الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: أعضاء هذا المركز وضيوف هذا المركز: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهذه -والله- فرصة طيبة أن نلتقي معاً في هذه الأمسية، وهذا المجلس الذي نسأل الله أن يكون من مجالس الخير والذكر وأن يكتبنا وإياكم في عليين سجل أهل الجنة وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة موضوع مهم.
وعنوان الموضوع: "الجدية في الالتزام بالإسلام".
أهمية الحديث عن موضوع الجدية
وأهمية هذا الموضوع تكمن في أنه مع انتشار الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تؤتي ثمارها وأكلها بإذن ربها، فإننا نلحظ في خضم هذه الثمار وهذه العطاءات أن الكثرة بدأ يتسرب إليها أنواع من الضعف والهون.
وبدأ معيار الالتزام بدين الله -تعالى- يخف ويتقلص ذلك المفهوم الواسع للالتزام بدين الله.
وبدأت بعض التصرفات المخالفة لشريعة الله تظهر بين الكثيرين ممن ظاهرهم الالتزام بهذا الدين.
ولهذا الظهور سلبيات كثيرة؛ منها: أن الناس سيأخذون صورة عن الدين من خلال هذه المناظر أو الأمثلة التي يرونها أمامهم؛ لأن كثيرا من الناس يعرفون الدين برجاله، كثير من الناس لم تستقر في أذهانهم أن الحق لا يعرف بالرجال.
هذه الحقيقة أن الرجال ليسوا مقياساً، ليسوا هم الدين، ليسوا هم الإسلام.
ولذلك فإنهم لن يغفروا لهؤلاء أخطاءهم، وقد لا يكون عندهم الوعي الكافي حتى يتصورون بأن هذه التصرفات التي تصدر من بعض من ظاهره الالتزام بدين الله لا علاقة للإسلام بها، إنهم لم يتصوروا هذا المفهوم، ولأن علينا مسؤولية كبيرة تقع على عواتقنا من جراء أخذ الناس للتصور عن الدين، من واقع الملتزمين به، فإن هذا يفرض علينا واجباً ثقيلاً في المحافظة على معنى الالتزام بالإسلام، وكيفية التمسك به، كيف نقدم إلى الناس هذا الدين؟ ما هي الأطر؟ وما هي الأطروحات التي نطرحها على الناس؟ كيف نظهر أمامهم؟
وقبل ذلك كيف نظهر بيننا وبين الله الذي لا تخفى عليه خافية.
المقصود بمفهوم الالتزام بالدين
وإذا أردنا في البداية أن نعرف الالتزام بالدين ماذا يعني؟
هذه اللفظة وما يحوم حولها من الألفاظ لم تلق عناية كافية في تمريرها إلى أذهان الناس.
ولذلك فقد اضطربت التعريفات، وتحير الناس من هو الملتزم؟ ما معنى الالتزام؟
ونحن إذا أردنا أن نرجع إلى مفهوم سلفي أصيل عن الالتزام بدين الله، فإننا لا بد أن نأخذ ذلك من أقاويل العلماء الثقات الذين فسروا كتاب الله -تعالى-، وشرحوا سنة رسول الله ﷺ.
فإذا جئت مثلاً إلى قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً [البقرة: 208] ما معنى السلم؟
السلم هو الإسلام كما ذكر ذلك أهل العلم بالتفسير.
السلم هو الإسلام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً [البقرة: 208] هذه الكلمة: كلمة: كَآفَّةً لها معنيان، وليس يبعد أن يراد المعنيان جميعاً:
المعنى الأول: ادخلوا أنتم في الإسلام كافة، في جميع شعب الدين، كافة فروع الإسلام.
والمعنى الثاني هو الذي رجحه العلامة ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره لهذه الآية، في قول الله : ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً يجب أن ندخل جميعاً في جميع فروع الدين، أن نأخذ بجميع شعب الإيمان، لكن على قدر استطاعتنا لأننا لو حاولنا أن نلم بجميع أطراف الدين وشعبه وأركانه، أو نلم بجميع درجاته وشعائره فإننا لن نطيق ذلك.
ولذلك اكلفوا من العمل ما تطيقون [رواه البخاري: 6465].
ولذلك: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].
ولذلك إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق [رواه أحمد: 13052، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
ونحن الآن في هذا المقام لا نعتب على الذي لم يستطع أن يأخذ أموراً من الدين لعجزه عن القيام بها، ولكننا في مجال محاسبة أنفسنا عن الأشياء التي كان باستطاعتنا والتي باستطاعتنا الآن أن نقوم بها، ولكننا من القاعدين.
بعض أدلة الجدية في الالتزام بالإسلام
ولهذا المفهوم الجدية في الالتزام بالإسلام أدلة؛ منها: هذا الدليل: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً .
الثاني: قول الله : خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [الأعراف: 171].
هذا الدين متين، هذا الدين عظيم، لا يوجد له مثيل في الأديان، والتشريعات عميقة جذورها قوية، التكليفات ثقيلة والمهمات صعبة، ولذلك كان لا بد من القوة في أخذ الدين: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ .
وهذه القوة تنافي الميوعة، وتنافي التساهل، وتنافي الانخذال والترك والإهمال لأشياء من الدين.
خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ قوة تناسب عظم هذا الدين.
يجب أن يكون عندنا في عملية الأخذ قوة نشعر من خلالها بأن الأمر جد.
الدليل الثالث: قول الله: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: 13- 14] فصل بين الحق والباطل، صار من شدة فصله بين الحق والباطل ومن الوضوح في الفصل أنه هو نفسه هذا القرآن صار فصلاً يفصل بين الحق والباطل.
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ الإسلام ليس ثوباً جميلاً نلبسه أو عملية نتفاخر بها ونتباهى على الناس، ونحن نخلو من هذه المضامين العظيمة التي تضمنها شرائع الدين.
لا يكفي أن نقول: هؤلاء نصارى ونحن مسلمون، هؤلاء يهود ونحن مسلمون، انظر إلى أولئك يعبدون البقر نحن مسلمون، انظر إلى أولئك يعبدون الكواكب نحن مسلمون.
طيب ماذا نقصد بمسلمين؟ ما هو الإسلام؟ ما هي الجدية التي نبرهن لأنفسنا أننا فعلاً نمثل هذا الدين؟
الدليل الرابع: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 43 - 44].
فَاسْتَمْسِكْ .
ومن القواعد عند العلماء: أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى، وكتاب الله ليس فيه عبث ولا إضافات لا داعي لها، كل حرف إضافته تعني معان.
فَاسْتَمْسِكْ تعبير فيه من القوة ومن الجدية ومن المحافظة والعض بالنواجذ على تعاليم الدين، أعلى من كلمة: أمسك، استمسك فيها من هذه المعاني أكثر مما تعني كلمة أمسك، هذه زيادة الألف والسين والتاء: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: 43] استمسك بها فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ كأن أناساً يسحبونه منك وأنت تمسك به تستمسك به تحاول أن لا يجعلوك تتراجع، ولا يجذبوك إلى صفهم، استمسك به، خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [الأعراف: 171].
الدليل الخامس: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [الأعراف: 170].
يمسكون بالكتاب، قال القرطبي -رحمه الله-: وفي هذا التشديد، يعني الشدة السين الزائدة {يمسكون} هذه السين {يمسكون} تعني فيها معنى التكرار والتكثير للتمسك.
ما هو الفرق بين يمسكون ويمسكون؟
فيمسكون فيها معنى التكرار والتكثير للتمسك.
ظاهرة تميع الدين
ولذلك لعن الله أناساً وذمهم؛ لأنهم يريدون أن يتخذوا سبيلاً بين الحق والباطل،
يريدون أن يميعوا قضايا الإسلام، ويقولون: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيل [النساء: 150]، هؤلاء الذين لعنهم الله.
وهذا هو حال كثير من المسلمين اليوم يريدون أن يأخذوا ببعض الدين، ولكنهم ليسوا على استعداد لأخذ البعض الباقي، يريدون أن يتخذوا سبيلاً بين الالتزام الكامل وبين التفلت الكامل، ثم يقولون: نحن نمثل الوسطية.
يأتي واحد يقول: أنا لا أريد أن أكون منحرفاً وأن أمارس الفواحش الكبيرة وأن أكفر بالله واستهزئ، ولكني في نفس الوقت لا أريد أن أحجر على نفسي وأن أثقل عليها بالتكاليف، وأن ألزم نفسي بهذه الأشياء التي يلزم بها هؤلاء الناس الذين يسمون: بالمطاوعة أو المتدينين، يلزمون بها أنفسهم، أنا وسط لا أريد التعقيد ولا أريد التفلت، فيأخذ من الدين ما يعجبه وما يوافق هواه، ويترك الأشياء التي فيها صعوبة وثقل على النفس، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيل [النساء: 150] بين الكفر والإيمان.
ودين الله أغلى وأثمن وأعلى من أن تناوله هذه المفاهيم الخاطئة للوسطية.
إن الناس في هذه الأيام يصطلحون على بعض المصطلحات التي قد تكون في الحقيقة يمكن أن يعبر بها عن أشياء من الحق، ولكنهم يفرغونها من مضامينها الصحيحة.
تعريف الوسطية عندهم يختلف عن تعريف الوسطية في القرآن والسنة.
الوسط في القرآن والسنة: أن تستمسك بالذي أوحي إليك، جاء إليك في القرآن وجاء على لسان الرسول ﷺ.
إذا زدت عن هذا فتوضأت أربع مرات أو تركت أكل اللحم والزواج تقرباً إلى الله فإنك غال مغال متشدد متنطع، هذه أمثلة صحيحة.
لكن أنا آتي وأقول لشخص: تمسك بالدين.
أقول: إن صلاة الفجر في المسجد تزمت وتنطع!
أقول: إن تقصير الثوب وجعله فوق الكعبين تزمت وتنطع!
أقول: إن إطلاق اللحية بهذا الطول يعتبر تزمت وتنطع!
أقول: إن قيام الليل تزمت وتنطع!
في هذه الحال نعرف ماذا يرمي إليه أولئك الناس.
الناس أهل الباطل يحرصون دائماً على انتزاع المسميات الصحيحة ليلصقوها بهم ليقولوا للآخرين: نحن الوسط، وأولئك أهل غلو.
إننا حريصون على هذا العمل، ولذلك يدندنون حوله كثيراً، وتراهم وتعرف هذا منهم في لحن القول، المنافقون لما مات الرسول ﷺ انقطع السبيل الذي نستطيع به أن نحكم عليهم حكماً كاملاً صحيحاً مطرداً، راح الوحي.
ماذا بقي لنا نحن؟ كيف نعرف المنافقين؟
الله من رحمته ما تركنا وهؤلاء المنافقون يعيثون فساداً، أعطانا علامات وبين لنا في القرآن دلائل أدلة ندينهم بها كثيرة؛ منها: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] يعني في فلتات لسانه ترى أحدهم مثلاً يحاذر في كلامه، ويتكلم باسم الدين، ولكنه فجأة في إحدى المناسبات يزل فينكشف لك ما في داخل قلبه من معاني الكفر والضلال والنفاق التي أخفاها.
فإذاً، نقول: إنهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، يريدون أن يفصلوا من الإسلام ثيابا تناسب أهواءهم وشهواتهم، ولكن لتعرفنهم في لحن القول.
الرد على ظاهرة تمييع الدين
ولأجل هذا يرينا الله في القرآن مفاهيم أو مفهومات شاملة ترد على أولئك الناس وترد على هذا الخطأ والضلال، وهو: أخذ بعض الدين وترك البعض الآخر.
حتى في العبادات حتى لا يفهم الناس أن الصلاة تكفي والصيام يكفي والحج يكفي، وشهادة أن لا إله إلا الله قولاً تكفي، حتى لا يفهم الناس هذا المفهوم الخاطئ؛ جاءت آيات في القرآن لكي تنير السبيل للمؤمنين، ولكي توضح القضية: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] كونك تولي جهة المشرق أو المغرب أو الشمال أو الجنوب ليس في تلك الجهة تفضيل معين إلا عندما يأتي في القرآن والسنة تخصيص لها فتصبح جهة الكعبة مفضلة، نستقبل الكعبة في صلاتنا.
ليست القضية مشرقاً ومغرباً، القضية أن الله أمرنا أن نتوجه إلى تلك الجهة، ولذلك الناس في أنحاء العالم يتوجهون إلى الجهات الأربعة وما بينها حتى يصلوا إلى الكعبة، ليست القضية في جهة معينة: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة: 177] هذا هو مفهوم الشمولية، هذه هي الجوانب التي تميز الصادق من الكاذب، والتي تبين لك وتبرهن هل أنت صادق في التزامك في الإسلام أم لا؟
فالمسألة عميقة، المسألة صعبة، الأشياء عظيمة، التكاليف شاقة، ولكن يوفق الله -تعالى- من أخلص النية لأن يأخذ من هذا الدين بما يطيق: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15] ما في ريبة ولا شك، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15].
ولما جاء بشير بن الخصاصية إلى رسول الله ﷺ فطلب منه الرسول ﷺ على أن يبايعه على شهادة ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، والجهاد، والصدقة، قال: يا رسول الله أبايعك على هؤلاء إلا الجهاد والصدقة؟ فأنا ما لي طاقة بالجهاد والصدقة، فروي أنه عليه السلام قال: لا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً؟ [رواه أحمد: 21952].
ومع أن هذا الحديث ضعيف عند المحدثين لكنه يصلح شاهداً للمعنى الذي نتكلم حوله الآن، بلا جهاد وبلا صدقة ما هو هذا الإسلام الذي لا جهاد فيه ولا صدقة، ما هو هذا الالتزام الذي لا جهاد فيه ولا صدقة؟
بعض جوانب الإهمال والتقصير في الدين
ودعونا نتجول معكم في بعض الجوانب التي ينتشر بين الناس تركها وإهمالها والتقصير فيها، بعض الناس يقولون: أنا مستعد أن ألتزم معك بالإسلام لكن إلى حد معين، وبعد هذا الحد أنا أتوقف لا طاقة لي لا أستطيع، يعني ترى رجلاً يعجبك مظهره، وتعتقد بأنه من الملتزمين بالإسلام الذين يعملون للدين.
فإذا جئت معه مثلاً إلى جانب من جوانب التضحية، إذا جئت تقول له: يا أخي إن الدين يحتاج إلى من ينصره، ولا بد أن تدعو إلى هذا الدين وتعمل لهذا الدين؟
قال لك: لا، هنا أقف معك، أنا ما عندي استعداد أن أقضي وقتاً طويلاً في العمل للدين، ما عندي استعداد، أنا ورائي دراسة، أنا ورائي تجارة، أنا ورائي أعمال كثيرة أؤديها، فيقول: أنا ما عندي استعداد أن أعمل للدين، ما عندي وقت أقضيه، أنا أقف هنا، أي نوع من أنواع الالتزام هذا الالتزام؟!
واحد يلتزم بالعبادات لكن غير مستعد للدين يقول لك: لا أما قضية الدعوة إلى الله أنا ما عندي استعداد أني أضحي بوقتي.
وإذا احتاجت الدعوة إلى الله، أو الجهاد في سبيل الله، إلى مال، تجد هذا الشخص يقول: أنا أعطيك كل شيء لكن جيبي لا، ما أطلع شيئاً من جيبي، إنفاق، أموال، ما عندي استعداد.
فأي نوع من أنواع الالتزام هذا الذي يريدون أن يتمسكوا ويلتزموا به أو يسيروا عليه؟
الإسلام يطلب منك أيها المسلم أن تعمل للإسلام، أن تقوم وتمشي في سبيل نصرة الإسلام، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أن تتعلم العلم الشرعي، أن تبلغ التصورات الإسلامية إلى الناس، أن تربي نفسك على الدين وتربي إخوانك من حولك، وتتربى معهم على هذا الدين، أن تدعو إلى الدين بكل وسيلة، أن تبذل في الدين نفسك ووقتك وجهدك ومالك وإمكانياتك وتفكيرك، وإشغال ذهنك بما يعود بالمصلحة والرفعة لهذا الدين.
لكن كثيراً من الناس اليوم التزامهم بارد، لا حرارة فيه، مهما تشحن فيه وتبث فيه من الشحنات الإيمانية لا يتحرك مطلقاً مهما أعطيته من الاشتراكات هذه لا يتحرك؛ لأن الخراب في الداخل، في المحرك الخراب، ما هو في شيء جانبي، في البطارية، الخراب في المحرك.
فإذاً، التصورات فيها خلل، ولذلك تجد يرفض عندما يأتي على جانب من الجوانب التي تحتاج إلى بذل، يقول لك: هنا أقف، مكانك سر، ما أتقدم، خلاص هذا أقصى ما يمكنني أن أقدمه.
وقد يستدل بعضهم بأشياء من القرآن أو السنة لكي يبرروا لأنفسهم قبل أن يبرروا للناس مواقفهم الذليلة، فيقول لك أحدهم: يا أخي إنني أحتاج إلى المال، ما أستطيع، يا أخي إنني أحتاج إلى الوقت لا أستطيع، أولادي، كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت.
يأخذون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ويستدلون بأدلة يريدون منها أن يسكتوك أنت الذي تحاول إقناعهم، وتحاول دفعهم من أجل العمل لهذا الدين.
وهذه النوعية من الناس الوقوف -أيها الإخوة- يسبب العفن.
الوقوف عند حد معين يسبب نمو بكتيريا أو السوس الذي ينخر في الجسم.
فتنفخ في رماد، ما في فائدة، مهما أوردت عليه من النصوص التي تفيد الحركة من أجل الدين، ما في قناعة، يقول: أنا هنا حدي هنا، ما أتحرك.
الالتزام بالأشياء الموافقة للهوى
جانب آخر من الجوانب، بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأشياء التي لا شهوات فيها، فيقول: أنا مثلا مظهري إسلامي أنا أطلق لحيتي وقصرت ثوبي لكن ما عندي استعداد أن أترك النظر إلى المرأة الأجنبية، لماذا؟ يقول: ليس هناك مقاومة لشهوة النفس أن أقصر في الثوب، ما في إشكال أن أطلق لحيتي، لكن تقول لي: لا تنظر للمرأة الأجنبية، هذا شيء في نفسي لا أستطيع أن أتحرر منه، ولذلك تراهم يصبرون على بعض الطاعات، يصبرون على الطاعة لكن لا يصبرون عن المعصية.
والصبر أنواع لكن لا بد من العمل بها كلها: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
فترى بعض الناس يصبر على بعض الطاعات ويصبر على أقدار الله، لكن لا يصبر عن المعاصي، لا يصبر عن الأشياء التي فيها شهوات، لا يستطيع أن يقاوم شهواته، فأي التزام هذا الذي يزعمه ذلك الشخص؟
إذا أتيت مثلاً إلى جانب الأخلاق: تجد طائفة في ظاهرها التمسك بالدين وقد يدعو إلى الله لكن أخلاقه في غاية السوء، أخلاق سوقية، فيعامل إخوانه بشراسة وضيق نفس، ويتمثل العناد والأنانية في تصرفاته.
بل إنك إذا أتيت لكي تقربه منك في الصلاة وتجذبه قليلاً قال بيده هكذا..؛ لأنه ما يريد، الرسول ﷺ يقول: ولينوا بأيدي إخوانكم [رواه أبو داود: 666، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 672] هذا ما يرضى أنك تسحبه في الصف، عنده من العنجهية والعناد والكبر ما يرفض معه أن ينقاد إلى معروف مثل هذا المعروف.
وقد تكون علاقته بإخوانه حسنة لكنه إذا انقلب إلى أهله أذاقهم الويل والثبور وعظائم الأمور في تعامله وسلوكياته مع أبيه وأمه وإخوانه وربما زوجته وأولاده، كيف أنت تفعل هذا يا أخي؟ كيف يعقل؟ كيف ترضى أن تكون ملتزماً في ظاهرك داعياً إلى الله وتطلب العلم وبعد ذلك تأتي في قضية الأخلاق والتصرفات وتكون أخلاقك في غاية السوء؟ كيف يسمى هذا التزاماً؟
ومن أجل هذا يأخذ الآخذون علينا ويقول السفهاء من الناس: هذا فلان الدَّين الملتزم كما أنتم تريدوننا أن نكون، انظر كيف يعامل زوجته؟ وهذه الزوجة أو الأولاد أو الأقارب إذا نقلوا شكواهم إلى من يحيطون بهم وتسربت الأخبار الدقيقة عن حال هذا الشخص في بيته كيف يعامل أباه وأمه وإخوانه وجيرانه وأرحامه، ماذا يقول الناس؟
هذا هو الدين، هؤلاء هم الناس الذين تريدون أن نصبح مثلهم!
من السبب في إعطائهم الصورة المشوهة؟
نحن.
نحن الذين لم نحسن التخلق بأخلاق الرسول ﷺ.
ولذلك بعض الناس قد لا يبعدون عندما يقولون: يا أخي هذا الرجل صحيح أنه غير ملتزم بالدين في ظاهره لكن أخلاقه طيبة، تعامله ممتاز.
يا أخي هذا أحسن من ستين واحد من هؤلاء الأشكال.
لماذا يقولون هذا الكلام؟
لأنهم فقدوا جانباً عظيماً من جوانب الإسلام في شخصياتنا وهو جانب التعامل والسلوك والأخلاق.
طبعاً أنا أتكلم للجميع وأنا منكم، وعندما أقول هذا الكلام فهو من باب التواصي بالحق والصبر.
قضية الأخلاق والسلوك من الأشياء التي يتأثر بها الناس جداً، الناس يتأثرون بأخلاقك وسلوكك أحياناً أكثر مما يتأثرون بتصوراتك أو مظهرك، أحياناً ما عندهم موازين، يقولون: لا إله إلا الله ما هي هذه التصورات الممتازة؟ ما هي هذه الأفكار الجيدة؟ ما هذا السمت النبوي؟ قد لا يقولون هذا لكنهم يقولون: ما هذا التعامل الجيد؟ ما هذه الأخلاق العظيمة؟ يتأثرون بهذا الجانب أكثر مما يتأثرون بتلك الجوانب، مع أنها قد تكون أهم من جانب الأخلاق، لكن الناس ما عندهم هذا التمييز، ما عندهم القدرة على أن يميزوا الأهميات والأولويات، فلذلك الذي يرونه منك التعامل هو الذي يحكمون به عليك.
ولذلك ترى الآن أهل الباطل زينوا باطلهم بأسلوبهم الحسن من أمثال المنصرين والمبشرين بالنار، زينوه لبعض الناس حتى رأوه حقاً.
وبعضنا بتعامله والخطأ في تقديم الأفكار الصحيحة للناس يرونه باطلاً مع أنه يقدم لهم الحق، لماذا؟ لماذا يحصل هذا؟ للتعامل السيئ والأسلوب الفظ والغليظ في عرض الإسلام عليهم، دعوتهم كأنك ترغمهم بالقوة كأنك تغصبهم قد يقدم الكلام من بعض العاملين للإسلام من موقع الاستاذية، فيفرضه على الناس فرضاً يقدمه لهم بأسلوب جاف وغليظ، ولذلك لا يطيعونه ولا يتابعونه في أفكار دعوته.
هو الذي أساء إلى دعوته لأنه أساء عرضها، والرسول ﷺ كان يهتم بالأسلوب كما كان يهتم بالمضمون.
كان يهتم بالجوهر وأيضاً يهتم بالقالب الذي تقدم فيه هذه الأفكار للناس، فقولا له قولاً ليناً، هذا أسلوب: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44].
عدم وجود القدوة الصحيحة
وهذه المسألة الأخيرة هي التي تفقد القدوات، تنعدم القدوات بين الناس؛ لأن الناس لا يرون القدوة الصحيحة التي يقتدون بها، ويعتبرون أن هذا النوع من الدين -كما يسمونه- مرفوضاً بسبب عدم قناعتهم بالشخصية التي تعرض الحق، هذه مسألة مهمة، عدم قناعة الناس بالشخصيات التي تعرض عليهم الدعوة إلى الله، عدم قناعاتهم بالشخصيات التي تعلمهم، هذا من أسباب رفض الحق.
مظاهر فقدان الجدية في الالتزام
الجدية مفقودة في جوانب كثيرة أيضاً.
مثل: الجدية في طلب العلم، تجد بعض الشباب مثلاً ما عنده نفس في القراءة، ولا عنده صبر في الجلوس في حلق الذكر والعلم، يعني لا يقرأ، لو أن أحد من يدعوهم إلى الإسلام سأله: ما هو الدليل على حرمة سماع الأغاني مثلاً؟
قد لا يستطيع أن يأتي بدليل صحيح، لو أن امرأة سألته ما هو الدليل على وجوب ستر الوجه؟
قد لا يؤدي هذا الدليل.
ربما لو سئل: ما هو الدليل في وجوب الصلاة في الجماعة في المسجد؟ قد لا يستطيع أن يقدم الدليل.
وقضية حفظ الأدلة يمكن تكون ناقصة جداً، فتراه يقول: ورد في آية وجاء في حديث أو كما قال أو فيما معناه، ما في اهتمام بحفظ العلم والنصوص.
وترى هؤلاء الأقوام يشتغلون بأشياء يملؤون بها فراغهم لكنها لا تدر عليهم مردود جيد؛ مثلاً يغرقون في سماع الأناشيد أو التمثيليات مثلاً، بل إنهم يحفظون أبيات هذه الأناشيد حفظاً يفوق حفظ الآيات والأحاديث، لو قلت له: أكمل هذه الآية أو أكمل هذا الحديث، ربما لا يستطيع، لكن لو أعطيته أول النشيد سرده حتى النهاية.
وأيضاً مع أنهم يشغلون أنفسهم بهذا فإنهم يذهبون مع اللحن فتجد أحدهم الذي يطلع من هذا النشيد أنه يطرب ويجلس يترنم وهو يسوق السيارة، أو وهو جالس في البيت يترنم بالألحان، وكذا..
ولو أنك أيقظته على معنى من المعاني لربما قال: هذه أول مرة أفكر فيها، مع أن بعض هذه الأشعار تحتوي على معان جميلة ومعان قوية ومعان مهمة، لكنهم في إغراقهم في هذه القضايا لا يتذكرون حتى معاني الأشياء التي يرددونها.
هل يفكرون مثلاً في قول الشعر:
إخوانكم لا شيء أغلى منهم | لا شيء يعدلهم من الأشياء |
لا تتركوهم للضياع فريسة | ترك الشباب أساس كل الداء |
وغيره كثير.
أم أنه يشغلهم اللحن على التفكر في هذه الأشياء، وتشغلهم هذه الأشياء بعمومها عن طلب العلم، يغرقون فيها.
لكن ليس من المعقول أن رجلاً قد درج في طريق الالتزام بالإسلام سنوات وهو لا يزال يقضي الوقت الأكبر من حياته في سماع هذه الأشياء، فقليلاً من الجدية في الالتفات إلى العلم الشرعي إلى التعلم.
والعلم سلاح المؤمن.
وهؤلاء الآن العلماء الكبار نسأل الله أن يحفظهم كم أعمارهم الآن؟ أليسوا في الستين والسبعين والثمانين، فإذا ذهبوا إلى ربهم فمن يبقى ليعلم الأمة؟
لا تحتقر نفسك، لا تقل أنا لا أستطيع أن أفعل، وكيف أصل إلى ذلك المستوى، وأنى لي؟
ما هو المطلوب أن تصل إلى ذلك المستوى، ليس المطلوب أن نكون كلنا من أمثال هذه أسماء المشايخ المعروفين، لكن على الأقل بعض الدرجات في هذا السلم، وما لا يدرك كله لا يترك بعضه ولا جله.
لكن بعض الشباب قد يحتقر نفسه قد يقول: أنا ماذا أفعل حتى في باب الدعوة إلى الله يقول: أنا لست صاحب سلطة في البيت ولا أنا الذي أصرف عليهم فيسمعون كلامي من باب الضغط المادي، ولا أن سني كبيرة فيحترموني، فإذاً ماذا أقدم ؟
لا تقل هذا، فإن في الأمثلة الواقعية ما يرد على هذه المزاعم.
وقد وجد والله الحمد من صغار هؤلاء سناً من أثر في أهله فالتزم إخوانه بالدين وتحجبت الأخت والأم وامتنعت عن الخروج مع السائق بغير محرم، والأب كان لا يصلي صار يصلي والأعمام والأخوال وبعضهم يؤثر في أهل الحي وفي جماعة المسجد.
فإذاً، من كان داود قبل أن يقتل جالوت ماذا كان؟
كان ربما غير معروف، صغير السن في مقتبل العمر.
فإذاً، لا يحتقر الإنسان نفسه، وهذا مدخل شيطاني ليحطم به معنويات المؤمنين، ويردهم عن الاشتغال بالدين والدعوة إليه، يقول: ماذا أستطيع أن أفعل وأنا ذاكرتي ليست كذاكرة الشيخ الفلاني؟ كيف تريدني أطلب العلم؟
تطلب العلم -يا أخي- تطلب العلم، الله فضل بعضنا على بعض درجات ورفع بعضنا فوق بعض درجات في الذاكرة في الذكاء وفي المال وفي كل الأشياء وفي القوة الجسدية، لكن كل واحد يعمل بحسب استطاعته، أن تعمل حسب استطاعتك، وأنا أعمل حسب استطاعتي، والأخ يعمل بحسب استطاعته تكاتفت الجهود وظهرت النتائج.
الإغراق في المزاح والضحك وتضييع الأوقات في النكات أو القصص والطرائف
ومن مظاهر عدم الجدية في الدين كذلك: الإغراق في المزاح والضحك وتضييع الأوقات في النكات أو القصص والطرائف.
وهذه طبعاً مشكلة كبيرة، وهذه نتيجة عدم الإحساس بالمسؤولية الواحد الذي لا يحس بخطورة الوضع، وأن الإسلام يحتاج إلى جهد وإلى عمل، فلذلك يضيع الوقت منه بسهولة؛ لأنه لا يستشعر المسؤولية.
واستشعار المسؤولية تحتاج إلى وعي، وتحتاج إلى تفتيح الذهن، وتحتاج إلى تفكير في الواقع وتأمل واستغراق عميق في تصور مشاكل المسلمين، وماذا يحتاج إليه الإسلام وما هو حكم التكليفات التي كلفنا بها.
ولذلك لا نريد أن يقال لنا: والله هذا مسكين، ما عنده خلفية، وعنده بلادة في ذهنه، وهو سطحي في نظره إلى الأمور.
ولذلك ينبغي أن يكون المسلم واعياً.
المسائل المطروحة للمناقشة في المجالس العامة
ومن مظاهر عدم الجدية كذلك: واقع مجالسنا اليوم ما هي الأشياء التي تثار اليوم في مجالسنا؟ ما هي القضايا التي تطرح الآن؟ إذا جلس مجموعة من الناس مع بعضهم ما هي القضايا التي تناقش وتطرح في هذه المجالس؟ هل يتناقشون في مسألة في كتاب الله أو في سنة رسول الله ﷺ مسألة في الفقه أو يناقشون بعض أحوال المسلمين؟ أو يناقشون أوضاع إخوانهم المسلمون ويفكرون في حلول مشكلات للمجتمع، ويتداولون الخبرات فيما بينهم مثلا، أو القصص المفيدة التي يكون فيها تعليقات جيدة، أو مثلاً حال الناس الآن من قطيعة الرحم، ومثل هذا، هل هذا الذي يناقش أو ما الذي يطرح في مجالسنا؟
وقد سمعت أن بعض الشباب العزاب جلسوا مرة من المرات إلى الساعة الثانية والنصف ليلاً يتناقشون كيف يكون دخول الرجل بزوجته ليلة الزفاف.
هم طبعاً طلبة صغار، يعني ما هذه التفاهة؟ وكيف نرضى أن تمضي أوقاتنا بهذه السهولة في هذه المواضيع العجيبة؟
ثم تضيع صلاة الفجر طبعاً، هذه نتيجة طبيعية.
فنظرة تنقيحية إلى واقع المجالس نخشى أن تكون هذه المجالس فيها من المحرمات أشياء كثيرة، وخصوصاً أنه لو جلس خمسة أشخاص لمدة ساعة كم ضاع من وقت المسلمين؟ لماذا
لأنه كل واحد ضيع ساعة، صار ضاع خمس ساعات من وقت المسلمين، خمس ساعات في الصباح، وخمس ساعات في الليل، وخمس ساعات، ومثلها يومياً، اضرب في ثلاثين شهرياً، في اثني عشر سنوياً، حتى تعرف كم يضيع من أوقات المسلمين التي من المفروض أن المسلمين يحتاجون إليها بشدة، والتي من المفروض أن تنفق في سبيل الله.
تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية
من مظاهر عدم الجدية كذلك: تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية، وهو فريضة عظيمة، ما هي الأخوة عند كثير من الناس؟
هي عبارة عن استئناسات، وتروحات، وتبادل كلام، والارتياحات التي لا معنى لها.
وكثيراً ما تؤدي هذه الخلطة الزائدة إلى أضرار سلبية تدمر الأوساط الأخوية، ويتزين بعضهم لبعض، ويثني بعضهم على بعض، ويجتمعون على غير ذكر الله، وصارت الأخوة في الله مجرد شعارات ترفع لا حقائق يعمل بها.
فهذا التفريغ لمضمون الأخوة في الله الذي نعاني منه اليوم في أوساط كثير من الشباب هو مظهر من مظاهر عدم الجدية، أنا ما أجلس الآن مع فلان لأنه يفيدني، ولأنه أعلم مني، ولأنه ينصحني.
أجلس مع فلان لأنني أرتاح إليه ويرتاح إلي.
أجلس مع فلان أن عندي التوافق النفسي معه، فقظ، هذا هو الذي يجمعني معه هذه مشكلة واقعية الآن.
لو جئت تقول لفلان: من الذي تجلس معه؟ من أقرب صديق لك؟ يقول: فلان، لماذا؟ يقول: عشان أنا أرتاح له، فذهب ارتياحك بالفائدة العظيمة التي قد تأتي إليك عندما تبحث عمن هو أفضل منه وأعلم منه، لكن القضية استرسال مع الهوى، والتعامل بالعواطف لا بالعقل.
ولذلك إذا نقحت الجمل التي ينطق بها أولئك لا تكاد تجد فيها كلمة واحدة مفيدة، وإنما هي عبارة عن استرسالات وعواطف وكلام وشجون، وأشياء تنطلق وتبث عبر الهواء مباشرة، بغير ضبط، وبغير تنقيح، وبغير نظر في عواقبها، وما مدى جديتها.
التهاون بالسنن
كذلك مظاهر عدم الجدية في الالتزام في الإسلام: التهاون بالسنن لأن الناس يقولون: نحن نطبق الفرائض، نحن ما علينا من السنن، هذه سنة، يعني لست بآثم لو لم أقم بها.
لكن أقول: ألم يخبرنا رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: أن الرجل يوم القيامة يؤتى به فينظر في صلوات الفرائض التي قام بها فإذا وجد فيها خلل فينظر إلى أي شيء؟ إلى السنن والنوافل، فيجبر بها ذلك النقص الذي حصل.
لو واحد صار عنده رفث وفسوق مثلاً في صيامه، أو جدال في حجه، ما الذي يجبر هذا النقص الحاصل فيها؟ أليست السنن والنوافل من أنواع هذه العبادات التي تؤدى؟ أليست الفريضة أعلى عند الله عندما تكون مكتملة السنن من الفريضة التي تؤدى بمجرد الواجبات؟ تقول: والله أنا ما أقول إلا سبحان ربي العظيم مرة سبحان ربي الأعلى مرة رب اغفر لي مرة، لماذا أقولها ثلاث مرات؟ لماذا أحرك الأصبع؟ لماذا أضع اليدين على الصدر؟
وكذلك قضية فروض الكفاية الواحد يقول: لماذا أصلي الاستسقاء؟ ولماذا أصلي كذا؟ هذه فروض كفاية، وفيه من المسلمين -الحمد لله- الكثير منهم يقومون بهذه الأشياء لماذا أنا أقوم بفروض الكفاية؟ خلها لغيري، هو الذي يقوم بها، هذا التهاون الدال على الاستخفاف بهذه القضايا من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام.
إيجاد الأعذار والحيل لمجابهة الناصحين
كذلك إيجاد الأعذار والحيل التي يجابه بها كثير من الناس من ينصح لهم ومن يعلمهم ويرشدهم، كأن همه هو عدم التطبيق هو ألا يرضخ للنصيحة بأي سبب وبأي شكل وبأي وسيلة، ونفعل مثل ما فعل بنو إسرائيل مع موسى، بنو إسرائيل، الآن موسى يأتيهم بوحي من عند الله، رسالة من عند الله يأمرهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] وحي نبي مكلف، بماذا استقبل بنو إسرائيل؟ كيف استقبلوا هذه الرسالة وهذا التكليف وهذا الأمر كيف استقبلوه؟ المفروض أنهم يبادرون إلى التنفيذ، لكن استقبلوه بأن قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة: 67]؟ أنت الآن تستهزئ بنا نذبح بقرة أيش؟ عجيب، وحي من عند الله ونبي جاد في كلامه يستقبلونه بالاستهزاء كما يستقبل اليوم كثير من المسلمين الأشياء التي تنصحهم وتحثهم عليها وتبينها لهم، يقول لك: هذا أيش تستهزئ بعقلي؟ هذا من الدين؟ أي دين؟ دين الإسلام لا يأمر بهذا وهذا ليس من الدين أصلاً؟
كما ذكر كثير منهم، في مجالس تسمع هذه الكلمات يقول: هذا ليس من الدين وأنت طلعت ديناً جديداً؟ من أين جئت بهذه الأشياء؟ أنتم الآن تعلمونا الدين؟ وهذا الكلام كله الذي رأينا عليه آباءنا وأجدادنا غلط؟ هذه أصلاً حجة الكفار: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] سهل نغير إلى المحرمات ونقع فيها لكن صعب نغير الواقع الذي يرضاه الله -عز وجل-.
فلما جزم لهم موسى أنه غير مستهزئ بهم وأنه جاد: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67] وفيه إشارة أنكم أنتم الجاهلون، هل ذبحوا البقرة لما أكد عليهم هذا المفهوم هذا الأمر؟ ماذا قالوا؟ بين لنا ما هي؟ ما أعطيتنا أوصافها، والله أمرهم ببقرة اذبحوا أي بقرة لو ذبحوا أي بقرة لكفتهم.
وموسى يذهب إلى ربه يسأل ربه ويأتيه الجواب قال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: 68] لا صغيرة ولا كبيرة، هرمة، إنها بقرة فتية: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ هذه أوصاف هذه البقرة، ذبحوها؟
ادعوا لنا ربك يبين لنا ما لونها؟
المهم أي شيء لكن المهم تأخير التنفيذ؟ أي حاجة أي عذر أي سؤال أي استفسار أي تأخير المهم ألا ننفذ؟
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة: 69].
ذبحوها؟
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة: 70] البقر كثير وما زالت هذه الأوصاف غير كافية، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .
بعض المفسرين قالوا: أنهم استثنوا أخيراً ولولا أنهم استثنوا بالمشيئة لكان حرموا من الخير كله.
وبعضهم قالوا: أن احتجاجهم هنا بالمشيئة مذموم، يعني مثل احتجاج بعض الناس تقول له: يا أخي صل؟
يقول: إن شاء الله، إن شاء الله.
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا [البقرة: 71].
طيب انتهت الأسئلة خلاص ما سألوا بعد كذا قالوا الآن جئت بالحق يعني هذاك الكلام الذي راح كله كان باطلا؟ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ، ومع ذلك مع هذا الاعتراف: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ يعني كادوا ألا يفعلوا، يعني ي بالدف وبزهق النفس، ذبحوها في النهاية: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ .
وفرق بين من ينفذ أمر الله عن حب لله وطواعية نفس منه وبين من ينفذ من وراء أنفه، يعني إذا نفذ كأنك تسلب منه ملكاً عزيزاً على نفسه، هذه معاذير الأشياء التي يتعذر بها كثير من الناس يدل على أنهم متلاعبون، أين الجدية؟
لو كان عندهم جدية كان نفذوا لأول وهلة، ما جلسوا يعتذرون بالمعاذير والكلام الفارغ.