إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فأرحب بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة في هذا اللقاء الذي نسأل الله أن يكون لقاء خير وبر، وأن يجعلنا وإياكم فيه من المتعظين، وأن يرزقنا الاقتداء بسيرة السلف الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.
أسباب خيرية أمة الإسلام
أيها الإخوة، إن هذا الدين يحمله من كل خلف عُدوله، يحمل هذا الدين رجال صدّقوا بالله وآمنوا، يحمل هذا الدين رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين، هذا الدين لا يمكن أن يتحرك في الواقع ولا يمكن أن يؤثر إلا إذا كان هناك أناس آمنوا به فجعلوه عقيدة تحركهم، وجعلوه حياتهم وهمهم، فصار يحركهم للعمل لأجل رفعة شأنه ونصرة أمره، هذا الدين العظيم دين الإسلام، وخيرية هذه الأمة على بقية الأمم من أسبابها ما وجد في هذه الأمة من الرجال الذين حملوا لواء الإسلام، ما وجد فيها من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23]، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 36-37]. هؤلاء الرجال هم الذين يحملون هذا الدين، وقد شاء الله أن يوجد في هذه الأمة من هذه النوعية حملة الدين عدة وكثيراً، والحمد لله على فضله وإحسانه.
أيها الإخوة، إننا حين ننشد التغيير الذي نحلم به من منطلق إسلامي من قول الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. عندما ننشد هذا التغيير في الواقع المُر الذي نعيش فيه، إننا لنعلم علماً يقينياً أن هذا التغيير لن يحدث إلا إذا وجد هناك النفر المخلصون من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، هم الذين يخلّصون الأمة وينقذونها من الشتات وعالم الضياع، إن هذه الفئة جيل الإنقاذ، إن هذه الفئة التي تريد أن تصل بسفينة المجتمع وسفينة الأمة إلى بر الأمان هم من نوعية مخصوصة اختارها الله -سبحانه وتعالى-، جعل فيهم من الصفات والميزات ما يستطيعون به حمل هذا الدين، والصبر على تبليغه، وعلى أذى المخالفين في سبيل الله ، ونحن لا نريد أن نكون بمنأى عن هؤلاء الأشخاص، ولا نريد أن نقف متفرجين، وأن نرقب النصر المنشود من أناس آخرين، نحن نريد أن نكون من هذا الركب، ونحن نريد أن نكون من هذه الطائفة، ولكن المسألة تخليص الأمة من الهاوية التي انحدرت إليها أمرٌ في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى تربية عميقة تصقل مواهب الرجال، إلى تربية تنشئ فيهم حب الله ورسوله، وتجعل منهم قادة يقودون الأمة نحو الصلاح المنشود، وإننا في هذا الطريق نتلفت إلى الوراء؛ لنرى من سلفنا وعبر في تاريخنا، فننشد من تلكم الشخصيات هذه الصفات التي ينبغي أن يكون فينا بعضها، ودرجات منها على الأقل، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، من أجل هذا سنتحدث في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: "جوانب التكامل في شخصيات السلف"، الشخصيات التي خرجت في صدر الإسلام، والتي كتبت سيرتهم في تاريخ هذه الأمة، هذه الشخصيات قد تميزت بميزات، من أجل ذلك كانت الأمة منصورة، وكان علم الدين قائماً، وكانت راية الجهاد مرفوعة، وكان المسلم يسير عزيزاً من شرق بلاد المسلمين إلى غربها رافعاً رأسه، كان الكفر في ذلة، وكان أهل الذمة في صغار، وكان أعداء الدين يرهبون المجتمع الإسلامي، كان المجتمع فيه من الخصائص ما ضاع كثير منه في هذه الأيام، طُبقت الشريعة، وأُقيمت الحدود، وعُقدت حِلَق العلم، وأُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر، وجُرِّدت السيوف للجهاد، وعُقدت الألوية، وحُورب أهل البدعة، كان مجتمعاً فيه من الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية ما يفوق الوصف.
التكامل في شخصيات الخلفاء الأربعة
لقد جاء على المسلمين يوم يقدّمون فيه المال للزكاة والصدقة، فلا يوجد من يُقبل منه؛ لأن أمير المؤمنين عمر قد أغنى الناس، ونحن في هذه المحاضرة سنستعرض بعض الجوانب من تلكم الشخصيات التي ظهرت في هذه الأمة، وإن هذه الشخصيات كثيرة وكثيرة جداً لمن استعرض كتب التراجم والسير والتاريخ الإسلامي، ولعلنا سنذكر بعضاً منها من جيل الصحابة وتابعيهم، إذ أن الوقت لن يسعف في أن نستقصي حتى جيل الصحابة والتابعين، ولن تخلو الأمة من خير أبداً، ولا تزال الشخصيات التي تحمل لواء هذا الدين تظهر بين آونة وأخرى، ولا يزال المجددون الذين تكفل الله بإظهارهم يظهرون بين حين وآخر، والحمد لله على نعمه وآلائه.
أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-
أليس منا أبو بكر الصديق الذي كان من أمنّ الناس على رسول الله ﷺ في نفسه وماله، أحب الناس إلى رسول الله ﷺ من الرجال، أول الرجال إسلاماً، ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر وهو يقول: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وهل نفعني الله إلا بك يا رسول الله، أتى بماله كله وقال: "أبقيتُ لهم –لأهلي- الله ورسوله"[رواه أحمد: 7446، وابن ماجة: وابن ماجة: 94، وابن حبان: 6858، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5808]. دافع عنه لما أرادوا ضربه، ونفض له الضرع وظلل عليه في طريق الهجرة، وجمع من خصال الخير ما لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر .
إن جئت إلى الرأفة فهو أرأف الأمة بعد نبيها ﷺ، أرأف أمتي بأمتي أبو بكر [رواه الترمذي: 3790، والحاكم: 5784، وابن حبان: 7131، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 868]. وإن جئت إلى القيادة: فهو حازم خليفة جمع الله عليه المسلمين، إن جئت إلى الأعمال الصالحة: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا"[رواه البخاري: في الأدب المفرد وابن خزيمة: 2131، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 209].
كان حازماً في حرب المرتدين، فأرانا بسيرته البصيرة التي تكشف ظلمة الشبهات، أرانا بسيرته حزم العادلين، وكيف يكون موقف الرجل المسلم في وقت الأزمة لما ارتد المرتدون. وإن جئت إلى كونه أباً للزوجة كان موقفه من زوجة النبي ﷺ من ابنته موقفاً يدل على عقل وحكمة حتى في الجوانب الاجتماعية.
عمر الفاروق -رضي الله عنه-
أليس منا عمر الشهيد العبقري، صاحب القصر في الجنة، المحدّث الملهم، جعل الله الحق على لسانه وقلبه، ينطق على لسانه ملك، وافق ربه في عدة مواضع، أنزل الله فيها قرآناً يُتلى إلى قيام الساعة، ما لقيه الشيطان سالكاً فجاً إلى وسلك فجاً غير فجه"، شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر، ما زال المسلمون أعزّة منذ أسلم عمر، هو الباب بين هذه الأمة وبين الفتن، فلما كُسر الباب جاءت الفتن، كان وقافاً عند كتاب الله.
إن جئت إلى الشدة في أمر الله فعمر رأس المقدّم، أشدها في أمر الله عمر، أشد الناس على أهل البدعة، ما تجرأ أحد من المبتدعة أن يخرج لسانه ويرفع رأسه في عهد عمر، إن جئت إلى محاسبة الولاة فعمر المقدّم الظاهر، وإلى استشعار المسئولية، "لو أن دابة عثرت بأرض العراق خشيت أن أُسأل عنها يوم القيامة، لم لم تذلل لها الطريق يا عمر؟".
إن جئت إلى تفقُّد الرعية فهو يسير بين البيوت يتفقد أهلها، ويحرس المسلمين بالليل، ويخرج إلى الأرض البعيدة ليرقب خيمة فيها امرأة وحولها أولاد صغار يبكون، ليتأثر عمر فيحمل لهم الطحين على ظهره، شديد في أمر الله، وفي المعارك على الكفار لا يملك نفسه أن يرد على عدو الله في ذلك الوقت رداً تشعر فيه بعزة المسلم.
عثمان ذو النورين -رضي الله عنه-
أليس منا عثمان الشهيد الذي بُشر بالجنة على بلوى تصيبه، أصدق الأمة حياء تستحيي منه الملائكة، جهٍّز جيش العسرة، ومن جهّزه فله الجنة، اتفقت الأمة على البيعة له، مات ودمه على المصحف.
إن جئت إلى خُلُق الحياء: أصدق الأمة حياءً عثمان [رواه ابن ماجه في سننه: 154، وأبو يعلى الموصلي: 5763، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 868]. وإلى الإنفاق في سبيل الله جهّز جيشاً كاملاً من ماله، إلى قراءة كتاب الله، كان له مصحف يقرأ فيه حتى كانت نهايته وهو يقرأ في المصحف، وقيام الليل، هو الذي فدى الأمة بدمه كان بإمكانه أن يقول للصحابة وأبناء الصحابة: دافعوا عن خليفتكم، لكنه نهى الناس عن الدفاع عنه لما جاء هؤلاء الثوار الذين حرضهم عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره، وصارت الفتنة، وفدى عثمان الأمة بدمه .
علي -رضي الله عنه-
أليس منا علي، أول من أسلم من الصبيان، رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، أعطاه الراية يوم خيبر ففتح الله عليه، هو من رسول الله ﷺ بمنزلة هارون من موسى، لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"، أنت مني وأنا منك كما قال له المصطفى ﷺ، من سبّ علياً فقد سبّني [رواه أحمد: 26748، والحاكم: 4615، وقال الحاكم: صحيح]. من آذى علياً فقد آذاني [رواه أحمد: 15960، وابن حبان: 6923، والحاكم: 4619، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5924]. من كنتُ مولاه فعلي مولاه [رواه أحمد: 641، والترمذي: 3713، والنسائي في الكبرى: 8417، وصححه الألباني في المشكاة: 6091]. رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن جئت إلى القضاء فأقضى الأمة بعد نبيها علي بن أبي طالب، وإن جئت إلى قتال أهل البدعة والخوارج والقضاء على الفتن فعلي بن أبي طالب الرأس المقدم في ذلك، إن جئت إلى الحكمة والعلم تجده قاضياً مفتياً .
طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه-
أليس منا طلحة بن عبيد الله، أحد العشرة المبشرين، وقى بيده رسول الله ﷺ حتى شُلّت، طلحة ممن قضى نحبه، أوجب طلحة، عمل عملاً يوجب له الجنة.
الزبير بن العوام-رضي الله عنه-
أليس منا الزبير بن العوام، حواري رسول الله ﷺ، ومن الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح.
سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-
جمع له رسول الله ﷺ بين أبويه فقال: فداك أبي وأمي، الدفاع عن الرسول ﷺ الدفاع عن القائد، ضرب هذا الرجل والذي قبله وغيره من صحابة الرسول ﷺ أروع الأمثلة في ذلك، واعتزل الفتنة، سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهم في سبيل الله، ارم سعد فداك أبي وأمي [رواه أحمد: 1017، والترمذي: 3755، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7911]. صاحب الدعوة المستجابة، نزلت فيه آيات من كتاب الله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ [العنكبوت: 8].
فاخر به ﷺ فقال: هذا خالي فليرني امرؤ خاله [رواه الترمذي: 3752، والحاكم في المستدرك: 6113، والطبراني في الكبير: 323، وصححه الألباني في المشكاة: 6994]. حرس رسول الله ﷺ، فتح الله على يديه بلاد فارس، فإن جئت إلى القيادة وإلى الحكم وتخطيط المدن وبعد النظر في مصلحة المسلمين سعد بن أبي وقاص.
أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-
أليس منا أبو عبيدة أمين هذه الأمة؟ نعم الرجل أبو عبيدة [رواه الترمذي: 3795، وأحمد: 9431، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 337]. تولّى فأحسن الولاية، وقاد الجيش فأحسن القيادة.
حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-
حمزة سيد الشهداء، أسد الله وأسد رسوله، نافح عن الإسلام، ﷺ مع أفواج من المسلمين الذين استشهدوا في أُحد، يصلي عليه في كل مرة، ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار [رواه أحمد: 4414، وقال محققه الأرنؤوط: حسن لغيره]. أعزّ الله به الدين كما أعزّه بعمر بن الخطاب، فأعزّ الله بحمزة وبعمر ما لم يعز بغيرهما من كفار قريش الذين أسلموا.
بلال-رضي الله عنه-
هذا بلال سابق الحبشة إلى الإسلام، الذي سمع رسول الله ﷺ دَفَّ نعليه في الجنة، وصابر مع النبي ﷺ في حصار الشعب، ما ارتد عن دينه، ضرب لنا المثل في الصبر في وقت الشدة، وكان مؤذناً محتسباً لله يؤذن بلا أجرة، كان يؤذن فيأتي الناس إلى المسجد لأذانه، ضرب لنا مثلاً في المؤذن المحتسب، هانت عليه نفسه في سبيل الله، ألبسوه الأدراع، وصهروه في الشمس، وأعطوه الولدان يطوفون به وهو يقول تحت الصخرة: "أحد أحد" [رواه أحمد: 3832، وأبو داود: 1499، والحاكم: 5238، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 189]. فإن أردت مثالاً في الثبات على دين الله تحت التعذيب فخذ بلالاً .
عن أسلم مولى عمر قال: "قدمنا الشام مع عمر فأذّن بلال والناس مجتمعون في الشام في ذلك الوقت عند فتحها، جاء عمر يشهد الفتح، أذّن بلال، فتذكر الناس النبي ﷺ وأيام النبي ﷺ، فما رُئي يوم أكثر باكياً منه في ذلك اليوم" [الزهد لأبي داود: 238].
عمار بن ياسر-رضي الله عنه-
أليس منا عمار بن ياسر، من آل ياسر موعدهم الجنة، ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه [رواه ابن ماجه: 147، والنسائي في الصغرى: 5007، والحاكم: 5680، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5888]. أجاره الله من الشيطان، ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما وأرشدهما، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار
[رواه البخاري: 447]. أبشر عمار، فضُرب مع بلال وخبّاب وغيرهم المثل في الثبات مع وقوع الفتنة.
عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-
أليس منا عبد الله بن مسعود، ساقاه أثقل في الميزان من جبل أُحد، من أقرب الناس عند الله وسيلة يوم القيامة، من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد [رواه أحمد: 35، وابن حبان: 7066، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 7026]. أقرب الناس سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي ﷺ، صاحب النعلين والوساد، وكان كاتماً لسرِّه ﷺ والمطهرة، فكان يصطحبها لطهور النبي ﷺ، أخذ من فم النبي ﷺ سبعين سورة، قال فيه: إنك غلام معلّم كُنيِّفٌ ملئ فقهاً [رواه أحمد: 3599، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده حسن]. فضرب لنا مثلاً في المقرئ الذي يقرئ الناس ويعلمهم، رجل بأمة يأتي إلى الكوفة فيدرّس هناك فيخرّج أجيالاً من التابعين من الفقهاء العلماء المفتين عبد الله بن مسعود، وقل عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من نفس هذا المثال، علماء يخرجون علماء، ما دفنوا علمهم، ولا قبعوا في بيوتهم، وإنما برزوا للناس فتصدوا فأفتوا وعلموا وصاروا كالسحابة تمطر الخير حيثما جاءت، وكالآبار يستقى منها، وكالعيون العذبة رضي الله تعالى عنهم.
مصعب بن عمير-رضي الله عنه-
مصعب بن عمير، ألم يضرب لنا مثلاً بشخصيته في صبره على الأذى، وترك النعيم، وحياة الترفه، والشباب اللاهي واللذات، كل ذلك في سبيل الله، يضرب لنا مثلاً في الدعوة بالقرآن قبل السنان، أسلم على يديه كثير من أهل المدينة فوطّأ المكان لقدوم النبي ﷺ، ومع ذلك مات بين يديه حاملاً اللواء في غزوة أُحد، فوقع أجره على الله، مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، ترك اللذات في حياة الشباب، وهاجر وترك الوطن، وكان داعية ناجحاً وغازياً مجاهداً، ما أدرك وقت الفتوح ولا الغنائم ولا كثرة الأموال، حتى ما وجدوا شيئاً يجللوا جسده عند موته من الكفن، فغطوا رأسه بالثوب ورجليه بشيء من الإذخر، فمضى إلى ربه محتسباً ما نقص من أجره شيء.
البراء بن مالك-رضي الله عنه-
أليس منا البراء بن مالك البطل الكرار الذي ضرب لنا مثلاً بشخصيته في حرب مسيلمة لما أمرهم أن يحتملوه على ترس على أسِنّة رماحهم ويلقوه في حديقة مسيلمة فاقتحم عليهم وشدّ وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، رجل بأُمّة، مقدام وجريء، هذه شخصياتهم -رضي الله عنهم- تتكامل في جميع الجوانب، وتكوّن ذلك المجتمع الذي لن يمر على الأمة مثله أبداً، فجُرح يومئذ بضعاً وثمانين جرحاً، وقتل في حروبه مائة نفس من الشجعان مبارزة، من الذين قال رسول الله ﷺ فيهم: كم من ضعيف متضعّف ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه [رواه الترمذي:3854، والبيهقي في الشعب: 10001، والطبراني في الأوسط: 4263، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3487].
فكان المسلمون في الفتوحات يقدمونه فيقولون: ادع يا براء.
صاحب الهجرتين جعفر بن أبي طالب-رضي الله عنه-
وهذا جعفر بن أبي طالب أبو المساكين، هاجر الهجرتين ودعا النجاشي إلى الله، ضرب لنا مثلاً في عدم كتم الحق والمواجهة بالحق، أشبه خَلْق رسول الله ﷺ وخُلُقه، وقدم على رسول الله ﷺ فاستشهد في غزوة مؤتة، له جناحان يطير بهما في الجنة.
أبو دجانة سماك بن خرشة -رضي الله عنه-
أبو دجانة سماك بن خرشة الذي أخذ سيف رسول الله ﷺ بحقه، خرج يتبختر عليه عمامة حمراء في مشية يبغضها الله إلا في ذلك الموطن، ففلق بسيف رسول الله ﷺ هام المشركين، أناس يقدّرون المسئولية، من يأخذ السيف بحقّه؟ [رواه أحمد: 12235، والحاكم في المستدرك: 5018، وقال الحاكم: على شرط مسلم]. أخذه سماك بن خرشة بحقّه، ففعل به الأفاعيل، رمى بنفسه يوم مسيلمة إلى داخل الحديقة، فانكسرت رجله فقاتل حتى قُتل .
خُبيب بن عَدي-رضي الله عنه-
خُبيب بن عَدي الذي سنّ لنا الركعتين عند القتل وقال: "والله لولا أن تظنوا أنما طوّلت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة" [السيرة النبوية لابن كثير: 3/129]. كان يأكل وهو محبوس قطفاً من عنب، ولم يكن في مكة عنب أبداً، كرامة من الله لهذا الرجل، فيعلمنا الصبر، ومعنى محبة الرسول ﷺ، وأنه لا يرضى أن يُشاك رسول الله ﷺ بشوكة، وأن يكون هو حراً طليقاً، هل جزع لما ربطوه ولما أطلقوا عليه رماحهم وسهامهم؟ كلا، بل دعا الله أن يبارك على أوصال شلو ممزّع، وصبر في ذات الله .
عمرو بن الجموح-رضي الله عنه-
كبار السن، شيوخ المسلمين ضربوا لنا مثالاً، فكانت شخصياتهم مثالاً يُحتذى.
عمرو بن الجموح الذي قاتل في أُحد وهو أعرج ليطأ بعرجته في الجنة وهو ابن ثمانين سنة، فقتل فيها شهيداً -رحمه الله تعالى - .
عبد الله بن عمرو بن حرام-رضي الله عنه-
أليس كذلك من هذه النوعية من كبار السن الذين أبلوا في الإسلام بلاء على تقدم أسنانهم وعلى شيخوختهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أحد النقباء ليلة العقبة الذي استشهد في أُحد، قال ﷺ لولده جابر: تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه كُفّن هو وصاحبه أخوه في الله، عمرو بن الجموح، الشيخ الكبير الآخر، قُتلا سوياً في معركة أُحد، ما توقف العطاء رغم كبر السن، يضربون لنا المثل بكبر سنهم وأفعالهم في سبيل الله، أن الله كلم أباك كفاحاً، يقول ﷺ لجابر: ألا أخبرك أن الله كلّم أباك كفاحاً مباشرة بعد موته، فقال: يا عبد سلني أعطك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله رسالة تبليغ رسالة من عبد الله بن عمرو بن حرام إلى المسلمين من إخوانه الأحياء: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [رواه الترمذي: 3010، وابن ماجه: 190، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7905].
سعد بن معاذ-رضي الله عنه-
أليس منا سعد بن معاذ الذي ترك السيادة لله ، وكان سيّد قومه، فتنازل للرسول ﷺ أسلم على يدي مصعب، فقام في قومه وهو سيدهم يضرب لنا مثلاً في الداعية كيف يحمل قومه على الإسلام، قال: "إن كلامكم عليّ حرام، رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: "فو الله ما بقي في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا" [سيرة ابن هشام: 1/437]. وهو الذي تحدى أبو جهل بمكة ليظهر لنا عزة المسلم في الطواف، فقال: "والله لو منعتني لقطعت عليك متجرك بالشام" [سير أعلام النبلاء: 1/280]. جُرِح يوم الخندق فقال: "اللهم لا تخرج نفسي حتى تقرّ عيني في بني قريظة" [رواه أحمد: 14773، والترمذي: 1582، والنسائي في الكبرى: 8626، وصححه الألباني في الإرواء: 1213]. مع أنهم كانوا حلفاءه في الجاهلية، لكن نسي الأحْلاف والعلاقات كلها التي تقطعت بسبب الإسلام، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات، ثم دعا الله أن يقبضه لكي لا يفوته أجر الشهادة، فمات، فنزلت الملائكة تحمل جنازته، اهتز العرش فرحاً لموت سعد، فُتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألف ملك، هذا يضرب لنا مثلاً.
هذه الشخصيات -أيها الإخوة- نرى العجب العجاب نتيجة التربية النبوية، ماذا ظهر من الشخصيات؟ وما هي جوانب التكامل التي بناها أولئك الأشخاص في ذلك المجتمع؟
ثابت بن قيس-رضي الله عنه-
ثابت بن قيس خطيب الأنصار، لقد كان للمسلمين دور في الخطابة، كانت منبراً إعلامياً، قال عند مقدَم رسول الله ﷺ: "نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا". [رواه النسائي في الكبرى: 8171، والحاكم في المستدرك: 5033، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه]. إعطاء العهد والميثاق.
ولما جاء وفد تميم فافتخر خطيبهم، قام له ثابت بن قيس بخطبة فأسكتته.
ولما نزل قول الله: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2]، يضرب لنا هذا الصحابي مثلاً في حساسية المؤمن وتأثره وتفاعله مع الآيات، وكان جهوري الصوت بطبعه، إذا تكلم كان صوته عالياً فقال: "ويلي هلكتُ" فقعد في بيته حتى نزلت الآية، أخشى أن أكون قد هلكت". [تفسير ابن كثير: 7/366].
هذا الذي تحنّط يوم اليمامة ولبس ثوبين أبيضين فلما انهزم المسلمون في بداية الأمر قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -مسيلمة وأصحابه- وأعتذر مما صنع هؤلاء، بئس ما عوّدتم أقرانكم، خلّوا بيننا وبينهم ساعة، فتحمّل فقاتل حتى قُتل" [رواه البخاري: 2845]. ولم تنفّذ لرجل وصية بعد موته إلا هو، حكم بذلك الصديق.
معاذ بن عمرو بن الجموح-رضي الله عنه-
معاذ بن عمرو بن الجموح الفتى الصغير، حتى الشباب الصغار كان في جوانب شخصياتهم أمور تحمل على العجب، يميل على عمه في الإسلام عبد الرحمن بن عوف يقول: "يا عم أتعرف أبا جهل؟ لماذا؟ ماذا تصنع به؟ أُخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ، هل سمعه يسب رسول الله؟ لا، لكن أخبرت وأريد أن أنتقم من رجل سبّ رسول الله ﷺ، فالحمية لرسول الله في نفوس الفتيان الناشئة في ذلك المجتمع، "والذي نفسي بيده لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا" فحمل على عدو الله فضربه فقتله، وأصيبت يده فصارت معلقة بجلده على جنبه فصار يقاتل ويسحبها خلفه، فلما آذته قال: "وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها". [رواه البخاري: 3141، ومسلم: 1752].
سعد بن الربيع-رضي الله عنه-
سعد بن الربيع، وما أدراك ما سعد بن الربيع، وجانب الإيثار في شخصية سعد بن الربيع واضحة، عندما قال لعبد الرحمن بن عوف: "أشاطرك مالي، واختر أي زوجتي أحب إليك أطلقها كي تتزوجها أنت"[رواه البزار: 6863، والذهبي في تاريخ الإسلام: 2/211].
وأحد النقباء في ليلة العقبة، قُتل في أحد شهيداً، ضرب لنا مثلاً في الثبات والوصية عند الممات إلى آخر لحظة على المنهج والبيعة لرسول الله ﷺ، قال في آخر رمق: "أبلغ رسول الله ﷺ وقل: إن سعداً يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف" [سير أعلام النبلاء: 1/319].
فالوصية بالثبات والاستمرار، فإن الرجل إذا مات وانتقل فإنه لا زال يوصي لمن بعده بالثبات على ما مات هو عليه.
عبد الله بن أمّ مكتوم-رضي الله عنه-
حتى المعوّقين في المجتمع الأول كانت لهم أدوار، وقد فعل الإسلام الفعل العجيب في نفوس أولئكم القوم.
هذا ابن أمّ مكتوم الأعمى من السابقين المهاجرين، الضرير مؤذن الرسول ﷺ، والخليفة على المدينة في غيابه ﷺ يصلّي ببقايا الناس، أُنزلت فيه سورة عبس، حريصاً على طلب العلم وعلى الفائدة، يأتي إلى رسول الله ﷺ يقول: "علّمني مما علمك الله" [تفسير الطبري: 24/103].
هو الذي لما سمع قول الله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 95]. قال: يا رب أنزل عذري، فنزل قول الله : غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [رواه البخاري: 2831، ومسلم: 1898، وابن كثير في تفسيره: 2/385].
وكان يغزو وهو ضرير ويقول: "ادفعوا اللواء إلي، فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، "ادفعوا اللواء إليّ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين" [سير أعلام النبلاء: 1/364].
خالد بن الوليد-رضي الله عنه-
ظهرت المواهب العسكرية والشجاعة الحربية في شخصيات أولئك النفر تكاملاً على تكامل، وزينة على زينة، فهذا خالد بن الوليد سيف الله وفارس الإسلام، قائد المجاهدين أبو سليمان، هاجر مسلماً سنة ثمان، ثم سار غازياً فشهد مؤتة، فاستشهد أمراء رسول الله ﷺ، فأخذ الراية قال: "رأيتني يوم مؤتة اندق في يدي تسعة أسياف، فصبرت في يدي صفيحة يمانية". [رواه البخاري: 4265] سيف يماني.
احتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، كان مغرماً بالجهاد، جعل أدراعه ومتاعه وقفاً في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة وغزا العراق وانتصر، ثم اخترق البرية السماوية وقطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكره، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، وكان يقول: "ما من ليلة يُهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية أُصبّح فيها العدو" [رواه أبو يعلى: 7185، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد: 9/350].
النجاشي-رحمه الله-
هذا النجاشي الملك المعدود في الصحابة من وجه، وفي التابعين من وجه آخر، هو الذي بكى لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فحمى المسلمين وأكرمهم، وآمن برسول الله ﷺ، وقال لمهاجرة الحبشة: "أنتم سيوم بأرضي -آمنون- من سبّكم غرم، ثم من سبكم غرم" [رواه أحمد: 1740، والطبراني في الكبير: 1479، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية].
آثر الحق ولم يخش ثورة البطارقة لما نخروا حوله، فقال: وإن نخرتم والله، زوّج النبي ﷺ من أُم حبيبة رملة بنت أبي سفيان التي كانت في أرض الحبشة، ودفع الصداق إليها أربعمائة دينار إكراماً لرسول الله ﷺ، وجهّزها، لذلك لما مات قام ﷺ فقال: إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة، فخرج بهم إلى الصحراء فصفهم صفوفاً ثم قام فصلّى عليه [رواه الترمذي: 1039، وابن ماجه: 1535، والنسائي في الكبرى: 2108، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1549].
جرير بن عبد الله البجلي-رضي الله عنه-
وقريب من النجاشي، جرير بن عبد الله البجلي، الذي جاء من اليمن أميراً لكن ترك الإمارة بيعةً لرسول الله ﷺ.
سلمان الفارسي-رضي الله عنه-
سلمان الفارسي الذي كان في شخصيته مضرب المثل في البحث عن الحق، الذي ظل يبحث عن الحق والتوحيد حتى أوذي وقُيّد وسجن، وعمل خادماً، واستُرقّ، وظل يتنقل حتى رأى رسول الله ﷺ فعرفه وآمن به، كان متواضعاً يخدم صاحبه في السفر، حتى قال صاحب له: "إن أنا عجنتُ خبز، وإن خبزتُ طبخ"
[رواه البيهقي في الشعب: 2996]. وهو الذي أشار بحفر الخندق، سلمان منا آل البيت [رواه الحاكم في المستدرك: 6541، والطبراني في الكبير: 6040، وقال الهيثمي: فيه كثير بن عبد الله المزني، وقد ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات].
أبو طلحة الأنصاري-رضي الله عنه-
أغنياء المسلمين ضربوا المثل، أبو طلحة الأنصاري من أعيان أهل بدر، وأحد النقباء ليلة العقبة الأولى، صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة أو خير من فئة [رواه أحمد: 13745، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم].
لما كان يوم أحد جوب على رسول الله ﷺ بحجفة، ورمى وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وهو ينافح عن الرسول ﷺ، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول ﷺ انثرها لأبي طلحة ويقول أبو طلحة: "يا نبي الله، بأبي أنت لا تشرف لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك" [رواه البخاري: 4064، ومسلم: 1811].
قتَل يوم حنين عشرين رجلاً، وهو صاحب الأموال الكثيرة، تصدّق بأحب ماله إليه: "بيرحاء" بستان عظيم جداً، تفاعل مع الآية، لما نزل قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]، قال: "يا رسول الله ضعها حيث أراك الله، إنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله" [تفسير ابن كثير: 2/73].
هذا الرجل العظيم الذي يضرب المثل في النفقة في سبيل الله، والإيثار رغبة فيما عند الله.
في آخر عمره في غزوة في البحر قرأ أمام بنيه قول الله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالً [التوبة: 41].
فقال: "استنفرنا الله وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهّزوني".
فقال بنوه: يرحمك الله، إنك قد غزوتَ على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا في البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير".
[رواها الطبري في تفسيره: 11/468، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 2/34].
جوانب التكامل في شخصية نساء السلف
والطائفة الأخرى من المجتمع والنوع الثاني: النساء:
خديجة بنت خويلد-رضي الله عنها-
أليس منا خديجة بنت خويلد، أم المؤمنين، أول من آمن برسول الله ﷺ على الإطلاق قبل كل أحد، حمته وآزرته وثبتت من جأشه، مصونة كريمة، كاملة من بين النساء، وأنفقت عليه من مالها، أنفقت على الدعوة من مالها، كانت وزيرة صدق، تحميه، وتدافع عنه -رضي الله تعالى عنها-، بشّر خديجة ببيت في الجنة ببيت من قصب لا وصب فيه ولا نصب [رواه مسلم: 2433].
عائشة بنت أبي بكر-رضي الله عنها-
عائشة أم المؤمنين ضربت لنا مثلاً في جمع العلم فروت عن رسول الله ﷺ علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال أحد أئمة الإسلام: لا أعلم في أمة محمد ﷺ، بل ولا في النساء مطلقاً في أي امرأة في العالم من أن خلق الله آدم إلى وقتها امرأة أعلم منها، برأها الله من فوق سبع سموات، ولا يستبعد أن تكون هي أعلم نساء العالمين على الإطلاق، وأنزل الله في شأنها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، وأنزل بسببها آية التيمم.
هذه الصديقة بنت الصديق تضرب لنا مثلاً لطالب العلم في جمع أنواع العلم، فإن بعض الناس يتخصص في فن ولا يدري عن بقية الفنون، وقد يحسن في بعض أنواع العلم وهو لا يحسن في أنواع أخرى كثيرة، عن أبي الضحى قلنا لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: "والله لقد رأيت أصحاب محمد ﷺ الأكابر يسألونها عن الفرائض" [رواه الحاكم في مستدركه: 6736، والطبراني في الكبير: 291، وابن سعد في الطبقات: 2/286].
وعن عروة ابن أخت عائشة قال: "لقد صحبتُ عائشة –خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا ولا بكذا ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: يا خالة لكن الطب من أين علمتيه؟ قالت: "كنت أمرض فينعت لي الشيء ويمرض المريض فينُعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه" [الشريعة للآجري: 5/2412].
وفي بعض الروايات: "أن بعض أهل الخبرة في الطب من البادية، كان يأتي إلى النبي ﷺ فينعت الدواء، فتحفظه عائشة"[نفس المصدر].
وتضرب مثلاً في الإنفاق، بعث إليها معاوية بقلادة بمائة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين، وبعث لها ابن الزبير بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت: يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم؟ ما عندنا أكل، كل المال هذا الذي قسّمتيه ما اشتريت لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتيني لفعلت" [حلية الأولياء: 2/47].
حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-
حذيفة بن اليمان الذي تصدّق بدية أبيه على المسلمين؛ فازداد خيراً إلى خير يعلمنا درساً في كتمان السر، حافظ أسماء المنافقين، اهتم برواية أحاديث الفتن الكائنة في الأمة وضبطها، كان الناس يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن يدركني" [رواه البخاري: 3606، ومسلم: 1847]. ومثلٌ في حسن تصرفه وشجاعته يوم الخندق لما انتدبه ﷺ ليأتي بخبر المشركين وسرعة بديهته لما قال أبو سفيان: لينظر كل رجل من بجانبه؟ فقال لمن بجانبه: من أنت؟" [رواه أحمد: 23334، وقال محققه الأرنؤوط: حديث صحيح]. وضبط نفسه في عدم قتل أبي سفيان وكان يستطيع قتله، ولي إمرة المدائن فعدل وعلى يده فُتحت دينور، بلد من البلدان.
أبو موسى الأشعري-رضي الله عنه-
أبو موسى الأشعري الإمام الكبير الفقيه المقرئ قدم على أهل البصرة فأقرأهم وفقههم، كانوا سادة يعلّمون الناس، جاهدوا مع النبي ﷺ، وجاهد هو وحمل علماً غزيراً، وكان حسن الصوت بالقرآن جداً، حتى إن من الصحابة من كان يخرج بالليل قريباً من دار أبي موسى ليسمع صوته وهو يقرأ القرآن في قيام الليل، أُعطي مزماراً من مزامير آل داود، وكان فارساً مقداماً، فلما رمُي عمه بسهم من أحد الكفار، لحقه أبو موسى قال: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكفّ" [رواه مسلم: 2498].
وكان في العرب -ولو من الكفار- بعض نخوة قد زالت اليوم، فالتقيا فاختلفا ضربتين فقتله أبو موسى، وهو من قواد الصحابة الستة، والمفتين الأربعة في مسجد الرسول ﷺ اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً في العبادة فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك، فقال: "إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها" الخيل إذا جاء نهاية السباق أخرجت جميع ما عندها، "والذي بقي من أجلي أقل من ذلك، فأنا أجتهد بأكثر ما عندي" [رواه البيهقي في الشعب: 10187، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 2/393].
وقال: "إني لأغتسل في البيت المظلم فأحمي ظهري حياء من ربي ".
[رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 1128، والأصفهاني في الحلية : 1/260] .
أبو أيوب الأنصاري-رضي الله عنه-
أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله ﷺ في بيته وخصّه بالنزول، إكرام الضيف، فكان أسفل البيت وأبو أيوب أعلاه، فانسكب الماء، فقام مع أم أيوب بالقطيفة ينشّف الماء بسرعة؛ خشية أن ينزل منه شيء على رسول الله ﷺ، ثم قال: "يا رسول الله، انتقل إلى الغرفة، لا ينبغي أن نكون فوقك" [رواه أحمد: 23570 ، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح]. لا يمكن أعلوك، أنا في الدور العلوي"، وهو الذي نزل القرآن بلفظه لما قال في حادثة الإفك: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم" فنزل القرآن على لفظه. [رواه الطبراني في الكبير: 23/76، وابن كثير في تفسيره: 6/27، والطبري: 17/211].
وكان يحب الغزو، وكان ورعاً لا يأتي وليمة فيها منكر، ولما مات في غزو القسطنطينية أوصى بأن يوغل فيه في أرض العدو، فدعي فدفن عند أسوار القسطنطينية، حتى قيل إن الروم كانوا يستسقون به عند القحط، وجوانب التكامل في شخصيات الصحابة كثيرة، وقد عدّ ﷺ بعضها لما قال: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في أمر الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم أُبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت [رواه ابن ماجه في سننه: 154، وأبو يعلى الموصلي: 5763، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 868].
زيد بن ثابت-رضي الله عنه-
شيخ أهل الفرائض، وأحد المفتين في المدينة، رُبي يتيماً وكان أحد الأذكياء، أسلم وله أحد عشر عاماً، فلما رأى رسول الله ﷺ نجابته، يحتاج المجتمع الإسلامي إلى رجل يتعلم لغة اليهود؛ لأن اليهود قوم بُهت لا يُؤمنون على كتاب، فأمره ﷺ بتعلم السريانية لغة اليهود، فتعلمها زيد بن ثابت في سبعة عشر يوماً، وكان يكتب الوحي، وهو الذي تولّى جمع القرآن.
فالطاقات تنبغ في المجتمع المسلم عندما تُقام فيه الشريعة، ويتولّى أمر المجتمع رءوس الناس.
أسامة بن زيد-رضي الله عنه-
أسامة بن زيد حِبُّه وابن حبِّه ﷺ، شديد السواد خفيف الروح، ربّاه ﷺ منذ صغره، أمره على جيش لغزو الشام وعمره ثمانية عشر سنة، وفي الجيش عمر وكبار الصحابة.
حسان بن ثابت-رضي الله عنه-
حسان بن ثابت كان منبراً إعلامياً منافحاً عن الدعوة، شاعر رسول الله ﷺ، المؤيد بروح القدس، يهاجي الكفار ومعه جبريل، انتدب لنصرة الإسلام بشعره، وقال: "والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني هذا، والذي بعثك بالحق لأسُلنّك منهم سلّ الشعرة من العجين.
حتى قال ﷺ: لقد شفيتَ واشتفيتَ [رواه مسلم: 2490].
كعب بن مالك-رضي الله عنه-
مثله كعب بن مالك شاعر رسول الله ﷺ، وأحد الثلاثة الذين تيب عليهم، صادق ضرب لنا المثل بصدقه، فما حدّث حديثاً إلا صدقاً بعد حادثة تبوك، قيل: أسلمت دوس فرقاً من بيت قاله كعب، وهو:
نخيرها ولو نطقت لقالت | قواطعهن دوساً أو ثقيفاً |
يعني السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت؛ لأن البيت الذي قبله:
قضينا من تهامة كل ريب | وخيبر ثم أجمعنا السيوف |
نخيرها ولو نطقت لقالت | قواطعهن دوساً أو ثقيفاً |
[السيرة النبوية لابن كثير: 3/652].
فكانت أبياتهم ترهب العدو فجاءت قبيلة دوس مسلمين.
أبو هريرة-رضي الله عنه-
أبو هريرة الذي يعلمنا درساً في الحرص على طلب العلم، وتقديم طلب العلم على طلب الدنيا، الفقيه المجتهد الإمام الحافظ الذي روى عنه أكثر من ثمانمائة نفس، هذا الرجل العظيم الذي دعا أمه للإسلام، واجتهد إلى أن أسلمت، بسط ثوبه لسماع مقالة رسول الله ﷺ، وكان الناس يشغلهم الصفق بالأسواق وكان مرابطاً عند رسول الله ﷺ يحفظ حديثه.
وعن أبي الزعيزعة كاتب مروان -الخليفة- أن مروان أرسل إلى أبي هريرة، فجعل يسأله وأجلسني خلف السرير وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به بعد سنة، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدّم ولا أخر " [رواه الحاكم في مستدركه: 6164، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه]. حفظه متين.
وعن أبي عثمان النهدي قال: "تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا" [رواه البخاري: 5441]. حتى الخادم والمرأة لها تربية من نصيب أبي هريرة من عنايته في قيام الليل، وهو الأمير المتواضع لما ولي الإمارة كان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طرقوا للأمير طرقوا للأمير، وعن محمد قال: كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح بثوب، وقال: الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل يحسبني مصروعاً فيقعد علي ليرقيني، فأقول: ليس الذي ترى، إنما هو الجوع"، وقال: "والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع" [رواه البيهقي في الشعب: 10206، والأصبهاني في الحلية: 1/379].
وكان مع أهل الصُّفة ، وصلّى بالناس يوماً فلما سلم رفع صوته مرة فقال: "الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجليه" [رواه ابن ماجه: 2445، والأصبهاني في الحلية: 1/379].
ولما مضى جيل الصحابة وهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، ومناقبهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، رباهم رسول الله ﷺ وصنعهم على عينه، خرج ذلك الجيل الذي فتح الأرض فربى الجيل الذي بعده، فانتقلت تلكم الصفات الكريمة من صفات الصحابة إلى صفات الجيل الذي بعدهم، وكان لهم أتباع وتلاميذ حملوا علمهم واقتبسوا خُلُقهم.
أبو مسلم الخولاني -رضي الله تعالى عنه ورحمه-
هذا مجاب الدعوة أبو مسلم الخولاني -رضي الله تعالى عنه ورحمه-.
عامر بن عبد قيس-رحمه الله-
هذا عامر بن عبد قيس الولي الزاهد القدوة من عباد التابعين، كان يقول: من أُقرئ؟ فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين، ثم ينصرف إلى منزله فيأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر برغيف ويخرج، ولما احتضر بكى، فقيل: ما يبكيك؟
قال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل".[لطائف المعارف: 301].
أويس القرني-رحمه الله-
أويس القرني سيد التابعين، له والدة كان بها بر، بر الوالدين، كان به برص أذهبه الله إلا موضع درهم يذكر به نعمة ربه، هذا الذي لما توجه غازياً وفطن له عمر وطلب أن يدعو له وأن يستوصي به قال: "أحب أن أكون في أغمار الناس"، لما تفطن له الناس يطلبون منه الدعاء هرب منهم فلا يُدرى أين ذهب، إخفاء العمل، التواضع، خمول الذكر إخلاصاً لله.
علقمة بن قيس النخعي-رحمه الله-
علقمة بن قيس النخعي فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها لازم ابن مسعود حتى صار رأساً في العلم والعمل، وكان أشبه الناس بابن مسعود، قال علقمة: "ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس".[جامع بيان العلم وفضله: 1/358].
أُتي عبد الله بن مسعود بشراب فقال للآتي: "أعط علقمة أعط مسروقاً، فكلما أعطى واحداً قال: إني صائم، فقال ابن مسعود: "يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار"، وكان علقمة يقرأ القرآن في خمس ويقول: "أطيلوا ذكر الحديث لا يُدرس" [سير أعلام النبلاء: 4/57]. كرروا الحديث حتى لا ينسى.
مسروق بن الأجدع-رحمه الله-
والتلميذ الآخر مسروق بن الأجدع الإمام القدوة العلم أبو عائشة، يقال: إنه سُرق وهو صغير ثم وجد بعد ذلك فسمي مسروقاً، حج فلم ينم إلا وهو ساجد، وكانت امرأته تقوم وهو يصلي حتى تتورم قدماه، فربما جلست تبكي مما يراه يصنع بنفسه، وكان لا يأخذ على القضاء أجراً، أرسل إليه أمير الكوفة ثلاثين ألفاً، فلم يأخذ منها شيئاً وهو محتاج.
عقبة بن نافع الفهري-رحمه الله-
عقبة بن نافع الفهري المجاهد القائد فاتح أفريقيا، الشجاع الحازم الذي اختط القيروان، وكان مجاب الدعوة، ولما أن أراد أن ينزل بجيشه في غابة نادى: يا أهل الوادي إنا حالون إن شاء الله فاظعنوا، ثلاث مرات، فلم يبق شيء من السباع والأفاعي إلا خرجت، حتى الأمهات تحمل صغارها، ثم قال: "انزلوا باسم الله".[تاريخ دمشق لابن عساكر: 40/531].
سعيد بن المسيب-رحمه الله-
سعيد بن المسيب علم أهل المدينة، الذي ما فاتته الصلاة أربعين سنة، وما أذّن المؤذّن ثلاثين سنة إلا وهو في المسجد، وحجّ أربعين حجّة، وكان يكثر أن يقول في مجلسه: "اللهم سلّم سلّم" [حلية الأولياء: 2/164].
ويسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وكان جريئاً عزيز النفس، لما قدم عبد الملك بن مروان، وقف على باب المسجد، وأرسل إلى سعيد رجلاً يدعوه ولا يحركه، قال: "لا تحركوه، ادعوه لي فقط، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة ومالي إليه حاجة، وإن حاجته لي لغير مقضية، فرجع الرسول فأخبره، فقال: ارجع فقل له: إنما أريد أن أكلمك ولا تحركه، فرجع إليه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فرد عليه مثل ما قال أولاً، فقال الرسول: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا، فقال: "إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك"، وإن كان يريد غير ذلك فلا أُحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض" [سير أعلام النبلاء: 4/227].
عن قتادة قال: "أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تُبّان شعر، وأقيم في الشمس تعذيباً له، - قتادة رجل ضرير لكن يطلب العلم ويأخذ عن سعيد بن المسيب- فقلت لقائدي: أدنني منه، فأدناني فجعلت أسأله"، قتادة يسأل سعيد بن المسيب، وسعيد الآن في الشمس يعذب، فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني، أخشى أن يفوتني يموت قبل أن أسأله ما في نفسي، وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون" [حلية الأولياء: 2/171].
أما قضيته في تزويج ابنته فهي مشهورة معلومة، يضرب مثلاً للآباء الذين لا يضعون العراقيل أمام زواج بناتهم، ولا يغالون في المهور، ويرأفون بالشاب الصالح، كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه -مع أنه ابن الخليفة-، فلم يزل يحتال عليه فأبى، حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جُبّة صوف، ولم يرضخ، ليس الرجل المناسب، وكان من تلاميذه كثير بن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تحمّد، وصلى على النبي ﷺ، وزوجني على درهمين أو ثلاثة، فقمت وما أدري من شدة ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي، وكنت صائماً، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يُقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، ربما غير رأيه، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك؟، قال: "لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت وعقدنا لك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك"، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله من خلف الباب، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقتُ من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج؛ لكي لا تراه أول عيشتها خبز وزيت، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله ﷺ، وأعرفهم بحق زوج، هذه تربية العلماء لأولادهم وبناتهم، هذه تربية العلماء لبناتهم، فمكثت شهراً لا آتي سعيد، يأخذ عن بنت سعيد الآن، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد عليّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: "إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم" [حلية الأولياء: 2/167].
قال عبد الرحمن بن حرملة: "دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر وهو مستلق يومئ إيماء، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها" [الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/107].
الربيع بن خُثيم-رحمه الله-
الربيع بن خُثيم الإمام القدوة العابد من عقلاء الرجال، قال له ابن مسعود: "يا أبا يزيد لو رآك رسول الله ﷺ لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين"[سير أعلام النبلاء: 4/258].
ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد" يعني: كله من الكلم الطيب..
وعن بعضهم قال: "صحبت الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تُعاب" [الزهد والرقائق لابن المبارك: 2/6].
أناس يحفظون كلامهم.
وعن الثوري عن أبيه قال: "كان الربيع بن خثيم إذا قيل له: كيف أصبحتم؟
قال: "ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا" [حلية الأولياء: 2/109].
سعيد بن جبير-رحمه الله-
سعيد بن جبير الذي قرأ القرآن على ابن عباس، قال: "ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملأها، وكتبت في نعلي حتى أملأها، وكتبت في كفي، وكان لا يدع أحداً يغتاب عنده" [الطبقات الكبرى: 6/268].
وعن الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج، فبكى رجل، فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، الحجاج الآن سيقتلك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [سير أعلام النبلاء: 4/337].
ولما جيء بسعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، دخلت عليه السجن، فقلت: جاء بكم شرطي من مكة إلى القتل؟ أفلا كتفتموه وألقيتموه في الطريق؟" تغلبتم عليه، أنتم اثنان وهو واحد، أفلا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟
قال سعيد: "فمن كان يسقيه الماء إذا عطش؟" [سير أعلام النبلاء: 4/340].
وكان قد فرّ من الحجاج لكنه في النهاية ثبت، وقال: "والله لقد فررت حتى استحييتُ من الله". [حلية الأولياء: 4/274]. ولما علم فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يكترث ولم يعامل عدوه بالتقية.
وكان لسعيد بن جبير ديك يقوم من الليل على صياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، ففاتت الصلاة على سعيد، فشقّ عليه ذلك، فقال: "ما له قطع الله صوته!" سعيد بن جبير يقول عن الديك الذي لم يصح تلك الليلة: "ما له قطع الله صوته"، فما سمع للديك صوت بعد ذلك، فقالت له أمه: "يا بني لا تدع على شيء بعدها".
[كرامات الأولياء للالكائي: 9/222].
زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب-رحمه الله-
هذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان يدخل المجلس فيشق الناس حتى يجلس في حلقة عبد من العبيد -مولى من الموالي- زيد بن أسلم وهو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقول له نافع بن جبير: غفر الله لك أنت سيد الناس، وتأتي حتى تجلس مع هذا العبد؟
فقال علي بن الحسين: "العلم يُبتغى، ويؤتى، ويُطلب حيث كان" [سير أعلام النبلاء: 4/388].
وكان يقول: "يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام، ولا تحبونا حب الأصنام".
[رواه الحاكم في المستدرك: 4825، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
وكان يتذلل إلى الله تعالى بفناء الكعبة، وإذا أحرم ولبّى ربما غُشي عليه، وإذا صلّى أخذته رعدة هيبة ممن يناجي، وكان يحمل الخبز في الليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، وربما قال: "إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب" [تهذيب الكمال: 20/392].
وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم؟ يأتيهم الطعام ولا يدرون المصدر، فلما مات علي بن الحسين فقدوا الطعام، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل، ويضع الطعام على باب بيوتهم، ولما مات وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، ولما مات وجدوه يعول مائة بيت، ولما حج هشام بن عبد الملك قبل أن يتولى الخلافة كان إذا أراد أن يستلم الحجر زوحم عليه، وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له فوجم هشام وقال: من هذا فما أعرفه؟ فأنشأ الفرزدق وكان حاضراً:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى أن قال:
هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله | بجدّه أنبياء الله قد ختموا |
[حلية الأولياء: 3/139].
وهو النبي ﷺ.
عروة بن الزبير بن العوام-رحمه الله-
عروة بن الزبير بن العوام عالم المدينة وأحد الفقهاء السبعة، قال: "لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمتُ على حديث عندها لأني، وعيتُ كل الأحاديث، "ولقد كان يبلغني من الصحابي الحديث عن الصحابي فآتيه فأجده قد قال -من القيلولة-، فأجلس على بابه حتى يخرج أسأله عنه، وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً، ثم يقوم به في الليل، وإذا كانت أيام الرُّطب سلم حائط البستان الذي له ملكاً له، وأذن للناس أن يدخلوا، فيدخلون فيأكلون ويحملون" [حلية الأولياء: 2/180].
وقد ابتلاه الله بابتلاء عظيم فصبر، فإنه قد قدم في أحد السنوات على الوليد ومعه ابنه محمد وكان ابنه محمد بن عروة بن الزبير من أحسن الناس وجهاً، فأصابه بعضهم بالعين، فخرج الولد متوسلاً به نعاس، فوقع في اصطبل للدواب فلم تزل الدواب تطؤه بأرجلها حتى مات، وبعدها بقليل حدث أن الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك، فعزم على قطعها، فقالوا له: لو سقيناك شيئاً كي لا تتوجع، قال: "إنما ابتلاني ليرى صبري"، فنشروها بالمنشار، فقطعها الطبيب من نصف الساق، فما زاد أن يقول: "حسبي"، فقال الوليد: ما رأيت شيخاً أصبر من هذا، فلما صار المنشار إلى القصبة -قصبة الساق- وضع رأسه على الوسادة ساعة، فغُشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدر من وجهه، وهو يقول: "لا إله إلا الله والله أكبر"، فأخذ رجله المقطوعة وجعل يقبلها في يده ثم قال: "أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية، ولا إلى ما يسخط الله، ثم أمر بها فغسلت وطيّبت ولُفت في قطيفة، وبعث بها إلى مقابر المسلمين" فلما جاء إلى بلده رجع إلى المدينة وقد أُصيب بولده ورجله تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه، فما زاد أن يقول: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف: 62].
وكان يقول: "اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليتَ لقد عافيتَ ولئن أخذتَ لقد أبقيتَ"[رواه البيهقي في الشعب: 9506].
ابن سيرين-رحمه الله-
هذا ابن سيرين العالم إذا سُئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى نقول: كأنه ليس بالذي كان، ورع من الفتيا، يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يبَرُّ أمه، لم يُر رافعاً صوته عليها قط، كان إذا كلمها كهيئة المصغي إليها، وكان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن به مرضاً، من شدة ما يخفض صوته عند أمه".
هذه طائفة من سيرة أولئكم النفر الكرام، من سيرة أولئكم النفر الذين قيضهم الله لحمل دينه ونشر دعوة نبيه، ضربوا لنا الأمثال في التقوى والورع والزهد والعبادة والتعليم والشجاعة والجرأة والجهاد والصبر وبر الوالدين والآداب العظيمة.
هؤلاء أيها الإخوة، حريٌ بنا فعلاً إن كنا نريد أن نكون اليوم نحن حملة الرسالة، وأن نكون نحن من الطائفة التي يكون إنقاذ الأمة على أيديها، أن نبلو أخبارهم وأن نقتدي بهم، وفي التاريخ مسطر كثير من العبر من حياة أولئكم القوم، وإن تربية لا تأخذ في عين الاعتبار سير أولئك الكرام لهي تربية ناقصة، ونحن اليوم أشد ما نكون إلى معرفة هذه السير للتأسي والعمل، نحن بأشد حاجة إلى تربية متكاملة، ولذلك كنا نقول اليوم: جوانب التكامل في شخصيات السلف تربية متكاملة لا تركز على العبادة فقط، ولا على العلم فقط، ولا على الآداب فقط، ولا على الجهاد فقط، ولا على العقيدة وأمورها النظرية فقط، وإنما تلمُّ كل ذلك وتحويه.
وكل نقص في أبناء الإسلام اليوم مرده إلى عدم التكامل في التربية، وضعفت هذه التربية، ولن نستطيع أن نجابه كفار الشرق والغرب بنفوس مهلهلة وضعيفة، ونحن نعلم أن الدنيا ما فتحت لأسلافنا إلا لما كان فيهم أمثال من ذكرنا في صفات أعظم، وما ذكرنا قطرة من بحر، ولذلك فإننا نرى اليوم ونحن نتطلع إلى فجر إسلامي قادم، أن طلائع الصحوة هذه لا يمكن أن تثبت وأن تؤدي دورها في العالم الآن إلا إذا ربيت التربية على منهاج هؤلاء السلف، وتخلقت بمثل أخلاق أولئكم السلف، وإن الوصية العظيمة في الاقتداء بهم والتأسي بأفعالهم لهي أمر متعب جداً، لأن جمع الفضائل لا يطيقه كل أحد، فإن الإنسان قد يجمع فضيلة أو فضيلتين، وقد ينشط في نوع من أنواع العبادة، أو يتجلد في بعض مجالس العلم أو في قراءة كتاب أو كتابين، لكن الجمع والتكامل مع الاستمرار على ذلك هذا هو الذي في غاية الصعوبة، وهو الذي نحتاج إليه اليوم أشد الحاجة، وإننا أيها الإخوة في هذا العصر الذي ضعف فيه أهل الإسلام لنرى من بصيص الأمل والنور أمراً كبيراً ولله الحمد، في أن الله لن يخلي هذه الأمة من مجددين ومجاهدين ومصلحين، ونحن نسمع اليوم من أخبارهم في الواقع من جرأتهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم ما هو فعلاً أمل في الله كبير بأن ينصر الإسلام وأهل الإسلام، ولكن نرجو أن نكون نحن من هؤلاء، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن لهم حظ وافر من نصر الدين وأهله، وأن يجعلنا ممن يحملون لواء هذا الدين ويتبعون سنة سيد المرسلين، ونريد فيما بقي من الدقائق الإجابة عن بعض الأسئلة.
يقول: من الملاحظ أن بين الصالحين والدعاة ضعف العلم بسيرة النبي ﷺ والسير والتاريخ، ونجد كثيراً من الملتزمين لا يعرف بعض الكتب المهمة في السيرة كالبداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء، ولا يفتح هذه الكتب، فما هو التعليق؟
نقول: هذا من القصور ومن ضعف الهمة، فإن بعض الشباب إذا رأى كتباً طويلة متعددة المجلدات هاب أن يفتحها، وأنا أقول: افتح ما تيسر منها، واقرأ ما تيسر، ومن الأسباب التي ربما حملت بعض العلماء على اختصار بعض الكتب معالجة مسألة ضعف الهمة الموجودة عند مثل هؤلاء القوم، فأقول -أيها الإخوة-: لابد أن نحرص على القراءة في تاريخ المسلمين، وأوصيكم بكتابين: البداية والنهاية لابن كثير، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وهو مختصر في ثلاثة مجلدات لمن لا يطيق القراءة في الكتاب الكبير، فإنه يمكن أن يرجع إليه ويستفيد أمراً عظيماً، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أنك فتحت هذه الكتب بقلب مفتوح مقبل على الله، لربما دمعت عيناك من موقف صحابي، أو خشعت لله من عبادة أحد السلف، أو حصل في قلبك نوع من الخُلُق ما كان موجوداً من شدة ما تجد وأنت تقرأ، المهم هو التفاعل مع هذه القصص، وتحس وأنت تقرأ فيها أنك انتقلت إلى ذلك الجو العطر، وأنك ابتعدت عن هموم هذا العالم المليء بالترهات، الذي يجلب الصداع إلى الإنسان عندما يفكر، ولكن أقول: هناك شيء مهم، كنت أمس قد سجلت سؤالاً من فترة ثم تسنى لي أن أسأل عنه الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- سؤال فيه إزاحة لجزء كبير من الهم، وفيه باب مهم من الأبواب، نص السؤال: هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام؟ يعني لو واحد استلقى على فراشه ثم قعد يفكر في المسلمين ومشاكل المسلمين وأوضاع المسلمين في العالم، والأقليات الإسلامية، وأوضاع الجهاد، وأسباب تفرق المسلمين واختلافهم، وما هي الوسيلة المثالية في جمعهم؟ وكيف الدعوة والتربية وطريق الدعوة ووسائل الدعوة؟ وكيف يبدأ بالدعوة والتربية؟ وما هي الأشياء التي يتربى عليها؟ وموضوع الإخوة في الله، وكيف يلم شعث إخوانه؟ ويفكر في أوضاع المسلمين في العالم ما يحصل لهم الآن هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام مجرد التفكير وهو مستلق على فراشه؟ أو هكذا ساهم وهو يقود السيارة مرة من المرات يفكر في أوضاع المسلمين، فقال الشيخ: لا شك أنه يؤجر، لا شك أنه يؤجر، كيف لا يؤجر؟ فقلت: وهو مستلق على فراشه؟ قال: نعم، يؤجر وهو مستلق على فراشه يفكر في مصالح المسلمين، يفكر في مصلحة الإسلام، فالذي يجعل الإسلام همه، ويفكر دائماً في مصلحة الإسلام على الأقل يأخذ من الأجر، يخرج بأجر عظيم وهو يفكر، ومسألة التفكير تفكير في الذهن فقط ويؤجر عليها.
يقول: إن بعض الشباب قد يوهم له الشيطان أنه لا يستطيع أن يعمل عملاً كأعمال بعض الصحابة فيستصعب ذلك، فما هي النصيحة؟
نقول: هذا واقعي وصحيح، صحيح ما يمكن، نحن نعترف، لا يمكن، هناك قصورنا وضعف إيماننا لا يمكن أن نعبد الله كما عبده الصحابة، ولا أن يكون فينا الميزات التي كانت في الصحابة.
لكن -أيها الإخوة- إن التشبه بالكرام فلاح، ونحن نعلم أننا لن نصبح مثلهم لكن لا بد أن نجاهد لنحصل شيئاً مما حصلوه، وما يدريك ربما تكون أنت داخلاً في حديثه ﷺ: المرء مع من أحب ربما إذا قرأتَ سيرة سعد بن معاذ، وتفكرت فعلاً في هذا الرجل العظيم الذي ضحى بالملك وقام وقاتل وبذل لله وما أصيب المسلمون في رجل مثل سعد بن معاذ، فقلت في نفسك: "اللهم احشرني مع سعد، من حبك له قلت: اللهم احشرني مع سعد، ربما يكون هذا من أسباب نجاتك يوم القيامة المرء مع من أحب
وقد جاء رجل إلى الرسول ﷺ قال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، ما يمكن لا صلاة مثله، ولا صيام مثله، ولا جهاد مثل جهاده، قال: المرء مع من أحب [رواه البخاري: 6169، ومسلم: 2640].
قال الصحابة: فما فرحنا بشيء فرحنا بتلك المقولة وذلك الحديث، المرء مع من أحب.
يقول: أهل أخي يعيشون معنا في البيت وهي لا تتغطى، فهل يجوز أن أجلس معهم؟
أنت تنكر وتجلس وتغض البصر، وتنكر عليهم فعلهم ذلك، فإذا لم تتمكن من غض البصر، فتفارق ذلك المجلس.
لماذا نحن لا نعرف شيئاً عن أهل بيت رسول الله ﷺ مع أني قرأت كتب الأحاديث ففهمت أن حبهم واجب، وقوله: تركت فيكم ما إن تمسكتم به، أذكركم الله أهل بيتي.
الحقيقة هذا الموضوع موضوع مهم، ومن مواضيع العقيدة محبة أهل البيت والاقتداء بالصالحين منهم، وقد ذكرنا منهم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رحمه الله تعالى-، ولعله يتاح هناك مجال معين لتبيين مراجع موثوقة لموضوع العقيدة في آل البيت إن شاء الله.
يقول: إني أحب الشباب الملتزم، وأريدهم أن يكونوا أصدقائي، لكني ضعيف النفس أفعل المخالفات الشرعية، كيف أجعل صدق حبي للملتزمين يترجم إلى صدق إيماني؟
أقول: خذ منهم ما تراه موافقاً للإسلام، خالطهم وتشبه بهم، استنصحهم واقتد بهم، رافقهم والزمهم، فلاشك أنك ستتأثر عاجلاً أم آجلاً، سيرتفع إيمانك عندما تعايش مثل هؤلاء الأشخاص، وأقول مرة أخرى: المرء مع من أحب، وربما يكون قصورنا يغفر لنا بسبب محبتنا لأشخاص من أولياء الله الصالحين.
يقول: رجل أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فاتهم الشخص الذي أمامه بالكفر؟
نقول: هذا أمر خطير، فإذا الرجل ما أبدى كفراً بواحاً فلا يجوز لنا أن نرميه بالكفر، ولو كنا في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم ضبط النفس؛ لأن الشخص المجادل الذي أمامك قد يستفزك، وبعض الشباب إذا أراد أن ينهى عن منكر وفي شخص يستفزه في المجلس ويجادله بالباطل ربما تسرع فأطلق عليه كلمة الكفر، فلابد إذن أن نضبط أنفسنا عندما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
المحاضرة القادمة لعلها ستكون إن شاء الله بعنوان: كيف نتحمس لطلب العلم؟ يعني ما هي الوسائل التي تحفزنا وتدفعنا إلى طلب العلم بمشيئة الله تعالى.
يقول: ما رأيك فيمن يفضل علي على أبي بكر الصديق؟
لقد أزرى على المهاجرين والأنصار بفعله هذا.
ما الحكم في الاشتراك في المساهمات؟
ذكرنا في خطبة الجمعة بعض الضوابط التي تتعلق بموضوع المساهمات، وذكرنا أنه ينبغي أن يكون مجال عمل الشركة حلال كالزراعة والصناعة ونحو ذلك.
ثانياً: ألا يكون عندهم تعاملات محرمة كالتعامل بالربا، وذكرنا بعض الوسائل التي يعرف منها بعض هذه الأمور إذا كانت موجودة أم لا، لكن لابد أن تتثبت وتسأل وتتأكد، وإذا ما وجدت شيئاً حراماً خذ بالظاهر، وإذا أردت أن تشارك وتساهم لا أحد يمنعك، فإذا اكتشفت حراماً في المستقبل فتتخلص من الأسهم حالاً، وما نتج عنها في فترة جهلك بالمحرم الذي لديهم فهو لك، وما جاء منها وأنت تدري بالمحرم الذي عندهم يجب أن تتخلص منه ولك رأس مالك، وبعض الناس مع الأسف لا يتأكدون ولا شيء، وربما يكون مساهمة في بنك يقوم بها البنك موضع شبهة، يقول مجرد ما يكتب له البنك: أنت معرض للربح والخسارة قال: هذه مساهمة إسلامية، طيب أنت عرفت يتاجرون في ماذا؟ يساهمون في ماذا؟ طريقتهم في شراء وبيع العملات صحيحة؟ طريقتهم في شراء وبيع الذهب صحيحة؟ ما يدخلوا أشياء في الربا ويعطوك أرباح من الربا، فبعض الناس يضحك عليهم بأشياء من هذه الشعارات التي تكتب، معرض للربح والخسارة إذن، حلال، لابد تسأل وتتأكد، ثم عمل استثماري يقوم به بنك مسألة شبهة ولا شك، بنك ربوي فمسألة شبهة، وبعض الناس مع الأسف اندفاعاتهم عجيبة لا يتأكدون المهم الربح يقول: هذا مشروع لابد، حتى اسم الشركة تصور واحد يتصل علي يقول لي: ما الحكم في الاشتراك في شركة فاصوليا، فاصوليا يا أخي هذه تباع في سوق الخضرة، حتى اسم الشركة المهم يشترك، ويذهب أحدهم مثل المجنون إلى البنك، أين .... الدور الأول، ويجرون جرياً، خلصت الاستمارات، راح، وقع مصيبة لا بد نأتي...، فمسألة التحري هذه عند الناس فيها خلل واضح الآن، نقول المهم الآن نحن نجمع الأموال وبعد ذلك نفكر ننظر حلال هي أم حرام بعد ذلك.
ما حكم من ترك صلاة الوتر وصلاة الضحى؟
من العلماء من يفسِّق تارك السنن وصلاة الوتر، وصلاة الوتر أوكد من صلاة الضحى ولا شك، فيحافظ عليها ولو على الأقل ركعة.
يقول: أعمل في دائرة عمل إضافي اضطر للعمل بدون راتب، أنا أريد أن أعمل ذلك للأجر، ولكن الناس يقولون: لا تعمل إلا براتب.
جيد أنت الآن إذا عملت تريد أن تعمل لوجه الله عملاً إضافياً، أعطيت مالاً خذه وتصدق به، خذه وتصدق به هذا الأجر الإضافي، ويكون عملك إن شاء الله لوجه الله وأجرك محفوظ.
هل يجوز لبس الفنيلة الحمراء؟
لا تلبس أحمر قانياً لما ورد من النهي عن لبس الأحمر، وإنما البس الأحمر إذا كان مخططاً أو فيه خطوط.
هل يجوز استئجار الذهب في ليلة العرس؟
يمكن أن يستأجر الحلي ويرجع، لكن المهم أنه لا يتشبع بما لم يعط، فتقول المرأة: انظري ماذا أهدي إلي، وهو مستأجر، انظري أيش أعطاني زوجي وهو مستأجر، فهذا من تشبّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور [رواه البخاري: 5219، ومسلم: 2129].
هل يجوز لأمي أن تكشف حجابها لخطيب أختي؟
لا؛ لأنه لا زال خطيباً، ولم يصبح زوجاً، فإذا تزوج وعقد كشفت له.
هل يجوز لأبي أن يكشف على والدة زوج أختي؟
لا؛ لأنه ليس هناك علاقة نسب ولا مصاهرة ولا رضاع.
هذه الأسئلة يمكن ننظر ماذا سنفعل بشأنها؛ لأننا قد أخذنا من الوقت ما يكفي.
فختاماً نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسداد في القول والعمل، وأن يرزقنا حسن الختام، وأن يتوب علينا أجمعين، ويهدينا الصراط المستقيم، والله تعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.