الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى الحمد لله الذي خلقنا في أحسن تقويم وأنعم علينا بنعم الإسلام وهي خير نعمة، وهدانا لهذا الدين القويم، وأرسل إلينا رسوله محمداً ﷺ وأنزل علينا كتابه وهو كلامه القرآن فله الحمد حتى يرضى، وله الشكر على تجدد نعمه وآلائه.
إخواني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام اسم من أسماء الله وضعه بين عباده فأفشوه بينكم، تحية طيبة في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجعل فيما سنقوله في درسنا هذا فائدة وخيراً ونفعاً بحوله وقوته.
عنوان درسنا: "كيف يربي المسلم نفسه؟" وإن شئت فقل: التربية الذاتية أو التربية الفردية.
وقد يقول قائل: إنك تتكلم عن التربية كثيراً وتطرق هذا الموضوع باستمرار فلم؟ ونقول: ليس عندنا حل لمواجهة المشكلات التي نعيش فيها نحن اليوم نحن المسلمون إلا التربية، ليس هناك علاج ناجع وحل جذري للواقع المرير الذي نعيش فيه ونمر به إلا التربية، ليس عندنا هناك طريق أخرى، هي طريقة رسول الله ﷺ هو الأمر الذي ينبغي التركيز عليه، لقد تكلمنا عن أهمية التربية الإسلامية فيما سبق، وتكلمنا عن مقومات التربية الناجحة، وهناك مواضيع أخرى كثيرة في التربية، بقيت للكلام عليها، ومنها: التربية الفردية، أو كيف يربي المسلم نفسه؟
أهمية تناول موضوع تريبة النفس
فما هي أهمية هذا الموضوع يا ترى؟ إن الحساب عند الله حساب فردي يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيره من الناس، وإنما سيأتي يوم القيامة ويسأل عن حاله عن عمله عن نفسه هو، لن يُسأل عن غيره، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل: 111]، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 95]، فالتبعة إذن تبعة فردية والحساب حساب فردي، مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [الإسراء: 15]، ولن ينفع أحد أحداً ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10]، ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبين ترجمان ثم ينظر فلا يرى شيئًا قدامه، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة حديث صحيح. [رواه البخاري: 1413، ومسلم: 1016].
فالتربية إذن والتربية الذاتية تربية الشخص لنفسه من الأهمية بمكان.
تعريف التربية
أما تعريف التربية فإن التربية هي ارتقاء الشخص بنفسه إلى كماله فإن كل نفس كل شخصية لها كمال معين.
والتربية هي الارتقاء بالنفس إلى كمالها فإذا ربيت نفسك معنى ذلك أنك تقوم بالارتقاء بنفسك إلى كمالك وإذا ربيت أولادك أو ربيت إخوانك فإنك تقوم بالارتقاء بهم إلى كمالهم كل بحسب حاله.
وهذه التربية مهمة جداً، أهميتها:
أولاً : أنها حق لا بد منه لا بد من القيام به قال ﷺ: يا عثمان أرغبت عن سنتي فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصُم وأفطر وصل ونم [رواه أبو داود: 1369، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7946]، وأصله في الصحيح فقوله ﷺ: وإن لنفسك عليك حقاً هذا هو أصل التربية الذاتية أصل التربية الفردية وإن لنفسك عليك حقاً يجب أن تهذبها أن ترتقي بها إلى كمالها، أن تسايسها، أن تتفطن لعيوبها، أن تكملها، يجب عليك تجاه هذه النفس واجبات عظيمة وكثيرة، وإن لنفسك عليك حقاً هذا هو المنطلق في هذا الموضوع موضوعنا.
ثانياً : ما ذكرناه قبل قليل من أن هذه النفس مسؤولة يوم القيامة وستحاسب، وبدون تربية ستكون هالكة.
ثالثاً: إن التربية الذاتية والتربية الفردية هي عبارة عن امتثال أوامر الشريعة والذي يربي نفسه يمتثل أوامر الشريعة في نفسه، ويحقق مطلوب الله منه وأمر الله ينفذه، وبذلك تكون التربية الفردية أو الذاتية هي سبب للنجاة يوم القيامة.
رابعاً : أن المجتمع أفراد وإذا ربى كل إنسان نفسه صار عندنا مجتمع قوي فعال عامل مجاهد، مجتمع ينشر الخير في الأرض وهل المجتمع إلا أفراده المجتمعون.
خامساً : إن حمل الإسلام يحتاج إلى شخصيات قوية، وهذا دين قول فصل ليس بالهزل وكيف يطيق الناس حمل الدين؟ وكيف يطيق الناس نشر الدين إلا إذا كانت شخصياتهم مؤهلة لحمل الدين؟ ولماذا انحسر الإسلام في الأرض؟ بسبب عدم وجود الشخصيات القوية التي تحمله، فنحن إذن نحتاج إلى أفراد يربون أنفسهم كي يحملوا هذا الدين.
وسادسا: أن التربية الذاتية والفردية مهمة جدًا؛ خصوصا في هذه الأيام وفي المستقبل.
نحن الآن لا ندري هل نحن مقبلون على وقت انتصارات وفتوحات أو أننا مقبلون على محن وفتن، وكلا الحالتين تستلزم تربية قوية لأفراد المسلمين، سواء نحن مقبلون على مرحلة انتصارات وفتوحات وغلبة وتمكين أو نحن مقبلون على مرحلة استضعاف شديدة ومحنة وافتتان في الدين نحن نحتاج إلى التربية الفردية؛ لأننا إذا كنا مقبلين على مرحلة فتوحات وانتصارات من الذي سيربي الشعوب وينشر الإسلام؟ الصحابة لما كانوا في عصر الفتوحات وقت الفتوحات توزعوا في البلدان كل واحد منهم يعلم أمة كل واحد منهم استلم بلداً هذا أمير هنا، وهذا قاضٍ هنا، وهذا عالم هنا، وهذا إمام وخطيب هنا، ولذلك نشروا الدين في الأرض، فأنت تحتاج للأفراد الذين تربوا تربية إسلامية صحيحة في وقت الفتوحات ووقت البسط والرخاء لنشر الدين، هناك ملايين في العالم لا يعلمون الحق، من الذي سيعطيهم الحق؟ من الذي سيقدم لهم الدين؟ ومن الذي سيكون قدوة لهم؟ هؤلاء الأفراد الأقوياء بإيمانهم وعقيدتهم وعبادتهم وأخلاقهم، هؤلاء الأفراد الذين هم يتمثلون أوامر الشريعة.
لو أننا مقبلون على مرحلة استضعاف ومحنة وابتلاءات ولو أن الله سيقدر ونسأل الله أن يلطف بنا محن وابتلاءات، فمن الذي سيصبر عليها؟ لو نزلت محنة لو نزل بالمسلمين تعذيب وسجن وتشريد واضطهاد من الذي سيصمد؟ وكيف سيواجهون هذه المحن؟ ما يمكن مواجهتها إلا بالتربية؛ لأن التربية هي إعداد النفس للمواجهة، تكميل النفس والارتقاء بها، من فوائد ذلك مواجهة الشر وأهل الشر، مواجهة الصراع القادم، نحن موقنون أنا قادمون على مرحلة صراع، لا شك في ذلك 100% نحن مقبلون على صراع قادم لا بد، والخير يزداد والشر يتنامى، والشر يحاول أن يسيطر، والخير يحاول أن يسيطر، ولا بد أن تقع المعركة الفاصلة، لا بد من مواجهة في النهاية، والله هذه سنته في خلقه، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لا بد من التدافع تحقق السنة الكونية تدافع ويوميًا، ونحن نشهد بين فترة وأخرى معركة من المعارك وصراع من الصراعات بين الحق والباطل فهل أنت - يا عبد الله - يا أخي المسلم معداً لنفسك الآن إذا دخلت في المعركة أن تصمد وإذا دخلت في المعركة أن تثبت، وإذا دخلت في المعركة أنت مؤهل للمواجهة أم لا؟ هذا هو السؤال الكبير الآن، ولو كانت الغلبة في المنظور القريب لأهل الشر - لا سمح الله -، نسأل الله أن يجعل الغلبة للمسلمين، لكن لو كانت الغلبة لأهل الشر وأودع المسلمون في محلات يُعذّبون فيها ويُضطهدون، فمن الذي سيصبر؟ التربية لا بد منها للصبر، لا بد منها للمواجهة، فالتربية إذن مهمة في الحالتين؛ سواء كنا مقبلين على حالة رخاء وانتصارات، أو كنا مقبلين على حالة محنة وشدة، أو كنا في مرحلة بين هذا وهذا في صراع وتدافع، فنحن نحتاج إلى التربية.
وأخيراً فإن التربية الفردية مهمة جدًا في الحالات التي لا يوجد فيها للإنسان وسط يتربى فيه التربية الجماعية وجود أوساط يتربى فيها المسلم، هذه مهمة جدًا، لكن هب أن هذا لم يوجد أو أنه ضعيف عند البعض لم يُهيأ له وسط يتربى فيه، ما هو البديل؟ التربية الفردية والذاتية، ثم إن التربية الفردية والذاتية مهمة حتى مع وجود التربية الجماعية؛ لأن هناك كثير من الأشياء لا تتحقق بالتربية الجماعية، إنما تتحقق فقط بالتربية الفردية.
وإن من الخطورة بمكان أن يتواكل الإنسان على مربٍّ أو طريق تربوي، هذه نصيحة أقدمها إلى إخواني، من الخطورة بمكان أن يقول الإنسان أنا أسلّم نفسي لشخص ما، هو الذي يربيني وهو أدرى بنفسي وأنا سأدخل في هذا الوسط وإن عليهم أن يقودوني إلى جانب السلامة وإلى بر الأمان، وعليهم أن يعلّموني وعليهم أن يرققوا قلبي ويعظوني وعليهم أن يخلّقوني بالأخلاق الحسنة، نقول: هذا خطأ كبير في التصور إن عليك واجباً مع كونك تعيش في وسط إسلامي وما تعيش بين إخوة صالحين وبين قدوات ومربين عليك واجبات كثيرة لا بد أن تقوم بها أنت لتستفيد الفائدة المرجوة.
والنقطة الثانية في بحثنا في هذه الليلة في ميادين التربية الفردية والذاتية لا شك أن الإنسان يتكون عنده فكر وعنده قلب وعنده جسم وأن فكره يحتاج إلى تربية وأن قلبه يحتاج إلى تربية وأن جسمه يحتاج إلى تربية والتربية تنصب في هذه الميادين جميعاً ولا شك أن المهم في موضوع الليلة هو الكلام عن الأساليب الكيفية لأن العنوان كيف نربي أنفسنا؟ لا بد من أدوات ولا بد من أساليب لهذه التربية، فلندخل الآن معكم في الجانب الأساسي في هذا الموضوع وهو ما هي الوسائل والأساليب للتربية الذاتية؟ نستطيع أن نلخص الأسلوب أو التربية الذاتية كلها في آية واحدة من كتاب الله وهي قول الله : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]. فباختصار إذا أردت أن تعرف كلمة واحدة لتحقيق أو كيفية تحقيق التربية الذاتية والفردية كيف تربي نفسك؟ هي المجاهدة؛ لأن الله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فلا مثل المجاهدة في التعبير عن الشيء الذي نريده أبدًا.
أساليب تربية النفس وأدواتها
ولا شك أن التربية تحتاج إلى أساليب وأدوات؛ لأن بدون هذه الوسائل والأدوات والأساليب لا يمكن أن يحقق الشخص المطلوب وهذه سنة الله في الكون الأسباب لا بد من اتخاذ الأسباب
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها... إن السفينة لا تمشي على اليبسِ
ومن هذه الأساليب التي سنتكلم عنها اليوم العبادات والتحلي بالأخلاق الإسلامية والقدوة والسؤال والحوار والعزلة والخلطة والعادة أو التعود وملء الفراغ بالاستفادة من الوقت والصفات المطلوبة لتحقيق التربية في النفس وأخيراً سياسة النفس كيف تسوس نفسك؟
أولاً: لا شك أن من أعظم الأسباب في تربية النفس هي القيام بالعبادات الشرعية، هذه العبادات التي تحيي القلب يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]. هذه العبادات التي شرعها ربنا منها ما هو فرائض ومنها ما هو نوافل كما قال ربنا في الحديث القدسي الشريف: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل وما يزال استمرار حتى أحبه لاحظ يتربى بالنوافل حتى يصل إلى مرتبة يحبه الله فيها فهو يرتقي إلى الكمال يحاول أن يرتقي بنفسه حتى يحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يرضي الله، وبصره الذي يبصر به فلا ينظر إلا إلى ما يرضي الله، ويده التي يبطش بها فلا يبطش إلا كما أمر الله، ورجله التي يمشي بها فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه [رواه البخاري: 6502].
فإذن، هذه العبادات مما افترضه الله علينا من الفرائض والنوافل هذه في غاية الأهمية في تزكية النفس، ونحن تكلمنا عن هذا الموضوع بتوسع في محاضرتين عن أسباب ضعف الإيمان وعلاجه أو التربية الإيمانية ووسائل الارتقاء بالنفس إيمانيًا فيرجع إليه هناك للتفصيل، ولكننا نلخص ونجمل بعض الأشياء المهمة في هذا الموضوع.
وسائل الارتقاء بالنفس إيمانيًا
أولاً: ينبغي المحافظة على الفرائض ولا شك وبعض الناس الذين يعملون نوافل تتسبب في تضييع الفرائض أناس مخطئون في تصورهم فلو أن إنساناً قام أكثر الليل حتى تعب ونام وأدى به النوم إلى تضييع صلاة الفجر، فإن عمله هذا غير سليم، وإن الله أحب الأشياء إليه أحب الأمور التي إذا قمنا بها تقربنا إليه ما افترضه علينا فالفرائض هذه أول شيء.
ثانياً: تنويع العبادات فالعبادات في الإسلام والحمد لله هذه من نعم الله علينا وستعرف لماذا هذه من نعم الله؟ العبادات في الإسلام متنوعة ليست صنفاً واحداً ولا نوعاً واحداً، هناك صلاة صلوات صدقات صيام عمرة حج اعتكاف إلى آخره وهذا التنوع نعمة؛ لأن النفس إذا لزمت شيئاً واحدا ربما ملت، تصور الآن لو ما عندك مجال للعبادة إلا في الصلاة كيف سيكون الحال؟ لكن من رحمة الله بنا أعطانا مجالات للعبادة متنوعة شيء بدني شيء مالي شيء قلبي أنت على فراشك تعبد الله إذا ذكرت الله ذكرك، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه [رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031] هذه عبادة قلبية، رجل خلا بالله ما عنده أحد، تذكر عظمة الله وتذكر عذابه وتذكر عقابه وتذكر يوم الدين تذكر من صفات الله ما بعث الجلال في نفسه جلال الله في نفس هذا العبد فذكر الله خالياً ففاضت عيناه وتأثر، هذه عبادة قلبية، فيه عبادات قلبية عبادات جسدية عبادات مالية هذا التنوع أولاً يزكي نواحي الإنسان قلباً وجسداً وخُلُقا وطبعًا، حتى طبائعك هذه تهذب بالعبادات المختلفة المتنوعة فمن رحمة الله أن العبادات انصبّت على ميادين الإنسان كلها عقلاً جسماً روحاً طبائع في النفس غرائز كلها انصبت العبادات عليها قال ﷺ : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة من كان مكثراً - يعني من الصلاة والنوافل - نوافل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من اهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام يعني: يكثر الصيام والنافلة دُعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة قال أبو بكر: "هل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم [رواه البخاري: 1897، ومسلم: 1027].
وفعلاً أبو بكر الصديق مرة قال الرسول ﷺ من عاد منكم مريضاً؟ من شيع منكم جنازة؟ من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ كل ذلك يقول أبو بكر: أنا أنا أنا؛ لأنه ضرب بسهم وافر في هذه الأبواب المتعددة للعبادات، فإذن، تعدد العبادات أن يكون لك نصيب وافر في كل نوع من العبادات هذا من الجوانب المهمة جدًا في التربية الفردية.
ثم إن هذا التنوُّع الذي يزيل الملل من عبادة معينة هذا التنوع ضروري وأنت إذا داومت على امر معين تمله حتى لو كان طعاماً وشراباً أو عملاً ومسكناً ولذلك بعض الناس يحب أن يجدد بيته بين فترة وأخرى ويجدد عمله وينتقل إلى عمل آخر، كونه يعكف على طعام معين أو شراب معين يسبب مللاً والنفس تمل وتنويع العبادات ينشط النفس مرة تروح عمرة تحج تصدق وإذا قام قائم للجهاد تجاهد فأنت إذن تنوُّع وحتى في كل نوع فمثلاً العبادات المالية الآن عندك زكاة واجبة وصدقات، كفالة يتيم،عتق رقبة، حتى الأشياء المالية متنوعة، الصلاة هناك صلوات فرائض، هناك نوافل سنن رواتب قيام ليل صلاة الضحى صلاة التوبة حتى السجود مرة تجد سجوداً في الصلاة ومرة سجود سهو ومرة سجود تلاوة ومرة سجود شكر، فهناك تنوُّع حتى في داخل العبادة الواحدة يوجد تنوع من حكم العليم الخبير في قيام الناس بتربية أنفسهم بهذه العبادات
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجددي
وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقُ | لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ |
فإني رأيْتُ الشَّمسَ زيدتْ مَحَبَّة | إلى النَّاس أَن ليْسَتْ عليهمْ بِسرْمَدِ |
لو كانت الشمس دائماً تطلع في وجوه الناس ولا تغيب لملوا منها، لكنها تغيب وتطلع وتغيب وتطلع فتجدد والناس ينشدون إليها، وهذه العبادات المتنوعة؛ سواء كانت بدنية أو مالية، وسواء كانت قيام ليل قراءة قرآن دعاء صلة رحم صدقة في السر متابعة بين الحج والعمرة صيام الاثنين والخميس أو ثلاثة أيام من كل شهر هذه سردها طويل لكن قصدنا بضرب المثال في بيان الاهتمام بالفرائض أولاً : بيان التنوع في العبادات، ثانياً : المنع من تحول العبادات إلى عادات، فإن بعض الناس يألفون العبادة بحيث أنه يفقد شيئًا من حلاوتها، ولذلك تجد بعض الإخوان إذا ذهب إلى المسجد لا يحتسب أجر الخُطا، لا يتذكر أن كل خطوة بحسنة يُرفع درجة تُمحى سيئة، لا يتذكر هذا الحديث أثناء المشي بسبب تعودّه، وكذلك لا يتفطن للتفكر في أدعية الصلوات، أو أذكار الصلوات؛ مثل: دعاء الاستفتاح فينسى ولسانه متعود أن يقول كلما كبّر: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وينبغي أن يتفطن في معنى: تعالى جدُّك، تبارك اسمك، لا إله غيرك الله، أكبر أكبر من ماذا؟ التحيات لله والصلوات والطيبات السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين كلما قال السلام علينا وعلى عباد الصالحين أصاب بدعوته كل عبد صالح بين السماء والأرض، فهل يستشعر عندما يقول الواحد منا في الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أنه يصيب بدعوته هذه كل عبد صالح بين السماء والأرض، فإذن، لا بد أن نمنع تحول العبادات إلى عادات من الأمور الأخرى المهمة.
تلاوة القرآن الكريم هذه من أعظم الوسائل التي تربي في النفس أشياء كثيرة لما احتواه هذا القرآن من الكنوز العظيمة هذا نعمة من الله هذا حبل بيننا وبين الله، القرآن حبل بيننا وبين الله إن تمسكنا به لم نضل أبداً، فيه التصورات والأفكار والمفاهيم والمبادئ التي يجب على الإنسان أن يأخذها فتعاهد النفس بتلاوة كتاب الله وتدبر ذلك وفهمه يمنع من الزيغ والعصيان إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29، 30]. وقد أخبر ﷺ بأن: "خير الناس من تعلّم القرآن وعلّمه" ثم حتى قراءة القرآن حتى العبادة المعينة يختلف فيها الأشخاص، بعض الناس يميلون إلى عبادة معينة فنقول: لا بأس أن تكثر منها، واحد يحب مجال الصدقات عنده واسع يحب أن يتصدق كثيرًا، كانت زينب تسمى بأم المساكين وكانت تتصدق وكانت أسرع أزواجه لحوقا به ﷺ هي زينب أطولهن يداً؛ لأنهن كانت تتصدق، وإذا ما وجدت تعمل بيدها وتبيع لتأخذ الثمن وتتصدق به، أو تعمل شيئًا تتصدق به، هناك ناس عندهم محبة لأبواب معينة من الخير، هناك ناس يحبون الجهاد أكثر من بقية العبادات، هناك ناس يحبون قراءة القرآن أكثر من بقية العبادات، هناك ناس يحبون الصدقات أكثر من بقية العبادات، هناك ناس عندهم نشاط في الصوم تجده يصوم كثيراً، هناك ناس يحبون قيام الليل والصلوات، هناك ناس يحبون التبكير إلى المساجد، عند هذا التبكير إلى المسجد شيء أساسي والجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد شيء أساسي، فهل هذا خطأ أن الإنسان يكون في عبادة من العبادات أنشط منها في غيره؟ لا، وإنما هذا شيء طيب يكثر، إذا وجدت نفسك مقبلة على عبادة معينة اعمل فيها، لكن لا تنس بقية المجالات ما دمت محافظاً على الفرائض في جميع الأنواع.
وإذا جئت على تلاوة القرآن، بعض الناس تختلف ظروفهم، قال الإمام النووي - رحمه الله -: "المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ: مثل العلماء، إذا قرأ العالم القرآن غير ما يقرأ واحد منا القرآن؛ لأنه يبدو له من أنواع المعارف ولطائف الفكر والاستنباطات من الآيات أشياء مذهلة، ولذلك فهو إذا قرأ القرآن يقرأ أشياء يسيرة يتفكر فيها يتدبّر يتأمل يستخرج أشياء عظيمة، "وكذلك من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الحكومات" يعني: القضاء بين الناس المشاجرات فض الخلاف كالقاضي أو غير ذلك "من مهمات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله" [مرقاة المفاتيح: 4/1502].
فإذن، قد يكون الإنسان مشغولاً بشيء معين ينفع المسلمين ما نلزمه بقراءة القرآن كشخص متفرغ ما عنده ذاك العمل الذي ينشغل به في مصلحة المسلمين وهذا ما نفسر به أحياناً أن بعض الناس من العباد يُنقل عنهم عبادات ما نُقلت عن أبي بكر وعمر أقول: أحياناً تقرأ في السير تجد بعض السلف وردت عنهم عبادات ما نقلت عن أبي بكر وعمر؛ لأن أبا بكر وعمر كانا منشغلين بتصريف أمور الدولة وسياسة الأمة وقيادة الناس وتجهيز الجيوش وتنظيم الأموال ومراقبة الولاة ومحاسبة الأمراء، فهذا الشيء يأخذ وقتاً طويلاً، ولذلك لا يمكن أن نقول: ينبغي أن يقرأ مثل غيره من الناس المتفرغين للقرآن، لا، ولذلك تأمل الروايات الواردة في قراءة القرآن تجد: اقرأ القرآن في كل أربعين مرة، اقرأ القرآن في كل شهر اقرأ القرآن في كل كذا ما فقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث [رواه أحمد: 6546، وأبو داود: 1390، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1157]. الناس يتفاوتون بحسب الكسل المفروض يعني إذا تفاتوا بقراءة القرآن بحسب الانشغالات التي هم مشغولون بها في نفع الإسلام والمسلمين.
وكذلك فإن من التربية في العبادات الأذكار الشرعية والمتنوعة أذكار اليوم والليلة والأذكار في المناسبات المختلفة عند الطعام وانتهاء الطعام ودخول الخلاء والجماع ودخول البيت والخروج من البيت، ودخول المسجد والخروج من المسجد وأدعية كثيرة جدًا، وعند نزول المطر ورؤية البرق والرعد، وعند الغضب وعند وعند، فالمناسبات كثيرة وكل واحد من المناسبات فيه ذكر من الأذكار، ثم إن هذا الذكر هذا الورد الذي من المفترض أن يكون لكل إنسان منا يهذب نفسه به هذا شيء ضروري وأساسي قال ابن القيم - رحمه الله -: "وحضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد هذه الغذاء سقطت قوتي، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي أو إراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر" [الوابل الصيِّب: 42]. فلذلك كان صمتهم فكراً ونطقهم ذكراً - رحمهم الله -.
وشكا رجل للحسن البصري قسوة قلبه؛ قال: قلبي قاس قال: "أدّبه بالذكر" [رواه البيهقي في الشعب: 2/180].
لّينه بذكر الله، لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله [رواه أحمد: 17680، والترمذي: 3375، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7700]. فهذه القلوب تصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وجلاؤها بالذكر فإذا جلت بالذكر صارت كالمرآة الصقيلة وأي شيء يجلو صدأ القلب؟ أمران: الاستغفار وذكر الله - سبحانه وتعالى - وقيام الليل، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام [رواه الترمذي: 2485، والحاكم: 4283، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7865]، كما أوصى رسول الله ﷺ أحد الصحابة، شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس [رواه الحاكم: 7921، والطبراني في الأوسط: 4278، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 73]، عليكم بقيام الليل فإنه دأْبُ الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد [رواه الترمذي: 3549، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4079].
ومن يتخَّرج من مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله، والمتخلّف عنها يابس تقسو قلوب الناظرين إليه بحسبك أن قومًا موتى تحيا القلوب بذكرهم من السلف يعني من الذين مضوا وأن قوماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم، بحسبك أن قومًا موتى ماتوا دفنوا تحيا القلوب بذكرهم، كسيرة شيخ الإسلام مثلاً، وأن قومًا أحياء من العصاة والفجرة تقسو القلوب برؤيتهم، فكان ليل الأولين يقظة وليل غيرهم نومًا، ونهار الأولين جدًا ونهار الآخرين شهوة.
قال الحسن - رحمه الله - : "لقد صحبتُ أقومًا يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سُجّدًا وقيامًا، يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم فمرة ركعا ومرة سجداً يناجون ربهم في فكاك رقابهم لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين، فرحم الله امرئً نفاسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهله منقطعة والأعمال على أهلها مردودة" [مختصر قيام الليل: 44].
يحييون ليلهم بطاعة ربهم | بتلاوة وتضرع وسؤال |
وعيونهم تجري بفيض دموعهم | مثل انهمال الوابل الهطال |
في الليل رهبان وعند جهادهم | لعدوهم من أشجع الأبطال |
بوجوههم أثر السجود لربهم | وبها أشعة نوره المتلالي |
وأمر أخر غير العبادات من الأمور التي نحتاج إليها في تربيتنا لأنفسنا - التربية الذاتية - المحاسبة.
المحاسبة تنبع من إحساسنا بيوم المعاد وأن الجزاء حاصل الحساب سيقوم، وأن أعمال العباد تُحصى، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6]، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]. فمتى ينبعث الإنسان لمحاسبة نفسه؟ إذا استشعر هذه النصوص، فالمحاسبة تُربي في الضمير في داخل النفس، تنمّي الضمير لاستشعار عظمة الله فلا يقدِم على عمل المعصية، وقد قال الله : وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]، وقال عمر: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل" [رواه الترمذي: 2459، والبغوي في شرح السنة: 14/ 309، وابن أبي شيبة: 34459].
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه" [سير أعلام النبلاء: 5/74]. انظر الآن التجار والشركاء في الشركة إذا جاء آخر السنة كل واحد يحاسب الثاني؛ أنت أخذت كذا أنت أخذت راتباً أنت سحبت مبلغ كذا في يوم كذا أنت كذا يحاسبون أنفسهم محاسبة دقيقة، فالسعيد من حاسب نفسه أكثر مما يحاسب الشريك شريكه.
قال أنس:" سمعت عمر بن الخطاب يومًا وخرجت معه حتى دخل حائطًا - بستان - فسمعته يقول بيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: "عمر أمير المؤمنين بخ بخ والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك" [رواه مالك: 2092، وأبو داود في الزهد: 53].فهذه حالهم - رحمهم الله - فينبغي ألا يغفل العاقل عن أربع ساعات؛ ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه على نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها في المباح فيما يحل ويُحمد، فإن في هذه الساعة عون له على بقية الساعات.
والمحاسبة تؤدي إلى أن تعمل العمل الذي يرضي الله تمتنع عن العمل الذي يغضب الله، تفكر قبل الإقدام على العمل هل هو مما يحبه فتعمله.
أنواع المحاسبة
والمحاسبة على أنواع منها:
أولاً: محاسبة قبل العمل هل هذا هو العمل الأفضل؟ هل هذا عمل صحيح موافق للسنة؟
ثانيًا: المحاسبة أثناء العمل هل أنا صادق مخلص في أثناء عمل أم أنا مرائي الآن؟
ثالثاً: المحاسبة بعد العمل هل قمت به كما ينبغي؟ وهل أفسدته؟ الذي يتبعون ما أنفقوا منا وأذى، أم أنك حافظت عليه وأبقيته مكتوماً ورجوت الله أن يثيبك عليه وسعيت في المزيد؟ ومن دقائق المحاسبة أن تقارن بين نعمة الله عليك وبين معصيتك له؟ قارن بين نعم الله عليك وبين تقصيرك في حقه؛ لتجد البون الشاسع بين ما ينبغي أن تكون عليه وبين ما هو حالك فعلاً.
معرفة عيوب النفس
ولا شك أن من الأمور التي تعين على المحاسبة معرفة عيوب النفس، ومما يعين على معرفة عيوب النفس شيخ صادق أو أخ ناصح، أو تأمل في النفس، وكذلك يمكن معرفة عيوب النفس من الأعداء، فإن عين السخط تبدي المساويَ، ولذلك أحياناً يستفيد الإنسان من أعدائه؛ بما يذكروه من عيوبه ومثالبه، فيفرح المؤمن أن قُيّض له شخص يفطنّه إلى عيب من عيوبه.
وكذلك فإن من التربية تربية النفس على الأخلاق الحسنة، وهذا موضوع طويل سبق أن ذكرنا فيه محاضرة بعنوان اكتسب حسنة بالأخلاق الحسنة بينا فيها طرق اكتساب الأخلاق المحمودة، وأنواع الأخلاق، فنحيل عليها حتى لا يحصل هناك تكرار في الكلام، لكن أخلاق مثل الصبر نافعة جدًا في علاج كثير من المواقف، ومن يتصبّر يصبّره الله [رواه البخاري: 1469]. وهذه الأشياء التخلق بهذه الأخلاق لا تنتج إلا بالمجاهدة وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]. فبالعلم بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين كما ذكر ابن تيمية - رحمه الله – تعالى. [مجموع الفتاوى: 3/358].
دور التعلُّم في تربية النفس
ومن الأشياء المهمة في تربية النفس: التعلُّم؛ لأن العبادة بغير علم توقع في البدعة، ولذلك التعلُّم ضروري جداً فلو واحد قال: التربية هي عبادة فقط نقول: لا، التربية هي التعلُّم فقط؟ نقول: لا، التربية هي عبادة وتعلُّم ومجاهدة الرذائل التي في النفس وحمل النفس على الأخلاق الحسنة فهذه بمجموعها تكون أركان التربية وقد ذكرنا محاضرة بعنوان: "كيف نتحمّس لطلب العلم؟" عن موضوع طلب العلم وكيف يندفع الشخص إلى طلب العلم، ولعلنا نتبع ذلك بمحاضرة عن منهج طلب العلم إن شاء الله، ولكن نقول: إن المصابرة شيء أساسي جدًا في تعلُّم العلم، وابن عباس لما قُبض رسول الله ﷺ قال لرجل من الأنصار: "هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله ﷺ فإنهم اليوم كثير" تعال نتعلم منهم فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس أصحاب رسول الله ﷺ فيهم كبار من أصحاب النبي ﷺ قال ابن عباس: "فتركتُ ذلك وأقبلتُ أنا أسأل أصحاب رسول الله ﷺ أجمع الأحاديث والعلم من هنا وهنا فإنه كان لا يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل" نائم نوم القيلولة "فأتوسّد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ﷺ ما جاء بك هلا أرسلتَ إليّ فآتيك؟" يعني هذا من حق آل البيت، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: "فأسأله عن الحديث"، قال ابن عباس: "فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني" فقال: هذا الفتى كان أعقل مني" قال الذهبي: "إسناده حسن" [رواه الحاكم: 363، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين].
فالآن هذا العلم كيف يُنال؟ يُنال بالمصابرة ويُنال بالتحمل في سبيل تحصيله ويُنال بالذل بين يدي العلماء.
قال النووي - رحمه الله -: "من لم يصبر على ذُل التعلّم بقي طول عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه - على ذل التعلُّم - آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة" [المجموع شرح المهذب: 1/37]. لأن طالب العلم يحتاج أن يذهب إلى الشيخ ويتأدب مع الشيخ ويستأذن ويكون في السؤال لطيفًا ولا يزاحم وربما قسا عليه الشيخ في لفظه أو ألفاظ وربما عنفه أمام الناس هذا لا بد أن يصبر على ذُل التعلم، وفي النهاية لو صبر على ذُل التعلم يعتز، قال بعض السلف: "ذللتُ طالباً فعززتُ مطلوباً" [تاريخ دمشق لابن عساكر: 73/185].
وقيل للإمام الشعبي: من أين لك هذا العلم؟
قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجمال، وبُكور كبكور الغراب" [سير أعلام النبلاء: 4/300].
فإذن، الرحلة والصبر والبكور إلى مجالس العلم هذه التي أورثتهم هذا العلم.
وكذلك فإن الذي لم يصبر على أخلاق من يتعلّم منه ولم يصبر على ذُل التعلم يبقى جاهلاً، وبعض الناس عندهم حياء في غير موضعه فيخجل يسأل، يخجل يجلس مع العلماء مع المشايخ، أحياناً بعض الناس يقول: يا أخي ما حكم كذا وكذا؟ يقول: والله يا أخي لا أدري اسأل أنت؟ يقول: يا أخي أنا أستحي أسأل الشيخ أنا أتصل على الشيخ وأسأل الشيخ، أيش أقول للشيخ، ما أعرف أنا أتكلم مع المشايخ في التلفون أنت أسأل لي فلماذا يستحيي؟ قال مجاهد: "لا يتعلّم العلم مستحٍ ولا مستكبر" أمران مانعان من التعلُّم: الحياء في غير موضعه والكبر.
ولذلك نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين وكانت الواحدة تأتي وتسأل عن أشياء خاصة.
اصبر على مُرّ الجفا من معلّمِ | فإن رسوب العلوم في نفراتهِ |
ومن لم يذق مر التعلم ساعة | تذوق مر الجهل طول حياتهِ |
ومن فاته التعليم وقت شبابه | فكبِّر عليه أربعًا لوفاتهِ |
وذاتُ الفتى والله بالعلم والتقى | إذا لم يكونا لا اعتبار لذاتهِ |
[ديوان الشافعي].
العلم والتقى.
وكذلك فإن من أسباب التعلُّم: السؤال، كما قيل لابن عباس: كيف نلتَ العلم؟ وصف ابن عباس بأنه: "ذا قلب عقول ولسان سؤول" [صفة الصفوة: 1/295]. وسيمر هذا معنا بعد قليل إن شاء الله.
اتخاذ القُدْوة
والنقطة التالية في موضوع وسائل التربية الذاتية هي اتخاذ القدوة يتأثر الإنسان بالأشخاص الذين يحيطون به ويتأثر بالشخصيات النفس جبلت على حب التقليد وعلى حب المحاكاة، النفس تريد أن ترى نماذج أمامها تقتدي بها وتحاكيها وتقلّدها، ولذلك فإن من وسائل التربية الذاتية العظيمة: اختيار القُدوات وتقليدهم في الخير، وحب التقليد شيء غريزي في النفس ودافع ذاتي يدفع إليه أحياناً الشعور بالنقص وقلة الخبرة والحاجة إلى الآخرين، وحب المحاكاة والمماثلة والمشاكلة، والنفس عندها استعداد ذاتي للأخذ والتلقي، الإنسان يولد وعنده قابلية للتعلم، والتعلم بالاقتداء والأخذ عن القدوة ومحاكاة وتقليد، هذا من الأمور المهمة في النفوس.
والقدوة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قدوة مطلقة؛ وهي الاقتداء بالنبي محمد ﷺ، فإنه قدوة مطلقة ﷺ في جميع أفعاله وأقواله وأحواله إلا الأشياء التي هي من خصوصياته ﷺ كالزيادة في النساء على أربع وهذا المستوى الأسمى والأعلى والأمثل هذا القدوة العظيمة محمد ﷺ هو الذي ينبغي أن نتخذه نبراساً وهدفًا ننظر في سيرته ﷺ نقتبس ونأخذ لنزكي أنفسنا، وبذلك يكون الفلاح، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. والرسول ﷺ شخصية متكاملة حباه الله بصفات عظيمة ومواهب جمّة لم تجتمع في غيره من البشر ﷺ، سيرة شاملة حتى قبل البعثة، شاب أمين وتاجر صدوق، وبعد البعثة داعية يبلّغ ما أُنزل إليه من ربه، أبٌ رحيم، زوج محبوب، قائد محنّك، مُرَبٍّ يرشد، وسياسي وحاكم عادل، ضرب المثل الأعلى في جميع النواحي في العبادة والأخلاق، الزهد والتقوى والورع، ونحو ذلك فمن أجل ذلك من أسباب تفوق الصحابة على غيرهم من أجيال المسلمين أن قدوتهم الرسول ﷺ لما جاء جيل التابعين اقتدوا بالصحابة، فنزلوا درجة، صار المستوى أقل، تابع التابعين اقتدوا أمامهم بالتابعين، فصار مستواهم أقل، ولا زالت الأجيال تتناقص، كلما كان قدوتك أعلى كلما كان مستواك أعلى، فالقدوة المطلقة النوع الأول هو محمد ﷺ، القدوة التي تليها وهي درجة أقل منها الاقتداء بالسلف، بسلف هذه الأمة وعلمائها ومجاهديها ومجدديها الذين كان لهم دور بارز في التاريخ.
عمر بن الخطاب يُقتدى به في شدته في دين الله وعدم سكوته على الباطل وعدم الرضوخ للباطل، إيه يا ابن الخطاب لو رآك الشيطان سالكاً فجًّا لسلك فجًّا آخر [رواه البخاري: 6085].
أبو بكر قبله يستفاد منه في جانب الرأفة أرأف أمتي بأمتي أبو بكر [رواه أبو يعلى: 5763، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 868].
وجوانب كثيرة جدًا؛ منها: تنوُّع الأعمال والعبادات كما ذكرنا قبل قليل، لكن الصحابة في جوانب، كل واحد تميز بجانب أكثر من الآخر، عثمان بن عفان يُقتدى به في الحياء، العلم في معاذ بن جبل، الفرائض في زيد بن ثابت، القراءات قراءة القرآن والجودة فيه أُبي بن كعب، القضاء في علي بن أبي طالب، الأمانة في أبي عبيدة بن الجراح، يأتي الخراج إلى عمر ينظر إليه أشياء لا تعد ولا تحصى جواهر لآلئ ذهب فضة حرير منسوجات، قال: "إن قومًا أدوا هذا لأمناء" ما سرقوه وتوزعوه في الجيش ومعركة بعد المعركة أدوه إلى عمر يقسمه، إن قوماً أدوا هذا لأمناء، ولو نظرت إلى عمر بن عبد العزيز في عدله إلى الإمام الشافعي في حرصه على العلم إلى الإمام أحمد في صبره على المحنة إلى الإمام البخاري في انتقاء الأحاديث، وجودة الحفظ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية في قيامه بإحياء المجتمع وإحياء الجهاد ورد كيد المبتدعة، والرد عليهم ومناقشة شبهاتهم، والوقوف أمام التتر وتأديب أهل الجبل من الباطنية، فهو قدوة، هذا درجة ثانية.
الدرجة الثانية الاقتداء بمن يستحق الاقتداء به من الأحياء، القسمين الأوليين ماتوا، رسول الله ﷺ ومن مضى من سلف هذه الأمة وعلمائها ومجاهديها.
النوع الثالث من القدوة: من يصلح للاقتداء به من الأحياء ممن يعيشون معك ممن هم حولك، صحيح أن هؤلاء ندرة وأنهم قلة لكن على المرء أن يستجمع أو يختار أكثر شخص يستجمع مواهب وطاقات وصفات حسنة، فكلما كان ذا فضل وتقوى وخُلُق حسن علم وإيمان وعبادة، فإنك تحرص على أن تتخذ منه قدوة أكثر من غيره.
ولا مانع من أن تقتبس من عدة أشخاص الجوانب الطيبة التي فيهم، ربما يقول واحد: أنا ما عندي علماء ما عندي مربون دعاة كبار، أنا أعيش مع ناس مثلي، نقول لك: لو أنك تحرص على الاقتداء سترتقي بنفسك ارتقاءً عظيماً، من وسائل الارتقاء العظيمة والتي يشعر فيها الإنسان يشعر فعلاً أنه تقدم مستواه وأنه ارتقى أن يحرص على الالتقاء باهل القدوة ويتفطن، كل واحد فيهم يتفوق في أي جانب فيأخذ منه هذا الجانب فيجتمع فيه الخير كله، ممكن ترى واحداً من إخوانك راجح العقل تفكيره سليم لا يتعجل في الأمور فتتخذه قدوة في هذا الجانب، شخص آخر مبكر للصلاة، يبكي في صلاته، خشوع في التلاوة تقتبس منه هذا الجانب، ممكن تجد شخصاً ثالثاً عنده خُلق حسن لا يؤذي أحدًا لين المعاشرة حسن الأخلاق طيبة في التعامل، فتقتدي به في هذا الجانب، يمكن أن تجد شخصاً من إخوانك باذلاً معطاءً تقتدي به، ممكن تجد واحداً من إخوانك عنده جانب الإخلاص قوي إخلاصه كبير يخفي العمل، يحاول إخفاء العمل دائمًا يخفي عمله، فتقتدي به في هذا الجانب، يمكن تجد واحداً من إخوانك حريص على القراءة جلد في القراءة يعكف على الكتاب ساعات، فتقتدي به في هذا الجانب، يمكن أن تجد من إخوانك شخصًا نشيطًا في الدعوة يتحرك باستمرار ما يكل ولا يمل وإذا صده واحد من الناس ما توقف عن الدعوة فأنت تقتدي به في هذا الجانب، يمكن أن تجد واحداً من إخوانك عنده فن في الدعوة يعرف كيف يدخل ويتسلل إلى قلوب الناس؟ وكيف يبدأ البدايات؟ ما هي الأولويات؟ فأنت تتعلم منه هذه الخبرة، فإذن، شيء مهم جداً أن ترى الناس من حولك، كل واحد ما هي الميزات الموجودة لديه؟ ما هي الخبرات الموجودة عنده؟ تقتدي به ارحل سافر قابل العلماء، قابل المشايخ اجلس عندهم تستفيد، لو حضرتَ مجلساً واحدًا من مجالس الشيخ عبد العزيز - حفظه الله - ونفع الله بعلمه تجد أشياء مفيدة جدًا، فأنت من جهة إكثار ذكره لله فهو شيء عجيب فلسانه لا يكاد يفتر، فإذا توقف عن فتوى ذكر الله، أحيانًا كنت أمشي معه في الطريق من المسجد، خرج من المسجد إلى بيته، فسألته سؤالاً فيقف ليقول دعاء خروج المسجد، يقف للسؤال ويذكّر الدعاء أو في الذهاب إلى المسجد، كنا نستغل الطريق ونسأل الشيخ، لما سألنا السؤال الأول السؤال الثاني يذكر ذكر الذهاب إلى المسجد ما يضيع الأذكار ما يفوت الأذكار فلا يقدم شيئاً على شيء هذا مناسبته ووقته ينتظر هذا حتى يتعلم يُجاب بعد قليل، وإذا نظرت إلى صبره في الإجابات، الإنسان أحياناً عندما يتصدى للناس ولا يكون بتلك الخبرة والتربية يمل وينفر ويضيق خلُقه من الناس، كل مرة جاء هذا يسأل وهذا يلح وهذا يقول: ماذا عملت في سؤالي، وهذا يتابع في القضية الفلانية، مهما كان الإنسان باله طويلاً كما يقولون وصدره متسِّعاً، لكن مع الوقت يشعر بازدحام الأشياء فيصاب بنوع من ضيق الخلق، فعندما يتأمل في مثل حال الشيخ، هذا معروض طلاق من هنا، وهذا طالب مساعدة وصدقة من هنا، وهذا أتى في مشكلة موجودة في بلد آخر، وهذا هاتف فيه واحد ينتظر على الخط، وهاتف آخر بجانبه إذا نزلت سماعة رفعت سماعة الأخرى مباشرة، وهذه امرأة في الباب تنتظر من الشيخ أن يأتي ويفتيها في مسألة من المسائل، أو تُعرض عليه مشكلة من المشاكل، وهذا يريد حلاً جاء من أقلية إسلامية في بلد من البلدان فالأمور كثيرة ولكن الرسول ﷺ يقول: إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه حديث حسن. [رواه ابن ماجة: 237، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2223].
وكنت في سفر قريب في مكة فواجهت الشيخ ناصر العمر - نفع الله به - في يده كتاب أوضح المسالك ذاهب عند الشيخ فلان الفلان الشنقيطي يدرس عليه اللغة العربية، فتحت الكتاب فإذا به يعلّق يكتب مع أنه شيخ وله محاضرات لكن لم يفتره ذلك عن طلب العلم، تذهب تلاقي الشيوخ تلاقي الدعاة تتحمس، هذا جاء من بلد بعيد يشتكي إليك بحرقة أحوال المسلمين هناك والمنصّرون ماذا فعلوا والقصور في المسلمين والقصور في ولاة أمور المسلمين في تلك البلاد والمناهج المنحرفة فتنشط، تحس أن هناك جوانب الأمة ما يمكن تخلو من خير أبدًا، والحكمة يمكن أن تلتمسها أحياناً عند كبار السن، بعض كبار السن من العقلاء تجد عنده حكماً ليست عندك، ربما لا يكون داعية ولا مربٍ ولا طالب علم، لكن أحيانًا يعطيك خبرة يعطيك حكمة استفادها من طول حياته ومعاشرته للناس إذا حفظتها فعلاً تستفيد منها، حتى في الأشياء الدنيوية، واحد شايب يقول: يا أخي إذا شغلت أولادك معك في التجارة لا تحاسبهم وإذا حاسبتهم أخذوا في جيوبهم من هنا ومن هنا خلهم يشتغلون هم ويعملون، لا تدقق معهم في الأشياء، حتى في القضايا الدنيوية تجد هناك من الناس من يتكلم بأشياء فيها خبرات هذه ثمينة لا تقدر بمال؛ لأنها ما جاءت من كتب وقراءة جاءت من ممارسة والذي يعرض عليك الشيخ من خبرته وممارسته خذه هدية ثمينا جدًا احفظها ولا تضيعها، فالذي أريد أن أقوله: أن القدوات وإن كان نحن ما عشنا في عصر رسول الله ﷺ وفات علينا أجر عظيم في الصُّحبة وما رأينا رسول الله ﷺ وعايشنا نزول الوحي، لكن لا يمكن أن تخلو الأمة من خير ومن ناس حولك شخص عنده قدرة على التوفيق بين دراسته أو وظيفة ودعوته وطلبه للعلم، فأنت أيضًا من خلال هذه الشخصية تستطيع أن تستفيد في كيفية التوفيق والأخذ بجميع المهمات والقيام بالأعمال، فإذن، هذا الاقتداء وهذا الأخذ يكمِّل نفسك ويرتقي بها لو أحسنت الأخذ، وفعلاً العاقل الذي يستفيد من غيره يأخذ من كل شخص ما هو مجيد فيه.
وقال الشاطبي - رحمه الله - : "وحسبك أنك لا تجد عالماً اشتُهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتُهر في قرنه بمثل ذلك" [الموافقات: 1/144]. أنه أخذها من غيره، هذا الخلق اقتبسه من غيره، المسألة اقتباسات.
يقول ابن القيم: فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ،وهل الغالب عليه الهوى أو الوحي، فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة وأمره فُرُط لم يقتد به، وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره، فليتمسك بعروته" [الوابل الصيب: 41].
وهذا الاقتداء من نتائج الملازمة، إذا رأيت أحدًا فيه دين وخير وحرص الزمه تتقدم بسرعة، ولذلك يمكن أن تضع قاعدة وتقول: يتناسب تقدم الأشخاص في تربيتهم الذاتية لأنفسهم تناسباً طردياً مع كثرة ملازمتهم للقدوات، فكلما ازدادت ملازمتهم للقدوات كلما تقدم مستواهم، كلما ازداد احتكاكهم ومعاشرتهم بالقدوات، كلما تقدّم مستواهم والإنسان إذا كان وضيعاً، أو إذا كان إنساناً مهملاً سيعايش الهمل مثله من الخلق مضيعي الأوقات والناس الذين في مثل حاله فلا يتقدم مستواه ولا يتحسن، لكن إذا طلب الأحسن والأفضل يعاشر هذا على أحسن ما فيه ويخالط هذا ويتنقل وربما يسافر لأجل يحصل فائدة، لا مانع، هذا شيء مهم جدًا، هذه مسؤولية عن نفسك، إن لنفسك عليك حقًا [رواه الترمذي: 2413، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 2413].
أخي لن تنال العلم إلا بستة | سأنبيك عن تفصيلها ببيان |
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة | وصحبه أستاذ وطول زمان |
[الآداب الشرعية والمنح المرعية: 1/ 216]
كما قال الشافعي - رحمه الله - تعالى.
فتلفت يمينًا وشمالاً لن تعدم من إخوانك أو أساتذتك أو شيوخك، لن تُعدم أن تجد قدوة أو قدوات في مسجد أو مدرسة أو جامعة، فابحث عن هذه البُغية ولا تتردد في الاسترشاد بآراء هؤلاء ومشورتهم.
ويمكن أن نذكر أيضًا مستوى، أو نقول هذا المستوى هو المستوى الرابع، وهم الناس الذين في مثل حالك تأخذ منهم الصفات التي يتميزون عنك فيها، فليسوا رسول الله ﷺ ولا السلف من الصحابة وغيرهم ممن ماتوا، ولا من المشهورين من الأحياء والعلماء والدعاة من الأحياء، لكن ناس في مثل سنك وفي مثال حالك، لكن كل واحد يتميز عنك بجانب من الجوانب أنت تفتقد إليه أو أنت مقصر فيه، تأخذ منه هذا الجانب، هؤلاء الجلساء الصالحون هؤلاء الرفقة الطيبة والجماعة الصالحة التي تعيش في كنفها مؤثرا ومتأثرًا، وهذا يبين أن التربية الجماعية تكمل التربية الفردية، وأنه لا غنى لكل واحدة منهما عن الأخرى، ولا الفكاك، وإنما هي عملية متكاملة.
وإذا أراد امرؤ أن يربي نفسه فليختر الرفقة التي تذكره بالله إذا نسي وتدلّه على الهدى إذا غفل وتعينه إذا فعل وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]. وهذا هو الجليس الصالح الذي وصفه ﷺ.
محاذير وضوابط لا بد أن تراعى في مسألة القدوة
وهناك أمور من المحاذير والضوابط لا بد أن تراعى في مسألة القدوة وأنت تربي نفسك تربية ذاتية:
أولاً : كل واحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول اللهﷺ فلا تقل: هذا فلان أتعصب له وأعكف عليه حتى أتشرب كل ما لديه فربما يكون عنده خطأ من الأخطاء.
ثانياً : إن أعمال القدوات وأحوالهم وأقوالهم لا بد أن تعرض على الكتاب والسنة لترى مدى قربها وبعدها فتأخذ الموافق وتترك المخالف للكتاب والسنة.
ثالثاً : لا يصح أن تفنى شخصيتك وأنت تربي نفسك فناء تامًا في شخصية الشخص الآخر الذي تقتدي به، هذا شيء عند الصوفية يقولون: ينبغي أن تمحى شخصية المريد في شخصية الشيخ وتذوب بالكلية وهذا خطأ، لذلك بعض الناس من أخطائهم في الاقتداء أن يقلد شيخه في مشيته وطريقة كلامه وطريق لبسه، وهكذا من القضايا الشخصية التي لا علاقة لها بالعبادة ولا بالعلم، ولا بالأخلاق الحسنة ولا بالأشياء المطلوبة أنك تتلقى وتقتدي بها.
السؤال والحوار
ومن الجوانب المهمة أو من الوسائل المهمة أيضًا في التربية الذاتية السؤال والحوار، الحقيقة أننا يمكن أن نكتسب أشياء كثيرة تنمي جوانب في نفوسنا من المناقشة والحوار، والله أمرنا بالسؤال سؤال أهل العلم فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]، الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59]. وسكوت الإنسان على جهله يكلّفه شيئًا غير قليل من الآلام والمتاعب والأمور التي كان يمكن أن يحسّنها ويتجنبها لو أنه سأل، وقد ذكرنا في قضية طلب العلم أشياء متعلقة بالسؤال وفعْل نساء الأنصار وفعْل ابن عباس، قال: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ" [سير أعلام النبلاء: 3/344]. وأنت تستطيع أن تنمّي جوانب في نفسك من خلال السؤال عن أشياء تحتاج إليها، سواء من جوانب العلم الشرعي أو الخبرة، أو أشياء تتعلق بكيفية الدعوة ونحو ذلك، حتى مسايسة الزوجة أحيانًا تضطر أن تسأل فيها؛ كيف أعامل زوجتي؟ كيف أعامل جاري؟ كيف أعامل صديقي؟ فهذه أشياء تحدث تتكمل في نفسك من نتيجة السؤال والمناقشة.
لا يذهبن بك التفريط منتظرا | طول الأناة ولا يطمح بك العجلُ |
فقد يزيد السؤال المرء تجربة | ويستريح إلى الأخبار من يسلُ |
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها | ولا البصير كأعمى ما له بصر |
فاستخبر الناس عما انت جاهله | إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر |
ولذلك إذا أرادت أن تستفيد من السؤال لا بد أن تتأدب بآداب السؤال فلا ترفع صوتك في السؤال، ولا تقاطع غيرك وأن تراعي اختيار الألفاظ المناسبة والأوقات المناسبة، فأحياناً بعض الناس قد يريد ان يسأل شيخاً أو عالماً فيختار وقتاً غير مناسب فيضجر منه العالم وقد يجيبه بجواب غير مناسب، أو يصرفه عنه صرفاً يصاب معه الشخص بالإحباط فينبغي إذن أن يكون هناك انتقاء للأوقات المناسبة وتواضع واحترام واستيعاب وتلقي حسن لفهم الجواب.
وبعض الناس يستنكف يقول: أنا أسأل؟ أنا عارف كل شيء أنا لماذا أسأل؟ فمن عوّد نفسه على السؤال زادت ثقته بنفسه وشعر بالطمأنينة والارتياح لمعرفة الإجابة وأن الشيء الذي كان يشغل ذهنه وباله قد انحل ووجد الجواب عليه وكذلك فإن الحوار من الأمور التي تنمّي الشخصية، نحن أحياناً يمكن يجلس بعض الإخوان مع بعض يتحاورون ويتناقشون في مشكلة من مشكلات العالم الإسلامي، في تحليل خبر وحدث وقع ومعرفة خلفيات هذا الخبر والحدث، هناك عيب من العيوب الموجودة في الوسط الذي هم يعيشون فيه، حوار ومناقشة في مسألة علمية، أيها الإخوة إن النقاش والحوار الهادف يثقّف النفس ويفتح آفاق في النفس النقاش والحوار، هناك أشياء لا تظهر لك أحياناً إلا بالحوار مع غيرك؛ لأن عقولكم يكمل بعضها بعضا وآراؤكم في تكامل في بعضها لبعض وهذا من بركة التربية الجماعية، الله دفعنا وأمرنا بالتفكر، قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46].
وهذا الحوار ينبغي أن يكون حواراً هادفاً، فلا بد أن نفرّق بين الحوار الهادف وبين النقاش والجدل العقيم، فالحوار الهادف فيه استعادة للمعلومات ومراجعة لها وتثبيت، وكذلك كما قال الزهري: "إنما يذهب العلم بالنسيان وترك المذاكرة" [سير أعلام النبلاء: 5/337].
ويقول آخر: "مطارحة ساعة مناقشة ساعة أحياناً خير من تكرار شهر: لأنها تثبت المعلومات والحوار، ينبغي أن يكون على أسس سليمة حتى يكون مفيداً، ليس أي نقاش يفيد فإن كثيراً من الشباب في الحقيقة يضيعون أوقاتهم وأوقات غيرهم ويحبون الخصام والمجادلة وليس نقاشهم حواراً مفيدًا وإنما هو حوار غير مفيد، ولذلك الحوار المفيد له أصول فمنها حسن الاستماع والإنصات للرأي الآخر الطرف الآخر، وعدم الاستئثار بالحديث.
ثانياً: الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران في النقاش.
ثالثاً: التسليم بالخطأ إذا اتضح أن كلامك خطأ تنظر بعين العدل والإنصاف وتعترف بالخطأ.
رابعاً: أن تراقب نفسك أثناء الحوار لكي لا يخرج الحوار عن طبيعته الهادئة.
خامساً: التواضع إذا اتضح أن رأيك هو الأصوب وإنما تتواضع وتتجنب الشماتة واحتقار إخوانك المسلمين.
والحوار هذا ينبغي أن يطول عليه الكلام لكن نكتفي بما ذكرنا حوله.
وننتقل إلى وسيلة أخرى من وسائل التربية الذاتية وهي وسيلة مهمة جداً ألا وهي العزلة والخلطة وما هو النافع في كل منهما أو هل ينبغي أن نعتزل دائماً أو نختلط دائماً؟ فإن بعض الناس يتصور أنه لكي يربي نفسه لا بد أن يعتزل طيلة الوقت لا بد أن يعتزل شهراً شهرين ثلاثة سنة حتى ينمي نفسه، فالعزلة والخلطة كلاهما مطلوب ولا يمكن للإنسان المسلم أن يعتزل فقط أو يختلط فقط إلا في حالات نادرة كالعزلة إذا تفشت الفتن ولم يعد هناك فائدة من مجالسة الناس وإنما هو شر كله فيعتزل كما هو الحال سيكون ربما قرب قيام الساعة.
العزلة فيها فوائد، إذا اعتزلت صفا ذهنك تفرّغت للعبادة والتفكر والاستئناس بمناجاة الله وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا [الكهف: 16]، وأهل الفسق والباطل ينبغي اعتزالهم ومفاصلتهم كما قال إبراهيم لقومه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي [مريم: 48]. الاعتزال يفيد في الابتعاد عن المعاصي إذا كان الوسط سيئًا، فأحيانًا يمكن أن تنجو من غيبة ونميمة ورياء وتزين للناس باعتزالك وقد قال ﷺ: تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه [رواه البخاري: 6058، ومسلم: 2526]. فلو لم يكن في العزلة أحيانا إلا السلامة من آفة الرياء والتصنع للناس وما يدفع إليه الإنسان إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم وخداع ومواربة في رضاهم لكان هذا كاف في العزلة في هذه الحالة" كما قال الخطابي - رحمه الله – تعالى. [العزلة للخطابي: 26].
وعند الفتن العزلة مهمة، الماشي فيها خير من الساعي قالو: فماذا تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم [رواه أحمد: 19662، وأبو داود: 4262، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 5399].
وكذلك العزلة فيها سلامة من شرور الناس، أحيانًا الإنسان قد يتكالب عليه حسدة وماكرين وطماعين فيما عنده ومؤذين، ولا بد يضعوا له سحراً أو يصيبوه بالعين، فهنا اعتزالهم خير في هذه الحالة.
أما الخلطة فإنها مهمة في جوانب أيضاً، فمن ذلك التعلُّم والتعليم كيف تعلّم غيرك وتتعلم أنت إذا ما اختلطت بالعلماء وطلبة العلم.
ثانياً: التأدُّب بالآداب الإسلامية، فكيف تحسن التعامل إذا ما تعاملت واختلطت وكيف تروض نفسك على تحمل أذى الآخرين إذا لم تخالط ألم يقل ﷺ : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم [رواه أحمد: 5022، وابن ماجة: 4032، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 939].
ثم إن المخالطة أحياناً فيها ترويح عن النفس، فيها بث هموم فيها مشاركة في الغموم، فيها طلب مساعدة من الإخوان المخالطة مهمة، ثم إن هناك عبادة لا ننسى على رأس كل ذلك لا تتم إلا بالخلطة كالجمع والجماعات والجهاد وأداء الحقوق المفروضة بين المسلمين، كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة ومجالس الذكر التي يباهي الله بها الملائكة واستئناس بالإخوان أنك لست وحدك، فهذا من فوائد الخلطة.
ومن فوائد الخلطة بالطيبين أيضاً: معرفة كيد الأعداء، فإن المسلم المعاصر يعيش في ظروف قاسية والباطل اليوم له صولة وجولة، والجاهلية المعاصرة تخطو بوسائل حديثة نحو الإفساد، ولا يمكن للإنسان أن يعرف ما يدور حوله بتفصيل وبشكل مفيد إلا إذا كان هناك من إخوانه من يغذيه بالأخبار يعطيه الأنباء، يقدّم له تحليلات جيدة ومفيدة يبين له الموقف في مثل هذه الأوضاع والظروف، وهكذا هذا العلم بالواقع مهم، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55] فإذن، هذه الخلطة مفيدة في جانب معرفة كيد الأعداء، والآن في هذا الوقت بالذات نجد كثيراً من الإخوان إذا اجتمعوا كل واحد يقول: رأيت منكراً في المكان الفلاني، سمعتُ الخبر الفلاني، كيف يكون الموقف الصحيح في هذه الفتنة أو في هذه المحنة أو في هذا الظرف أو في هذا الحدث؟ كيف نضبط انفعالاتنا؟ كيف نتجنب جر الصحوة إلى ضربة قاصمة توجّه إليها؟ وكيف نكتفي شرًا عظيما بأن نروِّض أنفسنا بالتحكم فيها حتى لا نُستثار ونُستجر إلى معركة وهمية ليست من صالح الإسلام والمسلمين؟
والمخالطة أيضا تنتج إحساسك بآلام إخوانك في الأماكن المختلفة، فالمؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الرأس لما يصيب الجسد، ولذلك المؤمنون كرجل واحد فكيف تحس بآلام وآمال إخوانك المسلمين إذا لم تخالطهم؟ فالخلاصة: أن العُزلة فيها فوائد والخلطة فيها فوائد ما في شيء اسمه عزلة بإطلاق ولا خلطة بإطلاق لا بد يكون للإنسان فترات يعتزل فيها بنفسه يختلي فيها بنفسه وفترات يختلط فيها بالناس إذا غلب الشر صار جو فتن عام ولا يمكن لا إخوة في الله ولا شيء يعتزل إلى رأس جبل يأخذ قطيعاً من الغنم ويكون خير مال المرء المسلم ويؤذن على رأس الجبل ويباهي الله به الملائكة وهذا يكون حاله إذا صار مثل في آخر الزمان يكون الوضع مشابهاً لما ذُكر.
ومن تربية النفس: التعويد.
إذا كان عندك فعل مكتسب تكرر باستمرار يصبح عادة، وهذه العادة مهمة، ترويض النفس على الأشياء إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت: 30]. فالاستقامة تحدث بالتعويد والترويض، وهذا ضمان إلى الوصول إلى النهاية وعدم الوقوع في منتصف الطريق وعدم الانتكاس، ولذلك يقول ﷺ لعبد الله بن عمر: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل [رواه البخاري: 1152، ومسلم: 1159].
وكان يقول ﷺ: أديموا الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد [رواه أحمد: 3669، والترمذي: 810، وصححه الألباني في المشكاة: 2524]. هذا التعوُّد مهم، التعوُّد على الحج على العمرة على قيام الليل تعوّد سهر الليل فإن النوم خسران ولا تركن إلى الذنب فإن الذنب نيران
والنفس كالطفل إن ترضعه شبّ على | حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمُ |
والرسول ﷺ أوصانا في بعض الأعمال بالمداومة وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع والدليل: أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل [رواه مسلم: 216]. والله لا يمل حتى تملوا [رواه أبو داود: 1238، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1229]. معنى الاقتصاد في العمل قليل دائم، المهم دائم مهما كان حجمه المهم دائم، أحسن من المنقطع الكثير إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً على طاعة ملك ورفضك وإذا رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك .
ملء الفراغ
ينبغي أن يكون من الأسباب التي تعين على التربية الذاتية ملء الفراغ، بعض الناس عندهم فراغ عقلي، وبعض الناس عندهم فراغ قلبي، وبعضهم عندهم فراغ حسي، ما عنده أشياء يقوم بها ويملأ بها فراغه ولا شك أن ملء الفراغ بالأشياء التي ذكرناها بالعبادات وطلب العلم والدعوة إلى الله مخالطة الإخوان ونحو ذلك، أقول: إن هذه كلها من الأشياء التي تسبب القضاء على الفراغ وتسبب النمو والارتقاء لنفسك يا أخي المسلم، واللهو المباح له دور، كان جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرتميان - يعني الرمي - فملّ أحدهما فجلس فقال له الآخر: كسلتَ سمعتُ رسول اللهﷺ يقول: كل شيء ليس من ذكر الله عز جل فهو لغو ولهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين وتأديبه فرسه وملاعبته أهله وتعلُّم السباحة وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة. [رواه النسائي: 8889، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 315].
ولذلك إيانا والإفراط في النوم أو الانغماس في الملهيات المحرمة كبرامج التلفزيون، وما أكثر منها الآن بعد تعدد هذه القنوات المختلفة، وهذا التلفزيون من أعظم الأشياء التي يأتي بالكسل والسلبية؛ لأن مشاهد التلفزيون يجلس ساعات أمام الجهاز فقط يتلقى ما يعمل شيئاً آخر لا يتفاعل، فمن السلبية الكبيرة ما يحصل من العكوف على هذا الجهاز.
الحقيقة بقي هناك اشياء في التربية الذاتية مثل أنك تحاول وتخطئ لتتعلم أحياناً تصحح خطأك، المساجد ودورها في تخريج الناس، أصحاب التربية الذاتية الفردية سياسة النفس والتفطن لعيوبها العصامية وضبط الانفعالات والحرص الذي هي من معاني المجاهدة، كل ذلك من وسائل التربية الذاتية، ولعلنا يتاح لنا الفرصة في الكلام عن هذا الموضوع، لكن قد أتينا والحمد لله على أكثره ومعظمه مما جهزنا لكم في هذه الليلة ولقد طال بنا المجلس فنكتفي بما ذكرنا ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا بعبادة الصالحين مرافقين لهم وحريصين على الاقتداء بالقدوات الصالحة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله تعالى أعلم، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك