الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن الخوف من الله أيها الإخوة أمر عظيم، حول الخوف من الله وعلاقته بالإيمان، وكيف يكون خوفاً صحيحاً؟ وكيف يتقي المؤمن عذاب الله؟ سيكون موضوع الحديث في هذه الليلة قال الله : وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51]. وقال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175].
فأمر بالخوف وأوجبه وجعله شرطاً في الإيمان، فلو قال قائل: ما حكم الخوف من الله؟ لقلنا: يجب الخوف من الله؛ لأن الله قال وَخَافُونِ [آل عمران: 175]. وقال: فَارْهَبُونِ [النحل: 51]. فهذا أمر من الله يجب على العباد أن يمتثلوه وأن يخافوا الله تعالى.
لقد أثنى الله على المؤمنين بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال : 2].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الخوف علامة صحة الإيمان، وترحلُّه من القلب علامة ترحُّل الإيمان منه" [مدارج السالكين: 1/511]. فإذا رحل الخوف من القلب فهذا معناه أن الإيمان قد رحل.
فإذن، الخوف من الله شرط في الإيمان، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال : 2]. وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 56]. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205].
ألفاظ مقاربة لمعنى الخوف
الخوف، الوجل، الخشية، الرهبة، ألفاظ متقاربة وردت في القرآن أمر الله بها وأثنى على أهلها، الرهبة من الله ، لماذا أرسل الله الرسل؟ أليس ليخوفوا العباد ويبشروا العباد؟ فالتخويف أحد ركني دعوة الرسل، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الأنعام: 48]. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89], يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1-2]. فبين العزيز الحكيم أنه من لا يستجيب لهذا النذير والنذُر سيُسأل عن ذلك، كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8].
صفات الخائفين في القرآن الكريم
والله ذكر عباده في القرآن يخوّف عباده المؤمنين، قال لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16].
فهو إذن خوّفنا بعذابه وذكر جهنم وما فيها؛ لكي نخاف والآيات التي يرسلها الله تعالى المراد منها: تخويف العباد وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59].
هذا البرق وهذا الرعد لأي شيء؟ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [الرعد: 12]، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [الروم: 24].
ولما وقع الكسوف على عهد النبي ﷺ قال النبي ﷺ: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده [رواه البخاري: 1042، ومسلم: 901].
فهذا الكسوف الذي يذكر بما يكون يوم القيامة من كسوف الشمس بالكلية، عندما تنكسف كسوفا نهائياً، وعندما تندثر النجوم، وعندما تتفطر السماء، هذا الكسوف الذي نراه الآن هذا بداية، وهذا علامة، وهذا تذكير لما سيكون في اليوم الآخر.
إن الله حقيقٌ أن يخشى، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 13].
والله قال لنبيه ﷺ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37].
هو أهل التقوى يعني هو أهل أن يتقى فيخاف ، أهلٌ أن يُخاف منه؛ لأن عنده عقاب؛ لأن عقابه أليم ، إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة: 18]. فخشية الله هي المنَجّية يوم الدين، وهي علامة صحة الإيمان.
الخوف طبيعة والخوف عبادة
والخوف والخشية تارة يقع عبادة، وتارة يقع طبيعة، كما يخاف الناس من الحيوانات المفترسة، كما يخافون من الفقر، كما يخافون من بعض المخلوقين الجبابرة، ولكن الخوف ما يكون عبادة إلا إذا كان من الله فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. فهذا هو الخوف خوف من الله، ويكون في كل حين سراً وجهراً، هذا خوف السر أنت قد تخاف من المخلوق، إذا حضرتَ عنده وهدّد يمكن أن تخاف، لكن بدون تهديدات من أحد وبدون تخويف من أحد، الخوف لا يكون إلا لله، خوف السِّر، فمن خاف أحداً خوف السِّر فقد أشرك.
ومن الخوف ما يكون وهمياً ومنه ما يكون سببه ضعيفاً يدخل صاحبه في وصف الجبناء والأخلاق الرذيلة، ولكن الخوف الذي نقصده هنا أن يعلم العبد أن الله هو الذي يملك النفع والضر، وأن الله عنده عقاب وعنده عذاب، فهو يخشى الله ، لا يأمن مكره، لا يأمن عذابه، يمكن أن يخسف به الأرض، يمكن أن يسقط عليه كسفاً من السماء، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 - 99]. قال الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن" [تفسير ابن كثير: 3/451]. المؤمن يعمل بالطاعات وهو خائف ألا تُقْبل منه، ألا تكفي، ألا ينجو، خائف كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]. هكذا جاء في هذه الآيات التي قرأناها في الصلاة في سورة المؤمنون يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60]. سألت عائشة النبي ﷺ عن هذه الآية؛ هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ يعني يفعلون المعاصي يخشون العذاب؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يُقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات [رواه الترمذي: 3175، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 162].
والسِّر في خوف المؤمنين أنه لا تُقبل منهم عبادتهم ليس في الخشية ألا يوفيهم الله أجورهم، فإن الله يوفِّي الأجور الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوفّيهم أجورهم، بل يزيدهم يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، والله لا يخلف الميعاد لكن السِّر أن القبول متعلق بالقيام بالعبادة وهم لا يستطيعون الجزم بأنه قد قاموا بها على مراد الله ربما قصروا ربما راءوا ربما أصيبوا بالعجب فهم لا يأمنون على العمل أن يكون قد رد هو لو أنهم ضمنوا أنه قبل لما خافوا ولم يخافون إذا ضمنوا أنه قد قُبل فالله بالتأكيد يعطي عليه والله لا يخلف الميعاد وقد وعد بأن يعطي.
ولذلك قال بعض السلف: "لو أني أعلم أن الله قبل مني سجدة واحدة لأمِنت"؛ لأن الله قال: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]. لكن كيف يعلم أنه تقي وأن الله قد قبل منه؟ فهكذا يبقى الخوف مرافقاً للمؤمن في حياته يعمل الطاعات ويخاف ألا تُقبل، ولذلك لا يرائي ولا يعجب ولا يصاب بالعجب، وكذلك لا يعمل المعاصي ما دام أن عنده خوف من الله كم فكّ الخوف من الله تعالى من أسير شهوة، وكم أطلق من سجن لذات، وكم كسر من قيود الهوى، وكم أعان على خُلق كريم، وكم كفّ من خُلُق ذميم، وكم أطفأ الخوف من نار حسد، وكم سبّب في بر وكم منع من إساءة، وكم أيقظ من غافل، وكم فكّ من رقبة عبد، وكم تائه في ظلمات الكفر والفجور أخرجه الخوف إلى الإيمان والنور، وكم بالخوف من زانية عفّت، وكم حار عقل في تحصيل خشوع فهداه الخوف، وكم منع الخوف من ترك رباط وفرار من زحف ووقوع في زنا أو فاحشة، وكم منع من نظرة محرمة.
الخوف هو الكفيل هو الضمان؛ لئلا ينحرف الإنسان، اعلم رحمك الله تعالى أن الشهوات لا تنقمع بشيء كما تنقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات والله جعل جزاء من خاف مقامه الجنة الفيحاء، قال : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]. المعنى: من خاف مقامه بين يدي الحساب فترك المعصية وقيل: خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه وإشرافه عليه؛ لأن الله قال: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد: 33].
قال مجاهد -رحمه الله-: "هو الرجل يهمُّ بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه" [تفسير القرطبي: 17/176]. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40]. فالذي يخاف مقام ربه لا يقدم على المعصية، فإذا أقدم عليها بضعف بشري أصابه جاءه الخوف حاجزاً بينه وبين المعصية وردّه إلى الندم والتوبة والاستغفار.
الخوف سبب للفوز والنجاة
ومن فضائل الخوف أن الله حصر الفوز والنجاة بمن خافه وخشيه، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 52]. وكذلك فإن من خشي اليوم وخاف أمن غداً يوم المعاد، والذي يؤمنّك حتى تلقى خوفاً هذا صاحب شر، أما الذي يخوفّك اليوم داعية ناصح يخوفك اليوم حتى تلقى أمناً غداً فهذا صاحب خير ومعروف وفضله عليك سابغ، ومن فضل الخوف أن صاحبه يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه .
ومن فضله أنه سبب النجاة من كل سوء؛ لأن النبي ﷺ قال: ثلاث منْجيات؛ خشية الله في السر والعلانية [رواه البيهقي في الشعب: 6865، وأبو نعيم في الحلية: 2/160، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 961، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3045]. والله لما أثنى على الخائفين؛ لأنهم يقومون قانتين لله آناء الليل ساجدين وقائمين يحذرون الآخرة يرجون رحمة الله تعالى، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16]. فلما أخفوا هذا العمل؛ وهو قيام الليل ومجافاة الفرش، الله جعل لهم شيئاً من النعيم مخفي لا يعرف فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17].
الخوف من اليوم الآخر يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان: 7].، نفعل هذه الطاعات لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير، القمطرير هو الطويل.
سُنّة تمكين الله للخائفين في الأرض
أيها الإخوة، إن الله يمكِّن في الأرض الخائفين منه، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14] إن الله بشّر المخبتين الذين يخافون من الله ، إن التذكرة لا تنفع إلا أهل الخشية كل الناصحين والدعاة تؤثر دعوتهم ونصحهم في أهل الخشية، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 10] إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس: 11] إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه: 3]. وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [الذاريات: 37].
أما الذين لا يخافون ففي أي شيء تكون لهم آية؟ وما هو الذي يؤثر فيهم؟ إن هذا الخوف ما كان من أركان الإيمان إلا لأنه دافع للمبادرة إلى الخيرات، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون: 60-61]. إنه سبب لنيل الحسنات وترك السيئات، قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به -سبحانه وتعالى-، فقال: ارقبوه ، يقول الله للملائكة: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرايَ [رواه مسلم: 129]. يعني: لأجلي، وخوفاً مني، ولذلك فإنه تُكتب له حسنة؛ لأنه ترك السيئة، هو لم يفعل حسنة، هو ترك سيئة، لكن كُتب له حسنة، فلماذا؟ لأنه تركها خشية الله .
أليس الرجل الذي قعد بين رجلي امرأة بالحرام ألجأتها الحاجة إلى طلب المال منه، فاشترط عليها مقابل المال أن تمكنّه من نفسها، فلما قعد ذلك المقعد قالت له: اتق الله، ولا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه . فقام عنها وهي من أحب الناس إليه؛ لأنه هو قال في القصة: اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا، ففرّج الله عنهم [رواه البخاري: 2215]. إذن، تركها لله تعالى بعد أن صار قاب قوسين أو أدنى من الزنا قام لله .
الخوف سبب لحصول الأمن في الآخرة
إن حصول الأمن في الآخرة يكون جزاءً وفاقاً من جراء الخوف في الدنيا، إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 26-27]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان: 51].
فهذا الذي أوجب لهم النجاة يوم الدين، أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40].
فهناك ناس يوم القيامة آمنين وخائفين قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 8-9].
هؤلاء كانوا لا يخافون في الدنيا فخافوا في الآخرة قلوب يومئذ واجفة، وأناس آخرين أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40]. فخشية الله معناها: أن تخشى الله كأنك تراه وأن تشعر بأنك إذا لم تكن تراه فإنه يراك فينبع الخوف من الشعور بأن الله معك؛ اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك [رواه البخاري: 50، ومسلم: 8].
الخوف يدفع إلى الخشية
هذا الخوف الذي يدفع للبكاء من خشية الله، هذه العين التي لا تمسّها النار، عين بكت من خشية الله، هذا الإنسان الذي صار في بيته ووسع بيته وبكى على خطيئته، طوبى له ثم طوبى له ثم طوبى له، كما مدحه النبي ﷺ، ما لنا لا نخاف والملائكة تخاف الله ، يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]. هؤلاء الملائكة أعظم منا خلقاً وأقوى منا وأقْدر وهم يخافون مقام الله حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23]. مالنا لا نخاف ومن هو أتقى منا وأعلم منا وأخشى منا لله وأعمل منا بالصالحات الأنبياء وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء: 90] إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58].
هؤلاء عباد الله الصالحين من الأنبياء يخافون الله ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59].
ونبينا ﷺ يقول عن نفسه: فو الله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية [رواه البخاري: 6101، ومسلم: 2356] فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3].
يقول عبد الله بن الشخير: "أتيت رسول الله ﷺ وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء" كما جاء في الحديث الصحيح، [رواه النسائي: 1214، وصححه الألباني في المشكاة: 1000].
كان بكاؤه ﷺ من خشية الله وهو أحد أنواع البكاء المحمودة التي كانت من صفاته، قال ابن القيم -رحمه الله-: "كان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أُمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وتارة البكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/176]. النبي ﷺ خرج فزعاً في صلاة الكسوف لما كسفت الشمس، إذا كان هؤلاء يخافون الله فلماذا لا نخاف نحن ونحن أقل في التقوى بالتأكيد وأعمالنا الصالحة أقل وذنوبنا أكثر؟ إذا كان الصحابة من قبلنا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم عند سماع الذكر لما وعظهم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون الصحابة ما كانت قلوبهم متحجرة كانوا يتأثرون ويتفاعلون يسمعون ويخافون ويبكون ويقولون: أوصنا ويسمعون الوصايا للتنفيذ عندما قال لهم ﷺ: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً [رواه البخاري: 1044].
قال الراوي: "فغطّى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم حنين الصوت الذي يرتفع بالبكاء من الصدر.
كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبلّ لحيته فيقال له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي فقال: "إني سمعتُ الرسول ﷺ يقول: القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسرُ منه، وإن لم ينجُ فما بعده أشد وسمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما رأيت منظراً قطّ إلا والقبر أفظع منه
وكذلك كان الصحابة؛ أبو هريرة لما قعد يحدّث بحديث: أول خَلْق الله تُسعر بهم النار يوم القيامة ماذا حاله كان؟ لما جاءه الرجل قال: حدثني، نشغ أبو هريرة نشغةً، فلما أفاق مسح وجهه وبدأ يحدِّث فنشغ نشغة، ثم مال خاراً على وجهه وأسندتُه طويلاً، ثم أفاق فقال: "حدَّثني رسول الله ﷺ إن الله - عز وجل - إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أُمّة جاثية، فأوّل من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فهذا هو بكاء أبي هريرة من خشية الله، وهو يحدّث هذا الحديث.، لما حدث عبد الله بن عمر: من سمّع الناس بعمله سمّع الله به ذَرَفت عينا عبد الله بن عمر. [رواه أحمد: 6839، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين].
لما أُتي عبد الرحمن بن عوف بطعام وهو صائم قال: "قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفِّن في بُرْدة، إن غُطي بها رأسه بدتْ رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام" هذا حالهم،
كرر علي حديثهم يا حادي | فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي |
إذا كان هذا حالهم؛
لقد خُلقوا لما لو أبصرته | عيون قلوبهم ساحوا وهاموا |
ممات ثم قبر ثم حشر | وتوبيخ وأهوال عظام |
الجبال، الجمادات، لو أنزل عليها القرآن لرأيت الجبل خاشعاً متصدعاً من خشية الله مع قسوته وغلظه وشدته، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ، فهناك حجارة تنزل من أعلى إلى أسفل ليس بسبب الجاذبية فقط، هناك حجارة تتحرج من أعلى حجر ينزل من خشية الله، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّ [البقرة: 74]. نزل بذلك القرآن، فهذه الجمادات تخشى الله حتى أن الحجر يخر يوم الجمعة وما أدراك ما يوم الجمعة، ما من ملك مقرّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقْن من يوم الجمعة [رواه ابن ماجة: 1084، وحسّنه الألباني في المشكاة: 1363]؛ لأنه اليوم الذي تقوم فيه الساعة، فحتى هذه الكائنات تخشى وتخاف وهي جامدة، فما بالنا نحن؟
القدر الواجب من الخوف
فلو قال قائل: ما هي درجة الخوف المطلوبة؟
إن بعض الناس يخافون خوفاً يقعدهم عن العمل وينشل شللاً تاماً، هل هذا هو الخوف المطلوب؟ ما هو الخوف المطلوب؟ قال ابن رجب -رحمه الله-: "القدْر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم".
ما حكم هذه الدرجة من الخوف؟ واجبة، قال: "فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في النوافل والانكفاف عن المكروهات، كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك - إذا زاد عن هذا المقدار - بأن أورث مرضاً أو موتاً أو هماً لازماً؛ بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله لم يكن محمودا"[مجموع رسائل ابن رجب: 4/112]. بعض الناس سمعت هذا بنفسي من عدد من الأشخاص يقولون: عندنا خوف من الموت خوف كبير جداً جداً جداً؛ بحيث لا نأكل ولا نشرب ولا ننام ما يأتينا نوم ولا نعمل شيئاً، يائسين هل هذا خوف صحيح؟ هذا خوف غير صحيح، هذا ليس هو الخوف المطلوب، هذا خوف تجاوز الحد، فأقعد عن العمل، الخوف الصحيح هو الخوف الذي يبعث على العمل إن كان يبعث على فعل الواجبات وترك المحرمات فهو خوف واجب، وإن كان يبعث على فعل المستحبات وترك المكروهات وترك فضول المباحات والتوسُّع فيها فهذا خوف مستحب طيب جداً، وإن كان خوف يقعد عن العمل فهو خوف مذموم مرض نفسي، ليس خوف المؤمنين، ثم من علامات خوف أهل الإيمان أن قلوبهم ليست فقط في خوف إنما معها رجاء وهذا الذي يوازن الموضوع ويعدل الكفة، ولذلك فإن رجاء رحمة الله هي التي توازن الخوف حتى لا ينقلب إلى يأس، لو ما في رجاء ينقلب الخوف إلى يأس، الرجاء هو الذي يعدل ويوازن الأمور، فالخوف إن أدى إلى القنوط واليأس من رحمة الله فهو مذموم فإذا داخله رجاء رحمة الله تعالى فصار العبد يطير بجناحين، فاعتدل الطيران وتوازن الطائر، رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء، إذا ضاع أحد الجناحين صار الطائر فريسة لكل صائد وكاسر، وإذا كان بدون رأس لا يطير أصلاً
لَوْلَا التَّعَلُّقُ بِالرَّجَاءِ تَقَطَّعَتْ | نَفْسُ الْمُحِبِّ تَحَسُّرًا وَتَمَزُّقَا |
وَكَذَاكَ لَوْلَا بَرْدُهُ بِحَرَارَةِ الْ | أَكْبَادِ ذَابَتْ بِالْحِجَابِ تَحَرُّقَا |
أَيَكُونُ قَطُّ حَلِيفُ حُبٍّ لَا يُرَى | بِرَجَائِهِ لِحَبِيبِهِ مُتَعَلِّقًا؟ ! |
أَمْ كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ | بِحُمُولِهَا لِدِيَارِهِمْ تَرْجُو اللِّقَا |
لَوْلَا الرَّجَا يَحْدُو الْمَطِيَّ لَمَا سَرَتْ | بِحُمُولِهَا لِدِيَارِهِمْ تَرْجُو اللِّقَا |
[مدارج السالكين: 2/43].
فهذا الرجاء الذي أيضاً يدفع ويعطي الأمل والخوف الذي يدفع ويمنع عن المعاصي.
القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عُرضة لكل صائد وكاسر".[مدارج السالكين: 1/513]
لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد [رواه مسلم: 2755]. إذن، لا بد من اجتماع الأمران الخوف والرجاء، وإذا أسرف العبد على نفسه وتجرأ على المحرمات فليزد باعث الخوف في نفسه وأما إذا حضره الوفاة الموت فليزد جانب الرجاء عنده.
فإذن، في الأحوال العادية لا بد للعبد أن يكون موازناً بين الخوف والرجاء متى يغلب جانب الخوف لما يقع في المعصية أو يوشك أن يقع ويغلب جانب الرجاء عند الموت؛ لكي يموت وهو يحسن الظن بالله؛ لأن الله عند حُسْن العبد به، إذا وقع في نفسه رياء أو سمعة أو عُجب يغلّب الخوف، إذا عمل العمل الصالح وجاءه باعث الرياء يغلب الخوف حتى لا يرائي به ولا يسمع به فالعمل يذهب ويضمحل.
والخوف من الله ليس أمراً وهمياً أو مجرد أشياء مذكورة لينصلح الحال، وإنما هو من أشياء حقيقية الآن بعض المبتدعة الضلال من أهل المذاهب الكفرية يقولون: لا وجود للجنة والنار، النار من الأدبيات التي يخوف بها الناس حتى تنضبط سيرتهم وحياتهم، ولكن نحن عندنا أهل السنة والجماعة النار مسألة حقيقية، القضية قضية حقيقية وخُلقت وموجودة الآن، هي موجودة و ذهب جبريل ونظر إليها، ولها نفسان بعد أن كادت تنفجر، هذه أذن لها بنفس في الشتاء ونفس في الصيف، قالت: أكل بعضي بعضاً فجهنم موجودة وعذابها موجود وحرها قائم، وأذن لها بنفسين ومن رحمة الله أنه جعل ما يذكرنا بجهنم الصيف والحمى عندنا شيئان في الدنيا؛ حرارة الصيف والحمّة التي تأتي في الأمراض كلاهما من جهنم، هناك ارتباط خفي نحن لا ندركه نحن نفهم أن حمى المرض نتيجة غزو الكريات البيضاء، ويحدث صراع في الجسم وينتج عنه زيادة الحرارة، يخبر الأطباء عن أمور بحدود ما يرون في المختبرات في الدنيا حرارة الصيف نقول من الشمس لها اقتراب وابتعاد عن الأرض غاية الاقتراب شدة الصيف وغاية الابتعاد شدة البرد هذا من الأمور الدنيوية المحسوسة المظهرية، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم: 7].
لكن إذا جئت على الآخرة التي كثير من الناس عنها غافلون فإن المسألة فيها نصوص فإن شدة الحر من فيح جهنم، وقال: الحُمّى من فيح جهنم [رواه البخاري: 3261]. فعندنا أمران حسيان من جهنم، نحن بالدنيا نحس بها وهي من جهنم شدة الحمّى، وشدة حرارة فصل الصيف، وحتى البرد الذي نجد شدته من جهنم، كما جاء في حديث البخاري أذِن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، قال فذلك أشد ما تجدون من الزمهرير [رواه البخاري: 537]. فشدة الشتاء البرد الآن شدة البرد من جهنم فإن فيها عذاباً بالبرد كما أن فيها عذاباً بالحر وإن كان عذاب الحر هو الطاغي لكن في عذاب برد شديد التناقض الذي يحس به أهل النار من أنواع العذاب فالعذاب إذن الذي نخاف منه ليس شيئاً وهمياً أو أمراً نفسياً أو فقط من الأدبيات لكي تنصلح الأمور وإنما هو شيء حقيقي، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49-50]. إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12]. لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2]. القضية قضية حقيقية وليست مسألة وهمية ولا خيالات، والمسألة ليست فقط مقتصرة على عذاب جهنم، عندنا عذاب البرزخ، واحد يُثلغ رأسه في صخرة، وواحد يشرشر بكلاليب من حديد من الفم والأنف إلى الرقبة من اليمين والشمال، والسباحة في نهر الدم، والتقام الحجارة، أفران النار، التنانير من النار هذه في البرزخ وفي الآخرة في يوم طويل، وقوف الناس على أرجلهم خمسين ألف سنة، الشمس فوق الرؤوس زحام وعرق، والناس يغرقون في العرق عطش وهذه قيمة الأحواض أحواض الأنبياء، وأفضلها وأوسعها وأكبرها وأكثرها كيزاناً حوض نبينا ﷺ، فإذن، القضية قضية حقيقية فعلاً تستوجب الخوف ثم الله بذاته مخيف؛ لأن من أسمائه: "الجبار"، هذا الاسم يخوّف، الجبار، القوي، الاسم يخوِّف، القوي، شديد البطش ، هذه مسألة مخيفة شدة البطش منه عز وجل فهذه الأمور القدرة الهائلة القدرة الكبيرة قدرته عظيمة والقرآن قد حفل بالتخويفات، ومن ضمنها عذاب الله الذي نزل على الأقوام من قبلنا ما أرسله الله تعذيباً في الدنيا ويخوف الأمم الذين جاؤوا من بعد.
التفكُّر في عظمة الله
وكذلك بالإضافة إلى صفات الله التفكر في عظمة الله يورث الخوف إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]. مجرد ما يذكر لفظ الجلالة اسم الله ، السياق فيه ذكر الله توجل القلوب ما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة.
والله أكبر ظاهر ما فوقه | شيء وشأن الله أعظم شأن |
والله أكبر عرشه وسع السماء | والأرض والكرسي ذا الأركان |
وكذلك الكرسي قد وسع الطباق | السبع والأرضين بالبرهان |
والرب فوق العرش والكرسي | لا يخفي عليه خواطر الإنسان |
يسجد له كل شيء في السماوات والأرض، ما معنى حديث: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة؟ [رواه أحمد: 23980، وأبو داود: 873، والنسائي: 1132، وصححه الألباني في المشكاة: 882].
ما معنى: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه؟ [رواه مسلم: 179].
هناك ديك خِلْقته مخيفته، أذن الله أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض - الرجلان في الأرض- وعُنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول سبحانك ما أعظمك، فيرد عليه سبحانه وتعالى لا يعلم ذلك من حلف بي كاذباً حديث صحيح رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. [رواه الحاكم: 7813، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
هذا مخلوق واحد ديك عُنُقه مثنية تحت العرش ورجلاه في الأرض السفلى، هذا شيء أُخبرنا عنه، فما بالك بالذي ما أخبرنا عنه؟ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26]. فهذه مخلوقاته مخيفة، جبريل له ستمائة جناح كل جناح قد سدّ الأفُق، يسقط من جناحه من التهاويل الأشياء مختلفة الألوان والدر والياقوت ما الله به عليم [رواية: له ستمائة جناح رواها البخاري: 3232، والزيادة رواها أحمد في مسنده، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف شريك، وضعفها الألباني في الإسراء والمعراج].
النبي ﷺ لماذا رجع يرجف إلى خديجة؟ من هول المنظر الذي رآه جبريل قد سد الأفق له ستمائة جناح فما بالك بالله كيف يكون؟ ولذلك فإن هؤلاء الملائكة يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]. والمؤمنون هم من خشيته مشفقون.
التفكر في الموت وشدته
من الدوافع التي تبعث الخوف في النفس التفكر في الموت وشدته وأنه لا مهرب منه كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26-30]. قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة: 8] وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] والتفكر في القبر وعذابه وهوله وفظاعته يزيد الخوف والتفكر في القيامة وأهواله يزيد الخوف الصاخة تصخ الأسماع، والقارعة والحاقة، يوم ترجف الأرض وترجف الجبال، وتتحول الجبال إلى كثيبٍ مهيلٍ، مما يزيد الخوف: التفكر في النار وشدة عذابها وخطر شأنها، مما يزيد في الخوف أن يفكّر العبد في ذنوبه، وأن الله قد أحصاها والعبد نسيها، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183]. وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 52-53] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران: 30]. وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا [الأنبياء: 47]. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة: 2]. تحدِّث الأرض بما عمل عليها من الخير والشر، ثم مكر الله مخيف، فإذا فكّر العبد في مكر الله يخاف على نفسه، ما هو مكر الله؟ قد يزيغ قلبك فتموت على الضلالة، ربما ما يكون بينك وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليك الكتاب والقضاء المحتوم فيعمل الإنسان بعمل أهل النار فيموت على ذلك فيدخلها.
مكر الله فيجعله يأمن ولا يخشاه ولا يخافه ويغفل فيأتي أمر الله فيقصم ظهره حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].
التفكير في سوء الخاتمة
ولذلك التفكير في سوء الخاتمة أيضاً من الأشياء التي تبعث على الخوف أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف: 185]. هذه الآية نفكر فيها قليلاً، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ، فكروا فيها، فكروا في ملكوت السماوات والأرض، فكروا فيما خلق الله، فكروا أيضاً، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، ربما يكون الأجل قريب جداً، ربما يكون ملك الموت يحوم حول واحد منا يريد أخذه، وهو يستعرض أهل الأرض في كل مكان وهو أعلم بأسمائهم وأحوالهم من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ويعلم كل واحد من هو ومتى سيأخذه، من أُمر بأخذه يعلم متى وأين سيقبض روحه؛ لأن أوامر الله تعالى إلى ملك الموت نازلة ومستمرة، ثم إن الإنسان إذا فكر بسكرات الموت وكيفية نزع الروح؛ لكان ذلك أيضاً من أسباب الخوف.
مجالس الذكر وأثرها في زيادة الخوف
الجلوس مع المؤمنين ومرافقة المؤمنين الذين يذكرون بالله ، مجالس الذكر أيضاً مما تربي الخوف في نفس المؤمن سماع الموعظة من صاحب القلب أيضاً مما يذكر المؤمن وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] والحقيقة أن العلم الشرعي من أعظم الأشياء التي تزيد الخوف في نفس الإنسان إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107 - 109].
فإذن، العلم رأس الخشية، خشية الله رأس العلم.
فهذه طائفة من الأسباب المعينة على تربية الخوف في نفس الإنسان وما هو الخوف الصحيح وكيف ينبغي أن يكون معادلاً بالرجاء، ونسأل الله أن يجعلنا ممن يخافه ويتقيه، وأن يجعلنا ممن يؤمنِّهم يوم الفزع الأكبر، إنه سميع مجيب قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.