تتمة
واحد قرأ ثلاث فتاوى لثلاثة مشايخ فيها آراء مختلفة حاول يدور في الأدلة ما استطاع، ماذا يفعل؟
يقلد الأعلم.
نرجع نقول: إذا كانت القضية شرعية: الأعلم بالشريعة، إذا كانت القضية تخصص دراسي: الأعلم بالتخصصات وبواقعك أنت وبشخصيتك أنت، تأخذ برأيه فتقلده إذا تضاربت عندك الآراء، وإذا كانت القضية تتعلق بالواقع يؤخذ برأي أكثرهم وعيا بالواقع، والذي يعرف أصول الإسلام، ويثق فيه أكثر.
وبعبارة أخرى يأخذ من تجتمع فيه شروط المستشار أكثر من غيره.
أحياناً إذا شعر الواحد أنه إذا استشار عدة أشخاص فإن هذا يكون سبباً لضياعه، وتشتت ذهنه، فإنه لا داعي لأن يفعل هذا، وإنما يستشير واحداً أو اثنين، من يعتقد أنه الأقرب إلى الصواب. طالب العلم مثلاً لو استعصت عليه مسألة لو سأل فيها أكثر من عالم وشعر أن أخذ آراء خمسة من العلماء سيجعله في نوع من التشتت.
قد يرجح بالهوى، قد يرجح بالأكثرية، وهذا ليس دائماً صحيحاً، أو لأن أحد الأقوال يوافق تفكيراً سابقاً عنده، واحد فكر في مسألة قال: يمكن كذا صح.
ثم سأل ثلاثة علماء اختلفوا، واحد منهم يوافق الذي في ذهنه، هل يتبع هذا؟
لا، ليس بالضرورة أن الذي يوافق الذي في ذهنك يكون هو الصحيح.
ولذلك اسأل الأعلم فقط إذا ما عندك قدرة على الترجيح، اسأل الأعلم واتبعه.
بعض الناس أحياناً يقعون في مشكلة في الاستشارة، وهي: أخذ الآراء الكثيرة جداً، لماذا؟ ليس لأنه يحتاج لذلك، لكن لأن بعض الناس يريد أن يضفي أهمية على نفسه وأهمية على المشكلة، ويكبر المشكلة، فيستشير عشرين شخصاً، ليس لأنه يحتاج للعشرين، لكن لكي يقول: أنا ترى استشرت فلاناً وفلاناً، ويكبر المشكلة ويبين نفسه أنه مهم، وأن المشكلة هذه خطيرة وأنها تحتاج إلى عشرين واحداً فتكون أحياناً من باب التباهي أمام الناس وأمام نفسه.
وهذا النوع من الناس غالباً ما يكون ضعيف شخصية ليس عنده قدرة على حبس الفكرة في ذهنه، فهو كلما اجتمع بأحد طرح القضية عليه، فلا يستطيع أن يسيطر على ما بداخل نفسه، فيشعر أنه لا بد أن يحدث جميع الناس، فلا هو الرجل الحازم الذي عنده الرأي وأخذ به، ولا هو أخذ برأي الناس، ولا يأتمر كما قال أحدهم: "رجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشداً".
فإذا عرف الإنسان الحق كما قلنا فإن الجواب في الآية: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ [آل عمران: 159].
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة | ولا تك بالترداد للرأي مفسدا |
وأيضا يقال: فإن فساد الرأي أن تترددا
حكم الاستشارة
طيب متى نستشير؟
الحقيقة أن الاستشارة أحياناً تكون واجبة، وأحياناً تكون مكروهة، وأحياناً تكون محرمة، وأحياناً تكون جائزة، فمثلاً الاستشارة الواجبة مثل استشارة الأب ابنته في الزواج قبل أن يزوجها لفلان على قول طائفة من أهل العلم، أو استشارة الفرد في الجيش قبل أن يفعل عملاً يروح ينشب في العدو والأمير قال: ائتمروا بأمري، فلا يجوز له أن يفعله، لا بد أن يستشير، الاستشارة واجبة.
أحياناً تكون الاستشارة مستحبة كمشاورة أهل العلم والخبرة في طرائق الدعوة إلى الله.
أحياناً تكون الاستشارة مباحة مثل الاستشارة في السيارة أو البيت أو التخصص الدراسي مثلاً.
أحياناً تكون الاستشارة مكروهة مثل الاستشارة الزائدة في أمور تافهة من المطعم والمشرب والملبس مما يضيع وقت المستشير والمستشار.
وأحياناً تكون الاستشارة محرمة مثل واحد يقول ما رأيك أصلي الظهر أو لا؟
هذه استشارة لا تجوز، طبعاً تصلي الظهر، أشار عليك وإلا ما أشار عليك لن يقدم ولن يؤخر.
بعض الأخطاء المتعلقة بالاستشارة
من الأخطاء خطأ في الاستشارة يقع، خطأ حساس أو دقيق، وهو -انتبهوا معي لهذه النقطة- أن بعض الناس
يقرر ثم يستشير، يعني يفكر في المسألة ويتراءى له شيء معين ويهواه في نفسه، ويقرر هذا الشيء، وبعد ذلك يستشير من باب يعني يقول: إني استشرت، لكن في الحقيقة هو عازم على تنفيذ ما برأسه سواء أشاروا عليه بخلافه أو به هو فهو عازم على أن ينفذ ما في رأسه سلفاً، ولذلك استشارة هذا الشخص ما لها معنى، ما هي الفائدة؟ وهذه يفعلها بعض الناس ليبرر لنفسه إقدامه على العمل الذي في رأسه، أو ليخدع نفسه، وأحياناً يذهب إلى المستشار ولا يعطيه الصورة الحقيقية عن القضية، أو يجعل له ملابسات بحيث يقول المستشار الرأي الذي يريده المستشير، في بعض الناس هكذا، لنفترض أن شخصاً قرر أن يخرج من البيت فذهب إلى واحد يستشيره قال: عندي مشكلة كذا كذا، وترى أبوي إذا جيت أدخل البيت يطردني، ويقفل الباب، ويسهب له في النقطة، فماذا يقول المستشار؟
يقول: خلاص إذا أبوك يردك خلاص، فعليك بالخروج.
مع أن المسألة ليست كذلك لكن هذا المستشير أوحى للمستشار بأشياء خطأ، حتى يأتي له المستشار بالرأي الذي يوافق هواه، والذي يريده هو.
وأحياناً يكون هناك تشاور أشبه بالتناجي من تشاور أناس أو مجموعات ليس لها خبرة، وليس لها رأي، فيقررون في أنفسهم أو بين أنفسهم أمراً يخرجون به على الناس فجأة فيكون وبالاً عليهم وعلى آخرين.
ولذلك نقول: يا أيها الناس يا إخواننا لا تتسرعوا في الأمور، وإذا أردت أن تقدم على أمر وهذا الأمر فيه خطورة لا بد تستشير الثقات الأمناء، ما هو مجموعة من الشباب الاندفاعيين يستشيرون فيما بينهم يستشيرون أنفسهم ثم يقدمون على عمل يكون فيه وبالاً عليهم، وقد يكون على غيرهم أيضاً، ويكون الشر متعدياً، أو أنهم يستشيرون أنفسهم يقدمون على شيء مثل الخوارج، الخوارج الآن آلاف اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ماذا نفعل؟ ماذا نفعل؟ قضية قتل علي بن أبي طالب ، اجتمع عبد الرحمن بن ملجم وثلاثة أشخاص في الحج؟ قالوا: ما هي مشكلة المسلمين تداولوا فيما بينهم قالوا: مشكلة المسلمين تكمن في ثلاثة رجال علي بن أبي طالب ومعاوية وعمرو بن العاص، ما الحل؟ الآن هذه مشاورة قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين منهم، نحن إذا قتلناهم انتهت المشكلة.
ماذا نفعل؟ اتفقوا، عبد الرحمن بن ملجم أنت تذهب إلى الكوفة وتقتل علي بن أبي طالب ، وأنت يا فلان تذهب إلى الشام وتقتل عمرو بن العاص، وأنت يا فلان تذهب وتقتل معاوية بن أبي سفيان، تشاوروا وتعاقدوا وعملوا هذا العمل وأنتم تعرفون بقية القصة عبد الرحمن بن ملجم في سيف جلس يسقيه السم شهراً، طلع على علي بن أبي طالب في الليل وهو خارج لصلاة الفجر فضربه على جبهته، فتحقق حديث الرسول ﷺ: أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك على هذه حتى يبل منها هذه وفعلاً صب الدم حتى نزل من لحية علي بن أبي طالب ، فمات.
هذا الخارجي هذا الذي لما علق وصلب ليقتل وبدأوا بقطع أطرافه ما صرخ ولا صرخة، وهم يقطعون أطرافه، فلما جاؤوا يقطعون لسانه صرخ قالوا: ويحك قطعنا أطرافك ما صرخت؟ نريد أن نقطع لسانك الآن تصرخ قال: لساني أذكر به الله.
فالان -يا أيها الشباب- بعض الناس احياناً يستشيرون بعضهم ويتعاقدون على أمر فيه دمار عليهم؛ لأنهم ما عرفوا أنهم ليسوا هم الذين من المفترض أن يستشيروا أنفسهم، وإنما هناك ناس من أهل الخبرة.
من الأخطاء في الاستشارة أيضاً: أن بعض الناس يعتمد اعتماداً كلية على المشورة دون الله ، فيظن الآن إذا أخذ المشورة سيكون التوفيق حليفه والصواب معه، وهكذا..
وهذا فيه ركون إلى الأسباب الدنيوية، وإنما المفروض أن الإنسان ماذا يفعل بالإضافة إلى الاستشارة؟
الاستخارة، والتوكل على الله .
أول شيء الإنسان يستشير، حتى يعرف وجه الصواب، فإذا جاء ليقدم عليه وهم بالأمر ماذا يفعل؟
يستخير حتى يبرأ من حوله وقوته، دعاء الاستخارة : فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب [رواه البخاري: 6382] فيه براءة من الحول والقوة، واعتماد على الله، وهذا أمر مهم جداً.
هناك حديث: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ، ولكن هذا الحديث ضعيف أو موضوع، كما ذكر بعض أهل العلم وتجدونه في السلسلة الضعيفة برقم: 611، [رواه الطبراني في الأوسط: 6627].
موانع الاستشارة
ما هي موانع الاستشارة؟
بعض الناس مع علمهم بأهمية الاستشارة لكنهم لا يستشيرون لماذا؟
أحياناً استهانة بالأشخاص المستشارين، يعني لما تقول له: يا أخي استشر في المشكلة؟
يقول: استشر من؟
تقول له: يا أخي استشر فلاناً؟
يقول: يا أخي فلان الآن أعلم بمشكلتي مني؟ يعني يريد يفهم أكثر مني بالمشكلة؟ فلان يشير علي بماذا؟ أنا عارف المشكلة أساساً وعارف خلفياتها، وعارف تاريخ المشكلة، فلان الآن إذا عرفته عنه الآن يجيب لي رأياً ما خطر في بالي؟
فاستهانة بالأشخاص!
وأحياناً بالإضافة إلى هذا يصل به غرور الذات، الإحساس بالكمال، يقول: أنا رأيي أحسن رأي في الموضوع! أنا لست بحاجة للاستشارة! أنا عقلي كامل! أروح أستشير الناس لماذا؟ أنا لست بحاجة! أنا إنسان الحمد لله عاقل وفاهم ومجرب وخبير! أسأل لماذا؟
ولذلك يقول أحدهم: من أعجب برأيه لم يشاور! ومن استمد برأيه كان من الصواب بعيدا!
ويدخل في هذا مسألة نفسية وهي أن بعض الناس يظن أنه لو استشار معناها هذا ضعف، يعني لو ذهب واستشار معناها أنه كأنه يقول للآخر: ترى أنا ما استطعت أحلها لوحدي وأنا الآن لجأت إليك؛ لأني ضعيف، بعض الناس يأخذها من هذا المنطلق، فيقول: لا أريد أن أظهر أمام الناس أني أنا ضعيف! وأني ما استطعت أحل المشكلة لوحدي وأني بحاجة إليهم وإلى آرائهم، أنا أقرر من نفسي وانتهينا.
ولذلك يقول الشاعر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن | برأي نصيح أو نصيحة حازم |
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة | فإن الخوافي قوة للقواديم |
الخوافي هذا الريش الذي يختفي إذا ضم الطائر جناحيه هذا قوة للقوادم.
فإذاً، أنت لما تستشير، الحقيقة هذا ليس فيه إضعاف لنفسك، هذا فيه تقوية لنفسك؛ لأنك ستستعين وتتقوى بآراء الآخرين.
ومن موانع الاستشارة: فوارق السن فمثلا واحد ينظر إلى شيخ وكبير وعظيم فيخجل أن يأتي إليه ويستشيره لفارق السن، أو بعض الطلاب يخجل أن يسأل أستاذه لفارق السن، يخجل أن يسأله وليس يستحي، بالأحرى يخجل هذه عبارة أدق يخجل من الاستشارة، أو العكس أحياناً واحد كبير لا يعرف الرأي، أحياناً بعض الآباء يكون عنده ولد متعلم وفاهم، والحقيقة أن الأب يحتاج إلى رأي الولد في أمر من الأمور، لكن يقول: أنا أستشير ولدي؟ أنا أكبر منه أنا أستشيره؟
ونحن قد بينا أنه لا عيب ولا غضاضة أبداً أن كبير السن يستشير من هو أصغر منه، ما فيها شيء، أو واحد يستشير من هو أدنى منه منزلة اجتماعية، يعني مدير يستشير موظفاً، أو غني يستشير فقيراً.
وأحياناً عدم القدرة على التعبير، يعني أحيانا الواحد من الناس وده يستشير لكن لا يستطيع أن يعبر عن المشكلة، فيكون هذا مانعاً له.
أو تكون القضية حساسة يعني واحد مثلا واقع في مشكلة وهو مخطئ فيها، لا يدري كيف يخرج من هذه المشكلة، لو ذهب إلى شخص وقال: أنا أستشيرك ترى أنا صار لي كذا وكذا وكذا، معناها هذا المستشار يبغى يأخذ فكرة سيئة عني، أنا كنت في نظره كبير الآن لو قلت له: أنا ترى وقعت في المطب الفلاني، وأنا ما أعرف كيف أتصرف؟ وأريد منك الحل؟ يغير رأيه.
وأحياناً تكون المشكلة حساسة لدرجة أنه لا يجرؤ أنه يصارح بها، فلنفترض مثلا إنسان واقع في هوى فتاة -والعياذ بالله- فالآن وهو إنسان واقع في مشكلة عظيمة جداً ومتعلق، وصلاته ليست خاشعة، وإيمانه ضعيف جداً، لا طلب علم ولا دعوة إلى الله، وصار عنده انحلال في القوى والتفكير والرأي والذهن.
طيب الآن كيف يجي إلى واحد يقول له: أنا ترى واقع في كذا وكذا، وتعرفت على فلانة أو فلان وصار لي كذا من المشاكل، وأنا أريد رأيك في الموضوع؟ هذه مسألة محرجة أليس كذلك؟
من العلاجات لهذه المشكلة: طريقة الكتابة، وقد جربت هذه الطريقة، فكانت نافعة، فالواحد محرج لكن لا بد يستشير ماذا يفعل؟
اكتب المشكلة في ورقة، ثم اكتب: أرجو الإجابة على ظهر الورقة، أو في ورقة أخرى، وسوف أمر بك لآخذ الجواب، أو أرسل إليك فلاناً، وما هو ضروري تذكر اسمك، أحياناً نستقبل رسائل من أناس في المسجد يجيب واحد رسالة يقول: هذه رسالة مثلاً من امرأة أو من رجل.
وأحياناً تكون الرسالة منه هو لكن لا يقول هذا مني، يقول: هذه من واحد، ما كذب هو يقول هذه من واحد، ويريد ترد عليه، أو تجيب عليه، نفتح الرسالة وإذا بها: أنا واقع في مشكلة كذا وكذا وكذا، أريد الحل؟
ما هو لازم الآن أنك تجي تعبر عن نفسك تقول: أنا فلان الفلاني وقعت في المشكلة مع فلان الفلاني أو مع فلانة أعطني الحل، ممكن تستشير بدون أن تكتشف هويتك الشخصية.
ولذلك لا ينبغي أن يمنع الإنسان أي مانع من الاستشارة، وهي خير إن شاء الله.
وأسأل الله -عز جل- أن نكون قد أجبنا على بعض التساؤلات أو كشفنا بعض النقاط التي قد يكون في البعض غفلة عنها أو عدم إحساس بأهميتها.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذه الكلمات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والحمد لله أولاً وآخراً.