إن الحمد لله نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
مقدمة
أما بعد:
أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة عن موضوع خطير وعلى جانب عظيم من الأهمية، ولا يكاد ينجو منه إنسان في الغالب، كلنا نقع في هذا الموضوع، وذلك لأن عليه مدار أشياء كثيرة من المعاصي والأخطاء التي يقع فيها بنو آدم بحكم كونهم بشرا يخطؤون كل بني آدم خطاء [رواه أحمد: 13049، والترمذي: 2499، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3139].
وهذه المسألة -أيها الإخوة- مسألة الهوى، ونحن في هذه الكلمة سنلقي الضوء على ما يتعلق بالهوى، والتحذير من اتباعه، وما هي أشكاله، وصوره، وبعض الأمثلة من الواقع، ثم نتكلم عن علاجه.
معنى الهوى لغة وشرعا
فأما الهوى فإنه محبة الإنسان للشيء، وكما يقول أهل اللغة: أن يحب الإنسان الشيء بحيث أنه يغلب عليه ويميل إليه ميلاً شديداً، والهوى عموماً مذموم، إلا ما ورد في السياق بأنه ممدوح، مثل الحديث الصحيح عن عروة قال: "كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي ﷺ فقالت عائشة -رضي الله عنها- : "أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟" ومن الأشياء التي دفعت عائشة لهذا الكلام الغيرة فلما نزلت الآية: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب: 51] إلى آخر الآية، قلت: "يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك".[رواه مسلم: 4788].
ومنها أيضا قصة أسارى بدر لما قال عمر فهويَ رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلتُ" [رواه مسلم: 1763]. يعني: مال إلى قول أبي بكر ولم يكن ميله إلى قولي أنا.
وفي السنن أن أعرابياً قال للنبي ﷺ: جئت أسألك عن الهوى فقال: المرء مع من أحب [رواه البخاري: 6168، ومسلم: 2640].
فإذن، الهوى عموماً مذموم.
لذلك كما يقول ابن عباس : ما جاء الهوى في القرآن إلا وهو مذموم قد ذمّه الله وإنما سُمي هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى أسفل السافلين" [ذم الهوى لابن الجوزي: 12].
والهوى ثلاثة أرباع الهوان، الهوان أربعة حروف، هوان، فالهوى ثلاثة أرباع الهوان، والإنسان يميل في نفسه إلى أشياء قد ركبّها الله أصلاً في خلْقته وجُبل عليها، وهذه الأشياء هي عموم الشهوات؛ لأن الله قال في القرآن: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14]. كل هذا المتاع زين للناس حبه الله ، ركب في الخلق، في نفوسهم، حب هذه الشهوات وجبلهم عليها؛ لحكم، منها على سبيل المثال: لو ما جبل الله الناس على حب شهوة النكاح، كيف يتناسل الخلق؟ وكيف يتوالدون؟ وكيف يتكاثرون؟ فلا بد من شهوة النكاح، فإذن، هذه الشهوات ليست محرمة بالأصل، ليست شهوة النكاح محرمة بالأصل، وشهوة المال محرمة بالأصل؛ لأن المال حرام، والوطء حرام، وإنما محرّم منها ما زاد عن الحد، وتعدى حدود الشرع، هذا هو المحرم فلأن هذه الشهوات موجودة فينا، فنحن سيصبح عندنا بالتالي أهواء تميل بنا إلى هذه الشهوات، فإن كانت هذه الشهوة حلالاً، صار ميلنا وهوانا حلالاً، وإن كانت محرمة صار الهوى والميل إليها محرّماً، وأكثر الناس تحركهم أهواؤهم فيكون الهوى هو الدافع والباعث للعمل، وفي الوقت نفسه هو الغاية التي يسعى إليها صاحب الهوى، وبذلك يكون الهوى في غالب الأحيان هو الإله المعبود الذي يطوف الإنسان حوله، ولذلك قال ابن عباس: الهوى إله يعبد، ثم قرأ قول الله أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان: 43]. فصار الهوى إلهاً يُعبد؛ لأن صاحب الهوى متعبِّد لهواه، حُبّاً، وخوفا،ً ورجاءً، وسخطاً، وتعظيماً، وذلاً، إن أحبّ أحبّ لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، فهو آثر عنده، وأحب إليه من رضا مولاه ، لذلك صار الهوى عند بعض الناس إلهاً يعبد من دون الله، فالهوى إذاً مناف ومضاد للإخلاص، ولا يجتمع في قلب عبد مؤمن إيماناً تاماً، إخلاص وهوى، في نفس الوقت، فالمخلص متوجِّه إلى الله بكليته، أما صاحب الهوى فإنه يدور حول نفسه كما يدور الحمار برحاه، وكذلك كما يقول أحد علماء السلف -رحمهم الله-: "فإن صاحب الهوى يتبع هواه كما يتبع المأموم الإمام" كيف يتبع المأموم الإمام، كذلك يتبع صاحب الهوى هواه.
تحذير السلف من اتباع الهوى
الهوى -أيها الإخوة- جمعه أهواء ورد في كلام بعض السلف وفي بعض الأحاديث بمعنى البدعة، أو البدع التي ذُمّت في القرآن والسنة ذماً شديداً، بمعنى الأهواء هي الطرق التي اتخذها بعض الناس من قبيل الابتداع في الدين، مثل الأهواء، أهواء المرجئة، وأهواء الخوارج، وأهواء الجهمية، وأهواء الأشاعرة، إلى آخر ذلك من الأهواء، ويمثِّل هذا قول الرسول ﷺ: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الملة يعني الملة الإسلامية، ملة الرسول ﷺ ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون أقصد ملّة الرسول ﷺ يعني أمة الرسول ﷺ ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله حديث رواه أبو داود وهو في صحيح الجامع من حديث معاوية مرفوعاً.
إذن، هذه الأهواء، بمعنى البدع، تدخل في نفوس أصحابها، فتلعب بهم، وتتجارى بهم، كما يتجارى داء الكلب لصاحبه، هذه الموضوع لن نتطرق إليه بالتفصيل في هذا المقام، ولكن حسبنا أن نعلم بأن الأهواء التي بمعنى البدع قد ذُمّت في القرآن والسنة ذماً شديداً، ولذلك كان السلف يحذرون منها، فيقول ميمون بن مهران -رحمه الله- تعالى: "إياكم وكل هوى يُسمى بغير الإسلام، سواء كان قديماً أو حديثاً، والله قال في القرآن: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية : 18].
قال سيد -رحمة الله تعالى- علينا وعليه: "فإما شريعة الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، وليس هناك من شيء ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة، وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء، فكل ما عداها هوى يهوي إليه الذين لا يعلمون، وقال أيضاً: إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف وما عداها أهواء منبعها الجهل، وعلى صاحب الدعوة إن يتبع الشريعة وحدها، ويدع الأهواء كلها، وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء" هذه الأهواء التي بمعنى البدع، والتي كان بعض الخوارج كما قال أحد شيوخهم الذين تابوا: كنا نجتمع فإذا هوينا شيئاً ركبّنا عليه حديثا" ولذلك كما ذكرت حذر السلف من هؤلاء الناس كثيراً جداً، حتى أن أحدهم كما روى الدارمي في سننه: "أخبرنا سعيد عن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من أهل الأهواء قال لأيوب -رحمه الله تعالى- من كبار علماء السلف: "يا أبا بكر، أسألك عن كلمة، قال: فولى أيوب -ولى عن هذا الرجل- صاحب الهوى وهو يشير بأصبعه، ولا نصف كلمة" ما أتكلم معك نهائياً، ولا نصف كلمة، فأشار لنا سعيد بخنصره اليمنى، فإذن هذه الأشياء التي بمعنى البدع،
لكن نحن الآن سنركز على قضية الهوى المتعلق بميل النفس إلى شهوات كثيرة، النفوس تأمر بتحصيل مطلوباتها التي تحبها، وتلتذ بها، واتباع ما تهواه النفوس يكون بفعل ما تهواه، وما تشتهيه نفسه، واتباع الهوى بالاستجابة للنفس الأمارة بالسوء من أعظم أسباب الضلال كما قال الله : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50]. من يكون أعظم ضلالاً ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولقد ضرب لنا القرآن الكريم بمتبع الهوى مثلاً يعجز البيان عن أن يأتي بمثله وهو قول الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف : 175]. وعقّب ابن القيم -رحمه الله- على "فَانْسَلَخَ" تعقيبات جيدة وجميلة في كتاب الفوائد، [الفوائد لابن القيم: 101]. لما آتيناه آياتنا انسلخ منها، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف : 175- 176]. ولقد حمل الهوى أصحابه على الكفر بالله ومعاداة الرسل، بل حملهم على قتل الأنبياء والمرسلين كيف ذلك؟ يقول الله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة : 70]. فلما خالفت الرسالة الهوى ماذا فعل بنو إسرائيل؟ قتلوا الأنبياء، وقتلوا أصحاب الرسالة، وقد عدّ النبي ﷺ الهوى واحداً من الثلاثة الأشياء المهلكة، وهي قوله ﷺ: ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه [رواه الطبراني في الأوسط: 5754، وقال ابن الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف].
نتائج خطيرة لاتباع الهوى
واتباع الهوى له نتائج خطيرة جداً، من هذه النتائج ما ذكره الله في كتابه في قوله : وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون : 71]. لو صار الحق الذي نزل من عند الله وأمر الله -عز وجل- الكوني والشرعي، لو كان هو هوى العباد لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
وقال ابن القيم -رحمة الله تعالى عليه-: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما ينشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه" [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/55].
وإذا ضل العبد باتباع الهوى، فإن الشياطين تتلقفه من كل جانب، كما قال الله : قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام : 71].
الهوى يبطل الأعمال الصالحة ويفسدها
ومن نتائج الهوى: أنه يبطل الأعمال الصالحة ويفسدها، فالذي يفعل ويترك اتباعاً للهوى لا عبودية لله -عز وجل- فإن عمله باطل، حتى ولو عمل عملاً صالحاً، وأرجو أن تنتبهوا معي لهذه النقطة.
يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز : "لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه" [شرح الطحاوية: 2/794]. لو صرت أنت من هذه الحالة تتبع الحق إذا وافق هواك، وتخالف الحق إذا خالف هواك، فإذن، أنت لا تُثاب على ما اتبعته من الحق، وتُعاقب على ما خالفته؛ لأنه إنما قصد اتباع الهوى، يعني نفترض أن أحد الناس حجّ، أو ذهب لصلاة الجمعة، لا تعبداً لله وإنما لهوى في نفسه، يعني أعجبه اجتماع الناس في صلاة الجمعة، وأعجبه منظرهم، وجاء في نفسه هذا الالتقاء، وهذا التقابل، وتزين بعضهم لبعض، أعجبه هذا الشيء، فذهب لصلاة الجمعة، لا بنية التعبد لله ، وإنما بنية اتباع الهوى الذي تميل إليه نفسه من الالتقاء مع الناس بعد الصلاة، هذا الرجل هل له ثواب على هذه الطاعة التي أداها؟ لا؛ لأنه إنما فعلها اتباعاً لهواه، فالآن كثير من الناس يفعلون أشياء طيبة، يفعلون طاعات، لكن لا يفعلونها تعبُّدا لله ، وإنما يفعلونها لأنها توافق أهواءهم؛ لأن نفسه تميل إليها من باب اتباع الهوى فهو يفعلها، وهذا حال كثير من الناس، فهذه قضية خطيرة؛ لأن ما عليها ثواب، لن تُثاب عليها، وباتباع الهوى يُطبع على قلب العبد، قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 16].
التنازع بين الإخوة في مسائل الخلاف
ومن مضار الهوى كذلك: التنازع بين الإخوة وتطوير اختلاف وجهات النظر إلى تخالف بين القلوب.
يقول صاحب الظلال -رحمه الله-: "ليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر" لأن الاختلاف من طبيعة البشر، الصحابة، وهم أفضل منا، اختلفوا، لكن أين المشكلة؟ يقول: إنما هو الهوى الذي يثير النزاع، ليس مجرد الاختلاف "إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصرّ عليها، مهما تبين له وجه الحق في غيرها، وإنما هو الحال يصبح في النهاية "وضع الذات في كفّة، والحق في كفّة، وترجيح الذات على الحق ابتداء، هذا هو سبب المشكلة، وهذا هو الذي يثير النزاع" وأنت الآن إذا تأملت أحوال الناس في اختلافاتهم تجدهم بهذه الصورة، ليس مجرد الاختلاف الذي يثير الحقد والبغضاء، وإنما المشكلة في الإصرار على الرأي، حتى لو تبين لك خطأه وصحة الرأي الآخر، وهذه النقطة، هي التي تسبب عدم قبول النصيحة من الآخرين.
وأحياناً من الأشياء التي تسبب اتباع الهوى، أولا:ً سأعلق قليلاً على النقطة الماضية، نحن أحياناً نختلف في رأي فقهي، نختلف في قضية اجتهادية، وكل واحد يطرح ما يؤيد وجهة نظره، أحياناً يرى الواحد من أخيه أنه في الجانب الآخر المقابل، نصاعة الكلام، ووضوح الحق فيه، ويحس في نفسه، بأن رأيه خطأ، لكن يقول بينه وبين نفسه: لو أنا الآن اعترفت بالخطأ، وأقريت وجهة نظر الشخص الآخر، تصبح شخصيتي أمام هذا الشخص كيف؟ مهزوزة، معناها، أنا ما عندي رأي، معناها بمجرد ما يناقشني، أذعنت وخضت له، فيأتي هنا الشيطان، فيقول لهذا الشخص: اثبت على ما أنت عليه، حتى تثبت شخصيتك للطرف الآخر، وإلا تصبح أنت تابعاً، قال لك كلاماً، وأنت اتبعته، وتركت رأيك، لا بد يكون لك رأي، ولا بد يكون لك شخصية، ثم إنه أيضاً يقول له: أنت الآن تفضح نفسك بين الناس عندما تقر بخطأ رأيك، يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر: "وتأملت أحوال العلماء فوجدت فيهم كثير من هذا يقول إن أحدهم ليأبى الاعتراف بخطئه، حتى لا يقال عنه أنه مخطئ، فما حال طلبة العلم؟ فما حال الجهلة اليوم؟ الذين ما عندهم إلا أجزاء ونُتف من العلم، وهم بعد ذلك يجادلون ويناقشون ويصرون وكأن أحدهم أبا حنيفة زمانه في إقامة الحجّة وبيان الحق.
عدم قبول النصيحة بين الأقران
كذلك مما يسببه الهوى عدم قبول النصيحة خصوصاً إذا كانت ممن هو أصغر منك وأقل علمًا؛ لأن الإنسان عندما توجه له نصيحة يأتيه الشيطان يدفعه الهوى، يقول له: هذا انتقاد، أنت الآن تنتقد وتُجرّح، هذا فلان يجرحك علناً، أو ينتقدك ويبين لك أخطاء عندك وعيوب بهذه النصيحة، فأنت لا ترضى، أنت لك عزّة ولك كرامة ولك أنفة ولك ولك، فإذن، لا بد أن ترفض هذه النصيحة فكيف إذا كانت النصيحة من شخص أقل منك فيأتيه الهوى هوى العزة بالإثم فيقول له: فلان أصغر منك وأقل علما يوجه إليك الانتقادات والنصائح لا تقبل منه فيأتي هذا دافع الهوى ويسبب عدم قبول النصيحة، لما كان عمر بن عبد العزيز خليفة زمانه، أعظم رجل في الأرض من ناحية المنصب، ماذا قال لأحد أتباعه؟ يقول عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: "إذا رأيتني قد حِدتُ عن الحق فخذ بثيابي وهزّني وقل: مالك يا عمر؟" يقول: إذا رأيتني حدتُ عن الحق انحرفتُ عن الحق فخذ بثيابي وهزّني، وقل: مالك يا عمر، كيف تفعل هذا؟ وهو خليفة المسلمين يقول لأحد من معه، تصور واحد يمسك ثوب خليفة المسلمين ويهزه ويقول: مالك يا عمر؟ السلف كانوا متواضعين في هذا الجانب، ما كان يحملهم الهوى على رفض النصيحة بالعكس الآن، فيه حالة طيبة أن الإنسان يقبل النصيحة إذا وجهت إليه، هناك حالة أعلى منها وهي أن تطلب النصيحة أنت قبل أن تنصح وتنتقد تطلب من الناس أن ينتقدوك على العيوب التي فيك، ويبينوها لك بطريقة النصح، ولذلك يقول عمر بن الخطاب وأرضاه -: "رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا" [رواه القاسمي في تفسيره: 9/ 537، والدارمي في سننه: 675].
وهذه نقطة يفتقدها اليوم كثير من الدعاة إلى الله والعاملين للإسلام فضلاً عن عامة الناس.
وكذلك من الأشياء كما ذكرنا عدم الاعتراف بالخطأ، ومن تأمل حال السلف وجد أنهم يعترفون بأشياء كثيرة من أخطائهم إذا سنحت الفرصة، أبو ذر لما سأل الرسول ﷺ قال ﷺ: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة يعني: من قال لا إله إلا الله بحقّها، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق فأعاد عليه: "وإن زنا وإن سرق؟ فأعاد رسول الله ﷺ: وإن زنى وإن سرق ثم قال رسول الله ﷺ: وإن رغم أنف أبي ذر [رواه البخاري: 5827، ومسلم: 94 ].
يعني: قد يدخل الجنة ولو بعد العذاب، وإن رغم أنف أبي ذر الآن هذه الكلمة فيها انتقاد لأبي ذر، لما روى أبو ذر الحديث، كان بإمكانه بعد وفاة الرسول ﷺ أن يحذف هذه الكلمة، يقول: ليس فيها علم زائد ليبلّغ الأمة، لكن أبو ذر كان يروي الحديث للناس وفيه الحديث: وإن رغم أنف أبي ذر كان يقول من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر هذه الحالة التي لا تأتي إلا عن التجرُّد من الهوى الباعث على صدّ الانتقادات ورفض النصائح وعدم الاعتراف بالخطأ حتى الإنسان يزعم حتى تظهر صورته أمام الناس كاملة وناصعة فهو لا يريد أي انتقادات ولا نصائح ويرفض الاعتراف بالأخطاء.
اتباع الهوى يصدّ عن الحق
إذا جئت الآن إلى قضية من القضايا الناتجة عن اتباع الهوى، اتباع الهوى يصدّ عن الحق، أصلاً أنت ما تتبع الحق، لو كنت صاحب هوى لا يمكن أن تتبع الحق، فيصدّك الهوى عن الحق، بحيث تأتي بالدليل والحجّة إلى هذا الرجل صاحب الهوى، فيجحدهما صاحب الهوى، وكان أعظم تخوف أمير المؤمنين علي من ذلك فقال: "إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق" وقد علمنا أن من علماء اليهود من كانوا يحملون ثقل التبعة وثقل التعبد في دينهم فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لما يطيقوا مقاومة أهوائهم في ترك رياستهم، الآن قبل بعثة الرسول ﷺ كانت الرياسة في أمور الدين إلى اليهود، كان أحبارهم هم أصحاب مراكز التأثير الدينية في جزيرة العرب ولذلك كانت قريش تحتكم إليهم في كثير من الأحيان وكان الأوس والخزرج يحكِّمون أحبار اليهود، لما جاءهم الحق لما جاءت شريعة الإسلام الناسخة ماذا سيحدث لمراكز اليهود؟ ماذا سيحدث لرياسات اليهود الدينية في الجزيرة؟ ستُنسخ؛ لأنه سيحلّ محلها الإسلام، فهذا الهوى في حب الرياسة جعل اليهود يرفضون الحق، يرفضون دعوة الرسول ﷺ وكذلك قيصر عرف الرسول ﷺ بالدليل، لما سأل أبا سفيان عدة أسئلة في حديث طويل في صحيح البخاري، عرف الرسول ﷺ بالدليل، ولكن لم يقدر على مقاومة هواه وترك ملكه؛ لأن هذا الملك شهوة عظيمة جداً، قيصر ملك الروم يترك البلاد والناس اللي تحته والأموال والثروات كلها ويأتي إلى الرسول ﷺ ويسلِّم نفسه ويقول: أنا أتبعك وأنا من أنصارك وأصحابك وقد تركت ديني وقومي ومملكتي، فإذاً قيصر ما استطاع أن يتخلص من هوى المنصب والجاه والملك ولذلك رفض وما أتى الرسول ﷺ.
أثر الهوى على الجوانب التعبُّدية
نأتي إلى قضية تأثير الهوى في بعض الجوانب التعبُّدية، بعض الناس دخلت فيهم الأهواء في عباداتهم فاخترعوا طرقاً في العبادة أو في التزهد، اخترعوا طرقاً في الزهد زعموا أنهم يريدون أن يعبدوا الله فيها بأهوائهم، هوى التزهُّد والانقلاع من الدنيا بالكلية وزخرفة الدنيا، ومن جميع أنواع المتاع، الحلال وغير الحلال، انخلعوا منها بالكلية، واعتبروا هذا الانخلاع تعبُداً لله ، وهؤلاء يقول عنهم ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "فجاء أقوام فأظهروا التزهُّد وابتكروا طريقة زينَّها لهم الهوى ثم تطلبوا لها الدليل" جلسوا يبحثون عن أدلة تنصر مذهبهم في التزهد "وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقاً ويتطلّب دليلها" وهذا كلام مهم جداً وقاعدة نفيسة، بعض الناس يرسو على شيء معين، هواه يقوده إلى شيء معين، نتيجة معينة، بعدما يقوده للنتيجة ويظهر النتيجة يبدأ يكيف الأدلة ويبحث عن الأدلة التي تنصر هذا القول مع أن المفروض الصحيح بالعكس، أن تتبع الدليل حيث سار بك تسير معه، مهما كانت النتيجة، مهما كانت النهاية، لا بد أن تسير مع الدليل، الناس الآن بالعكس يجيب الحكم الذي هو يرضاه ويهواه، ثم يبحث عن الأدلة المؤيدة له.
تأثير الهوى في الموقف من الأحكام الشرعية
نأتي إلى مسألة أخرى بالنسبة لتأثير الهوى في موقف الناس من الأحكام الشرعية الآن بعض الناس نشأوا في بيئات معينة، وتلقوا الدين بطريقة معينة، وألفوا أشياء كثيرة، فإذا جاءهم حديث بخلاف ما هم عليه، يحرِّفون الحديث عن مواضعه التي جاء بها ومن أجلها، لنفترض مثلاً أن في بيئة من البيئات أو في بلد من البلدان انتشر حلق اللحية تماماً وأصبح عادة عندهم في الناس، والقضية مسلم بها، إذا جاءهم حديث في الأمر بهذه القضية وأنها واجبة وأنها فرض جاءهم حديث فيه أمر بتطبيق هذه السنة ماذا يفعل الناس في تلك البيئات؟ يبدؤون يبحثون عن مخارج ومنحنيات يستطيعون أن يخرجوا بها هذا الأمر ويصرفونه ويحرِّفونه إلى قضايا أخرى، فيقول لك: هذا المقصود منه الاستحباب وليس الوجوب، ويبدأ يبحث عن الأشياء التي تؤيد هذا المذهب، أو تؤيد الشيء الذي نشأ عليه وتعوّد عليه، مع أنه قد يرفع شعار القرآن والسنة، ويقول: أنا أسير وراء القرآن والسنة، لكن ليست المسألة بالادعاء، ليست المسألة بأن تقول: أنا أتبع القرآن والسنة المسألة أن تثبت عملياً أنك تتبع القرآن والسنة، ولذلك ترى كثيراً من الناس يتفلتون من بعض الأحكام الشرعية بالرغم من وضوح هذه الأحكام، يتفلتون يتملصون، لا تأتي له بدليل أو تأتي له بحجة شرعية صحيحة إلا وقال لك أشياء كثيرة؛ لعل الحديث ضعيف، لعل المقصود كذا، لعل المقصود من الإسبال الخيلاء، فأنا لست من أصحاب الخيلاء، لعل المقصود، لعل المقصود فيحرِّف هذه الأدلة من أين أتى هذا التحريف؟ من أين نبع ؟ نبع من الهوى؛ لأنه هو يهوى الإسبال ويكره أن يطبق السنة في الثوب لئلا ينتقده الناس فلذلك هو يأتي بالأدلة أو يأتي يحرف الأدلة لكي يصحح موقفه ويثبت لك أنه غير مخطئ.
تأثير الهوى في قضية الحكم بين الناس
وكذلك الهوى يؤثر تأثيراً كبيراً في الحكم في قضية الحكم بين الناس المختلفين، مثلاً لو أنت الآن أب، أو أنتِ أمٌ حصل خلاف بين الأبناء، تحكمين أو تحكم بين هذين الاثنين بناء على ماذا؟ كثير من الآباء والأمهات يجورون في الحكم بين أولادهم ولو من أجل لعبة صغيرة؛ لأجل أن الأب أو الأم تهوى ولداً معيناً، أنا سمعت مرة واحداً من الأولاد يقول: أنا أمي تكرهني وتفضل عليّ أخوي؛ لأنه أبيض وأنا أسمر! هذه قضية واقعة قد تقع فعلاً، فمثلاً إذا حصل خلاف بين الولدين لمن يحكم؟ للذي تميل إليه الأهواء، إن كانت تميل إلى السمار حكمت للأسمر وإن كانت تميل إلى البياض حكمت للأبيض هذه من المسائل الخطيرة وهذا اتباع الهوى في الحكم بين الناس.
يقول سيد -رحمه الله تعالى-: "والهوى صنوف شتى منها: حب الأهل والأقربين في موطن الشهادة والحكم" يعني أنت الآن جئت للمحكمة تريد أن تشهد، أو تحكم بين اثنين، واحد منهم قريبك والثاني بعيد ما بينك وبينه نسب تحكم لمن؟ العادة الناس الآن يحكمون لقريبهم، فإذا صار حادث سيارة يشهد لقريبه أو لصاحبه ومع أنه المخطئ، يشهد له زوراً وبهتاناً الذي دفعه إلى الجور في الحكم: اتباع الهوى، الهوى الميل إلى القريب والميل إلى الصاحب ولو على حساب الحق. وكذلك مجاملة الغني هوى، والتعصُّب للقبيلة والعشيرة في موضع الشهادة والحكم هوى وكراهة الأعداء في موطن الشهادة والحكم هوى، والأهواء أصناف.
فإذن، قضية الحكم بين الناس المتخالفين أو المختلفين كثيراً ما يقع فيها هوى، فيجب على المؤمنين الصادقين أن يتجردوا لله إذا أرادوا ان يحكموا بين الناس ليس من الشرط أن تكون قاضياً، ممكن أنت كأب أن تحكم بين اثنين ممكن أنت كرجل تحكم بين صديقين، ممكن أنت كداعية تحكم بين اثنين من الناس، فإذن، لا يجرمنك عداء شخص أو خلاف بينك وبينه على عدم العدل، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]. كما قال الله .
هناك نوع من الاتباع للهوى خفي؛ أحياناً يختصم فقير وغني، والمخطئ الفقير، والغني صاحب الحق، يأتي واحد من الناس يريد أن يحكم بينهم فتأخذه الشفقة للفقير فيحكم له، مع أنه هو المخطئ، ويحكم على الغني مع أنه المحق، بدافع الشفقة، أحياناً يخطئ الأخ الأصغر على الأكبر، تأتي الأم بدافع الشفقة على الصغير تحكم له على الكبير، مع أن الكبير قد يكون هو المحق، والصغير هو المخطئ، هذا أيضاً نوع من الهوى، وإن تلبّس بلباس الشفقة، وإن تلّبس بلباس الرحمة، فهو هوى لا يرضي الله ، هذه الأحكام وهذه مسائل خفية ينبغي الانتباه إليها.
اتباع الهوى في قضية العدل بين الزوجات
نأتي مثلاً إلى قضية اجتماعية قضية العدل بين الزوجات، أحياناً يكون الرجل متزوج من أكثر من امرأة فهواه يميل به إلى واحدة منهما، فيميل إليها ميلا كبيراً فيذر الأخرى كالمعلقة فلا يأتيها ولا يعطيها من النفقات والألبسة والزينة مثل ما يعطي الأخرى، من باب الجور في القسمة، اتباع الهوى، لذلك يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح: من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل [رواه أبو داود: 2133، وصححه الألباني في الإرواء: 2017]. وأحياناً يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في بعض الناس الذين يتبعون الهوى: "فإن وافق الشرع مرادهم وإلا فمعوَّلهم على أغراضهم" إن وافق الشرع مرادهم قالوا: رضينا بالشرع، إذا خالف الشرع أهواءهم قالوا: لا، لا نريد الشرع، هؤلاء الذين وصف الله تعالى في القرآن عن المنافقين: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور : 50]. لماذا؟ إن كان لهم الحق رضوا بالشرع، إذا كان مالهم الحق رفضوا الشرع.
أحياناً يأتي الهوى في النهوض للعبادة، فيخذِّل الإنسان، مثلاً في عملية الاستيقاظ لصلاة الفجر، النفس تميل إلى النوم والله يطلب منك أن تقوم للصلاة، اتباع الهوى أن تنام وتستمر في النوم ولو استيقظت تعاود النوم مرة أخرى، ولا تقوم، فيحدث بين الإنسان وبين نفسه منازعة وهكذا.
اتباع الهوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يحدث أحياناً الاتباع للهوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كيف ذلك؟ يقول عبد الرحمن المعلِّمي -رحمه الله- تعالى في كتابه القائد إلى تصحيح العقائد: "فتِّش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين" فتش نفسك، كل واحد يفتش نفسه، "تجد نفسك مبتلىً بمعصية أو نقص الدين، وتجد من تبغضه" تجد آخر من الناس الذين أنت تعاديهم وتبغضهم "مبتلى بمعصية أو نقص" قد تكون مثل المعصية أو النقص الذي عندك، لكن بينك وبينه خلافات "هل تجد استشناعك لما هو عليه مساوياً لاستشناعك ما أنت عليه؟" أنت الآن واقع في معصية رأيت واحداً من الناس الذين يخالفوك أو بينك وبينه مشكلة وظهرت لك معصيته، منكر يجب أن تنكره، هل يكون إنكارك عليه مساوياً لإنكارك على نفسك؟ الغالب: أنه لا، أنك ستنكر عليه، وتحمل عليه حملة شعواء، لكن لا تحمل على نفسك هذه الحملة، مع أن معصيتك لا تقل عن معصيته، لكن أنت اطلعت على معصيته رأيته منكراً، وهو ما اطلع، فانظر إلى هذه المسألة، كيف يحمل الهوى الإنسان على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يغالي فيه على أناس ويحمل فيه على أناس ما لا يحمل على نفسه، وليس المطلوب أن تترك أمر الشخص بالمعروف وتنهاه عن المنكر، لا، لكن كن أنت في أمرك لنفسك ونهيك للمنكر عن نفسك للمنكر مساوٍ، مثل ما تأمر غيرك وتنهى غيرك، أما أن تشنّ عليه حملة شعواء؛ لأن بينك وبينه خلاف واكتشفت هذه الخطوة والمعصية منه، لكن لا تحمل هذه القضية على نفسك، هذه مصيبة، بل إنه أحياناً مسألة الحب في الله والبغض في الله، أنت الآن تبغض أصحاب المعاصي، ترى صاحب معصية أنت قد تكون واقعاً في معصية مشابهة لها أو هي بالضبط مثلها، أنت لا بد أن تكره معصية هذا الشخص أو تكره هذا الشخص من أجل معصيته هل تكره نفسك للمعصية التي عندك مثل ما تكره الشخص للمعصية التي عنده؟ هذه أشياء ما ننتبه إليها، بل قد لا تخطر في بالنا، عندنا قضية الموالاة والمعاداة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للناس لكن ما يخطر ببال واحد أن يعادي نفسه أو يشنّ حملة أمر بمعروف ونهي عن منكر على نفسه مثلما يشن على الناس، ليش؟ اتباع الهوى؛ لأن الهوى يحملك على تبرئة نفسك، وعلى أن تكون أنت في الموضع الذي لا ينتقد حتى ولو من نفسك،
يقول المعلِّمي -رحمه الله- في باب نفيس في كتاب القائد إلى تصحيح العقائد في مسألة الموقف من الشخصيات: "فكر في حالك مع الهوى، افرض أنه بلغك أن رجلاً سبّ رسول الله ﷺ، وآخر سب داود ، وثالث سبّ عمر أو علياّ -رضي الله عنهما- ورابع سبّ إمامك الذي تأتمُّ وتقتدي به وخامس سبّ إماماً آخر. هذا الكلام يناقش فيه المعلمي -رحمه الله- متعصبة المذاهب، يقول لهم: واحد متعصب لأبي حنيفة وواحد متعصب لأحمد بن حنبل أو على الأقل يتبع هذا الإمام ويحبه جداً أو واحد يتبع الآن واحداً من المشايخ الموجودين المعاصرين ويحبه جداً يقول له: افترض أن واحداً سب الرسول ﷺ أمامك أو سب داود أو سبّ عمر أو علياً ممن هو أقل من داود والرسول ﷺ أو سبّ إمامك، أو سبّ إماماً آخر، هل موقفك من هؤلاء الأشخاص يتفاوت بحسب عظم الذي سُب في الإسلام؟ يعني هل تعادي من سبّ الرسول ﷺ بالدرجة الأولى وتعادي من سبّ داود معاداة قريبة من المعاداة الأولى، ثم تعادي من سبّ أبو بكر وعمر أو علي بعد ذلك، ثم تعادي من سبّ الإمام الآخر؟ أم أنك تعادي من سبّ إمامك أكثر من معاداتك لسبّ أي إنسان آخر حتى لو كان أحد من الصحابة؟ هذه مسائل لا يتفطن إليها بل إن أحداً لو سب إمامك الذي تتبعه أو شيخك الذي تتبعه وسبّ شيخاً آخر لا يقل عنه في الصلاح والتقوى والعلم فأنت تجد نفسك تدافع عن شيخك أكثر مما تدافع عن الشيخ الآخر، مع أن لكليهما حق النصرة والدفاع عن العرض والذبّ عن العرض في الإسلام، فانظر كيف حملك الهوى على الدفاع عن شيخك أكثر من الدفاع عن شيخ آخر لا يقل عنه، هذا إذا ما كان أعظم منه أحياناً، وأنا لا أشك أن بعض متعصبة المذاهب، واحد متعصب لأبي حنيفة لو سب أمامه أبوحنيفة أو سبّ أمامه أبو ذر أو مثلا المغيرة بن شعبة، أو أحد من الصحابة، فإنه يدافع عن أبي حنيفة أكثر من دفاعه عن ذلك الصحابي هذا واقع.
يقول المعلّمي -رحمه الله- مكملاً: "فيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديد بهم موافقاً عندما يقتضيه الشرع أم لا؟" ثم يقول، وهذه قضية اتباع الهوى في طلب العلم وهذه مسألة مهمة ونقع فيها كثيراً، يقول: "افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، رأيت حديثين ما تعرف صحتهم ولا ضعفهم، أحدهما يوافق قولاً لإمامك الذي تتبعه أو لشيخك الذي تقتدي به، والآخر يخالفه" واحد من الحديثين يؤيد كلام الشيخ الذي تقتدي به أنت، والقول الثاني يخالف شيخك الذي تقتدي به، أيكون نظرك في هذين الحديثين سواء؟ لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف" تقف موقف تجرُّد، أو تقف الموقف الذي يقفه الناس، افترض أنك الآن مقتنع بمسألة إخراج الزكاة في الحلي، ثم رأيت حديثين، ما تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحد الحديثين يوجب الزكاة في الحلي، والحديث الآخر لا يوجب الزكاة في الحلي، ونفسك تهوى أنه لا في زكاة في الحلي، هل أنت فعلا ما تهتم، وتبحث في الأسانيد وتسأل عن صحة الأحاديث، وأنت متجرِّد كل التجرُّد ما يهمك أن هذا الحديث صحيح أو ضعيف، أو هذاك الذي صحيح أو ضعيف؟ أما أنك تجد نفسك منساقة تتمنى أن يكون الحديث الذي ليس فيه وجوب زكاة الحلي، لا يقرر وجوب الزكاة في الحلي صحيحاً، وتتمنى أن يكون الحديث الذي فيه وجوب زكاة الحلي ضعيفاً؟ أليس هذا الذي يحدث في غالب الأحيان؟ نعم افترض أنك اتبعت إنساناً في النزول على اليدين، ثم رأيت حديثين ولا تدري عن صحتهما واحد يؤيد النزول على اليدين والآخر على الركبتين هل يكون موقفك منهما سواء؟ هل ستكون النتيجة أنك لا تهتم أوليس عندك ميول معينة، أم أنك تتمنى أن يكون حديث اليدين صحيح وحديث الركبتين ضعيف؟ ما الذي يحدث في الغالب؟ هذه من الأشياء التي يؤثر فيها الهوى.
ولذلك نجد أحياناً في نقاشاتنا الفقهية خللاً كبيراً بسبب أننا نهوى في موقف معين أو في حكم معين، عندنا هوى نريد أن تكون النتيجة هكذا، فلذلك عند البحث نضع النتيجة سلفاً، ثم نجمع الأشياء التي تؤيد الشيء الذي نهواه.
افرض أنك تعلم من رجل أن رجلاً تحبه وآخر تبغضه تنازعا في قضية، فاستفيت فيها ولا تستحضر حكمها، اثنان تنازعوا في مسألة، جاؤوا إليك لتحكم بينهما، أنت لا تعرف الحكم، ماذا يحدث في نفسك؟ ألست تتمنى بأن يكون الحكم إذا بحثت عنه مؤيداً لصاحبك وليس في صالح الرجل الذي تعاديه؟ نعم هذا هو الغالب فيقول المعلمي -رحمه الله-: "وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جربتُ نفسي -يقول كلام صادق خارج من قلب- يقول "وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جرّبتُ نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي" يعني متجرّد ما يهمني ما النتيجة، فيلوح لي فيها معنى "يلوح لي فيها ترجيح معين فأقرره تقريراً يعجبني" آتي بالأدلة وأحشد البراهين والاستنتاجات والاستنباطات وأقرر الشيء الذي ملت إليه ورجحته تقريراً يعجبني "ثم يلوح لي في دليل آخر ما يخدش هذا الشيء الذي قررته" يعني ما يوافق الشيء الذي أنا قررته، "فأجدني أن أتبرم بذلك الخادش" [القائد إلى تصحيح العقائد: 32]. يقول: لماذا ظهر لي هذا الحديث، لو كان هذا الحديث غير موجود حتى أنا أكمل طريقي في تأكيد صحة الحكم الذي توصلت إليه، فالإنسان إذا كان مقتنعاً بشيء معين، ثم رأى دليلاً يخالف يتمنى يحدث في النفس أحياناً هذا الشعور، يتمنى أن هذا الحديث ضعيف، ويتمنى أن هذا الحديث غير ثابت، ويبحث بنفسية الذي يريد أن يصل إلى ضعف الحديث، فلذلك قد يصل إلى ضعف الحديث وتكون النتيجة ضلالة هذا بسبب الهوى؛ لأنه ما عندنا تجرُّد
نقول: إن هذه المنزلة ليست سهلة، الشافعي يجادل رجلاً ويناقشه الحكم كذا أو كذا، ثم يقول الشافعي: "لا أبالي أكان الحق ظهر على لساني أو على لسانه" هذه منزلة ليست سهلة.
يقول المعلِّمي -رحمه الله-: "فأجدني أتبرّم بذلك الخادش، وتنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغض النظر عن مناقشته؛ لأني لما قررت ذلك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرتُ أهوى صحته"، وأرفض أي شيء آخر، "هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس"، يعني مع أني الآن في طور البحث والمناقشة ما نشرته على الناس "وأنا أهوى صحة هذا الشيء وأرفض أي شيء خادش، "فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش" كيف إذا أعلنت هذا الكلام في الناس أعلنت النتيجة والترجيح الذي توصلت إليه وبعد ذلك اكتشفت أحاديث أو أدلة أو استنباطات لا تؤيد ما توصلت إليه وأنا أعلنتُ القضية على الناس، سيكون الموقف وتكون المسألة عسيرة جداً، التراجع عن القناعة، التراجع عن الأشياء عسير؛ بسبب وجود الهوى؛ لأن حظوظ النفس تجذبك، كيف تظهر أمام الناس بمظهر المخطئ؟ كيف تظهر أمام الناس بمظهر الناقص؟ ثم يقول: "فكيف إذا كنت قد أذعتُه في الناس ثم لاح لي الخدش، فكيف لو لم يلح لي الخدش وإنما أشار به رجل عليّ"، كيف لو كان الخادش هذا ما جاء مني، لست أنا الذي اكتشفت الشيء الذي يخدش، وإنما أتى به رجل آخر، يكون الموقف أصعب وأصعب، "فكيف لو كان المعترض عليّ ممن أكرهه؟" كيف لو أتى بالخادش أو الحديث الذي ليس هو النتيجة التي أنا توصلت إليها رجل بيني وبينه عداوة شخصية، كيف يكون موقفي أرأيتم كيف أن التجرد من الهوى مسألة صعبة وليست سهلة حتى على الأتقياء من عباد الله، وحتى على عباد الله الصالحين المؤمنين، تحتاج إلى مجاهدة قوية، ولذلك يقع فيها الإنسان من حيث لا يدري.
اتباع الهوى في اختيار الفتوى المناسبة للحال
في قضية الفتاوى، فالآن هب امرأة هواها كشف الوجه، تحب أن تكشف وجهها، لما تأتي للموضوع وتأتي للنقاش تحتج بأحاديث أو بأدلة أو بآراء الذين يقولون بكشف الوجه، ليس عن قناعة بها ولا بقائلها ولا بعد المناقشة والبحث المتجردّ، وإنما لأنها تهوى ذلك الرأي فهي تحتج بمن يقوله وتحتج بأدلتهم، نفس الموضوع امرأة تهوى أنها ما تخرج الزكاة في الحلي؛ لأن ذهبها سينقص، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14]. النفس تهوى أن يكون الذهب كاملا لا ينقص فماذا يكون هوى هذه المرأة مع الرأي الفقهي الذي يقول أنه لا زكاة في الحلي؟ فلذلك تبحث عن العلماء الذين يقولون: لا زكاة في الحلي، ما هي أقوالهم؟ والله عندهم قول جيد، يقول أن المال الذي لا ينمو ليس فيه زكاة، فالذهب بما أنه مال غير نام ما هو مثل الإبل والبقر والغنم ومثل عروض التجارة مال غير نام فإذن، هذا كلام ممتاز وهذا كلام مقنع، إذن، ما أطلع زكاة في الحلي ليس عن تجرُّد، قالت هذا الكلام لكن أعجبها الرأي الموافق لهواها فقالت به، تاجر يتجر في الأراضي، الأرض عنده مجمدة، الآن الأسعار هابطة، وما جاء مشترٍ مناسب، حال عليها الحول، جاءت مسألة الزكاة فراح يبحث هل فيها زكاة أو ما فيها زكاة؟ فقرأ هذا الرأي المال الذي لا ينمو ليس فيه زكاة، والأرض لا تنمو محدودة بحدود معينة إذاً ما فيها زكاة، هذا رأي ممتاز مقنع، مع أنه ما بحث ولا تجرد في المسألة، أنا الآن ما أقول بنتيجة معينة أو أقرر حكماً فقهياً معيناً، لكني أضرب الأمثلة على مواقف الناس من الفتاوى والأحكام الشرعية.
اتباع الهوى في المرحلة الجامعية
نأتي الآن على قضية اتباع الهوى في دراسة كثير من الطلبة الجامعيين، كثير من الطلبة الجامعيين يهوون التفوق في دراستهم، واحد في جامعة علمية تكنولوجية يريد التفوق يكون معدّله فوق، ما يريد أحداً يعلو عليه، وهذه الدراسة تستغرق منه وقتاً طويلاً جداً، لو أنه طبق هذه الطريقة في الدراسة حرفياً لا يبقى عنده وقت لا لتربية نفسه ولا لطلب علم ولا لدعوة إلى الله ولا لأمر بمعروف ولا لنهي عن منكر فإذن هذا الرجل مفرِّط إذا اتبع هذا الأسلوب الذي لا بد يوصله إلى هذه النتيجة، هذا الرجل الآن يبحث عن أي قول وعن أي مستند يتشبث به؛ لكي يجابه به أي واحد يريد أن ينصحه ويقول له: يا أخي خفف من غلوائك الدراسية قليلاً والتفت إلى الأشياء المهمة الأخرى، يقول: يا أخي أنا قرأت كلاماً ممتازاً لواحد من المفكرين لأبي الحسن الندوي أو لأبي علي المودودي أو لفلان من الناس أو سمعت من فلاناً يقول: يجب على المسلم أن يكون متفوقاً في جميع الأمور وأن يكون أحسن من الكفار وأن يتعالى عليهم بالعلم وأن يصبح أعلى منهم وأعلم منهم والتفوق مطلوب والأمة بحاجة و.. و.. فإذن، ارتاح للكلام إذا اطلع على هذا الكلام ارتاح جداً ويأخذ به ويتبنى هذا الموقف ويقول: التفوق أمر مطلوب، فأنا غير مخطئ، فإذن، أنا ماشي صحيح، ما يمكن تنتقدني، طيب الواجبات الأخرى يا أخي تجرّد من هوى التفوق نحن ما نقول الكلام هذا للناس الذين يحتاجون للدراسة حتى يخرج بمعدل معين يكمل به دراسته أو مسألة حيوية بالنسبة له، لا،
بعض الناس عنده شهوة التفوق حتى ولو كانت على حساب الأشياء المهمة في حياته مثل الدعوة إلى الله وتربية نفسه وطلب العلم ما عليه، على جنب هذه كلها، لأني سأنصر الإسلام، والإسلام الآن يحتاج إلى دعاة أكثر مما يحتاج إلى علماء في الكهرباء، يحتاج إلى علماء في الشريعة أكثر من حاجته إلى علماء في المجالات الأخرى، نحن لا نقول: لن ندرس العلوم الأخرى ونثبط الناس، لا، لكن لا بد أن تقدم الأولويات والأهم فالمهم إن كنت صاحب تخصص علمي وتقني أو صاحب تخصص فني لا يلهينك التخصص هذا عن طلب العلم وعن معرفة أحكام الطهارة وأحكام الصلاة، هذه أشياء ضرورية عن الدعوة إلى الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تربي نفسك لأن كثيراً من هؤلاء الناس المتفوقين إذا ما ربى نفسه وأهملها صدقني بعد ذلك سيخدم مصالح الكفار في العلم الذي تعلمه ويمكن يذهب إلى الخارج ويدرس هناك ويستقر هناك ويخدم في أجهزة الكفار لأنه لا يوجد تربية نفس تجعل فيه موالاة ومعاداة وتجعل فيه نصرة الإسلام فلذلك يأتي بهذه الحجج التافهة التي إذا تأملت فيها ما وجدت فيها حقاً أبداً، خذ بعض الأهواء التي تأتي في نفوس الناس عندما يدعون إلى طلب العلم، كثير من الناس إذا دعوا إلى مناسبات علمية لكي يتلقوا فيها علماً فإنك تلحظ من هؤلاء الناس الفوضى وعدم الانضباط، ما يمكن ينضبط أبداً في موعد يتلقى فيه علماً، مرة يأتي ومرة ما يأتي، مرة يأتي وعشرة ما يأتي، ليش؟ لأن نفسه تهوى الفوضى، وإلزام النفس بالمواعيد وإلزام النفس بأوقات معينة يأتي فيها ويفرغ ذهنه ويتفرغ من الشواغل هذه ضد الهوى، الهوى يقول: الفوضى والانسيابية وإذا صار وقت طلبنا العلم وإذا ما صار وقت ما طلبنا العلم، وهكذا قضية أخرى تجد كثيراً من الناس إذا جئت وتفحصت ماذا يقرأون وقد يكونون من أناس طيبين، تجد أنه يقرأ القصص والروايات التاريخية أو الروايات الأدبية وكذا لكن ما يقرأ كتب فيها علم كما يسميها بعضهم الكتب الصفراء؛ لأن النفس تهوى القصص والروايات لكنها لا تهوى الدخول في المشاكل الفقهية والمعضلات وقراءة كتب التفسير والحديث والشروح واللغة و.. و... إلى آخره ما تهوى هذه الأشياء
فلذلك يتبع هواه في القراءة فيقرأ القصص والروايات، ما يقرأ كتباً فيها علم، نفس العملية بالنسبة لسماع الأشرطة تجد كثيراً من الناس الآن يسمعون أشرطة، أيش أكثر شيء؟ أناشيد لأن هوى النفس مع النشيد ومع الطرب ومع اللحن لكن لا يسمع أشرطة قرآن أو أشرطة محاضرات ودروس علمية في التفسير والعقيدة والفقه، لأن النفس تهوى الأناشيد، هذا على نطاق الناس الذين ظاهرهم الالتزام بالإسلام، فكيف بمن يسمعون الأغاني وأهواؤهم مع الأغاني هذا فضلا عن أن يسمع أشرطة فيها أشياء طيبة أناشيد أو غيره؟ فإذن، انظروا كيف يلعب الهوى دوراً كبيراً في انحراف الرجل الذي يطلب العلم أو الرجل الملتزم بالإسلام أو غير الملتزم بالإسلام يصد عن الالتزام بالإسلام؟ هذا الهوى الذي في نفسه في أثناء عملية طلب العلم القراءة تجد بعض الناس يفتح كتاباً خمس دقائق ثم يقفله يأخذ كتاباً من هنا وكتاباً وكتابين وثلاثة وعشرة يفتح ويقرأ قليلاً ويغلق، عنده فوضوية في طلب العلم، ما هو السبب؟ أن النفس تهوى النتف وثقافة الساندويتش، الأشياء الخفيفة، لكنها ترفض وتأبى أنك تجبرها وتقصرها على التركيز في القراءة والعكوف على كتب العلم، ترفض النفس هذا لذلك لا نرى الآن نوعيات جيدة من طلبة العلم، فيها اتباع للأهواء، المسألة فيها كثير من اتباع الأهواء، نحتاج إلى التجرد فيها، والإنسان قد لا يدري أنه مصاب بهذه الآفة ولكن إذا فتش ونقب وتجرد اكتشف الخلل، في الزواج يأتي واحد يريد أن يخطب امرأة فيكون عنده اختياران، واحدة جميلة لكنها غير ملتزمة تماماً، عندها نقص في الالتزام، لا يمكن أن يقال عنها أنها ملتزمة بالإسلام، ترتكب بعض المنكرات والمعاصي، وامرأة أخرى ملتزمة بالإسلام تماماً مطيعة لله صالحة لكنها أقل جمالاً، فنفس هذا الرجل الخاطب تميل إلى أي منهما؟ تميل إلى الأولى الأجمل، أليس كذلك؟ فلذلك قد ينساق وراء الهوى ويأخذ هذه المرأة الأقل ديناً وغير متلزمة بالإسلام ويتعب معها في المستقبل تعباً شديداً، وربما هي تكون من الأسباب التي تخذله وتثبطه عن المضي في طريق الالتزام بالإسلام، لأنه جرى وراء هوى الجمال وليس وراء طاعة الله في أخذ المرأة ذات الدين، يدخل الهوى حتى في السكنى في البيوت، أنت الآن ترى داراً جميلة وإيجارها رخيص لكن مكشوفة بحيث أنه يمكن للجيران أن يطلعوا على عورات بيتك وعلى النساء الذي في البيت، طبيعة البناء وتصميم البناء، وتجد داراً أخرى مستورة ما فيها كشف لكنها أكثر إيجاراً أو أقل جمالاً أو أضيق غرفاً إلى ماذا تميل نفسك؟ إلى الدار الأولى الأجمل حتى لو كان فيها تنازل عن قضية مهمة، فانظر كيف يحرف الهوى هذا الرجل لاستئجار هذا البيت ويترك البيت الآخر؟
فإن هذه مسألة الهوى خطيرة ودقيقة وحساسة ويقع فيها الناس كثيراً، حتى الوظائف، وظيفة فيها شبهات، لكن براتب مغرٍ، ووظيفة ما فيها شبهات لكن براتب أقل؟ تميل النفس إلى أيش؟ الهوى إلى أيش؟ إلى الوظيفة الأوجه أو الأكثر مالاً حتى ولو فيها شبهات، فانظر كيف يلعب الهوى هذا الدور على حساب الدين، في الدعوة إلى الله عز وجل تلعب الأهواء دوراً كبيراً، أحياناً نجد بعض الدعاة يدعو شخصاً من الناس لا لجودة في معدنه وعنصره ولكن يدعوه ويحتك به لظرافته وحسنه ولطافته وإلى آخره لكن يترك غيره من الأقوياء الذين يحتاجون والذين قد ينصرون الدين نصراً قوياً لو أنه دعاهم فيلعب الهوى دوراً في تحويل نشاط هذا الداعية إلى هذا الرجل الذي لا يستحق بذل هذا الجهد، وترك الآخر المستحق لماذا؟ لأنه يهوى هذا الشخص لاعتبارات سطحية ليست جوهرية فإذاً الجري وراء هذه النوعيات بزعم تتلبس القضية بلباس الدعوة إلى الله وأنا أعلم هذا الرجل بهذا اللباس الذي ظاهره الطيبة والشرعية ولكن في حقيقة الأمر إنما ينم عن اتباع محقق للهوى، كثير من الشباب الآن في موقفهم من الأنشطة الموجودة قد يرجح الانضمام إلى نشاط من النشاطات مراكز صيفة أو غيرها، يرجح نشاطاً من النشاطات على نشاط آخر لما فيه من الترفيه والتسلية والمرح والألعاب والمسابقات والتمثيلات وغيرها لا لأن هذا النشاط فيه طلب للعلم أو فيه قدوات مهمة، شخصيات ينبغي أن يجري وراءها ليقتبس من نورها، وليس لأن هذا النشاط فيه جدية أكثر في الالتزام في الإسلام، فيتبع ذلك النشاط الآخر لبهرجة العدد أو بهرجة التسالي والمرح الموجود فيه؛ لأن النفس تهوى المرح وتهوى هذه الأشياء، فأصحاب الهمة العالية لا ينزلون إلى تلك المستويات، هذه لأناس آخرين، قضايا اللعب والترفيه ليست لي ليس من الصحيح الآن أني أتجه إلى نشاط رياضي بحت وأترك الأنشطة الطيبة التي فيها استفادة من الوقت وحلقات علم، لماذا نجد الاتجاه إلى الأشياء الأدنى؟ لأن الهوى يلعب دوراً كبير في إرساء النفس في هذا الاتجاه أو هذا الاتجاه، فإذاً إذا أراد الإنسان أن يسلك طريقاً ما في استغلال وقته فينبغي أن يبحث عن الطريق الذي يستغل فيه الوقت في طلب العلم أكثر وفي التأثر بالقدوات الأعظم وفي وسط الجدية الأكبر في الالتزام بالإسلام، على مستوى الصداقات الآن بين الناس تجد بعض الناس يصادق فلاناً من الناس ويتخذه خليلاً وصاحباً لظرافته ودماثة نفسه ولطافته ومرحه وتنكيته، لا لأنه أتقى لله عز وجل أو أعلم بشرع الله -عز وجل- أليس هذا حادث ما هو السبب؟ الهوى، الهوى هو الذي يدفع لمصادقة هذه النوعية وترك النوعية الأخرى. الاستطراد في أشكال الهوى كثير، الصور كثيرة جداً والذي يتأمل الحياة التي يعيش فيها يجد أشكالاً كثيرة من اتباع الهوى، وآخر نقطة في هذه المناسبة علاج الهوى والحقيقة أنه ربما يقصر بنا الوقت عن الكلام عن علاج الهوى لذلك فإني أرى الآن أن أختم كلامي هذا على أن أكمله في مناسبة قادمة علاج الهوى إما في خطبة جمعة أو في درس قادم ونبهني بعض الإخوة على مسألة الإطالة في الوقت، ولذلك أنا لا أرى الإملال أكثر من هذا وأشكر الله لكم سعيكم في حضور هذا المجلس.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبنا وإياكم عليه.
وصلى الله على نبينا محمد.