعين على بلوغ القصد، تُكتسب بالنصيحة، تُكتسب بالاطلاع على تجارب الآخرين، تُكتسب بأن تستشير وتسأل.
لا أستقر بأرض أو أسير إلى | أخرى بشخص قريب عزمه ناء |
يوماً بحزوى ويوماً بالعراق | يوماً ويوماً بالخريصاء |
وتارة تنتحي نجداً وآونة شعب | الغويري وطوراً قصر تيماء[31] |
هذه اسمها: الفوضى في طلب العلم، مرة يفتح له كذا صفحة يأخذ من المسألة ويفتح، لا توجد منهجية.
ومن فوائد الشيخ: أن يدلك على المنهجية، يعطيك شيئاً وتنتهي منه تأتي الذي بعده وهكذا، والآن الدورات على الإنترنت كثيرة جداً وما يقول واحد: ليس هناك مشايخ أو المسجد اللي جنبي ما فيه درس، في ناس يرحلون وبعض الناس يكسلون، طيب والآن صارت بالأزرار، افتح الدورة بالأزرار، والدرس بالأزرار، وسؤال الشيخ بالأزرار، وسماع الشيخ بالأزرار ومناقشة الشيخ بالأزرار صار العلم مبذولاً، لكن أين الثمرة؟ وأين الفائدة؟
ثم الاستفادة من هذه التقنيات وحتى القنوات الفضائية التي تعرض الدروس العلمية، صار في بعض الأشياء مواكبة لهوى أهل العصر، فإذا هواهم في التلفزيون قالوا: سنضع لكم دروساً علمية في التلفزيون،صار هواهم في الام بي ثري وإم بي فور، سنضع لكم في المشغلات أشياء علمية، لكن النفس الأمارة بالسوء والشيطان، الهوى غالب، فلا بد من المقاومة، وعندنا الآن من أنواع الأجهزة، وأنواع الكتب، وأنواع الوسائل الكثيرة جداً، ثم ليتحف بعضنا بعضاً بالفوائد، قرأتَ فائدة أرسلها بالجوال لكل من عندك من قائمة بالبريد الإلكتروني، أرسل الفائدة، لا هم يرسلون طرائف ورسوم كاريكاتورية، وأحياناً كلام ساقط، ومقطع فيديو، زوجها على اليوتيوب طول الليل يرى مقاطع من مقطع إلى مقطع إلى مقطع وتصميم المواقع أصلاً هو مصمم على أنه يسحبك ويمتص وقتك إلى النهاية حتى تسقط صريعاً على الجهاز؛ لأنه ينقلك من صفحة إلى صفحة، ومن مكان إلى مكان، والروابط ومواضيع مشابهة وكلام.
نحن يمكن أن نقدم بهذه الوسائل أشياء تنفع، هنالك منتديات في الحديث وفي التفسير وفي الفقه وفي العقيدة، اقرأ أنت اعتبرها نشرة أخبار يا أخي وانظر آخر الأبحاث المعروضة اليوم، وآخر المسائل الموجودة في مواقع للفتاوى ومواقع للسؤال والجواب، هناك أشياء وعلى الجوال محملة، واختصروا فتاوى المشايخ الكبار ونزلوها على الجوالات وبمختلف الأنواع، فقط أين القراء؟ وأين المستفيدون؟
إذا ركبتَ في الطائرة تأخذ قناة الأفلام لازم، لازم يعني حتى أفلام الكرتون التي للصغار لازم نواظب عليها، عالم الترفيه عالم المتعة عالم التسلية عالم العالم، أين العالم الآخر، اليوم الآخر، نحن اليوم أيها الإخوة نحتاج إلى استثمار أموال وجهود في المواقع والقنوات التي تنشر العلم الشرعي بحيث تكون مرتبة سهلة الوصول جذابة تعلب الأشياء لجميع الأذواق، ودخول عالم التسويق في قضية تعليب المنتجات العلمية الشرعية وتغليفها، وتقطيعها، وفهرستها، وعنونتها بما يناسب كبار وفتيات وصغار ومراهقين وشباب، هذا شيء يعني لا بد منه، الأشياء السهلة التي يفهمها الشاب العادي سؤال جواب، معلومة، قاعدة، قصة، أبيات، هذه تنشر انشر تنشر هذه الأشياء.
لا بد أن تكون هناك مواقع متكاملة تحت إشراف العلماء الكبار وتعرض التدريس للطلاب على اختلاف تخصصاتهم وأشغالهم عنده هذا نوبات في الليل، وهذا فاضي في الصباح، ماذا سيقدم له في الصباح، وكذلك النوبات الليلية ونوبات وسط النهار وسط اليوم وأشياء للحفظ وأشياء للشرح وأشياء للمراجعة وأسئلة للاختبار وتكون هناك مجموعات إذا كان نظام القروبات الآن في الشبكة وغيرها، نستطيع أن نعمل نظام مجموعات في قضية طلب العلم والحث عليه وهذه الكتب والمصاحف الإلكترونية، هذه الكتب الآن هذا يعني كتاب الأمازون هذا الهاي لايت القضية أنك تعلم على الموضوع ممكن، قضية تكتب ملاحظة ممكن، قضية ماذا تريد؟ أنت يا عاشق التقنية عندك كل شيء موجود، موجود الأشياء، بقيت قضية صحة التوجه وصحة النية.
أهمية عنصر التسابق في طلب العلم
والطالب الذي لا يجلس مع من ينافسه ويكون له قرين أو صاحب ما يكون عنده تسابق، والتسابق هذا عنصر مهم في التحصيل، وقضية التسابق ممكن أن تجد أخاً في الله من بلد بعيدة؛ لأنك أنت تآخيت معه إلكترونياً في حضور مجلس الذكر الإلكتروني والمراجعة بعده حتى لو لم تجد من المعاصرين مع أنك تجد هذا موجود ولله الحمد.
ثم التقليل من الانشغالات المباحة فضلاً عن حذف الانشغالات المحرمة تماماً.
إذا كنت تجري وراء الكرة | وتجذبك الشاشة المبهرة |
ويلهيك ناد وألف صديق | تباروا على النت في الثرثرة |
وأخذك للعلم قل لي متى | وقل لي متى حصة الآخرة |
اللهم فقهنا في الدين، وارزقنا اتباع سنة سيد المرسلين، علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين والحمد لله أولاً وآخراً، فنسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وأن يتوب علينا، إنه سميع قريب.وصلى الله على نبينا محمد.
- ^ إعلام الموقعين عن رب العالمين: (2/ 182).
- ^ الآداب الشرعية والمنح المرعية: (1/ 212).
- ^ حفظ العمر لابن الجوزي: (65).
- ^ رواه الترمذي: (2317)، وابن ماجة: (3976)، وأحمد: (1737)، وصححه الألباني في المشكاة: (4839).
- ^ رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (2062).
- ^ ترتيب المدارك وتقريب المسالك: (3/ 383).
- ^ تاريخ الإسلام للذهبي: (40/ 201).
- ^ فتح الباري لابن حجر: (1/ 186).
- ^ رواه مسلم: (677).
- ^ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: (3/ 11).
- ^ المجموع للنووي: (1/ 20).
- ^ ديوان أبي إسحاق الإلبيري: (27).
- ^ القاموس المحيط.
- ^ رواه البخاري: (118).
- ^ رواه البخاري: (1/ 25).
- ^ علو الهمة: (168).
- ^ صيد الخاطر: (251).
- ^ روضة المحبين ونزهة المشتاقين: (70).
- ^ ديوان أبي إسحاق الإلبيري: (26).
- ^ معجم الأدباء: (1/ 22).
- ^ العقد الفريد: (2/ 84).
- ^ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: (2/ 245).
- ^ جامع بيان العلم وفضله: (1/ 246).
- ^ الحث على طلب العلم: (77).
- ^ خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: (1/ 73).
- ^ ذيل طبقات الحنابلة: (3/ 231).
- ^ تهذيب الكمال: (24/ 387).
- ^ سير أعلام النبلاء: (10/ 496).
- ^ البدر الطالع: (1/ 420).
- ^ الحث على طلب العلم: (72).
- ^ المنتحل للثعالبي: (218).