الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد تقدم في مجلس مضى ذكر الكلام على بر الوالدين وأهميته وفضله، وشيء من إثم العقوق وصوره، ونخصص هذا المجلس إن شاء الله للحديث عن حدود طاعة الشاب المسلم لوالديه، وما يتعلق بهذا من الأحكام الفقهية في مسائل مختلفة تتعلق ببر الوالدين، وتقدم أن البر يجب أن يكون بكل قول أو فعل حسن، وأن العقوق يحرم وهو إيذاء الوالدين بأي قول أو فعل، فأما حق الأب والأم أو حق الوالدين في مال الولد، فإن مال الولد حلال للأب وأطيب ما أكل الوالد من مال ولده، لأن ولده من كسبه، وعن جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك لأبيك [رواه ابن ماجه: 2291، وصححه الألباني في الإرواء: 838].
وقال ﷺ: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم [رواه الترمذي: 1358، وصححه الألباني في المشكاة: 2770]. قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح، وعنون عليه: "ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده". ومعنى: أطيب ما أكلتم من كسبكم أي أحله وأهنأه، ومعناه أن أباك كان سبب وجودك، ووجودك سبب وجود مالك، فصار له أي المال بذلك، وتقدم أن اللام في قوله: لأبيك، أن الراجح فيها أنها للإباحة وليست للتملُّك، وشروط أخذ الوالد من مال ولده: أولاً: ألا يجحف بالابن، وألا يأخذ ما كان في أخذه ضرر على الولد، كما لو أخذ بيته الذي يسكنه ودابته التي يركبها ونفقته ونفقة زوجته وأولاده وملابسه ولم يترك له شيئاً، فإذن، لا يأخذ ما تتعلق به حاجة الولد، كما لا يجوز له أن يأخذ من ولد فيعطي ولداً آخر إلا بإذن المأخوذ منه، وألا يكون التملُّك في مرض موت أحدهما، وألا يكون الأب كافراً والابن مسلماً؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى، ولذلك فالأشبه أن الأب المسلم ليس له أن يأخذ من مال ولده الكافر، وكذلك فإن ما يتملكه الأب من مال ولده يجب أن يكون موجوداً في حوزة الولد حتى يأخذه، وبناء عليه فإنه لا يجوز أن يتصرف في مال الولد قبل قبضه، فلو كان للولد أشياء عند الناس، فليس للأب سلطة عليها، حتى يقبضها الولد فتكون في ملكه.
وتقدم أن الأب يأخذ من مال ولده ما شاء في قول بعض العلماء بالشروط المتقدمة، وبعضهم قال: لا يجوز أن يأخذ من مال ولده إلا إذا احتاج، واحتجوا بحديث النبي ﷺ أن في قوله: إن أولادكم هبة يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وصححه في إرواء الغليل وفي السلسلة الصحيحة وقال: "وفي الحديث فائدة فقهية هامة؛ وهي أنه يبين أن الحديث المشهور: أنت ومالك لأبيك ليس على إطلاقه؛ بحيث أن الأب يأخذ من ابنه ما يشاء، كلا، وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه، والله أعلم". [رواه الحاكم: 2564، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2564].
والذين قالوا إن الأب لا يأخذ من مال الولد إلا ما يحتاج، احتوا أيضاً بحديث: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام [رواه البخاري: 1741]. وكذلك بأن ملك الولد على المال تام، فلا يجوز انتزاعه منه بغير إذنه، وردّ الذين قالوا للأب أن يأخذ من مال ولده ما يشاء، بغير إضرار بالولد، حتى لو كان الأب غير محتاج بأن هذه الزيادة التي وردت في الحديث السابق أنكرها عدد من العلماء والأئمة والحفاظ كأحمد وأبي داود وابن المبارك، وأن قوله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم حرام وحديث: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه [رواه البيهقي في الشعب في السنن الكبرى: 11545 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7662 ]، عامة مخصصة بحديث: أنت ومالك لأبيك [رواه ابن ماجه: 2291، وصححه الألباني في الإرواء: 838] ، كما قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -، وبناء عليه ذهبوا إلى أنه يأخذ من مال ولده ما شاء دون أن يضر بالولد، وهنا سؤال يقول: هل يقدِّم الابن بناء بيت لنفسه، أم يعطي مالاً لأبيه ليتزوج؟
فأجاب الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - وقد سألتُه عنه: "يجب عليه أن يعطي والده لزواجه خصوصاً إذا كان والده في حاجة شديدة للزواج"، إذن، هذا الابن مستأجر، ويريد أن يبني بيت ملك له، والأب طلب منه مالاً ليتزوج به، فقال الشيخ: إذا كان الأب محتاجاً إلى الزواج لابد أن يقدِّم الولد حاجة أبيه على حاجته في بناء البيت، وهنا سؤال أيضاً يتعلق بالمال هل يلزم الولد أن يطيع أباه في مواضع صدقاته؟ فيقول: إن هذا الولد له مال يريد أن يضعه في صدقات في نشر العلم وفي الدعوة إلى آخره، وأبوه يريده أن يعطي المال للأقارب ويسأل هل يلزمه ذلك؟ فسألت الشيخ - رحمه الله -: هل حديث أنت ومالك لأبيك يدل على أن الأب له أن يتحكم بمواضع صدقة ولده، ويقول له تصدق في هذا الباب، ولا تتصدق في هذا الباب؟ فقال الشيخ - رحمه الله -: لا يدخل في هذا، إلا إذا أراد أن يتملّكها فلا بأس، يأخذ المال هو ليتملكه، ما لم يكن حيلة على منع صدقة ابنه، فهو لما كان لا يعلم أن الولد سيتصدق تارك للولد، لما قال له الولد: أريد أن أتصدق قال: هات المال، أنا أريده، حيلة ليأخذ لمنع الولد من الصدقة، قال الشيخ: ولكن مع ذلك أنا أشير على الابن أن يعطيها الأقارب فهو أفضل، من باب البر لا من باب الوجوب، من باب أن إعطاء الأقارب طيب وأفضل وفي طاعة للأب، فليس للأب إذاً أن يلزم ولده بمواضع معينة يضع فيها الصدقة ويمنعه من مواضع أخرى، وإذا كان المال كثيراً، وكان هناك من هو أحوج من الأقارب، فلا يلزم الولد أن يضعها في الأقارب ويمكنه أن يعطيهم جزءاً منها والباقي يضعه فيما شاء من أبواب الصدقة، وهنا مسألة أيضاً متعلقة بالمال، هل الأب إذا اقترض من ولده للولد أن يطالب أباه بالدين الذي اقترضه منه، أم لا؟ قال ابن قدامه - رحمه الله -: "وليس للولد مطالبة أبيه بدين عليه"، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: له ذلك، يجوز للولد أن يطالب، لكن بأدب، له أن يطالب؛ لأنه دين ثابت، فجازت المطالبة به كغيره"، استدل ابن قدامة - رحمه الله - فيما ذهب إليه في مذهب الحنابلة بأن الابن لا يطالب أباه بالدَّين بحديث أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ بأبيه يقتضيه ديناً عليه، فقال: أنت ومالك لأبيك [رواه الحاكم: 2564، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2564].
وكذلك فإن علياً جاءه من يطالب أباه بمال، فقال:
المال للشيخ جزاء بالنعم | يأكله برغم أنف من رغم |
من قال قولاً غير ذا فقد ظلم | وجار في الحكم وبئس ما جرم |
ولأن المال أحد نوعي الحقوق فلم يملك مطالبة أبيه به، كحقوق الأبدان ويفارق الأب غيره بما ثبت له من الحق على ولده، وإذا مات الابن وانتقل الدين إلى ورثته، يقول ابن قدامة - رحمه الله -: "لم يملكوا مطالبة؛ لأن موروثهم لم يكن له المطالبة فهم أولى، لكن إذا مات الأب الذي اقترض المال من الابن، الأب مات، رجع الابن في تركته بدينه؛ لأن دينه لم يسقط عن الأب، وإنما تأخرت المطالبة، فإذن، واحد أقرض أباه مالاً، مات الأب وله ورثة، منهم هذا الابن المقرض وغيره، فهل يجوز للابن المقرض أن يسترد ماله من تركة أبيه، الجواب بحسب ما تقدم: يسترده، نعم، يسترده، وهناك رواية عن أحمد - رحمه الله - إذا مات الأب بطل دين الابن، وقال فيمن أخذ من مهر ابنته شيئاً فأنفقه ليس عليه شيء ولا يؤخذ من بعده، وما أصابت من المهر من شيء بعينه أخذته""[المغني لابن قدامة: 6/ 63].
يعني أخذ منها أشياء عينية الأب أخذ من البنت أشياء عينية، فمات، فوجدت بعض الأشياء العينية موجودة، فالبنت أحق بها.
والخلاصة في مسألة لو استقرض الأب من ولده أن للولد مطالبته عند الجمهور، وعند الحنابلة لا يجوز أن يطالبه، لحديث: أنت ومالك لأبيك [رواه ابن ماجه: 2291، وصححه الألباني في الإرواء: 838].
وبناء عليه ماذا عن حبس الوالدين في دَين الولد؟ لو الآن ماطل المقترض ماطل، ماذا نفعل؟ يطالبه بالتسديد يشكوه إلى القاضي، يطالبه بالتسديد، رفض، يعزِّره يُحبس حتى يفي، هذا أب اقترض من ولده، هل يُحبس الوالد بدين الولد؟ قال سحنون من علماء المالكية لعبد الرحمن بن القاسم - رحمهما الله -: "أرأيت الوالد هل يُحبس في دَين الولد؟ والمرأة هل تُحبس في دَين الزوج، أو الزوج في دين المرأة، أو الولد في دين الوالد؟ قال: قال مالك: الولد أراه يُحبس في دين الوالد لا شك فيه، الولد يُحبس في دَين الوالد لا شك فيه، واحد اقترض من أبيه، ثم رفض أن يفي ويرد لأبيه، هل يجوز حبس الولد؟ لا شك، قال: "وأما الوالد فلا أرى أن يُحبس في دين الولد، وقال الكرابيسي - رحمه الله -: "لا يُحبس الوالدان في ديون الولد، لا يؤخذ الأب ولا الأم ويُحبسان في ديون الولد، ومن المسائل المالية أيضاً: وجوب تكفين الأب من مال الولد، إذا لم يكن للأب مال، وعلى الابن أن يكفِّن أبويه إذا لم يكن للأبوين مال، ماذا لو سرق أب من مال ولده؟ قال ابن قدامة - رحمه الله -: "ولا يُقطع الوالد فيما أخذ من مال ولده؛ لأنه أخذ ما له أخذُه، ولا الوالدة فيما أخذت من مال ولدها"، فلا قطع إذاً".
مسألة النفقة على الأبوين
نأتي الآن إلى قضية النفقة على الأبوين، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في رجل عجز عن الكسب ولا له شيء وله زوجة وأولاد، فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه وعلى زوجته وإخوته الصغار، أو هل يجب عليه؟
فقال: "الحمد لله رب العالمين، نعم، على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه قاطعاً لرحمه مستحقاً لعقوبة الله في الدنيا والآخرة".
وأما بالنسبة للنفقة نفقة الولد على الوالدين فإنها واجبة إذا كانا فقيرين، لا كسب لهما ولا مال، فالإجماع على وجوب أن ينفق الابن على أبويه، وشروط وجوب الإنفاق: أن يكونا فقراء لا مال لهما ولا كسب يستغنون به؛ لأنهما لو كانا موسرين ولهما مصدر دخل يكسبان منه فلا نفقة واجبة لهما.
الثاني: أن يكون الولد عنده ما يفضل عن نفقته ونفقة أهله وأولاده، فعند ذلك يعطي أباه وأمه وجوباً النفقة إذا كانا محتاجين، وهنا سؤال: إذا كان الأب فقيراً، لكنه يستطيع التكسُّب، هل تجب له النفقة؟ فالجواب: نعم، تجب له النفقة وهو قول الحنابلة، ماذا بالنسبة للنفقة على الأبوين الكافرين؟ ذهب العلماء من المالكية والشافعية إلى وجوب ذلك، وجوب النفقة عليهما ولو كانوا كفاراً، ولو كان هناك اختلاف في الدِّين، ويجب على الولد أن ينفق على جده أيضاً عند الشافعية، ويرى الحنفية والحنابلة أنه لا تجب النفقة بسبب اختلاف الدِّين، فلا يجب على المسلم نفقة أبويه الحربيين، هذه إذا وصلت إلى مسألة حرب الدين، فقد انقطعت العلاقات، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9]
وهل هناك توارث بين الأب الكافر والابن المسلم؟ لا، فلا توارث وبالتالي لا نفقة عند هؤلاء العلماء، ماذا بالنسبة للهجرة؟ ندخل في مسائل الآن غير قضية الأشياء المالية، ماذا بالنسبة للهجرة والجهاد وأسفار طلب العلم وطلب الرزق، إلى آخره؟ أما بالنسبة للهجرة فهناك النص الصحيح عن النبي ﷺ أنه جاءه رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، فقال:ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما رواه أبو داود والنسائي. [رواه أبو داود: 2528، والنسائي: 4163، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2281].
الإذن من الوالدين للخروج في الجهاد
وأما بالنسبة للجهاد ففيه حديث في البخاري أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد، فقال:أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد [رواه البخاري: 3004، ومسلم: 2549].
وفي حديث آخر رواه مسلم وحديث فيه موعظة: أقبل رجل إلى نبي الله ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، على قيد الحياة، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ تريد الأجر فعلاً، تبتغي الأجر من الله؟، قال: نعم، قال:ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما[رواه مسلم: 6].
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "هذا كله دليل لعظم فضيلة برهما وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء إنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه، هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال وإلا فحينئذ يجوز بغير إذن" [شرح النووي على مسلم: 16/ 104]. وهذا الإذن لا بد أن يكون عن رضا وطواعية، وليس عن إكراه وشدة إلحاح؛ لأن بعض الشباب الذين يريدون الذهاب للجهاد يبقى ملحاً على أبويه ويواصل يواصل الطلب الليل والنهار وبشدة وقوة، حتى أن الأب أو الأم يوافق من الطفش، فهذا لا تعتبر موافقة ولا يعتبر رضا ولا يجوز له الذهاب، ولذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "إذا أذنت له وكان له من يقوم بأمرها" شرطان، وفي رواية: "إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرج أو كراهة وإلا فلا تغزو" [الجامع لعلوم الإمام أحمد: 8/ 39]. لاحظ عبارة الإمام أحمد: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرج أو كراهة وإلا فلا تغزو، فهذا إذن هذان الشرطان في قضية ذهاب الولد للجهاد، أن تكون الموافقة برضى تام واقتناع، وأن يكون هناك من يقوم على الوالدين، فلا يجوز أن يذهب ويضيعهما إذا كانا يحتاجان إلى خدمة وليس عندهما من يخدمهما أو يجلب لهما الطعام أو ينفق عليهما ونحو ذلك، وقال الشيخ موفق الدين: "لا يجاهد من أبواه مسلمان إلا بإذنهما" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 1/385]. يعني تطوعاً، وهذا قول سائر أهل العلم، وبر الوالدين فرض عين كما قال ابن قدامة معللاً، والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم، فإن تعين عليه الجهاد مثل حضر الصف أو ندبه الإمام أو دهم العدو البلد، دهم العدو البلد وفيها مسلمون، فيجب عليهم أن يهبوا للجهاد على أهلها"، أهل البلد أن يهبوا للجهاد "[المغني لابن قدامة: 9/208]، ولا يستأذن الابن أبويه، وعند ذلك يسقط إذنهما، وكذلك كل ما وجب كالحج وصلاة الجمعة وطلب العلم الذي يتعين عليه أن يطلبه في سفر لا يمكن أن يطلبه بغير ذلك السفر؛ لأنه حينئذ يكون فرض عين عليه، فعندئذ يخرج بدون إذنهما، وقد قيل في أصحاب الأعراف هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فعتقوا من النار بقتل في سبيل الله، وحبسوا عن الجنة بمعصيتهم آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة يعني أهل الأعراف، يحبسون المدة الطويلة الطويلة.
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - عن الخروج للجهاد في سبيل الله، هل يشترط فيه إذن الوالدين، فقال إذا كان الجهاد فرض عين فإن العلماء يقولون إنه لا يشترط إذن الوالدين نظراً لأنه إذا قدر أن الوالدين لم يأذنا فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أما إذا كان الجهاد تطوعاً كما لو كان هناك من المجاهدين من يقوم بفرض الكفاية، هناك من المجاهدين من يقوم بفرض الكفاية، فإنه لا بد من استئذانهما فإذا لم يأذنا فإنه لا يتطوع في الجهاد على ما هو معروف عند أهل العلم، وقد كنت مع الشيخ - رحمه الله - عند باب المسجد الحرام، فجاءه شاب قال: أريد أن أذهب إلى الجهاد، هل يجب أن استأذن أبوي؟ قال: نعم، قال: يا شيخ أليس الجهاد فرض عين؟ فقال الشيخ ابن عثيمين: وأليس بر الوالدين فرض عين؟ وسألت كذلك الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في الأب إذا كان تاركاً للصلاة بالكلية، هل يجب استئذانه للجهاد؟ فقال: لا، وكذلك سألته عن رجل أراد أن يذهب للجهاد، فاستأذن أباه فوافق وقال لا تستأذن أمك؛ لأنك إذا استأذنتها لن توافق، فقال الشيخ: يجب أن يستأذن أمه، لا يسقط استئذان الأم ولو قال له الأب لا تستأذنها، وكذلك فإن حديث النبي ﷺ لما جاءه رجل قال: يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك، مع النبي ﷺ معك، وليس مع أي واحد آخر معك، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان، قال فارجع إليهما كما أبكيتهما [رواه أبو داود: 2528، والنسائي: 4163، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2281]، وكذلك حديث أحمد: أن رجلاً هاجر إلى النبي ﷺ من اليمن فقال: هل لك أحد باليمن؟ ، فقال أبواي، فقال: أذنا لك؟ ، قال: لا، قال: فارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما [رواه أحمد: 11721، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 892] .
وكذلك حديث معاوية بن جاهمة لما جاء للنبي ﷺ يقول: يا رسول أردت الغزو وجئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها [رواه أبو داود: 2530، والحاكم في المستدرك: 2501، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 892].
إذن الوالدين في السفر لطلب العلم والرزق
ننتقل الآن إلى مسألة السفر لطلب الرزق وهذه منتشرة في هذا الزمان؛ خصوصاً مع احتياج عدد كبير من الناس لترك بلادهم والسفر لأجل الوظيفة وطلب الرزق في بلدان أخرى.
فما حكم السفر لطلب الرزق؟
إذا كان في سفره مصلحة في الإنفاق على نفسه وعياله ولا يجد النفقة أو لا يجد الرزق في بلده، فهنا لا يلزمه طاعة أبويه، فإذا كان مضطراً للسفر كان مضطراً للسفر لطلب المعيشة في بلد آخر وبقاؤه في بلده يضره ولا يجد في بلده ما ينفق على نفسه وأولاده، فلا بأس بالسفر مع الكلام الطيب وتوضيح الأمر لهما وإذا وجد عندهما أو وجد في بلدهما عملاً يغنيه عن السفر وهما بحاجة إليه فلا يسافر إلا بإذنهما، ماذا بالنسبة للسفر في طلب العلم حيث أن بعض الشباب يسألون عن السفر للدراسة في جامعة شرعية أو في كلية شرعية في بلد غير بلد الأبوين، أو يريد أن يذهب إلى شيخ يطلب عنده العلم أو يسافر في رحلة في طلب العلم، ماذا بالنسبة لاستئذان الأبوين في هذه القضية، قال العلماء: طلب العلم غير المتحصل إلا بالسفر وهو يحتاجه، يعني يحتاج هذا العلم لا تجب طاعتهما فيه، والعلم الشرعي أنواع، فإذا كان مما يجب عليه أن يتعلمه فلا يحتاج إلى إذن الوالدين إذا كان لا يحصله في بلده، إذا كان لا يحصله في بلده، وإذا كان ما يريد الرحلة من أجله في طلب العلم من النوافل وليس من الواجبات عليه، فلا بد من إذن الوالدين، فلا بد من إذن الوالدين وقد روي أن الفقيه نصر بن أبي حافظ المقدسي لما رحل من بيت المقدس في طلب العلم إلى الفقيه الكازروني "بميا فارقين" وهي اسم بلدة في العراق قال له الشيخ الكازروني: ألك والدة؟ قال" نعم، قال: فهل استأذنتها؟ قال: لا، قال: فو الله لا أقرئك كلمة حتى ترجع إليها فتخرج من سخطها، قال: فرجعت إليها فأقمت معها إلى أن ماتت، ثم رحلت في طلب العلم، وهكذا حبس بر الوالدة عدد من كبار العلماء والمحدثين عن الخروج لطلب العلم فأقاموا عند أمهاتهم حتى رضيت بذهابه أو ماتت وبعد ذلك ذهب.
فإذن، إذا كان لطلب علم شرعي لا يمكن أن يحصله في بلد الوالدين والعلم هذا يحتاجه لا بد أن يتعلمه، إذن يجوز أن يرحل بغير إذنهما، ولا بد أن ندخل في هذه القضية في اعتبارنا فيها مسألة وجود وسائل للطلب من الأشرطة والكتب وطلاب العلم والهاتف ونحو ذلك من الأسباب، وربما يأتي وقت يكون للعلماء مواقع في الإنترنت يبثون منها دروسهم بحيث تطلب العلم في بيتك وتسمع الشيخ حياً على الهواء كما يقولون في المجلس وهو يشرح الدروس وبالتالي تكون هذه الشبكة حلّت لنا مشكلة في حضور مجالس العلماء والطلب عليهم، خصوصاً أن السؤال الفوري بعد الدرس مثلاً عبر هذه الشبكة ممكن باستخدام تقنيات الصوت الحديثة.
ماذا بالنسبة للسفر عموماً، أي سفر، سفر سياحة، تغيير جو، سفر دراسة، أي سفر، ما هي الضوابط فيه؟
قال النووي - رحمه الله -: "وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام - رحمه الله - وقد حُرِّم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما شقّ عليهما أو لما شق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجُّعهما على ذلك، وقد أُلحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه" [شرح النووي على مسلم: 2/87].
إذن، كل سفر يخاف على الولد فيه لا بد من استئذانهما.
وقال الكاساني الحنفي - رحمه الله -: "والأصل أن كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك ويشتد فيه الخطر لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه؛ لأنهما يشفقان على ولدهما فيتضرران بذلك، وكل سفر لا يشتد فيه الخطر، يحل له أن يخرج إليه بغير إذنهما إذا لم يضيعهما، فإذا كانا يحتاجان إليه، ويضيعان إذا لم يكن عندهما، فعند ذلك لا يجوز له الذهاب" [بدائع الصنائع: 7/98]، وبناء عليه يكون، بناء عليه يكون الحال في السفر، وهنا نأتي إلى مسألة بعض الأسفار الدعوية أو التي فيها أعمال خيرية هل يحق للوالدين منع الولد منها، وهل يلزمه طاعتهما؟ سئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، سأله أحد الدعاة، قال: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولذا فهما يطلبان مني أن أترك التدريس، وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر، لأني أخشى أن أترك التدريس فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم، فما تنصحوني جزاكم الله خيراً؟ فأجاب: ننصحك بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم لقول النبيﷺ: خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه أخرج البخاري في صحيحه، [رواه البخاري: 5027]، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين.
إذن، الشيخ يعتبر وينظر ويقدر قضية المصلحة العامة، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك لقول النبي ﷺ إنما الطاعة في المعروف ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن وبالله التوفيق.
وينبغي كذلك أن ننظر في مسألة وجوب الدعوة في هذا الزمان، نحن الآن في زمن وجبت فيه الدعوة على كل واحد قادر، لشيوع الفساد، وقلة الدين، وكثرة الانحرافات، فالآن هل تستطيع أن تقول لي إن جهود الدعاة كافية لمعالجة الواقع؟ أبداً، ولذلك نحن في زمن تجب فيه الدعوة، الدعوة ليست فرض كفاية، ليست سنة الآن ومستحب فقط، الآن الدعوة واجبة؛ واجبة لكثرة تضييع الواجبات وعموم المحرمات وكثرة وقوع في المنكرات وتفشي الشر، والدعوة واجبة لمحاصرة الفساد والرد عليه وكبته، وإنقاذ المسلمين منه، فإذن، الدعوة واجبة، فهذه تعتبر أيضاً في قضية إذن الوالدين، وبالنسبة لترك الأخيار وترك مرافقتهم، فقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله -: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحاباً طيبين وزملاء أخياراً وألا أسافر معهم لأقضي عمرة مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، يعني الولد هذا يحتاج الآن يحتاج صحبة طيبة، يحتاج بيئة صالحة لا بد، وأنا في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب علي طاعتهم في هذه الحالة؟ فأجاب الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: ليس عليك طاعتهم في معصية الله، ولا فيما يضرك، لقول النبي ﷺ: إنما الطاعة في المعروف [رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840]، وقوله ﷺ: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [رواه أحمد: 1095، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7520]. فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحداً في مصاحبة الأشرار أيضاً، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي كذا، ويا أمي كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم وأنتفع بهم ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة، وإذا منعوك، بالرغم من هذه المحاولات، أبوك منعك من صحبة الأخيار، وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم، إذن تُبقي العلاقة بينك وبين هؤلاء الأخيار خفية، حتى لا يعتبر ذلك تحدياً للوالدين، قال: وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك، ولكن عليك ألا تطيعهم إلا في الطاعة والمعروف، وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار أو أمروك بالتدخين أو بشرب الخمر أو الزنا أو بغير ذلك من المعاصي، فلا تطعهم ولا غيرهم في ذلك للحديثين المذكورين آنفاً وبالله التوفيق.
طاعة الوالدين في ترك الواجب
ماذا بالنسبة لطاعة الوالدين في ترك الواجب، سئل الأوزاعي - رحمه الله - عن الرجل تمنعه أمه من الخروج إلى الجماعة والجمعة، قال: "ليطع ربه وليعصي أمه"، وروى البخاري عن الحسن قال: "إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقة عليه فلا يطعها" [صحيح البخاري: 1/131]. إذن، لا تطاع الوالدة في ترك صلاة الجماعة في المسجد، لأن صلاة الجماعة في المسجد واجبة، وقال ابن قدامة - رحمه الله -: "وليس للوالد منع ولده من الحج الواجب" [المغني لابن قدامة: 3/ 459]. إذن، الولد إذا بلغ وصار الحج عليه واجباً والولد عنده نفقة ويستطيع أن يذهب، جمع له مصروفاً مثلاً سبعمائة ريال، وعنده أصحاب يخرجون في سيارة للحج والولد بلغ والمال هذا يكفي اشتراك في الرحلة وثمن الهدي، أو يحج مفرداً، أو يحج متمتعاً ويصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، حتى لو ما عنده ثمن الهدي، لكن عنده نفقة الطريق، فالوالد قال له: لا تحج هذه السنة؛ حتى يصير عمرك ثلاثين سنة، لماذا؟ قال: حتى تفهم الحج وتعقل، وبعد ذلك الحج يكفِّر لك الذنوب التي حصلت في هذه السنوات، وهذا جهل عظيم، الآن أصلاً الولد لا يملك ولا يجزم ولا يعلم هل سيعيش بعد هذا الحج أم لا، ثانياً: ممكن يعمل حجة ثانية إذا كان هناك معاصي وتكفّر المعاصي، فالكلام الذي يقوله بعض الآباء للأبناء من جهة أنك الآن صغير على الحج وتوك على الحج ويكون عمرك عشرين سنة أحسن حتى تعقل الحج، إن هذا الكلام لا عبرة به شرعاً، وأن الابن إذا بلغ ومعه زاد وراحلة ونفقة الطريق عليه أن يذهب لحج الفريضة ولو لم يأذن أبواه، قال ابن قدامة - رحمه الله-: "وليس للوالد أن يمنع ولده من الحج الواجب ولا تحليله من إحرامه"، لو لحق الولد وأدركه على حدود مكة والولد مُحرم، قال: تحلّل يا ولد، تحلّل من الإحرام وارجع معي، فليس له ذلك، ليس له ذلك، قال ابن قدامة: "وليس للولد طاعته في تركه" [المغني لابن قدامة: 3/459]، أي في ترك الحج؛ لأن النبي -ﷺ قال:لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. [رواه أحمد: 1095، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7520].
وله منعه من الخروج إلى التطوع، الفريضة لا، لكن التطوع، فإن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات فالتطوع أولى، ممكن الأب يمنعه من خروجه لحج التطوع، أما الفريضة فلا، فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله؛ لأنه واجب بالدخول فيه"، يعني الأب سكت، الابن أحرم بالحج، اتصل الأب على ابنه في جدة، قال يا ولد أين أنت الآن؟ قال: في جدة، قال: ماذا تفعل؟ قال: محرم بالحج، قال: حجك نافلة ارجع لا آذن لك، ما الحكم: يتحلل أو يرجع؟، قال الله : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]، وَأَتِمُّوا يعني: إذا بدأته لا بد أن تتمه، فالآن هو قبل أن يدخل فيك النافلة، لكن بعد ما أحرم انتهى فلا يخرجه منه، قال ابن قدامة: "فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله؛ لأنه واجب بالدخول فيه، فصار كالواجب ابتداء أو كالمنذور"، وقال الإمام أحمد - رحمه الله - في حج الفريضة: "إن لم تأذن لك أمك وكان عندك زاد وراحلة، فحج ولا تلتفت إلى إذنها واخضع لها ودارها" [الفروع وتصحيح الفروع: 5/229].
وسئل النووي - رحمه الله- : "هل له الحج بغير إذن والديه ويصح حجه والخروج في طلب العلم وهل يأثمان بمنعه؟
فقال الجواب: "لهما منعه من حج التطوع ولا يأثمان بذلك" [شرح النووي على مسلم: 11/136]، وليس لهما منعه من الحج المفروض ويأثمان بمنعه، ومتى حجّ بغير إذنهما صحّ حجه مطلقاً وإن كان عاصياً في التطوع، وله السفر في طلب العلم بغير إذنهما" والمقصود أي العلم الواجب عليه أن يتعلمه، وقد سألتُ شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن رجل هدد ابنه بالضرب إذا ذهب للحج، قال أمنعك من الذهاب ولا أرضى وإذا ذهبت بغير إذني لحج الفريضة، فإذا رجعت فإنني سأعاقبك عقاباً شديداً، نعم، أو أعطيك علقة ساخنة، فالآن هل يسافر الابن للحج، أم يعتبر هذا إكراه؟ فقال لي الشيخ - رحمه الله-: "العقاب ظني يذهب ويكفيه الله شره، قال: العقاب ظني، لأنه يقول سوف، إذا رجعت سوف، فقال: العقاب ظني يذهب ويكفيه الله شره، وربما الولد إذا رجع وقال: دعوت لك يا أبي ورجع سالماً يبرد الأب ويرضى،
طاعة الوالدين في ترك السنن والرواتب
ماذا بالنسبة لطاعة الوالدين في ترك السنن؟ أما بالنسبة للسنة الراتبة مثل ركعتي الفجر وصلاة الوتر وما أشبه ذلك، فإن دعواه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، يعني إذا ما كان هذا متكرر، ليس كل ما دخل الولد في نافلة نادوه، لا وإنما يحصل هذا أحياناً قليلاً يحدث، المرة بعد المرة يطعهما، يقطع النافلة إذا كانا يغضبان لو ما أجابهما فوراً، يقطع النافلة، وأما إن كان ذلك على الدوام واللزوم فلا طاعة لهما فيه؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام، كما قال الطرطوشي في كتاب: "بر الوالدين"، فإذن، لو قال: يا ولد أنا أمنعك من صلاة النوافل كلها، يا ولد أنا أمنعك من قيام الليل، ممنوع تقوم الليل، أنا ساخط عليك لو قمت الليل، فهذا لا طاعة له فيه؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام، ومنع الولد من السنن بإطلاق هذا تحكُّم سخيف ولا يُطاع فيه الأب، وسُئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن رجل يصوم التطوع، فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر، فقال يروى عن الحسن أنه قال: يفطر وله أجر البر وأجر الصوم إذا أفطر، هذا صيام التطوع، وقال أحمد - رحمه الله -: "إذا أمره أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة، قال أحمد: "يداريهما ويصلي"، يصلي النوافل، قال ابن تيمية - معلقًا على كلام الإمام أحمد -: ففي الصيام كره الابتداء فيه إذا نهاه واستحب الخروج منه، وأما الصلاة فقال يداريهما ويصلي، فإذا كان الأب أو الأم يحتاجان الولد أثناء النافلة، لهما مصلحة في ترك الولد للنافلة، لهما مصلحة أن يجيبهما فوراً، يقطع ويجيبهما، وإذا دعواه في صلاة النافلة، فإن خشي أنهما يغضبان إذا لم يجبهما فوراً قطع النافلة، كما دل عليه حديث جريج، حديث جريج الراهب لما استمر في الصلاة ونادته أمه مرة ثانية واستمر في الصلاة، ثم دعت عليه أمه: "ألا يميته الله حتى يريه وجوه المومسات" وهن الزانيات، فصار له فعلاً محنة جريج مع زانية محنة وهو بريء ورمي بها ظلماً، وكان ذلك من دعوة والدته، فإذن، إذا خشي أن أبواه يغضبان إذا لم يجبهما فوراً قطع النافلة وأجابهما ثم رجع وابتدأ الصلاة من جديد، لكن أن يقول له: لا تصل نافلة أبداً، هذا تحكم لا يجابان إليه ولا يوافقان عليه ولا يطاعان فيه، قال السفاريني - رحمه الله -: "وأما ما يفعله في الحضر كالصلاة النافلة ونحو ذلك فلا يعتبر فيه إذنه ولا أظن أحداً يعتبره ولا وجه له والعمل على خلافه والله أعلم".[غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 1/385].
طاعة الوالدين في ترك المندوبات
وأما بالنسبة لترك المندوبات عموماً، إذا أمرا ابنهما بترك مندوب وفي ذلك مصلحة لهما، كأن يطلب منه مصاحبتهما وكان في صحبتهما ترك لقيام الليل وقراءة القرآن، فإنه يجب طاعتهما في ذلك، ويدل على هذا الفقه استجابة الله دعاء أم جريج في ابنها الصالح، فإن الله عاقبه لعدم تلبيته لندائها، فلو كان مثلاً الابن يجلس لقراءة القرآن والأب احتاجه، قال: يا ابني تعال معي إلى السوق، الابن يقطع القراءة ويذهب للسوق، وكذلك لو كان يريد أن يقوم الليل، فقال: يا ابني تعال معي أنا أحتاجك في مهمة ليلية في الليل، يذهب معه، لكن لا يطيعهما في ترك النوافل بالكلية، خصوصاً إذا لم يكن لهما مصلحة؛ لأن الابن قد يحتاج أن يقيم عند والده في المستشفى أيام وليالي، وقد يشغله ذلك عن قيام الليل، فيحتسب الأجر في ذلك، وسأل سائل عن مسألة السُّنة في اللباس والأكل والنوم، هل يجب عليه أن يطيع والديه في تركها؟ أو في فعل لباس أو في لبس لباس معين؟
فقال الشيخ عبد الله بن جبرين - حفظه الله -: عليه أن يقنع أبويه ويبين لهما السنة في اللباس والأكل والنوم ونحو ذلك، فإذا أصر كلاهما أو أحدهما فله أن يطيعهما في اللباس والأكل والنوم الذي لا يخالف نصاً ولا دليلاً واضحاً، حيث أن الأصل في اللباس ونحوه الإباحة وأنه يرجع في ذلك إلى العادة؛ لأن هذه الأمور من العادات الطبيعية التي كان النبي ﷺ يفعلها قبل الإسلام ويفعلها غيره، فلا حرج على المسلم إذا لبس لباس أهل بلده وأكل مما يناسبهم ووافقهم فيما لا يخالف نصاً صريحاً سيما إذا كان الوالدين يأمرانه بذلك.
أما إذا أمراه بأمر يخالف الشريعة في اللباس كالإسبال مثلاً وتطويل الثوب ليجاوز الكعبين، أو أمراه أن يأكل بالشمال مثلاً، فلا يطعهما مع استعمال الرفق معهما.
إذا اشتبه على الولد طعام والديه
وماذا بالنسبة لفعل المشتبهات؟ إذا اشتبه على الولد طعام والديه، فهل يأكل أو لا يأكل؟ إذا اشتبه على الولد طعام والديه فالأولى أن يتورّع ويداريهما فإن أكل أو أخذ فلا حرج عليه إن شاء الله، خصوصًا إذا كان هذا الحرام الذي دخل في الحلال وسبب الشبهة غير معين ولا معلوم؛ لأنه لو كان معيناً معلوماً اجتنبه وأخذ من الحلال، لكن لو كان مختلطاً؛ بحيث لا يتعين الحرام من الحلال، فعند ذلك يجوز للولد أن يأكل ويأخذ من هذا المشتبِه.
وقال ابن مفلح - رحمه الله-: "هل تجب طاعة الوالدين في تناول المشتبه وهو ما بعضه حلال وبعضه حرام، ينبي على مسألة تحريم تناوله وفيها أقوال في المذهب:
أولاً: التحريم مطلقاً.
ثانيًا: إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل وإلا فلا.
ثالثًا: إن كان الأكثر الحرام حرم وإلا فلا.
رابعًا: عدم التحريم مطلقاً قل الحرام أو كثر، ويكره وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 1/391].
قال السفاريني - رحمه الله -: "والذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة - يعني في الشبهة - بل يُكره ذلك وقوة الكراهة فيه وضعفها بحسب كثرة الحرام وقلته" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 1/391].
فلو هذا قال: أبي يضع المال في البنك، يأخذ عليه فوائد ربوية، وعند إيجارات من عمارة، وعنده دكان وعنده ورشة والمال واحد يضعه في الحساب وفيه فوائد ربوية أو فيه حرام وفيه مباح وفيه مختلط، فعنده بقالة يبيع الدخان ويبيع الأجبان والخبز، مختلط الحرام بالحلال، فماذا بالنسبة للأخذ من هذا المال؟ إذن الجواب: يجوز له أن يأخذ، ويكره أن يأخذ من المال المشتبِه، وتزداد الكراهة إذا كثرت الحرمة المختلطة بالمال، وتخف الكراهة إذا كثر المال الحرام المختلط بالمال الحلال الكثير، وإذا تعين الحرام لا يأخذ منه، إذا قال: ترى هذا مال تبع الدخان، وهذا المال تبع الأشياء المباحة، إذاً يترك هذا ويأخذ من هذا، ماذا لو كان كل كسب الأب حرام، كرجل يعمل في مصرف ربوي وهو كاتب للربا ملعون، لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه [رواه أحمد: 635، وصححه الألباني في المشكاة: 2807].
هذا أبوه كاتب ربا، حساب ربا، يضبط الربا، يجمعه ويوزعه ويقبضه ويسلّمه، إذا لم يجد الابن مالاً إلا هذا واحتاج فإن نفقته على أبيه واجبة فيأخذ ما يحتاج فقط ولا يتوسع كما أفتانا بذلك علماؤنا، يأخذ ولا يتوسع، يأخذ الحاجة فقط ولا يتوسع، وإذا استغنى الولد اشتغل صار له عمل إضافي أو شيء من هذا القبيل، واستغنى عن أبيه يترك هذا المال المحرم، ماذا بالنسبة لطاعة الوالدين في المباحات؟ مثلاً قال: كل هذه الأكلة، هل يجب أن يأكل هذه الأكلة المباحة؟ لا يجب على الأبناء طاعة والديهم في أكل أو لبس شيء معين وكذا في التزوج ممن لا يرغبون، ولكن على الأبناء مدارة والديهم وعدم إغاظتهم، فإذا تحول هذا المباح إلى واجب في حق الابن وجب أن يطيع أباه، مثلاً لو كان الابن يخشى على نفسه الحرام لو ما تزوج، فقال الأب: تزوج يا ولد، فيجب عليه أن يتزوج؛ لأنه لو ما تزوج يقع في الحرام، فهو واجب عليه أصلاً؛ لأنه يخشى على نفسه الوقوع في الحرام، فإذا أمر به الوالد صار أوجب، قال القرافي: "قيل لمالك: يا أبا عبد الله لي والدة وأخت وزوجة، فكلما رأت لي شيئاً قالت: أعط هذا لأختك"، أمي كلما وجدت عندي شيئاً مالاً أداة كهربائية، أي شيء، قالت: أعط هذا لأختك، فإن منعتها ذلك سبّتني ودعت علي، قال له مالك: "ما أرى أن تغايظها وتخلّص منها بما قدرت عليه" يعني لا تجاهر بعدم الإعطاء وتقول لا أعطي أختي ولو انطبقت السماء على الأرض، "لا تغايظها، وتخلص من سخطها بما قدرت عليه"[الفروق للقرافي: 1/143].
تحتاج إلى حيلة، مداراة، ممكن بالحيلة تتخلص من سخطها بما قدرت عليه.
فإذن، الشي المباح الذي لا مصلحة للأب في فعله ولا للولد فيه لا يجب طاعتهما فيه، لكن لو قال له: تغدى، قال لا أتغدى، تعشى، قال" لا أتعشى، أضرب عن الطعام الولد، أضرب والإضراب عن الطعام يضر البدن، فيلزمه طاعة أبيه في الأكل؛ لأنه يأمره بشيء في تركه مضرة على الولد، إذن، يلزمه أن يطيع، لكن لو وجدت عدة أصناف، عدة أصناف على المائدة، هل يلزمه أن يأكل من هذا ولا يأكل من هذا طاعة لأبيه وجوباً؟ لا، لكن استحباباً.
نأتي لمسألة أخرى وهي: هل الأب ممكن يلزم ولده بالزواج من امرأة معينة؟ قال: أنا أريدك أن تتزوج ابنة عمك، ما لك إلا هي، والولد لا يريد، بنت عمه غير متدينة، بنت عمه غير جميلة، بنت عمه غير ... يعني فيها علة لا يريدها، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: "إنه ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع - يعني الولد لا يكون عاقاً - وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك هو أولى" [مجموع الفتاوى: 32/30]. يقول: إذا كانت الأكلة لا يُلزم بأكلها وهناك غيرها، فالزواج من باب أولى، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكن فراقه، فالآن هذه ليست أكلة هذه عيشة إلى آخر عيشة فإذا أوجبنا عليه أن يطيعه نكدنا عليه عيشته إلى ما شاء الله، يا إلى الموت أو الطلاق، ولذلك ابن تيمية - رحمه الله - أفتى بأنه لا يجب على الولد أن يطيع أبويه في الزواج ممن لا يهواها ولا يريدها ويكرهها ويبغضها، حالة أخرى؛ الابن يريد الزواج والأب يقول: تأخر، قال: يا أبي أنا أريد الزواج وعندي مال، قال: لا، لا، تأخر، بعد التخرُّج بعدما تشتغل ثلاث سنوات تكون نفسك، هذه تكون نفسك، هي نفسه متكونة موجودة، فالولد إذا كان يخشى على نفسه الحرام لا يلزمه طاعة والديه، قال أحمد - رحمه الله -: "إن كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك" [مطالب أولي النهى: 5/9].
وقال ابن مفلح في المسألة السابقة: "ليس للوالدين إلزام الولد بنكاح من لا يريد" [غذاء الألباب: 1/387].
هذا سؤال في رجل اختار امرأة معينة فرفضتها أمه، ماذا يفعل؟
لا شك أن طاعة الوالدين عظيمة والنصوص قد تقدمت بذلك، وحق الأم أعظم من حق الأب، وأما بالنسبة لرفضها الفتاة التي يريدها هذا الشاب، فلا بد من معرفة أسباب الممانعة والدوافع لذلك، فإذا كانت الأم مانعة لأمر يتعلق بدين هذه المرأة كسوء دينها أو خلقها فلا بد أن يطيعها في ترك هذه البنت، البنت فعلاً فاسقة، ليست صاحبة دين، تخرج من غير حجاب، تختلط بالأجانب، ما عندها مشكلة في الخلوة بالرجل الأجنبي، تحضر حفلات مختلطة، غناء رقص، تسافر بغير محرم، حرية، البنت على الموضة، في هذه الحالة يجب على الولد أن يمتنع عن الزواج بالبنت؛ لأن أمه لما قالت: لا تتزوج هذه البنت فإن الأم محقة، أو كانت هذه البنت التي تقدم إليها عندها السوء في الخلق أيضاً، فعند ذلك يطيع أمه، أما إذا كان مجرد تحكُّم والولد يهواها، الولد يريد هذه البنت بالذات والبنت لا مطعن عليها في الدين والخلق، فعند ذلك لو ما تزوج بها يمكن أن يرتكب حراماً، فيقال له: جاهد في إرضاء أمك بكل وسيلة ويجوز لك أن تتزوج بهذه المرأة، ماذا بالنسبة للبنت أبوها يريد أن يزوجها وهي تقول: أنا ما زلت صغيرة، فإذا كان المتقدم لها رجلاً صالحاً لا مبرر لرفضه، فلتوافق عليه وتطع أباها؛ لأنه أمرها بمعروف، أمرها بما فيه عفتها، وبعض البنات ترفض الزواج مع أن الأب والأم يريدان لها الزواج وتقول: أكمل دراستي وأتوظف، مبررات غير شرعية في رفض الزواج غير شرعية، لكن مماشاة للمجتمع ومجاراة للناس، ماذا بالنسبة إذا رفض والدا الفتاة رجل تقدم لخطبتها، لأنهم يريدون أن يتقدم غيره، وابنتهم تريد هذا الرجل، وهما يريدان غيره، فما هو الموقف الشرعي؟ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا يجوز أن يجبر الوالد ابنه على أن يتزوج امرأة لا يرضاها، سواء كان لعيب فيها ديني أو خلقي، وما أكثر الذين ندموا حين أجبروا أولادهم أن يتزوجوا بنساء لا يريدوهن، لكن يقول له: تزوجها هذه ابنة أخي أو من قبيلتك وغير ذلك، ولا يلزم الابن أن يقبل ولا يجوز للوالد أن يجبره عليها، كذلك لو أراد الولد أن يتزوج بامرأة صالحة ولكن الأب منعه، فلا يلزم الابن طاعته، فإذا رضي الابن زوجة صالحة وقال أبوه: لا تتزوج بها، فله أن يتزوج بها ولو منعه أبوه، لأن الابن لا يلزمه طاعة أبيه في شيء لا ضرر على أبيه فيه، وللولد فيه منفعة، ولو قلنا إنه يلزم الابن أن يطيع والده في كل شيء حتى ما فيه مضرة على الولد وليس فيه مصلحة للأب لحصل في هذا مفاسد، ولكن في مثل هذه الحال ينبغي للابن أن يكون لبقاً مع أبيه وأن يداريه ما استطاع وأن يقنعه ما استطاع، إذاً إجبار البنت على الزواج بمن لا تريد لا يجوز لما روى الإمام أحمد - رحمه الله - من حديث ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي ﷺ فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي ﷺ " رجال إسناده ثقات، إذاً لا يجوز إكراه البنت على الزواج بمن لا تريده، لكن لو كان المتقدم رجلاً صالحاً فينبغي عليها أن تقبل به، ماذا بالنسبة إذا أراد الأب أن يطلق الابن زوجته، إذا أمره بطلاق زوجته، فما هو الحل؟ روى ابن حبان في صحيحه: "أن رجلاً أتى أبا الدرداء قال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني، وإنه الآن يأمرني بطلاقها؟ هو زوجني وهو يقول لي الآن طلّق، قال: ما أنا بالذي يأمرك أن تعقَّ والديك ولا بالذي يأمرك أن تطلّق امرأتك" وهذه معادلة صعبة الآن الجمع بينهما، "غير أنك إن شئتَ حدثتك بما سمعته من رسول الله ﷺ سمعته يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة [رواه أحمد: 27511، والترمذي: 1900، وابن ماجه: 3663، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7145]، فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع، هذا ممكن يحمل إذا كان على ما إذا كان الأب محقاً في طلب طلاق زوجة ابنه، كأن يكون البنت فيها عوج، زوجة الابن فيها عوج في دينها في خلقها فيها عوج، لكن لو كانت البنت ما فيها عيب، قال: يا ولد طلق زوجتك، قال: لماذا يا أبي؟ قال لأنني في الليلة الماضية قلت لها أن تأتي لي بحذائي ما أتت به، طلق زوجتك، إذا أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب عليه طلاقها إذا لم يكن بدينها وخلقها بأس، سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي، قال: لا تطلقها، قال أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر ؛ لأن عمر يأمر بالحق، يأمر بالحق، قد يكون والد هذا جائراً، والحديث المشار إليه أن ابن عمر قال: كان تحتي امرأة وكان عمر يكرهها، فقال لي طلقها، فأبيت فأتى عمر رسول الله ﷺ فقال: "يا رسول الله إن عند عبد الله بن عمر امرأة قد كرهتها، فأمرته أن يطلقها فأبى فقال لي رسول الله ﷺ: يا عبد الله بن عمر طلّق امرأتك وأطع أباك قال عبد الله: "فطلقتها" [رواه الحاكم في المستدرك: 7253، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه].
إذن، هذا إذا كان أمر الولد بحق، أما إذا كان أمر الوالد بغير حق فلا يلزم أن يطيعه يخرب بيته يشرد أولاده ويترك زوجته وربما يكون متعلقاً بها لا يلزمه أن يطيعه في ذلك.
ونصّ الإمام أحمد - رحمه الله - أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق طلق إذا كان عدلاً، إذا كان الأب عدلاً، لماذا فرق الإمام أحمد بين الأب والأم؟ لأن النساء يكثر فيهن الغيرة، فلعله والله أعلم راعى أن طلب الأم بطلاق زوجة ابنها ممكن يكون مبني على غيرة حصلت بخلاف الرجل الأب الذي يكون في عقله كمال أكثر من الأم في الغالب، وبناء عليه فإذا كان الأب عدلاً ، معناه أن أمره للولد ما فيه ظلم ليس عن هوى فيطيعه.
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن رجل متزوج وله أولاد ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز طلاقها؟ فأجاب: "لا يحل له أن يطلقها لقول أمه لا يحل، بل عليه أن يبرّ أُمه وليس تطليق امرأته من برها"، وقال الشيخ تقي الدين في ذكر ضابط مهم: "يبر في جميع المباحات، فما أمراه ائتمر وما نهياه انتهى، وهذا فيما كان منفعة لهما ولا ضرر عليه فيه ظاهر"، إذن، في المباحات الابن يطيع إذا ما كان عليه مضرة وكان للأبوين في الشيء منفعة ومصلحة، سُئل أيضاً ابن تيمية - رحمه الله - عن امرأة وزوجها متفقين، وأمها تريد الفرقة، أم الزوجة، أم الزوجة تريد من الزوجة أن تطلب من زوجها الطلاق، قولي لزوجك يطلقك، نكدي عليه حتى يطلقك، فقال ابن تيمية - رحمه الله -: "الحمد لله، إذا تزوجت لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها، وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة، وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت، لا طاعة لها في ذلك، ولو دعت عليها، اللهم إلا إذا كانا - يعني الزوجين - مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت - يعني الزوج - بمعصية الله، والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم" [مجموع الفتاوى: 33/112] ، بل إن كلام العلماء أنه لا يجب على الابن أن يبيع الأمة التي عنده إذا كانت نفسه تتبعها، وأمره أبوه أن يبيع الأمه، قال: بع الأمة التي عندك، فلا يلزمه أن يطيعه في ذلك.
طاعة الوالدين في ترك لبس الحجاب
ماذا بالنسبة لطاعة الوالدين في ترك لبس الحجاب، فإن بعض الآباء لا يخافون الله ويطلبون من بناتهم الكف عن لبس الحجاب أو الكف عن تغطية الوجه أو يسحب الحجاب عنها وهي في الشارع إلى هذه الدرجة، لا شك أن البنت لا تطيعه في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا أب مجرم، ولو شد الحجاب عن رأسها وهي في الشارع فهي مأجورة على صبرها وتعيد الحجاب، وإذا أكرهت فالإثم عليه وليس عليها شيء، ماذا بالنسبة لطاعة الأب في حلق اللحية؟ فتاوى اللجنة الدائمة: حلق اللحية حرام، لا يجوز فعله لطاعة والد أو رئيس؛ لأن الطاعة في المعروف وقد قالﷺ : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [رواه أحمد: 1095، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7520]. وكذلك لا طاعة لهما في جلب التلفزيون إلى البيت ولا طاعة لهما في إجراء المجالس المختلطة، ولا طاعة لهما في إرسال البنت إلى أمريكا للدراسة المختلطة ولا لغيرها في الجامعات المختلطة، فلو أمرتها أو أمراها بالدراسة في جامعة مختلطة لا تطعهما، والإكراه في حق البنت أكثر حصولاً منه في حق الابن؛ لأن الأنثى ضعيفة، الأنثى ضعيفة، ولو قال: اشتر لي دخاناً، فلا يجوز له ذلك، لأنه أمره بشراء معصية، وهذا سؤال عن أب وأم وابن في بلاد الكفار، الابن يريد الخروج من بلاد الكفار؛ لأنها بلاد كفار، وأبواه يقولان له: تقيم في بلاد الكفار معنا، فلا طاعة لهما في ذلك؛ لأن الخروج من بلاد الكفار واجب، إذا لم يكن هناك مصلحة شرعية، فالخروج من بلاد الكفار وإنقاذ نفسه إذا لم يكن يستطيع أن يقيم شعائر الدين الظاهرة، فالهجرة منها واجبة، الهجرة منها واجبة إذا لم يستطع أن يقيم شعائر الدين الظاهرة.
ماذا بالنسبة إذا تعارض بر الأبوين، بر الأب مع بر الأم، نظرنا فإذا كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية، يراعي الجانب الذي يأمر بالطاعة، وإن تعارض برهما وكلاهما يأمر بمعصية عصيناهما كلاهما؛ كأن يأمر كل واحد منهما بعدم بر الآخر، الأب يقول: يا ولد لا تكلم أمك، الأم تقول: يا ولد لا تكلم أباك، ما هو الموقف الشرعي؟ عصيناهما كلاهما، والابن يكلّم أباه ويكلّم أمه، ماذا بالنسبة إذا تعارض برهما في غير معصية، ولم يمكن إيصال البر إلى أحدهما؟ واحد عنده راتب يكفيه ويكفي أحد أبويه فقط، تعارض الآن برهما فيقدّم بر الأم لعظم حقها وللحديث المذكور: من أحق الناس بحسن صحابتي [رواه البخاري: 5971، ومسلم: 2548].
وإذا أمره أبوه بعدم زيارة أخواله، وأمرته أمه بعدم زيارة أعمامه، أيضاً يعصيهما؛ لأن صلة الأخوال والأعمام واجبة، ولكنه يفعله سراً لأجل عدم الإغاظة؛ لأنه كما ورد عن الأئمة فيما سبق أنهم يراعون عدم إغاظة الأبوين، عدم الإغاظة، ولذلك يصل خاله سراً ويصل عمه سراً ويصل عمته سراً، ولو غضبت أمه يصل عمته سراً.
هل يتوكل الابن لأمه على أبيه في المحكمة؟ هذه مسألة فيها كلام نختصر منه فتوى للشيخ ابن عثيمين قال: ما نرى أنه يتوكل لأمه على أبيه في كل حال ولو كانت أمه مظلومة، ولكن يشير على أبيه في دفع الضرر؛ لأنه يلزم من ذلك أن يخاصمه عند القاضي.
هذا أب سكران وفي أثناء سكره يضرب زوجته وهي أم الولد، فالابن يجوز له أن يتدخل بالقوة ويخلّص أمه من شر أبيه، ويمسك أباه ويمسك يدي أبيه بالقوة، ولو أدى إلى استعمال القوة لمنعه من ضرب أمه؛ لأن ضرب الأم في هذه الحالة ظلم ومنكر وينبغي التدخل لمنع المنكر.
وكذلك فإن مسألة إيثار الأب بالصف الأول، هل يؤثره بفرجة في الصف الأول أم لا؟
سُئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن رجل تأخر من الصف الأول لأجل أبيه؟
فقال: "لا يعجبني"، هو يقدر يبر أباه بغير هذا، إذن، هذه طاعة وحسنات فليتقدم، هذا رأي الإمام أحمد.
هل يحضر المعتكف جنازة والديه؟
الجواب: لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه؛ لأنه ليس من العقوق؛ لأنهم ماتا، والاعتكاف لا يجوز فيه الخروج لاتباع الجنازة ولا لعيادة مريض، اللهم إلا إذا اشترط، دخل الاعتكاف وأبوه مريض جداً، اشترط عند دخول الاعتكاف إذا مات أبوه أن يخرج لاتباع جنازته فيخرج، كذلك لو ما فيه من يجهّز أباه إلا هو فلا بد أن يخرج إذا احتاج إلى الخروج حصلت الحاجة الماسة.
ويُشرع الإذن للمسجون بالسلام على أبويه إذا خيف موت ذلك القريب كما نص الأئمة على ذلك، يُستحسن إذا اشتد مرض أبويه أو من يقرب منه وخيف عليه الموت أن يؤذن للسجين بالخروج لعيادته.
ما حكم استئجار الأب؟
واحد عنده شركة قال أبوه: يا ابني وظفني عندك، أو هل يجوز للابن أن يوظف أباه عنده؟
قال العلماء: ويُكره أن يستعير ويستأجر أحد أبويه وإن علا الجد، للخدمة يُكره أن يستأجره للخدمة صيانة لهما عن الإذلال، نعم إن قصد باستعارته أو استئجاره لذلك توقيره فلا كراهة، كما لو قال: يا أبي أنا أريدك تصير أنت مدير الشركة ولك راتب مثلاً، هذا ليس من الإذلال، لكن ما يقول: تعال اشتغل عندي سواقاً، تعال اشتغل عندي فراشاً في الشركة، هذا فيه إذلال للأب، أو قال للأم: لم لا تشتغلي عندي خدامة، هذا فيه إذلال.
هل تصح شهادة الولد لأبويه لأحد أبويه أم لا؟
نصّ الإمام أحمد - رحمه الله - على أنه تُقبل شهادة الابن لأبويه والأب لابنه فيما لا تُهمة فيه" وفي رواية عنه المنع تماماً، وفي رواية التفريق، ففرق بين قبول شهادة الابن لأبيه وشهادة الأب لابنه فلا تُقبل"[العدة شرح العمدة: 689].
ماذا بالنسبة للتحاكم؟ هل يجوز للابن أن يتحاكم إلى القاضي في مشكلة مع أبيه؟
النبي ﷺ جاءه أب وابنه في مخاصمة ولم ينكر على الولد أنه جاء مع أبيه وقال: لك ما نويتَ يا يزيد ولك ما أخذتَ يا معن [رواه البخاري: 1422].
قال ابن حجر: "وفيه جواز التحاكم بين الأب والابن وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقاً" [فتح الباري لابن حجر: 3/292].
والآن مع هذه الأسئلة السريعة:
هل زيارة مقابر الوالدين من حقوقهما؟
نعم، زيارة مقابر الوالدين من البر.
يقول: لا يقصر مع والديه لكن لا يحبهما.
قد يكون هذا بسبب معاملة سيئة في الماضي، فما دام أنه لا يقصر في برهما فهذا هو المطلوب ولعل المحبة تأتي بتأمل النصوص الشرعية.
يقول: تقصر المدة في مجالستي لأبي بسبب جلوسه على الدش.
لا بأس بذلك؛ لأنه هو الذي منعك من الجلوس بمعصيته.
أبي يريد أخذ شعر من رأس ابن ابنه المصاب بالسحر هل يمنعه الابن إذا خاف أن يذهب بالشعر إلى ساحر؟
نعم يمنعه ويرفض؛ لأن تمكينه من أخذ هذا إلى الساحر لا يجوز.
والده يظلمه ويؤذيه ويفضحه أمام الناس ويسبه ويشتمه.
يصبر على آذاه، يصبر وصاحبهما في الدنيا معروفاً، لو جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم صاحبهما في الدنيا معروفاً، أيهما أشد سبه وشتمه أو حمله على الشرك؟ حمله على الشرك، ومع ذلك قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15].
يطلب من والديه إحضار الماء والطعام.
ليس من البر، ليس من البر أن يطلب منهما.
أعطيت أمي إبرة أنسولين وماتت بعدها.
إذا أعطاها بناء على أمر الخبير الطبيب بالطريقة السليمة، فلا حرج عليه.
الجلوس على مائدة الطعام قبلهما.
ليس أمراً جيداً، بل ينتظر حتى يجلسا ثم يجلس هو.
ابتعد عن والديه لأجل الدراسة.
إذا كان بإذنهما فلا حرج.
اتصلت أمي على النداء (البيجر) وأنا في الدرس.
الذي أراه أنك تقوم وتجيبها وتقطع الدرس وتجيبها.
يأمرني والدي بأشياء أيام الاختبارات وأتضايق.
حاول أن تبره قدر الإمكان، والله يتكفل بتوفيقك في الامتحانات، ولا تكن كسولاً تؤجل الدراسة إلى آخر شيء، ثم تقول: أمرني في وقت الاختبارات.
سرقت من أبي ثم تبت ولا أستطيع أن أعلمه بذلك.
تُب إلى الله وأرجعها أي المسروقات إلى جيب أبيك ولو خفية.
ماذا عن تقبيل رجل الأم؟
سألت شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن تقبيل ركبة الوالدين أيضاً؟ فقال: الأمر في هذا واسع وتقبيل رجل الأم طيب.
عق والديه ثم تاب وطلب المسامحة فلم يسامحاه.
يجتهد في البر إلى الممات لعل الله أن يغفر له.
ماذا بالنسبة لعيد الأم؟
وأخيراً، عيد الأم إنه تشبه بالكفار ولا شك، هؤلاء الذين نسوا بر الوالدين فلا تكاد ترى رجلاً منهم بعيداً عن العدسات والأضواء باراً بأمه، فكل مشغول بنفسه، ولذلك أحدثوا ما يسمى بعيد الأم، فيعصي أحدهم أمه في السنة كلها ثم يأتي في يوم من الأيام في السنة يقذف عليها صندوق حلوى، فأين هذا من المسلم الذي يقبل رأس أبيه وأمه يومياً وفي الدخول والخروج فلعمر الله إن ما اخترعوه من قلة الوفاء، بل قد صرح بعض مؤرخيهم أن عيد الأم كان بسبب أن بعض مفكريهم رأوا أن هناك عقوقاً كبيراً في المجتمع فاخترعوا عيد الأم وحاول لترقيع هذا الخرق وتدارك بعض الأشياء، هؤلاء الكفرة الذين ذهبوا بآبائهم وأمهاتهم إلى المصحات ودور الرعاية، الواحد منهم يفتخر أن ابنه يزوره مرة في الشهر، هو في دار العجزة يفتخر على الآخرين أن ابنه يزوره مرة في الشهر، وإذا ما استطاع يتصل به هاتفياً، وأخرى تقتل أمها وتأخذ المال لأجل عشيقها، وهكذا يفعلون عندما يكون الابن الغربي الذي رضي أن تبقى معه أمه في النهاية شريطة أن تعمل عنده في البيت وتشتري الأغراض من السوق بأجرة يخصم منها السكن، وآخر جعل أمه تعمل عنده في محل للشواء وفي ضم اللحم في الأسياخ وإذا تأخرت ضربها بعرض السيخ على أطراف أصابعها، فهؤلاء هل نطيعهم ونتابعهم في عيد الأم الذي جعلوه مرة في السنة والبقية ربما يعقون أمهاتهم فيها، لا شك أن هذا التشبه حرام وأن هذا لا يجوز، وأن الأعياد انتهت إلى هذين العيدين.
وأخيراً نسأل الله أن يجعلنا من البارين بآبائنا وأمهاتنا ويفقهنا في ديننا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.