مقدمة
في هذه الليلة من ليالي هذا الشهر الكريم نسأل الله أن يزيدنا فيها نورًا وهدى وصلاحًا وفلاحًا ديننا عظيم، ولا بد أن يكون أبناؤه وبناته على مستوى هذا الدين في العقيدة، في الأخلاق، في العبادة، في الآداب في السيرة الحسنة، في الدعوة، إننا بحاجة ماسة في هذا الزمان إلى أبناء وبنات الإسلام يحملون هذا الدين، يتعلمونه يعلمونه، يعملون به، الإسلام يُهاجَم، الهجمات شرسة، الأعداء لا يوفرون فرصة؛ فتارة يطعنون في شريعته، وتارة في كتابه، وتارة في نبيه، وهذه سهامهم تتوالى، ولا يكفون عن السخرية والاستهزاء، إنها حرب نفسية شرسة على هذا الدين، وديننا عظيم قويم، هذا الدين متين، لا بد أن يكون له من أوليائه من ينصره، ليس العيب في الزمن كما يحلو للبعض أن يفعل لكن في أبناء الزمن.
نعيب زماننا والعيب فينا | وما لزماننا عيب سوانا |
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب | ولو نطق الزمان بنا لهجانا |
والدين العظيم يحتاج إلى شخصيات عظيمة لحمله، تمنى الصحابة أُمنيات؛ فقال عمر : "لكني أتمنى أن يكون لي مثل هذه الحجرة رجال أمثال أبي عبيدة" [رواه الحاكم: 5005، وأحمد في فضائل الصحابة: 1280، والأصبهاني في الحلية: 1/102]. عندما نكون نحن المسلمين أصحاب تميز في شخصياتنا علمًا وعملاً نعيش لله نضحي لله، نعطي لله نأخذ لله، نحب لله نبغض في الله، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162].
عندما يكون تفوقنا بهذا الدين بهذا الإسلام، عندما يكون الواحد منا مؤمنًا قويًا، كما قال ﷺ: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير [رواه مسلم: 2664]. القوي بجسده القوي بإيمانه القوي بعلمه القوي بدعوته القوي بتأثيره الذي يخالط الناس يصبر على أذاهم، يتقرب إلى الله بما يحبه الله بعد الفرائض بالنوافل، لا يسمح للعبادات أن تتحول إلى عادات، وهو لا يمكن أن يخل بالأولويات فيعتني بنافلة على حساب الفريضة، ويقدّم الواجب على المستحب، هو مخلص لله يستوي عنده المدح والذم، ينسى العمل بعدما يعمله ويرجو من الله أن يتقبّله، هو يخفي من الطاعات ما يستطيع، وما كانت المصلحة الشرعية في إظهاره أظهره، هذا رجل العقيدة هذا الإنسان المتميز صاحب الشخصية العظيمة الذي يريد أن يتمثل القرآن، نحن بحاجة إلى ناس يتبعون النبي ﷺ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة [الأحزاب: 21]. كان خُلُقه القرآن.
وعندما يعيش المسلم بالقرآن على هدي هذا الكتاب العزيز فإنه سيصبح شخصية تجاهد الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، تجاهد المنافقين وأعداء الدين الإنسان يجاهد نفسه، فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37 - 41].
الهوى يهوي بصاحبه في النار، النفس تتمرد على الحق، فلابد من مجاهدتها، هناك عدو خارجي وعدو داخلي، لا بد أن تعرف حقيقة نفسك يا عبد الله ويا أمة الله، وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54]. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37]، هناك طبائع في النفس لا بد من معالجتها حتى تستقيم هذه النفس على طاعة الله، لا بد أن نقبل على الله أن نكون أصحاب شخصيات، عندنا شفافية، عندنا لهذا الدين ولاء، عندنا لله قومة، عندنا غَيْرة على هذا الإسلام ونكون على صلة قوية بربنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها لا بأس أن الإنسان يكره نفسه على فعل الخير حتى يصبح الخير عادة ويصبح سجية، إذا ما عدت النفس على الحق زجرناها وإن مالت عن الأخرى إلى الدنيا منعناها تخادعنا ونخدعها وبالصبر غلبناها.
نحاسبها قال أبو مسلم الخولاني - رحمه الله- : "نفسي إن أكرمتها وودعتها ونعمتها ذمّتني عند الله غدًا، وإن أنا أهنتها وأنصبتها وأعملتها مدحتني عند الله غدًا" محاسبة النفس، "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا" [رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق: 306، وابن أبي شيبة في مصنفه: 34459، وهو من قول عمر رضي الله عنه].
إن المؤمن والله - كما يقول الحسن - ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل، يقول: "ما عملتُ شيئًا، الذي عملته قليل فيندم ويلوم نفسه، "وإن الفاجر ليمضي قُدُمًا لا يعاتب نفسه" [إغاثة اللهفان: 1/130]. هذه المحاسبة قبل العمل على أي منهج سيعمل ولمن سيعمل؟ وأثناء العمل يسأل الله أن يستمر على الإخلاص فيه، وبعد العمل هل قصّر فيه أم لا؟ عندما تتصف الشخصية الإسلامية المتميزة بالثوابت وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه فلا تنحرف عنه، خط النبي ﷺ خطًّا، ثم قال: هذا سبيل الله ثم خطّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سُبُل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ النبي ﷺ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [رواه أحمد: 4142، وحسنه الألباني في المشكاة: 166].
فإذن، لا بد أن نثبت صحة المحبة التي ندعيها نقول: نحب الله ورسوله، أين الدليل؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31]. أين الاتباع؟ وكذلك فإنه لا بد أن نأطر أنفسنا على منهج الحق، وأن نوالي ربنا - سبحانه - وليست القضية ارتباط بشخصيات إذا ذهبت ذهبنا، وإذا سقطت سقطنا، لا، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 144].
ولذلك أبو بكر الصديق قال: "من كان يعبد محمدًا ﷺ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت" [تفسير ابن كثير: 2/129].
قيل لخالد بن الوليد وقد أسلم متأخراً: أين كان عقلك يا خالد فلم تر نور النبوة بين ظهرانيكم؟
قال: "أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال".
ولذلك الواحد لا يكون مقلّداً أعمى، يتبع الحق ولا يتبع الرجال، ولذلك جاءت أقوال العلماء؛ "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، إنما أنا بشر أخطئ وأصيب" [سير أعلام النبلاء: 8/248].
وليس أحد بعد النبي ﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويُترك" [جامع بيان العلم وفضله: 2/925].
لا تقلدني ولا تقلّد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا، هذا الكلام موجّه لأهل العلم، أما العامي يقلِّد العلماء بلا شك.
نظم بعضهم:
قال أبو حنيفة الإمام | لا ينبغي لمن له اسلام |
أخذاً بأقوالي حتى تعرضَ | على الكتاب والحديث المرتضى |
ومالك إمام دار الهجرة | قال وقد أشار نحو الحجرة |
كل كلام منه ذو قبول | ومنه مردود سوى الرسول |
والشافعي قال إن رأيتموا | قولي مخالفاً لما رويتموا |
من الحديث فاضربوا الجدار | بقولي المخالف الأخبار |
وأحمد قال لهم لا تكتبوا | ما قلتُه بل أصل ذلك اطلبوا |
دينك لا تقلّد الرجال حتى ترى أولاهم مقالا
فاسمع مقالات الهداة الأربعة | واعمل بها فإن فيها منفعة |
لقمعها لكل ذي تعصُّب | والمنصفون يكتفون بالنبي |
[من أرجوزة للشيخ محمد سعيد سفر].
ادخلوا في السلم كافة، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208].
بعض الناس يقولون: صلّينا صُمنا زكينا حجينا ماذا تريد أن نفعل أكثر من هذا؟ نقول: بُني الإسلام على خمس [رواه البخاري: 8، ومسلم: 16]. أتيت أنت بالخمس الأعمدة أين البناء؟ بُني الإسلام على خمس عندك الأعمدة وما عندك بنيان الدين كبير كثير طيب مبارك؛ صلة الرحم وبر الوالدين والإحسان إلى الجيران وتعلُّم العلم وتعليم العلم وخيركم من تعلم القرآن وعلّمه [رواه البخاري: 5027]. جميع أنواع البر والخير والصدقات إلى آخره، وكذلك أنواع الجهاد بما فيها.
تميز المسلم بشعيرة الأمر بالمعروف
وأيضًا فإنك عندما ترى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، اليوم يذمونها بعض هؤلاء المنافقين ويسخرون من الذين يقومون بها، ولذلك فلا بد أن نحمل نحن شعائر الدين، الدين عظيم، هذا الدين دين لم ينزل الله مثله، هذا أحسن دين نزل، والإسلام العام دين جميع الرسل شهادة التوحيد الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا ﷺفيه هذه الأحكام التي ميزته عن بقية الأديان، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85].
نحن يجب أن نحافظ على الدين حتى لا ينقص، لتنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة [رواه أحمد: 22160، وصححه الجامع الصغير وزيادته: 5075].
ولذلك الحذر الحذر من تضييع شيء من الدين، لا تنازلات لا تمييع لا نسمح بأن يُقال: هذه قشور، هذه أشياء تافهة، لا تهتموا بكذا، هذه سنن، هذه بسيطة، هذه هيّنة لا تسوية الصفوف، قد يظن البعض أنها قضية سهلة، ولكن النبي ﷺ هدد وتوعد بأن يخالف الله بين قلوب الذين لا يسوون الصفوف، ممكن الواحد يقول: وإذا الواحد رفع رأسه قبل الإمام ماذا سيحدث؟ قال ﷺ: أما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام أن يحول الله صورته صورة حمار [رواه البخاري: 691]. قضية شديدة والله يحصي على العباد مثاقيل الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
نحن نحتاج أن نكون شخصيات صاحبة سمو أخلاقي؛ لأن الناس قد ضيعوا الأخلاق كثيرًا، كان سلفنا يهتمون بدقائق المروءة، الواحد غير مستعد أن تُخرم مروءته ولو بشيء يسير، ولذلك كان عندهم نظافة البدن وطيب الرائحة والإصغاء للمحدث، قال أبو تمام:
من لي بإنسان إذا أغضبته | وجهلت كان الحلم رد جوابه |
وتراه يصغي للحديث بطرفــــه | وبقلبه ولعله أدرى به |
تميز المسلم بحفظ مروءته
والمسلم يتقي كل ما يقدح في مروءته، لا تريد أن تخرم مروءته، انظر إليهم الآن في هذه الجولات الفارغات الطواف بالأسواق الرقص على الأرصفة إيذاء المسلمين، وأحيانًا يزعمون ادعاء فرحة، فإذا بها اعتداء على الناس والآمنين والمحلات، إلى آخره، أين الإسلام في قلوبهم؟ ولذلك نحن ينبغي أن نكون فعلاً شخصيات متميزة تعرف معنى الدعوة وتبدأ بماذا في الدعوة، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]. لا بد أن نكون أصحاب بصيرة وهذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء، لكن نحن نسأل الله أن يؤتينا الحكمة.
وأيضًا فإننا لا بد أن نكون أصحاب وفاء، الشخصية المتميزة الوفية للإسلام وفيّة للدين، لما أُسقط في يد بعض الصحابة وهم ظنوا أن النبي ﷺ قد مات قال قائلهم: قوموا وموتوا على ما مات عليه، وهكذا أصحاب النبي ﷺ أصحاب تضحيات، فالصِّديق يقف أمام جحافل المرتدين وينفذ جيش أسامة، وأهل المدينة بأمس الحاجة إليه؛ لأن الأعراب قد حاصروا المدينة من جهات مختلفة، وهذا مصعب يهجر النعيم والدَّعة ويذهب داعية إلى الإسلام، المدينة النبوية فُتحت بالسيف؟ لا ، فُتحت بالقرآن، علي يعرض نفسه للهلاك بنومه في فراش النبي ﷺ عشية الهجرة، البراء يرمي نفسه بين الأعداء في حديقة الموت فيفتح الله على المسلمين بسببه، وأبو هريرة يعرض عن التجارات والأسواق، يلازم النبي ﷺ، قدّم تضحيات، الحسن بن علي ضحى بالخلافة درءاً للفتنة وجمعاً للكلمة، خالد بن الوليد تقبل التنازل عن قيادة الجيش طاعة لأمير المؤمنين، وضحّت أُمُّ سلمة بشمل الأسرة في سبيل الله، الهجرة في سبيل الله، وهكذا ضمن الله لهؤلاء البركة والخير والسيرة الحسنة؛ لأنهم ساروا على منوال الأنبياء، إبراهيم هجر قومه في الله، وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي [الصافات: 99]. وترك العراق إلى الشام هجرة لله، وهكذا ضحّى يوسف بالشهوة فعوّضه الله بالملك، ضحّى أهل الكهف بالراحة فعُوِّضوا براحة أعظم، والمهاجرون تركوا أوطانهم وأهلهم فعوضهم الله بالرزق والعز والتمكين وجمع شملهم بعد فُرقة، وهكذا أصحاب العقيدة، أصحاب التميز، أصحاب الشخصيات الإسلامية العظيمة الذين صبروا في الله وفي سبيل الله، بعضهم ما نال شيئًا من المغانم، مات مصعب ما أخذ شيئًا، قبل الفتوحات، وبعضهم قد فتح الله عليه، ولكن حتى الذين فتح الله عليهم لازالوا على الدين، لازالوا صابرين، أبو هريرة يحمل حزمة الحطب وهو أمير ويقول: "طرِّقوا للأمير طرِّقوا للأمير" [تنبيه الغافلين: 188].
ما غيرتهم الدنيا وما غيرتهم المناصب ما غيرتهم عندما يكون صاحب الشخصية الإسلامية صاحب هم في الدعوة فهو يدعو ليلا ونهارًا سرًا وجهارًا سرًا وعلانية في جميع الأحوال والأوقات؛ لأنه يريد العز لهذا الدين يريد انتشار هذا الإسلام،
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده | وليس عليه أن تتم المقاصد |
ولذلك ليس عليك هداهم، عليك أن تدعو وليس عليك النتيجة، عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد. رواه البخاري، نحن الآن في زمن تسلط عليه أعداؤنا، سامونا أشد العذاب، وكل يوم يخرجون علينا باستهزاء جديد وطعن جديد في الإسلام وفي النبي ﷺ، كأنهم يقولون لنا: وماذا ستفعلون؟ وما بأيديكم أن تفعلوا أصلاً؟ لكن المسلم وإن كان لا يستطيع الرد بالقوة لكن نفسه عزيزة ما يشعر بالهوان، والله خاطب المؤمنين في ذروة القتل والجراح في غزوة أحد وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10]. ولذلك فإننا أعزاء بالإسلام حتى ولو كنا ضعفاء في القوة المادية، لكن عندنا دين ليس عندهم، عندنا منهج ليس عندهم، عندنا أخلاق ليست عندهم، عندنا أحكام ليست عندهم، ما يعرفون كثيرًا من هذه الأحكام التي جاءت لسعادة البشرية، ولذلك فأنت عزيز يا مسلم مهما فعلوا ومهما قالوا، وأحياناً الواحد يصاب بنوع من الغم والهم والحزن والضيق ويقول: هؤلاء يسخرون بنبينا، وبعد رسامي الكاريكاتير السابقين الآن أخرجوا مسابقة جديدة للذي يرسم النبي ﷺ بأقبح صورة - عليهم من الله ما يستحقون -، هل هذا يغير من قيمة النبي ﷺ؟ لا، هل هذا يغير من محبة المسلمين لنبيهم ﷺ؟ والله يزيدها، هؤلاء أغبياء؛ لأنهم لو يعرفون ماذا تؤدي إليه أعمالهم من مزيد من اجتماع المسلمين على الإسلام وتمسك المسلمين بهذا الدين ومحبة المسلمين للنبي ﷺ، انظر ماذا حصل من المنافع العظيمة بنشر سيرة المصطفى ﷺ؟ أضعافاً مضاعفة بعد الهجمة الأولى له، ولذلك، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]. ولذلك مهما فعل هؤلاء يبقى ديننا عزيز والله ناصرٌ دينه مهما فعل هؤلاء، الله ناصر دينه، ولذلك لو جاء هؤلاء وسبوا الله وشتموا الله ، فلن يضروا الله شيئًا، لن يتغير شيئًا، فلن يضروا الله شيئاً ولذلك الإسلام باقٍ، والنبي ﷺ محبوب والسيرة باقية والمسلمون مقبلون عليه أكثر وأكثر، وهذا رمضان -الحمد لله- جاء والناس على مزيد من الإقبال على هذا الإسلام وحتى الأعداء الآن لازالوا يتطلعون للإسلام أكثر ويريدون القراءة عنه أكثر، والسماع عنه أكثر، ولازال هناك -والحمد لله- رواج زيادة للمواقع الإسلامية والقنوات الإسلامية وامتداد لهذا الدين، -سبحان الله العظيم- كلما كادوه كلما هاجموه كلما اعتدوا أكثر كلما انتشر أكثر، وأسلم منهم ناس أكثر وعاد من المسلمين إلى الإسلام أكثر.
قال الحسن البصري: "وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال، فإنهم ذُلّ المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذلّ من عصاه" [الجواب الكافي: 59]. ولذلك نوح لما فقهه هذا حتى لما سخروا منه قومه الكفار قال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود: 38].
عزة المسلم بدينه وعقيدته الإسلامية
ولذلك المسلمون لما كانوا أصحاب عزّة ما كانت تغرهم المظاهر، فربعي بن عامر لما أرسله سعد بن أبي وقاص إلى رُسْتم وقال له سعد: "اذهب ولا تغير من مظهرك شيئاً" لأن ربعي كانت هيئته هيئة الأعرابي، خرج بفرسه وثيابه الرثة ورمحه البسيط، فلما جاء إلى مجلس رُسْتم، قال: ادخلوه عليّ، فجعل يقود فرسه ويعتمد برمحه على بسطهم، فخرقها كلها وأفسدها، جعل يمر عليها من جميعها يخرقها يعتمد على رمحه حتى وصل إلى تلك الوسادة العظيمة، فربط حبل فرسه بها وجاء فجلس على سرير رُسْتم، فما هي القضية، فقام أولئك القوم فقال: "نحن قوم كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، أرسل الله نبيه، ابتعثه ليخرج الناس من عبادة العبادات إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام" [البداية والنهاية: 7/46]. وأبو بكر الباقلاني لما طلب ملك الروم رسولاً ليتفاوض معه أرسل إليه الخليفة القاضي أبا بكر - رحمه الله - فلما جاء إليهم، وكان المسلم لا يركع لغير الله، وقالوا: لا بد أن تعملوا لهذا شيئًا لكي ينحني، فعملوا باباً قصيراً ليدخل منه المسلم ويضطر للانحناء، فلما جاء فوجد الباب هكذا استدار فدخل بدبره، ثم اتجه إلى صليبهم الأكبر في المجلس وقال: كيف حالك؟ وكيف حال الأهل والأولاد؟ كيف الزوجة والأولاد؟ فقام كبيرهم قال: مه وقِّر صاحبنا، هذا لا يليق به الزوجة والولد، هذا فوق مستوى الشهوات، الرهبان لا يتزوجون، ليسوا أصحاب شهوة، قال: "ويلكم نزَّهتم صاحبكم عن الزوجة والولد ولم تنزِّهوا ربكم عن الزوجة والولد"
المسلمون أصحاب عزة أينما ذهبوا حتى لو واحد أمام ألف لا يضره لا يهمه ذلك.
وهذا شيخ الإسلام - رحمه الله - لما أحضره الناصر أمامه وقال له: إني أخبرتُ أنك قد أطاعك الناس وأن في نفسك أن تكون أنت على الناس، فقال له "أنا أفعل ذلك؟ والله إن ما تملكه لا يساوي عندي فلسين" فقال السلطان: إنك والله لصادق وإن الذي وشى بك إلي لكاذب" [النبوات لابن تيمية: 1/53].
الشخصية الإسلامية إذن لا يضرها أو لا يهولها ما ترى من نعيم الدنيا ولا البهرجة ولا الزخرفة وإنما هي مرتبطة بالله ، نحن في زمن نحتاج أن نتقدم فيه بالعمل ما ننتظر واحداً يقول لنا: افعلوا كذا، الأعمال كثيرة، الدعوة إلى الله بنودها كثيرة، نشر العلم بنوده كثيرة، ولذلك لا بد من مبادرات ذاتية.
قال الإمام أحمد لأصحابه: كم يعيش أحدنا؟ خمسين سنة ستين سنة، كأنا بنا قد متنا، ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط"، ولذلك من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه، وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 83، 84]. بادر بالخير إذا انفتح لك باب خير لا تسوّف؛ لأن أسوأ شيء أن يأتي طارق الخير فيصرفه بواب لعل وعسى؛ عسى بعدُ نفعل هذا الشيء، يصرفه بواب لعل وعسى ولذلك فلا بد من الإقبال والإقدام، والمبادرة مفتاح للخير مغلاق للشر، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص: 20] وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس: 20].
قال الوزير ابن هبيرة - رحمه الله -: "تأملتُ ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ للأمر بالمعروف لم يتقاعسا لبعد الطريق" يعني الله لما قال: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [القصص: 20]، ماذا تعبّر عنه هذه الكلمة: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [القصص: 20]. واحد ينصر المرسلين وواحد يقول: يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20]. واحد ينصح لنبي الله والآخر ينصح قومه، لكن كلاهما جاء من أقصى المدينة معنى: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [القصص: 20]. يعني: ما قعد به المشاور ما تقاعس لبعد المسافة، ولذلك الواحد أحيانًا مثلاً قد يدعى إلى درس أو إلى مناسبة خير ويقول: الآن البلد كبيرة وأنا في الجنوب وهذا في الشمال، لكن يأتي؛ لأنه يريد أن ينتهز الفرصة، وكذلك فإن الله قال: وَسَارِعُوا [آل عمران: 133]، سَابِقُوا [الحديد: 21]. لأن هناك في المقابل: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ [المائدة: 62].
الآن لو سألتكم: تخيلوا رمضان بغير مسلسلات؟ يقول واحد: لا، كله مسلسلات، لصوص رمضان الذين يسرقون عبادة الشهر والبركة والنور والطاعة والأثر الإيماني، بأي شيء؟ ماذا يعطونك بدلاً منها في المسلسلات؟ أشياء؛ حب غرام، غناء، موسيقى، طرب، تشويه للتاريخ الإسلامي، تشويه سيرة صلاح الدين، سيرة ابن تيمية، سيرة خالد بن الوليد، تشويه سيرة الصحابة، أرذل الناس وأفسق الناس يمثلون أدوار الصحابة، وماذا ترى؟ ماذا يوجد فيها؟ أشياء مضحكة، نقد اجتماعي هادف، فإذا خلطوه بنقد الشريعة والدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستهزاء بعباد الله الصالحين والاستهزاء بالاختلاط، الآن الشريعة جعلت النساء خلف الرجال في الصلاة، ما خلطت النساء بالرجال، النبي ﷺ جعل باباً خاصاً للنساء في المسجد يدخل منه النساء، قالوا: ما دخل منه ابن عمر حتى مات، انتهى، هذا باب مخصص للنساء، ما دخل النبي ﷺ لما رأى اختلاط الرجال بالنساء خارج المسجد قال: ليس لكن أن تحققن الطريق [رواه أبو داود: 5272، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 929]. يعني النساء. فإذن، كانت المرأة تلصق نفسها بالجدار ليمشي الرجال في الوسط، النساء على يمين الطريق وشماله، لأنه ليس من المصلحة أبداً أن يكون هذا الاختلاط معروفاً أصلاً، ماذا ينتج؟ اختلاط الرجال بالنساء الأجانب فتأتي هذه الأشياء في نسف المبدأ الإسلامي، في نسف الأحكام الإسلامية، وأحياناً تصوّر القضية، يُسلّط الضوء على أقصى اليمين أو أقصى الشمال لنسف الوسط، وهذه خطة خبيثة معروفة واضحة، كم يأتي واحد يقول: هذا لما وقعت ابنته في الفاحشة وأختها قتلها، اتركوا الناس في حرية والعلاقات في حرية وكل واحدة مسؤولة عن نفسها ولا أحد يتدخل! هذه معالجة؟ فهو يركز لك على الجريمة أنه قتلها، والإسلام بريء من قتلها، وليس هذا هو الحل الشرعي لهذا، لكن يتوصل من هذه الصورة الطرفية إلى نسف الحكم الشرعي في تحريم إقامة العلاقات بين الرجال والنساء الأجانب، خطط خبيثة بعضها تلو بعض، ولذلك فالمسلم صاحب فراسة، ولا يمكن أن يكون من الذين يقبلون بالتنازل عن بركة رمضان، والعبادة والطاعة؛ من أجل أن يذهبها في أشياء من الترهات، حسنات تعبنا عليها وكسبناها، وفي النهار وفي الصيام وفي الأذان، وفي التراويح، هل أضيعها بمجالس شر، هكذا في الليل، ومعاصٍ أو ضياع؟، لا، نحافظ على الحسنات.
ولذلك أبدلنا الله بأعياد المشركين، عيد الفطر والأضحى، وكذلك من ملاعبة الزوجة والولد لهو مباح هلا بكر تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك، والنبي ﷺ كان يحمل الصبيان والبنات في الصلاة الصغار من حفيداته، وكان يدع الفرصة للحسن والحسين يرتحلانه في الصلاة، ويتأخر في السجود، ويكون على المنبر، ويقطع الخطبة، وينزل ليحمل الحسن و الحسين صبيين صغيرين يعثران برداء أحمر النبي ﷺ كان يتحمل بول الصبي الصغير عليه والنبي ﷺ كان يشمُّ الصبيان، يأخذ إبراهيم ولده يشمُّه ويقبَّله، فشمّ الولد وتقبيله ولدك وحفيدك من السنة وتلاعبه فتؤجر، وتضاحكه فتؤجر، والنبي ﷺ أقبل على حسن أو حسين فصار يحاصره يمين ويسار حتى ألقى القبض عليه وضمّه إليه، كان يدلع لسانه له فيبهج الصبي من حمرة لسانه يعني هناك مجال للمرح المباح ويسابق زوجته عائشة، ويصبر على الغَيرة بين نسائه، وإذا كسرت واحدة إناء الأخرى تُهدي لها في بيتي ما عرفت تهدي إلا في بيتي؟ فتكسر الصحفة فيجمعها ويقول: غارت أمكم [رواه البخاري: 5225]. ويعطيها واحدة إناء بإناء وطعام بطعام، فكان ﷺ مداعبًا مزوحًا، وهو يلاطف أهله ويداعب الأولاد، وهذا هو المرح المباح، والحمد لله نحن نعاني من ضغوط كثيرة؛ خصوصاً في هذه الأيام بما يحيك أعداؤنا، شخصية المسلم تأبى الاستسلام، ولا يمكن أبدًا أن ييأس المسلم، بل أمله بالله دائماً، قال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُون [الشعراء: 61]. قال موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62], فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63] أزمات نفسية تمر، والمسلمون بعد غزوة أحد جاءهم خبر بأن الكفار قد عادوا لاستئصالهم الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران: 173] وهكذا، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران: 174]. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام: 17]. واليوم وإن اجتمع أعداء الإسلام على حرب المسلمين، لكن المسلمون يبقى عندهم أمل بالله والمسلمون باستمرار أصحاب فطنة ولا يمكن أن تخدعهم مؤامرات الأعداء المسلم صاحب عقل وبصيرة وهو حازم ولا يرضى بالاستغفال.
سئل ابن عباس عن عمر قال: كان كالطير الحذر يرى أن له في كل موضع شركاً، ماذا يعني: المؤمن كيّس فطن "لستُ بالخب ولا يخدعني الخب"؟ [أدب الدنيا والدين: 25]. المؤمن ليس بلئيم مكار مخادع، ولكن لا يُسمح للمكار الخبيث أن يخدعه، لما سار عمرو بن العاص بجيشه إلى الرملة وجد الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم وقد وضع بالرملة جندًا عظيمًا، فأقام عمرو بن العاص مع جيش المسلمين بأجناده لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل، يريد معلومات عن وضع الروم، يرسل الرسل لا يأتونه بما يكفيه، فقرر عمرو أن يذهب بنفسه وهو أمير الجيش على أنه رسول من قبل عمرو بن العاص إلى الأرطبون ليدخل إلى عسكرهم ويرى ما يريده ويروى غليله فدخل على أنه رسول يريد أن يبلغ رسالة من عمرو بن العاص إلى الأرطبون وهو نفسه عمرو، فذهب ودخل ورأى واطلع وتأمل ما بحضرتهم وعرف ماذا يدور، ثم سلّم الرسالة، ففال الأرطبون في نفسه وكان داهية: والله إن هذا لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه، هذا ليس رسولاً عادياً، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتله فنادى حرسيًا، وقال: اذهب فاختبئ في الموضع الفلاني فإذا مر بك هذا الرجل فاقتله، فأحسّ عمرو بالخديعة، المسلم صاحب فطنة، فقال للأرطبون: أيها الأمير، إني قد سمعت كلامك، يعني الذي تريد أن أرجع به إلى عمرو، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي - يعني مع عمرو بن العاص - لنشهد أموره، فأحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك بأنفسهم فطمع الأرطبون وقال: نعم فاذهب فائتني بهم، ودعا رجلاً قال للحرسي: لا تقتله، فخرج عمرو وسرى من الجيش ودخل إلى جيش المسلمين، فلما تحقق الأرطبون من أن هذا عمرو بن العاص قال: خدعني الرجل والله إنه أدهى العرب" [البداية والنهاية: 9/653].
وهكذا كانت الفطنة من شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لما جاء بعض هؤلاء التتر وادعوا أنهم أسلموا، وأن هذا قازان معه إمام وقاضٍ ومؤذن، ما انطلى أمرهم على شيخ الإسلام، يعرفهم ويعرف ما هم عليه، وأن لهم هذا الكتاب "الياسق" [مجموع الفتاوى: 35/408]. الذي خلطوه من الإنجيل والتوراة والقرآن وكتب أخرى وثنيات، ما انخدع وإن أظهر أنه مسلم، الله أمر بإحراق مسجد الضرار، لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة: 108]. وصار مكانه مزبلة، أحرقه المسلمون؛ لأنه اتُخذ رياء وضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وكر مؤامرات، فأحرقه المسلمون، ومنع الله نبيه أن يقوم فيه، فالمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فهذا الكيّس الحازم، وأيضاً فإنه يدرك ما يحيكه الأعداء، وهو يعاملهم بما يفوِّت الفرصة، ولذلك فإنه لابد للمسلم أن يكون صاحب منهج واضح ليس فيه تمييع، وليس فيه تغيير وتبديل، نحن ما نخلع جلوداً، ما نتلون كالحرباء، هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153]. على السنة، هذه الأحكام، هذا الدليل، هذا الكتاب، هذا الحديث الصحيح، وهكذا هذا كلام العلماء، هذا فهم السلف نمشي عليه، تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، وليست القضية أننا نتبع الرخص، وأننا نبتغي إسلاماً مخففاً، لا يوجد شيء اسمه إسلام سكر خفيف ونص استواء، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208]. كله كاملاً، ما في نصف إسلام وربع إسلام، ولذلك ترى علماء المسلمين الدعاة يرفضون التنازل أصلاً، الآيات تحذر النبي ﷺ أن يتنازل لو تنازل عن شيء يسير، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء: 74 - 75].
وهكذا فإن المسلم عنده وضوح في الرؤية، مثل ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم لما جعل يورد عليه الإيرادات والشبهات، قال: لا تجعل قلبك مثل الإسفنجة يمص الشبهات ويختزنها، لكن كن مثل الزجاجة يمر عليها فيراها بصفائها وما يتشرب منها شيئًا" مثل الزجاجة قال: "فانتفعت بوصيته أيما انتفاع" [مفتاح دار السعادة: 1/140]. وهكذا فإن المسلم لا يمكن أن يكون صاحب خضوع لغير الله أو تنازلات عن أشياء من هذا الدين، ويريد دائماً أحكاماً خفيفة، الله قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5]، نحن نعرف طبيعة هذا الدين، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: 13- 14]. بعض الناس يقول: صعبة القيام لصلاة الفجر، أشياء كثيرة صعبة، كتبت علينا أشياء وهي كره لنا صعبة لكن بعض الناس - مع الأسف - عندما يكونون أصحاب نفس انهزامية وذوبان في مؤامرات الأعداء، تجدهم يقدمون تنازلات تلو التنازلات، يميعون القضايا من العقيدة، يميعون القضايا من التوحيد، يرضون بأشياء من الشرك، يرضون بالالتقاء مع المشركين، أو أنهم يوقرون المشركين وينخدعون بالمشركين، وبعضهم يحكِّم عقله في النص، فيرد النص ويقول: نحن نمشي على المصالح، أما الأدلة ما علينا منها! نحن نمشي على روح الدين! يا أخي روح الدين هو الكتاب والسنة، هذا روح الدين، فترى بعضهم قال: ضغط الأعداء، قالوا: تسوية المرأة بالرجل، يا أخي الله قال: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى [آل عمران: 36].
جعل الله هناك فروقاً بين النساء والرجال في الصلاة، وفي اللباس، وفي الجهاد، وفي الحضانة، وفي الطلاق، وفي النكاح، وفي الحجاب، أشياء كثيرة، تريد مساواة افرض الحجاب على الرجل! حجّب كل الرجال، هذه مساواة وإلا كيف تفهم المساواة؟ ولذلك الشريعة لم تأت بالمساواة بين الجنسين، جاءت بالعدل، الشريعة جاءت بالعدل؛ لأن المساواة أنك تعطي الذكر والأنثى في الميراث شيئاً واحداً، لكن هي ما جاءت بالمساواة، جاءت بالعدل، جاءت بالحكمة، والحكمة أن تعطى المرأة نصف الرجل في الميراث، هكذا شهادة امرأتين كشهادة رجل الله يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وسهل على المرأة في أشياء الآن رمضان، المرأة في الحمل يرخص لها أنها ما تصوم، وفي الرضاع ما تصوم، وفي الحيض والنفاس ممنوع تصوم، هذه رخص لها لطبيعتها، الحضانة لها لأنها أخبر وأصبر وأقدر، المرأة إذا صاح الولد تعرف هذا الصياح، يريد طعاماً، أو يريد قضاء حاجة، أو لأن هناك مغص في بطنه، وهكذا، لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور، ولذلك نحن ما يمكن أن ننخدع، واليوم فيه مؤامرة على الفقه الإسلامي، على الأحكام الشرعية، على الحلال والحرام، فتجد تحليل الحرام كثيراً، وعجائب الفتاوى، وتتوالى في المسلسلات وفي القنوات وفي الصفحات، ويقول لك: هذه الفوائد لها وجه، يعني إذا كانت ضرورة اقتصادية قد تكون جائزة، والموسيقى الكلاسيكية لا بأس بها، ومصافحة المرأة الأجنبية إذا قلبك طاهر، تمثيل المرأة في القنوات جائز، والأناشيد الدينية لا بأس بها في رمضان، وإذا كنت تذبح أضحية ممكن دجاج، والذهاب للساحر ممكن، تلاعبات إثر تلاعبات وتخفيضات ،كأن المسألة هكذا يعني أشياء 50% و 40% ولذلك المسلم لا يرضى أبداً بهذه الأشياء الضالة المضلة، هناك ميزان، هناك اضطراد، هناك أدلة، الدين له ضوابط وقواعد، المسلم ليس واحد إنسان يريد فقط دلوني من عنده رخصة، من عنده رخصة، من عنده رخصة، ليست المسألة تتبع إغراءات، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء.
ثبات المسلم وصبره عند الشبهات والشهوات
والنبي ﷺ كان من دعائه اللهم: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد [رواه أحمد: 17114، والنسائي في الصغرى: 1304، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3228].
وكما يقول ابن القيم: "مدار الدين على أمرين العزم والثبات" [عُدّة الصابرين: 110]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران: 8]. الواحد إذا رأى تغيرات عند بعض الناس ولو ظنهم من الأخيار، لكن إن رأى تنازلات ورأى تميعات ورأى تغيرات يتمسك هو بالحق، عض على جذع شجرة ولو كنت وحدك، أنت الجماعة، ماشطة بنت فرعون اتبعت موسى ولما سقط المشط قالت: بسم الله، وكشفتها بنت فرعون، وأخبرت أباها، وجاء بها، وألقى أولادها واحداً وراء واحد في قدر يغلي، ولما هدد فرعون السحرة فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه: 71].
كان الكلام: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه: 72]. لما ضُرب الإمام أحمد وسُجن وعُزل وداسوه على الحصير وفرشوا على حصير وداسوه، وكاد أن يموت، ما تراجع، وترى أحيانًا عجباً، جيء بأحد هؤلاء الأئمة فقيل له: القرآن مخلوق، قال: لا، كلام الله المنزل، قال: خذوه للسيف، فلما وضعوه على النطع ليضربوا رأسه قال: مخلوق، فأعادوه، فقال: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق فقال: خذوه إلى السيف، فلما وضعوه على السيف ليضربوا عنقه قال: مخلوق، فردوه، فقال: كلام الله منزل غير مخلوق قالوا: عجبًا لك ما هذا؟ قال: لكل مقام مقال، أنا كنت على الإكراه أخذوا السيف من رأسي رجعت للإكراه، ولذلك المسلم؛ "يا أحمد إن يقتلك الحق متّ شهيدًا، وإن عشتَ عشت حميدًا" [سير أعلام النبلاء: 11/241]. حتى السراق في السجن كانوا يصبرون، يرحم الله سُرّاق زمان كان الواحد يقول: "يا أحمد إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟" أنا أُضرب، أنا حرامي، وأنا على الباطل، وأصبر، أطلع من السجن، أستمتع بالمسروقات.
وهذا سارق أيام السلف يقول: خرج على الطريق وقطعه، فإذا برجل مسلم قال: هات ثيابك، قال: اتق الله يا أخي تبقيني بلا ثياب والدين مواساة؟ قال: قد لبستها مدة، أنت لبستها سنوات، قال: وتبقى عورتي مكشوفة؟ قال: أنت مضطر لا تأثم، قال: أعطني مهلة أرجع فقط أوصل البلد وأقسم لك بالله وأتعهد لك إني إذا وصلت بلدي أبدلها وأرسل لك بها عندك في مكانك، قال: فسكت، ثم نظر ثم تفكر، ثم قال: لقد نظرتُ في أمر اللصوص منذ أول هذه الأمة حتى الآن فلم أر لصًا يأخذ بالنسيئة، وإني أكره أن ابتدع.
وسئل الشافعي - رحمه الله -: أيهما خير للمؤمن؛ أن يبتلى أم يمكّن؟
قال: "لا يُمكّن حتى يُبتلى" [الفوائد لابن القيم: 208].
ولذلك المسلم الآن عليه ضغوط كثيرة، أنت تفتح الآن، تسمع الأخبار، تفتح الجرائد فتجد حرباً على الإسلام وعلى نبي الإسلام وعلى القرآن وعلى الدين من كل مكان -سبحان الله العظيم- ولذلك إذا ما استحضرنا قضية العزة بالإسلام، وأن الدين عزيز مهما فعلوا والقرآن عزيز مهما فعلوا، النبي عزيز مهما فعلوا ﷺ إذا ما صار عندنا هذا اليقين بالله ما يمكن أن نصمد وليس معنى هذا: ألا نرد، لا بد أن نرد، لا بد أن يكون لنا مواقف، كل واحد يستطيع أن يقدم شيئًا للإسلام يقدّم، ما لجرح بميت إيلام، إذا صار الواحد ميتاً، هذا ما يؤثر فيه الضرب والجرح، ميت، لكن نحن لسنا بموتى ولذلك -سبحان الله- كلما شتموا النبي ﷺ ازددنا محبة له وتمسكاً بسنته ورجوعاً إلى هديه ﷺ وانظر إلى ردة فعل المسلمين طبيعية، شتموا نبيهم بسرعة رجعوا إلى السنة والسيرة والمحاضرات والأشرطة والمواقع والمطبوعات والخطب في سيرة النبي ﷺ وهذا هو التصرف، لا بد أن نكون هكذا، ونحن نحتاج في زمن الفتن هذا إلى الصمود أمام قضية أخرى غير الشبهات وهي قضية الشهوات لأنه في الحقيقة الآن تفجرت علينا الشهوات من جميع الجوانب-سبحان الله العظيم- التصوير، فن التصوير هذا كان فتنة عظيمة؛ لأنه صوّرت النساء وصورت الفواحش وعُرضت في القنوات وطُبعت في المجلات وخُزنت في وسائط التخزين هذه، وجعلت في مواقع الإنترنت بحيث أن الناس يرون الفواحش والعري صباح مساء، وصارت مقاطع وتجي على الجوالات، من الذي يسلم الآن ولذلك لازم نرجع إلى قضية العفّة، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30]. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور: 31]. والمرأة قد تُفتن بصورة الرجل، كما ان الرجل يمكن أن يفتن بصورة المرأة، ولا بد أن يحيي واعظ الله في قلوبنا
وإذا خلوت بريبة في ظلمة | والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها | إن الذي خلق الظلام يراني |
[نونية القحطاني: 29].
يوسف قال: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف: 23]، لازم الواحد يتعرض لفتنة، يقول: معاذ الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله [رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031]. هاتان كلمتان عظيمتان، إني أخاف الله ومعاذ الله في وقت الدعوة إلى الشهوات المحرمة والاعتناء بجانب الرقائق القرآن آيات عظيمة، هذه تربي في نفسك المقاومة، تربي في نفسك حواجز، والله أثر في نفسي واحد، جاءتني رسالة جوال، كان يوم جمعة قبل المغرب يقول: أنا أفسدت صيامي ووقعت في هذا الاستمناء المحرّم، ويوم جمعة وقبل المغرب يفسد الواحد صيامه، لكن هذه نتيجة شيوع الشهوات، هذه ضغوط كبيرة تقع اليوم، ولذلك لابد أن يكون عندنا مقاومة لا بد يكون عندنا استصلاح للنفوس، لازم يكون عندنا قوة، لابد أن يكون هناك صلة بالله، ثم الإنسان إذا نظر في عقوبات الفواحش وهذه القاذورات، ثم الإنسان لا بد أن يتحصّن، إن كان بنكاح أو صيام أو غض البصر لابد، ونحن في خضم المعركة التي اليوم، صحيح شياطين الجن صُفّدت، لكن شياطين الإنس ما زالت مطلقة، والنفس الأمارة بالسوء موجودة، وبعض العلماء قالوا: التصفيد خاص بالمردة، والشياطين الآخرين يشتغلون، وقال بعضهم: إن التصفيد للشياطين، لكن التصفيد لا يمنعها من بعض العمل كالوسوسة، والتقييد لا يعني أنها ما تتحرك أبداً، ولذلك ترى الآن أشياء كثيرة في ليالي رمضان من السوء، فنحن نحتاج فعلاً أن نحافظ على صيامنا، نحتاج أن نحافظ على أنفسنا، وفي الوقت الذي نحتاج فيه إلى عقيدة صحيحة نحتاج فيه إلى توحيد، نحتاج فيه إلى قوة في العقيدة، فإننا كذلك نحتاج إلى قوة في الإيمان نصمد بها، هذا دين وسط، هذه ملّة الإسلام، هذه طريقة أهل السنة، تراهم في الأسماء والصفات، وفي قضايا الإيمان، وفي قضايا القضاء والقدر في موقف من الصحابة، دائمًا يمثلون الوسط، المسلم صاحب شخصية قوية في الحق، ليس بإمعة وما يحرص على إرضاء الناس يحرص على إرضاء الله الناس ما يمكن إرضاؤهم
وما أحد من ألسن الناس سالما | ولو أنه ذاك النبي المطهر |
فإن كان مقدامًا يقولون أهوج | وإن كان مفضالاً يقولون مبذر |
وإن كان سكيتا يقولون أبكمٌ | وإن كان نطيقًا يقولون مهذر |
وإن كان صوّاما وبالله قائما | يقولون زراف يرائي ويمكر |
فلا تحتفل بالناس في الذمّ والثناء | ولا تخشى غير الله فالله أكبر |
[من شعر ابن دريد].
الناس ما تسلم منهم.
وكذلك فإن المسلم شخصيته مستقلة ما يتشبه بفساق ولا بكفار ولا بغير المسلمين، وإنما له عقيدة متميزة عيده متميز عباداته متميزة، نحن ما نسجد عندما تطلع الشمس وتغرب؛ لأن الكفار يسجدون لها في ذلك الوقت، ما نتشبه بالكفار حتى في أوقات عباداتهم ولا في أعيادهم ولا في لباسهم الخاص بهم، ولا في شعائر دينهم، أما التشبُّه بالصالحين والسلف،
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم | إن التشبُّه بالكرام فلاحُ |
ولا يدخل في هذا قضية المخترعات الدنيوية والأنظمة الإدارية والأنظمة الاقتصادية التي فيها التسهيل، وليست التي فيها الربا، وقضية استعمال هذه التقنية في إجراء العمليات، وتسهيل قضايا البيع والشراء إلى آخره، هذه أشياء مطلوبة، نحن نستفيد منها النبيﷺ لبس جُبّة رومية وأتي بأشياء من الحبشة وأعطاها لأصحابه، وأُتي له بأشياء صُنعت عند قوم مشركين ولُبس منها وأهدى منها، هذا ليس فيه حرج، لكن انظر للصحابة لما كانوا يدخلون بلاد غير المسلمين، ما كانوا يذوبون فيها، دخلنا بلاد كذا فرأينا فيها مراحيض تجاه القبلة، قالوا: "كنا ننحرف ونستغفر الله" يعني: يستعمل ما صنعوه، رأى الصحابة الحمامات العامة، هذه ما كانت معروفة عند الصحابة، الحمامات التي هي عبارة عن هذه الدور التي فيها المياه المسخّنة وحجرات يدخل كل واحد يغتسل ويخرج، هذه كانت من قبل اتخاذ هذه الحمامات في البيوت كانت موجودة في الأسواق، هذه ما كانت في بلاد العرب أصلاً، ذهب الصحابة إلى بلاد فارس والروم ورأوها، ثم بعد ذلك بُنيت بعضها في جزيرة العرب أيام الصحابة، وفي عهد ابن عباس، واتُخذت بعض الحمامات، فالنبي ﷺ استخدم المنجنيق، المنجنيق هذه آلة واستخدم فكرة الخندق ما هي أصلاً عند العرب، لكن كل شيء من أسباب القوة نأخذ به، وليس نأخذ الرذائل والسفاسف والأشياء المحرمة الساقطة.
مرونة المسلم في عدم تنازله
المسلم شخصية عنده مرونة في الأشياء الاجتهادية، يقبل اجتهاد الآخرين، تطاوعا ولا تختلفا وبشّرا ولا تنفّرا [رواه البخاري: 3038]. أتنازل عن رأيي لرأيك ما دام القضية اجتهادية، ليست مسألة حق وباطل وحلال وحرام، هذا صح وهذا أصح، هذا صحيح وهذا لا بأس به، أتنازل عن رأيي لرأيك، هكذا، والمؤمن إذا قيد انقاد، إذا أُنيخ على صخرة استناخ، هناك كما وصف الله المؤمنين: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]، لكن: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة: 54]. وأيضاً فالشخصيات التعاونية فيما بينها وبين الشخصيات الأخرى، الصحابة بنوا المسجد، هذا يحمل حجراً، وهذا يحمل حجراً، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.
وإذا صار هناك فتن واشتباه في الأمور فلا بد من الرجوع إلى أهل العلم، لا بد أن الإنسان يسأل ربه الحق، لا بد أن يميز الدخن كما جاء في الحديث: وفيه دخن [رواه البخاري: 3606، ومسلم: 1847].
الدخن هذا كدر الدخن، هذا دغل، قيل في الدخن كما قال ابن حجر: "الحقد" وقيل: "فساد القلب" وقيل: "الدغل" [فتح الباري: 13/36]. والمعاني متقاربة من أشراط الساعة، ومن صفات آخر الناس في آخر الزمان؛ أن قلوبهم لا تصفو -سبحان الله- قلوبهم ما تصفو لبعض، يعني: إذا دخل فيها حسد أو حقد أو بغضاء ما يخرج ما تصفو، ولذلك مهم أن تصفي نفسك أولاً بأول، أليسوا بإخوانك المسلمين؟ لماذا لا تلين لهم؟ النبي ﷺ حذّرنا، قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة [رواه ابن ماجة: 4036، وأحمد: 7912، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3650]. رجل تافه يتكلم في أمر العامة، فعلاً ترى ناساً الآن منكبين مسلسلات وأفلام وأشياء، وعند الإفطار ويجتمعون على الشاشات وعلى القنوات على من؟ على علماء صلحاء شهداء؟ لا، على واحد تافه يتكلم في مكان عام، كهذه القنوات التي تذيع الملايين، وإذا نظرتَ في الكلام من السفاسف ومن السقط ومن خوارم المروءة على الأقل، أما بعد ذلك ما فيه من الإغارة على الأحكام الشرعة، تحطيم الثوابت، استهزاء بأمور مما جاء عن الله ورسوله، أو بأهل الخير والصلاح، وإذا رأوا الله أخبر عن هؤلاء، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: 29 - 31].
نحن فعلنا وعملنا وهذا المركز الأول وأكبر عدد مشاهدين، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ [المطففين: 32]، إذا رأى هؤلاء المنافقون رأوا المؤمنين قالوا: هؤلاء ضلال وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين: 33]. الله أرسل ملائكة حفظة ليس هؤلاء حفظة فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 34 - 36]. ومن يضحك أخيراً يضحك حقيقة، أما الاستهزاء والسخرية الآن فستنقلب على صاحبها وبالاً في الدنيا وفي الآخرة، ومن عادة الله أن يفضح هؤلاء فلا ترى لهم نهاية حسنة ولا خاتمة طيبة، يهزؤون بشرعه وأوليائه، لا يمكن أن يوفقهم، فإذا ما تابوا وبينوا وأصلحوا عند ذلك تكون النجاة، أما لا توبة ولا بيان، ما هو فقط يتوب بينه وبين نفسه لا لا بد أن يبين ويصلح ويقول فعلنا وفعلنا وعملنا وكان ذلك باطلاً وضلالاً وانحرافاً، وهكذا.
معرفة الفرق بين المداهنة والمدارة
ومن عوامل القوة في الشخصية الإسلامية المتميزة أنها تعرف الفرق بين المداهنة والمداراة، المداهنة: أن يتنازل المرء عن شيء من دينه لأمر دنيوي، المداراة: أن يتنازل المرء عن شيء من دنياه ليحافظ على دينه أو عرضه، المداهنة حرام وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9]، المداهنة: أن يتنازل المرء عن شيء من دينه ليرضي بعض الناس يداهنهم، المداراة أن يتنازل المرء عن شيء من دنياه، يتنازل عن مال، بعض المال، يعطيهم ليسلم عرضه ودينه النبي ﷺ كثيرًا ما كان يستعمل المداراة، يعطي أحياناً على مئة من الإبل، ويعطي ويعطي ليكفّ شر ناس، ويتألف قلوب ناس، يسكت ناساً عن باطل، يضم ناساً للحق، يداريهم بعطايا "إن أبا سفيان يحب الفخر، أفلا جعلتَ له شيئًا؟
قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن [رواه مسلم: 1780].
أبو سفيان يرى أن بيته صار من دخله آمن، منزله، أُعطي شيئًا، الآن أقبل هذه مداراة أما يتنازل الإنسان عن شيء من الدين أو يعمل محرمات إرضاء لفلان وعلان هذه مداهنة محرمة لا تجوز، ولذلك تكلم العلماء في هذا.
قال ابن حجر: "المداراة الدفع برفق" [فتح الباري: 10/528].
والمداراة لا بد منها في الحياة، قال ابن حبان: "الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع ما اندفع إليه في العشرة من غير مفارقة المداهمة، إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن خطيئة عليه" [روضة العقلاء: 70].
وهذا معنى قول معاوية : "لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن مدوها تركتها، وإن خلُّوا مددتها" [روضة العقلاء: 72].
وأيضاً فإن المسلم يراعي مسألة ميزان المصالح والمفاسد، لا يمكن يقْدم على شيء فيه مفاسد كثيرة، من أجل مصلحة قليلة يعمل مفاسد كثيرة، ما يمكن، أو يترك مصالح كثيرة مراعاة لمفسدة قليلة، ولذلك نتعلم إلقاء الضبط والميزان من قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: 219]، نتعلم من قول الله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم [الأنعام: 108].
وجوانب الشخصية الإسلامية وجوانب التميز فيها كثيرة جدًا، فلعلنا نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله أن يرزقنا إيمانًا قويًا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله - سبحانه - أن يطهِّر قلوبنا ويحصِّن فروجنا، وأن يسلُل سخائم صدورنا، وأن ينوِّر قلوبنا بذكره وكتابه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.