الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نص الحديث التاسع عشر
قوله ﷺ: لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191] الآيات كلها [رواه ابن حبان: 620، وجود إسناده العلامة الألباني -رحمه الله-].
شرح الحديث التاسع عشر
هذا الحديث له مناسبة؛ سئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن أعجب ما رأته من رسول الله ﷺ فقالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي؟ قالت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله لم تبك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها"؛ لأن نحن نريد أن نعرف الآن ما هو سبب بكاء النبي ﷺ؟ ما هو سبب هذا البكاء العظيم بل لحيته وحجره والأرض؟ ما هذا الذي جعله يبكي كل هذا البكاء بكل هذه الدموع؟ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها؛ ما هي؟
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 190]، وذكر التكملة قال عبد الرحمن بن سليمان راوي الحديث: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن، وما ينجيه من هذا الويل؟
الراوي لما سمع الحديث أيضا صار عنده خشية، صار عنده خوف، ويريد مخرجا، يعني طيب ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، طيب كيف الواحد ينجو من هذا الويل؛ لأن ويل معناه فيه عذاب؛ لأنه تهديد ووعيد فما هو أدنى شيء؟ أقل شيء الواحد إذا فعله مع هذه الآية ينجو من الويل، ماذا قال الأوزاعي، أطرق هنية يفكر يعني الأوزاعي السؤال سؤال حساس ووجيه وخطير، إيش أدنى شيء الواحد إذا سواه مع الآية هذه ينجو من الويل؟ ثم قال الأوزاعي: يقرأهن وهو يعقلهن، قال على الأقل يعرف التفسير، إذا تبغي تنجو من الويل؛ لأنه في تهديد فلا بد أن تقرأها، وأن تعرف معناها وتعرف تفسيرها، فهذا فيه تأكيد علينا أن نعرف تفسير هذه الآيات من آخر سورة آل عمران، أنه يا مسلم يا مسلمة ارجع إلى تفسير هذه الآيات؛ لأن في هناك تهديد لمن "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" طيب كيف ننجو؟ قال على الأقل أنك تعرف تفسيرها على الأقل.
وقد ثبت أن النبي ﷺ كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل في تهجده، من قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 190] إلى آخر السورة [رواه البخاري: 4570، ومسلم: 763].
قال العلماء: يستحب للمستيقظ من نومه أن يتلو هذه الآيات اقتداء بالنبي ﷺ؛ لأنه يبتدئ بعظمة ربه، ثم ذكر الله؛ ولأجل ذلك أوردنا هذا الحديث في هذه الأربعين؛ لأن الآيات هذه تدل على عظمة الله؛ لأنهم يتفكرون فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191]، هؤلاء قالوها بعد: يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران: 191]، و رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران: 193]، والآن يلتمسون الثواب وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ [آل عمران: 193]، وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 194].
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران: 190] في إيجادهما وإنشائهما من العظيم -سبحانه- على هذا الإبداع وهذا الإحكام، هذه دالة على عظمته، فالسماوات على اتساعها وارتفاعها وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والكواكب السيارة والزينة والأرض في انخفاضها وبسطها وتذليلها، وما فيها من البحار والجبال والقفار والنبات والأشجار والثمار والدواب وأنواع المعادن، واختلاف الليل والنهار، تعاقب الليل والنهار، تفاوت الليل والنهار؛ من الظلمة إلى النور والطول والقصر، واختلاف الجو حرا وبردا ورخاء وشدة، والزمان وما فيه عزا وذلا، وهزيمة ونصرا وسعة وضيقا وصحة ومرضا؛ كل هذا فيه مجال العباد للتفكر والتدبر والتبصر لآيات واضحة، وبراهين قاطعة وساطعة على عظمته -سبحانه- الذي يتفكر فيها تشهد على عظمة الله، يطلع أن الله هو العظيم، لا إله إلا هو، لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ أصحاب العقول الصافية النقية: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ [آل عمران: 191].
عبادة القلب واللسان والجوارح
هذه الآيات فيها عبادة للقلب وللسان وللجوارح أين هذه العبادات هذه الثلاث في الآية؟ أين هي العبادات الثلاث اللسان والقلب والجوارح؟
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران: 191] هذه عبادة قلب.
عبادة اللسان: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191]، و ربنا ، و ربنا .
الجوارح: قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ، وهذا يشمل الصلاة، وقيام الليل.
ومن اللطائف: أن الله لما ذكر الدلائل الإلهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بقرير العبودية، وأصناف العبودية ثلاثة: التصديق بالقلب، الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، يَذْكُرُونَ اللّهَ عبودية اللسان، قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] عبودية الجوارح والأعضاء، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران: 191] عبودية القلب، وما الإنسان إلا هذا المجموع، فإذا صار مستغرقا في الذكر باللسان، والشكر بأركانه وجوارحه والجنان، الفكر بالجنان كان هذا في عبودية لله دائما.
هؤلاء المتفكرون لما يستشعرون عظمته -سبحانه-: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً [آل عمران: 191] اعتراف ليس هناك عبث، ليس خلق بلا حكمة، بل لأمر عظيم جليل: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 39]، ليعبد الله.
سُبْحَانَكَ عن النقائص والعيوب، وادعاء الولد، فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 191- 192] وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 192] يمنعون عنهم عذاب الله.
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ [آل عمران: 193] والأنبياء، وهذا الكتاب الذي يشهد، والمنادي هو النبي ﷺ سماه الله داعيا: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [الأحزاب: 46].
لما صارت الخشية بعد النظر في العظمة وشهود القلب لعظمة الرب بآياته المسطورة في القرآن، والمنثورة في الأكوان، جاءت الأدعية الدالة على التأثر: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران: 193] اعف عنها، وتجاوز، وامح الآثار الذنوب والمعاصي الصغار والكبار وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا واسترها، التكفير: الستر والتغطية، وَتَوَفَّنَا اقبضنا مَعَ الأبْرَارِ في ثوابهم أعمالهم في جزائهم رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ من النعيم وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 194] لا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد، ويجتمع الخلائق إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران: 194- 195].
هذا حديث عظيم جدًا في بيان تأثر المؤمنين بعظمة الله -تعالى-، وما ينتج عن ذلك من العبادة المتنوعة بالقلب واللسان والجوارح، ومن الأدعية العظيمة الخشية أورثتهم هذه الأدعية العظيمة.