إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأحييكم -أيها الإخوة- وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا عامراً بذكره، وأن يجعلنا من أهل طاعته، ومن المقبولين عنده، وأن يرزقنا الإخلاص والاستقامة، إنه جواد كريم.
مكانة أهل القرآن
إخواني: لقد كان القرآن الكريم فيما مضى شيئاً عظيماً في تاريخ هذه الأمة، فهو فخرها وعزها وصلتها بربها ومعجزة نبيها الخالدة.
وكان أهل القرآن لهم المنزلة العظيمة في المجتمع، فأئمة الناس في المساجد أقرأهم لكتاب الله ليؤمكم أكثركم قرآناً [رواه أحمد: 15902، وقال محققو المسند: "حديث صحيح"].
وكان القراء هم أمراء الجيوش، وكان يؤم الصبي الكبار لما معه من القرآن، كما أم عمرو بن سلمة الكبار لما كان معه من القرآن، ويزوج الفقير بما معه من القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح: قد زوجتكها بما معك من القرآن [رواه البخاري: 5029].
وفي رواية: لما معك من القرآن [رواه الدارمي: 2201].
ويقدم في اللحد عند تضايق القبور أكثرهم قرآناً، كما كان النبي ﷺ يسأل عند دفن القتلى بعد غزوة أحد عن أيهم أكثر قرآناً ليقدم في اللحد، وهكذا كانت تقدر الأوقات بالقرآن، وبقراءة سورة معينة، وخمسين آية ونحو ذلك، حتى تقدير الأمور الحياتية والمعيشية ووجبات الطعام، ونحو ذلك، وقدر ما بين السحور وقيام الصلاة تقدر بالآيات نظراً لأن المجتمع كان يتلو كتاب الله، فيقدر بوقت التلاوة.
منزلة القرآن
أيها الإخوة: إن الله قد أنزل هذا الكتاب نوراً وهدى وبياناً للناس.
وهو بركة وخير وعلم للمسلمين، هو فخرهم حقاً.
وعن مفخرة هذه الأمة نتحدث.
وكيف كان السلف يعيشون بهذا القرآن؟
كيف كانوا يستدلون به؟
كيف كانوا ينطلقون منه؟
كيف كانوا يحاجون به؟
كيف كانوا يردون به على أهل البدع؟
كيف كانوا يأخذون منه الأحكام؟
كيف كانوا يعظون به الغافلين؟
كيف كانوا يخوفون به المذنبين؟
كيف كان القرآن مجالاً لتوبة التائبين، وانطلاقاً لهؤلاء العائدين إلى ربهم ؟
القرآن مفخرة المسلمين
إنه شيء عظيم؛ كما قال الله في كتابه العزيز مبيناً أهمية هذا الكتاب، وكيف يكون هذا الكتاب نوراً، فقال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9].
هذا القرآن يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [المائدة: 16]، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1].
أيها الإخوة: إن هذا القرآن حقيقة مفخرة المسلمين ولا شك.
هذا القرآن الذي قد أخبرنا ربنا بأنه هدى، وبأنه نور، وبأنه يخرج الناس به مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1]، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 53]، وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم: 2].
هذا القرآن الذي أدب الله به نبيه ﷺ، وقالت عائشة -رضي الله تعالى- عنها تصف النبي ﷺ بأن خلقه كان القرآن.
إن النبي ﷺ تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وهذه البيضاء، وهذه الحجة القوية كان مصدرها ولا شك كتاب الله ، وشرح هذا الكتاب وهي سنة النبي ﷺ.
فهذا الشرح وهو السنة لهذا الكتاب وهو القرآن الكريم أمر واضح أبلج لا يخفى، ولذلك تركنا ﷺ على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.
ونريد أن نعرف كيف كان لهذا القرآن المكانة بين المسلمين؟
كيف كانوا يأخذون منه؟
كيف كانوا ينطلقون؟
كيف كانوا يردون به ويتكلمون؟
لمحة عن فضل القرآن
لمحة سريعة عن فضل هذا الكتاب العزيز:
إن هذا الكتاب العزيز هداية يهدي به الله إلى طريق الحق، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة: 16].
وهذا الكتاب الذي أخبر الله عنه بهذا، لما امتثله الصحابة كان الواحد منهم يوصف بأنه قرآن يمشي على الأرض.
وكان أبو بكر الصديق رجاعاً إلى كتاب الله.
وعمر كان وقافاً عند كتاب الله.
وعثمان قال مقولته الشهيرة: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله".
وهكذا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم.
والسلف لم يكونوا ليغفلوا عن القرآن في حروبهم ولا في مصائبهم وأفراحهم ولا في دعوتهم ورسائلهم ومواعظهم، فبه يسمعون وبه يبصرون، وعلى ضوئه يمشون ويهتدون وبقوته يبطشون وبمواعظه وإعجازه ينصحون، فلا تراهم ليلاً إلا به قائمين، وبأحكامه نهاراً ساعين وعاملين.
نسأل الله أن يسلكنا دربهم ويحشرنا معهم.
أيها الإخوة: هذا القرآن فضله كبير، ومنزلته عالية، وصاحب القرآن يأخذ الفضل من الكتاب، ففضله مستمد من فضل الكتاب العزيز، فيقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد كل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء عنده.
وقال النبي ﷺ موصياً: ((أوصيك بتقوى الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض، وهذه الأمة أناجيلها في صدورها، كما بين الله بقوله: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 49].
ولو أن القرآن جمع في إهاب ما أحرقه الله بالنار.
والمقصود بالإهاب الجلد.
والمقصود به هنا جسم الحافظ.
والذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب.
وأحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله، كما جاء في الحديث الصحيح.
وأوصى النبي ﷺ بتحسين الأصوات بالقرآن فقال: حسن الصوت زينة القرآن حديث حسن[رواه الطبراني في الكبير: 10023].
وقال: حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً [رواه الدامي: 3544]
وفي رواية: زينوا القرآن بأصواتكم [رواه أحمد:18494، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
إنه تجميل ليس مثل ألحان أهل الفسق والفجور وأصحاب الأغاني، بل هو قراءة بخشوع وصوت جميل ينطلق من حنجرة مؤمنة بكلام الله.
وليس مشابهة لأولئك الفسقة الذين قال النبي ﷺ محذراً منهم: أخاف عليكم ستاً قال: ونشواً أي أحداث يتخذون القرآن مزامير [رواه الطبراني في الكبير: 105].
وقال النبي ﷺ عن قلوب حملة القرآن: آنية الله في الأرض قلوب عباده الصالحين ملأها من ذكره فقويت .
صارت -أيها الإخوة- أقوى من الجبال، ولذلك قال الله عن قوة هذه القلوب التي تعي كلام ربها: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21].
إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين [رواه مسلم: 817].
و القرآن شافع مشفع وماحل أي خصم يجادل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار [رواه الطبراني في الكبير: 8655].
ويجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة [رواه الترمذي: 2915].
إنه حبل متين طرفه عند الله وطرفه بأيدينا، كما قال النبي ﷺ: أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً [رواه ابن حبان في صحيحه: 122].
وهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.
وهناك أهل لله، فمن هم أهل الله؟
قال النبي ﷺ: إن لله أهلين من الناس... أهل القرآن هم أهل الله وخاصته [رواه أحمد: 12292، وقال محققو المسند: "إسناد حسن"].
صفات أهل القرآن
ما هي صفاتهم؟
اسمع -أيها الأخ المسلم-: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 29].
حقوق أهل القرآن
ولا عجب بعد ذلك أن يكون لحامل القرآن مكانة بين المسلمين، وأن يوقر لأجل حفظه للقرآن، كما قال النبي ﷺ: من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط [رواه داود: 4843].
لقد كان هذا الكتاب -أيها الإخوة- له أثر على مكانة الشخص، وكان إذا حفظ القرآن وتعلمه صار عند المسلمين بمنزلة عظيمة؛ فعن عطاء بن السائب قال: "أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحد القرآن، قال: أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل".
قارئ القرآن وحافظ القرآن كيف أخذ علم الله؟
إنه قول الله- تعالى-: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [النساء: 166].
كان أهل القرآن يعرفون لأثره فيهم، فيقول أبو حازم -رحمه الله-: "كنت ترى حامل القرآن في خمسين رجلاً فتعرفه قد مصعه القرآن" أي أثر فيه جداً "وأدركت القراء الذين هم القراء، فأما اليوم فليسوا بقراء".
ولذلك ينبغي أن نحذر من الذين يغلون فيه ويأكلون به، كما قال النبي ﷺ: اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تشتروا به .
وقال: اقرؤوا القرآن، وسلوا الله به قبل أن يأتي قوم يقرؤون القرآن فيسألون به الناس، ولم تهلك الأمم من قبلنا حتى وقعوا بضرب آيات كتابهم بعضه ببعض .
ولذلك فإنه ينبغي علينا أن نحل حلاله، وأن نحرم حرامه، وأن نؤمن بمتشابهه، ونعمل بمحكمه، ونرد المتشابه إلى المحكم، ولا نكون كالذين من قبلنا ضربوا آيات كتابهم بعضها ببعض، ولذلك ضلوا ضلالاً كثيراً.
إكرام الولاة لحفاظ القرآن
كان السلف يحاسبون على حفظ القرآن، بل وكان الحكام ينزل منهم حافظ القرآن بمنزلة، فجاء رجل إلى الوليد يسأله قضاء دين له، فقال: نعم إن كنت مستحقاً، فقال: يا أمير المؤمنين وكيف لا أكون مستحقاً لذلك مع قرابتي؟ وذلك أن الرجل من بني مخزوم، فقال له: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل: ضم إليك هذا، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام عثمان بن يزيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: يا أمير المؤمنين إن علي ديناً؟ فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ" ثبت أن الرجل حافظ لما سأله عن آيات من سورة التوبة ومن سورة الأنفال، فقال: "نعم، نقضي عنكم، ونصل أرحامكم على هذا".
وكان شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- أول ما يلقى الصبي يسأله: كم يحفظ من القرآن الكريم؟ وماذا يحفظ من القرآن الكريم؟
وإذا صار هذا فينا، إنا لقينا الصبيان أن نسألهم عن حفظهم أول ما نسأل ترسخ ذلك في قلوبهم وشعروا بأهمية حفظه، فينطلقون لذلك.
كان القرآن يجاهد به جهاداً كبيراً، ويستدل به على الأقوال، وتؤخذ منه العلوم، قال المزني: "كنا يوماً عند الشافعي، فجاءه شيخ عليه ثياب صوف وفي يده عكازة، فقام الشافعي وسوى عليه ثيابه وسلم الشيخ وجلس، وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة له، إذ قال الشيخ أسأل؟ قال: سل، قال: ما الحجة في دين الله؟ قال: كتاب الله، قال: وماذا؟ قال: سنة رسول الله ﷺ، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، الإجماع، قال: من أين قلت اتفاق الأمة؟ فتدبر الشافعي ساعة، فقال الشيخ: قد أجلتك ثلاثاً، فإن أتيت بحجة من كتاب الله وإلا فتب إلى الله -تعالى-، فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج إلى اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام، يعني مريض، فجلس فلم يكن بأسرع من أن جاء الشيخ فسلم وجلس، فقال: حاجتي؟ قال الشافعي: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قال الله -تعالى-: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] قال الشافعي: فلا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض، قال: صدقت، وقام فذهب، فقال الشافعي: قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه، على دليل الإجماع.
الرد على المبتدعة بالقرآن
وهكذا كان الرد على المبتدعة، وإزالة الشبه بالقرآن الكريم، وكانت آيات الكتاب العزيز على ألسنة العلماء وهم يردون على المبتدعة، فقال زر بن صالح السدوسي لجهم بن صفوان المبتدع: هل تكلم الرب؟ قال: لا، قال: فيتكلم مستقبلاً، قال: لا، قال: فمن يقول يعني يوم القيامة، فمن يقول: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، ومن الذي يرد عليه لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] فإذا فني الخلائق ولم يبق إلا الله، فإنه يقول في السموات وينادي: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه تعالى فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، فلا أحد يتكلم، لا أحد موجود حتى يتكلم، فمن الذي يتكلم؟ فدمغه بالحجة.
فماذا قال الجهم؟
قال: لا أدري، زادوا في القرآن أو نقصوا، هذا الرد.
ولما ناظر الإمام أحمد -رحمه الله- المبتدعة الذين يقولون بخلق القرآن واستدلوا على ذلك، بماذا استدلوا؟ بأدلة، لكن ليست في محل النزاع، معناها غير الشيء الذي استدلوا عليه، فكان يرد عليهم بآيات أخرى تفند حجتهم، فلما قال المبتدع دليل على خلق القرآن: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62] فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] فدمرت إلا ما أراد الله، هل دمرت كل شيء؟ لم يكن هناك شيء أبداً موجوداً وبقي بعد هذه الريح؟ كلا، إذاً، تدمر ما أراد الله، ولذلك الله خالق كل شيء من هذه المخلوقات، لكن صفاته وكلامه ليست بمخلوقه.
ولما قال المبتدع في الاستدلال على أن القرآن مخلوق: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] قال: أفيكون مجعولاً إلا وهو مخلوق؟ ويريد أن يقول إن جعل دائماً بمعنى خلق، ولو كان يعقل لعرف أن جعل لا تأتي دائماً بمعنى خلق، بل جعل تأتي بمعنى صير، ولذلك رد عليه الإمام أحمد فوراً بالآية الأخرى، فقال: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: 5] قال: فجعلهم كعصف مأكول؟ يعني خلقهم؟ فسكت المبتدع.
وهكذا رد النبي ﷺ على مسيلمة الكذاب برسالة لما جاءه وفد مسيلمة ورسولاه يقولان بكتاب مسيلمة دفعاه للنبي ﷺ، فقال: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، أي مسيلمة: أنه أشرك معك في الأمر، وأنه صار نبياً، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم كتب إلى مسيلمة: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: انظر ما هو الرد؟ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين الفاصل بيننا وبينك نهاية القضية، والعاقبة المصير للمتقين والحديث صححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود.
كان بعضهم يغفل عن معنى من المعاني، وتفوت عليه أشياء بسبب انشغاله بالدنيا أو بشيء من ملكه؛ كما حصل للمأمون، دخل قبة الهوى فأعجبه ما عنده، وأراد أن يزدري ما كان عند فرعون، واستغرب المأمون خطر على باله آية، استغرب منها.
فما هي الآية التي استغرب منها المأمون؟ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ [الزخرف: 51] فيقول المأمون: هذا رأيناه رأينا مصر وعرفناها، فما الذي أعجب فرعون منها؟ ولماذا قال: أليس لي ملك مصر؟ فقال سعيد بن كثير بن عفير -رحمه الله-: يا أمير المؤمنين إن الذي ترى بقية ما دمر، الذي تراه الآن في مصر ليس هو الذي أعجب فرعون، هذا بعد التدمير؛ لأن الله قال: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] فدمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه، فليس هذا الذي تراه الآن هو الذي جعل فرعون ينخدع بالدنيا، إنما هي أشياء أخرى دمرها الله وانقضت، قال: صدقت، وأمسك.
سكت المأمون، الحجة القوية من الكتاب العزيز: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ .
الرد على الجاهلين بالقرآن
وهكذا كان القرآن أيضاً تقال الآية منه في الرد على الجاهلين، قد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- كما ساق ابن كثير في التفسير عن عبد الله بن نافع: أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه، يعني تعليق الجرس في أعناق الإبل، قالوا: نحن أعلم بهذا منك، هذا جفاء منهم، جهالة، نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
فتمثل هذه الآية قول الله –تعالى-: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
هذه الآية نفسها التي أوقفت عمر عندما غضب على رجل دخل عليه بعد استئذان وبعد تقديم من ابن أخيه الذي كان من أصحاب عمر وفي مجلس عمر، فاستأذن لعمه على عمر، فلما دخل هذا العم الجاهل إذا به يقول: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله -تعالى- قال لنبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله -عز وجل- [رواه البخاري -رحمه الله-].
تثبيت القرآن عند المحن
كان القرآن يثبت المسلمين أهل العلم والتقوى يثبتهم، يتأملون فيه فيجدون سلوى من الأحزان، ويجدون دفعاً للهموم، ويجدون في آيات الكتاب العزيز تسرية عنهم وهم يجابهون الكائدين والحساد، ومعروف أن الواحد إذا نبغ ولمع نجمه واشتهر تداعى عليه الحساد بالمكائد.
وقد حصل ذلك لأمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- فقد كادوا له، وفي آخر عمره امتحن البخاري -رحمه الله- محنة عظيمة، وأخرج من بلده وسجن، ومنع من التحديث وطورد، وتكلموا فيه وفي عرضه -رحمه الله تعالى-، لما كان بعض أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك، ماذا كان البخاري -رحمه الله- يقول؟ وبماذا كان يتمثل؟ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76].
إذاً، هذا كيد من الشيطان، ولنصبر عليه، لأن كيده ضعيف.
هؤلاء المتآمرون، هؤلاء الذين تآمروا عليه، وحاكوا حبال المكر حولك، ما هو قولك وموقفك منهم؟ فكان يقول: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] فقال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك، قال: قال النبي ﷺ: اصبروا حتى تلقوني على الحوض ، وقال محمد بن أبي حاتم وسمعته يقول -يعني البخاري-: لم يكن يتعرض لنا قط أحد من أفناء الناس إلا رمي بقارع.
هذا من كرامات البخاري.
نهاية الذي يتعرض للبخاري أن تصيبه مصيبة، ولم يسلم.
وكلما حدث الجهال أنفسهم أن يمكروا بنا رأيت من ليلتي في المنام ناراً توقد ثم تطفأ من غير أن ينتفع بها، فأتأول قول الله -تعالى-: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ [المائدة: 64].
وكان رحمه الله- "وديدنه من الليل إذا أتيته في آخر مقدمه من العراق وهو ممتحن أنه كان يقرأ قول الله -تعالى-: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160].
أما شيخ الإسلام -رحمه الله- فقد ابتلي ابتلاء عجيباً، وقد حصلت له مواقف وبعضها غير مشهور، بل إن استيعابه يصعب على كثير من الناس، فيقول ابن القيم -رحمه الله-: كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة، ويقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها، تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له، حتى شياطين الجن كادوا لابن تيمية وحملوا عليه، وقد حملوا على من قبله وأفضل منه وقدوته وإمامه ﷺ، تحدرت عليه الشياطين بمشاعل من نار لتحرقه فكفاه الله شرهم، وأمسك رأسهم، فخنقه بيده حتى شعر ببرد لعاب لسانه على كفه في الصلاة ﷺ.
يقول ابن القيم عن ابن تيمية -رحمه الله-: وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة، كان مريضاً، فتكالب عليه بعض الشياطين، من شياطين الجن، غير شياطين الإنس، قال: فلما اشتد علي الأمر من إيذاء الجن هؤلاء، قلت لأقاربي من حولي: اقرءوا آيات السكينة، ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة، قال ابن القيم: وقد جربت أنا أيضاً قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته [مدارج السالكين: 2/502].
ما هي آيات السكينة؟
هذه الآيات موجودة في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] الآية.
وفي قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ [الفتح: 18] الآية.
وفي قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح: 26] الآية.
وفي سورة التوبة قوله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التوبة: 40] الآية.
وقد امتحن كثيرون، وخصوصاً عندما يمتحن أهل السنة على أيدي أهل البدع، ومن ذلك: امتحان الوزير ابن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء عندما وضع في السجن، ثم أحضر بين يدي البساسيري الباطني المجرم الخبيث الذي خرب بغداد، وعذب أعيانها، ونشر مذهبه فيها، وطرد خليفتها سنة أربعمائة وخمسين.
هذا البساسيري، أتى بهذا الرجل من أهل السنة، ماذا فعل به؟
وضع عليه جبة صوف وعلى رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ وأركبه جملاً أحمر، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة جلد، هذه مرحلة الإهانة، بعد الحبس الإهانة بين الناس.
ثم نثرت عليه خلقان المداسات وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه.
ثم أوقف بإزاء دار الخلافة، وجيء به إلى المعسكر فألبس جلد ثور بقرنيه وعلق بكلوب في شقيه، ورفع إلى الخشبة وهو معلق بكلوب من حديد في شدقيه، فجعل يضطرب إلى آخر النهار حتى مات.
من الأشياء التي كان هذا الرجل يقرأها وهو في هذه المحنة الشديدة؛ لأن هذا الرجل كان وزيراً يلقب برئيس الرؤساء من أهل السنة، والآن يفعل به هذا الفعل، هذا يشتد على الإنسان في مثل هذه الحالة جداً، يكون في عز، ثم يصبح في هذه الحالة، فكان يقرأ قول الله -تعالى-: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26].
ومات رحمه الله.
وكان من آخر كلامه: "الحمد لله الذي أحياني سعيداً، وأماتني شهيداً" والقصة في البداية والنهاية.
بعض الناس ربما يوجهون كلاماً في غير مناسبته، وبعيد عن الصواب، فيردون إلى الحق بآية من كتاب الله؛ كما حصل لوهب بن منبه -رحمه الله- لما امتحن حصل له شيء من الشدة، فقال له رجل من الأبناء: ألا أنشدك بيتاً من الشعر؟ يعني الشعر يمكن يهون عليك، قال له: نحن في طرف من عذاب الله، الشدة التي نحن فيها، نحن في طرف من عذاب الله، وإذا صار الواحد في طرف من عذاب الله، ماذا يجب عليه أن يفعل؟
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
الاستكانة والتضرع وليس سماع الشعر، فذهب يحدث عبادات لله في شدته تلك.
ولما دخل ابن تيمية -رحمه الله- القلعة وصار داخل سورها مسجوناً نظر إليها أو إلى هذا السور وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه في الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، ومع ذلك فكان أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها [الوابل الصيب، ص: 48].
ولما جاء نعي أخي ابن عباس لابن عباس، الخبر وصله في طريق السفر أن أخاك قد مات، لقد كان وقعه شديداً ولا شك على ابن عباس وهو يحب أخاه "قثم"، فماذا فعل ابن عباس؟
نزل عن الدابة، استرجع: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قام يصلي.
ثم قال: فعلنا ما أمر الله به: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45].
الاسترجاع والصلاة: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ هذا وقتها في هذه المصائب، أن يتسلى الإنسان بالصلاة عن المصيبة.
ولما أخذ الحجاج سعيد بن جبير وألقى القبض عليه، وجيء بسعيد، ومعروف أن الحجاج سيقتله عند الحاضرين، فبكى أحد الحاضرين، فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، معروف أن هذا الظالم لن يرحمك ولابد أن يقتلك، قال: فلا تبك، هذا الآن الرجل يواجه الموت، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا.
مما يهون عليه، يهون عليك أيضاً أنني وأنت نؤمن بأن الله قد علم في الأزل أن هذه المصيبة ستكون، مكتوبة قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلماذا نحزن على شيء مكتوب ومقدر ومفروغ منه إذا حصل؟
مكتوب كما قال الله : مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].
أحضر أبو بكر النابلسي الزاهد العابد التقي بين يدي المعز الفاطمي الباطني الخبيث، فقال له المعز، وبعض الناس يظنون أن المعز الفاطمي وهذا من خلفاء المسلمين وإن هو إلا من خلفاء الشياطين، فإن مذهبه كفر وردة عن الدين، ولما حكموا مصر اضطهدوا مذهب أهل السنة وعلماءها، وقتلوا من قتلوا منهم، ومنعوا قضاة أهل السنة أن يحكموا، وروجوا للشرك والكفر والقبور والمشاهد والأضرحة والموالد، وعملوا البدع، وكانوا يأخذون دعاة أهل السنة وأهل الفقه فيضطهدونهم ويعذبونهم، أبو بكر النابلسي من دعاة أهل السنة وعلماء أهل السنة رجل زاهد عابد، فألقى القبض عليه.
هذا المعز الفاطمي الخبيث وقال له وهو يحقق معه في المجلس: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميتنا يعني نحن الفاطميين بنو عبيد، ورميتنا بسهم، لو كان معك عشرة رميت الروم بتسعة ورميتنا بسهم، فقال أبو بكر رحمه الله: ما قلت هذا، فظن المعز أنه قد رجع عن قوله، قال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، أي الروم، الكلام الذي وصلك مقلوب، غلط، نرميكم بتسعة، لأنكم مرتدون، والمرتد أسوأ من الكافر الأصلي النصراني، ومجابهته وجهاده أوجب وقبل، نرميكم بتسعة والروم بواحدة، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم، هذا الإذلال، ثم ضرب في اليوم الثاني ضرباً بالسياط مبرحاً شديداً، وفي اليوم الثالث أمر بسلخه، يسلخ من الجلد، جلده يسلخ عن جسده، فجيء بيهودي، انظر إلى هذا الباطني الخبيث، من الذي يسلخ هذا السني المسلم؟ يهودي لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ [المائدة: 82] فجيء بيهودي، فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، أبو بكر النابلسي يقرأ القرآن وهو يسلخ، يسلخ جلده وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه في السلخ، طعنته بالسكين فمات.
وكان الدار قطني -رحمه الله- يذكره ويبكي ويقول: كان رحمه الله يقول وهو يسلخ: كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58].
أبو بكر النابلسي يقول وهو يسلخ الذي يصبره على الآلام الشديدة، هذا التعذيب العظيم: كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58] مصيبة قدره، كل هذا الذي يحصل الآن مسطور لا بد أن يقع، فليس لنا إلا التسليم والرضا بالقضاء.
القرآن شفاء للأبدان
المرض له شدة، وكان المرضى من سلف هذه الأمة يتروحون بالقرآن، يخففون عن أنفسهم من شدة المرض بالقرآن، فيقول يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحداً لقي من السخن ما لقي الشافعي، فدخلت عليه، فقال الشافعي في شدة المرض: اقرأ ما بعد العشرين والمائة من آل عمران، فقرأت فلما قمت قال لي، الشافعي يقول ليونس: لا تغفل عني فإني مكروب، قال يونس: عنى بقراءتي ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من الشدة والأذى من الكفار، لأنه ماذا يوجد بعد المائة والعشرين في سورة آل عمران بعد آية مائة وعشرين؟
آيات في غزوة أحد تذكر الشدة التي لقيها النبي ﷺ وأصحابه، فأراد الشافعي أن يخفف عن وقع المرض وشدته بهذه الآيات التي تذكر محنة النبي ﷺ.
وكان الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- يقول والمرض يشتد عليه مرض السرطان: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 3 - 4] في شدة ومشقة، في كبد، والشفاء من الله ومن الأسباب كتاب الله.
وكانت الفاتحة رقية عظيمة يرقي بها الصحابة كما رقى أبو سعيد الخدري ذلك الرجل المشرك من لسعة العقرب التي كادت أن تقضي عليه، فرقاه بسورة الفاتحة، فبرأ الرجل، قرأ سبع مرات عليه سورة الفاتحة، فبرأ من لدغة العقرب السام، قال ابن القيم -رحمه الله-: وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره، وليس شيء أشد على الصالحين من أن يمنعوا عن العبادة التي كانوا متعودين عليها، قال: فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، ليس أن الألم يزول تدريجياً، لكن يزول مباشرة، كأنه حصاة تسقط، "جربت ذلك مرارة عديدة، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً، فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين -والله المستعان-.
القرآن في ساحة الجهاد والحرب
فهذه آيات الكتاب شفاء للأبدان كما أنها شفاء للقلوب، كان القرآن مع المسلمين في الحروب وفي الجهاد وساحة الوغى، ما حققوا تلك الانتصارات العظيمة وأسقطوا أقوى دولتين في العالم فارس والروم إلا بكتاب الله -تعالى- والتمسك به والعمل.
لقد حارب الصحابة على جبهتين أقوى دولتين في وقت واحد، لم يسقطوا الدولة الأولى، ثم يتفرغوا للثانية، إن من العجب العجاب أن يتمكنوا من إسقاط أعظم دولتين وأقوى دولتين في العالم معاً في وقت واحد، كانت المعارك تدور على جبهة الفرس في العراق، وعلى جبهة الروم في بلاد الشام، لماذا؟
دخلوا هذه الحروب ومعهم شيء يتمسكون به ويرجعون إليه وينتعشون به ويتقوون به ألا وهو: القرآن الكريم، فرأوهم أي الأعداء رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، يتلون آيات الكتاب العزيز، فيكسبون بذلك قوة لو واجهتها الجبال لتحطمت، ولو قاومتها أمواج البحار لتراجعت وتقهقرت، يقول ابن كثير رحمه الله: وكانت واقعة أجنادين لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وقتل بها بشر كثير من الصحابة، وهزم الروم وقتل أميرهم القيقلان، وكان قد بعث رجلاً من نصارى العرب ليجسوا له أمر الصحابة، فلما رجع إليه، ماذا قال الجاسوس هذا القائد الرومي؟
قدم تقريراً عن المسلمين، قال: وجدت قوماً رهباناً بالليل، يقرأون الآيات القرآن يقومون بالصلاة فيها، فرساناً بالنهار، والله لو سرق فيهم ابن ملكهم لقطعوه أو زنى لرجموه، فقال له القيقلان: والله لئن كنت صادقاً لبطن الأرض خير من ظهرها، ما لنا بقاء، سيملكون مواضع أقدامنا هؤلاء.
وكانت آيات الكتاب العزيز تولد الحماسة في صدور المقاتلين وتثبتهم عند القتال، فجعل خالد بن الوليد في غزوة أجنادين المقداد بن الأسود، ما هي مهمته؟ أنه كان يدور يقرأ على المقاتلين سورة الأنفال وآيات الجهاد.
وكان زائدة بن قدامة في ليلة المعركة يطوف عليهم وهو يقرأ قول الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]
ويقرأ أيضاً قول الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلاً غير مدبر حتى قتل [تاريخ الطبري].
ولما انكشف بعض المسلمين وتراجعوا وانسحبوا من الميدان منهزمين، ما الذي ردهم إلى الميدان، ومنعهم من الانسحاب والتولي عند الزحف؟ وعظهم أميرهم بآية، أميرهم ردهم إلى المعركة بآية واحدة، قرأها عليهم وهم ينسحبون، آية ردهم إلى ميدان المعركة، وهي قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ [التوبة: 111].
ولما نزل الإفرنج دمشق وخرج إليهم أهل دمشق يحاربونهم، وكان معهم الشيخ الفندلاوي فيمن خرج، فلقيه الأمير المتولي لقتالهم ذلك اليوم قبل التلاقي، وقد لحق الشيخ مشقة من المشي، فقال له: أيها الشيخ الإمام ارجع فأنت معذور للشيوخية، قال: لا أرجع، نحن بعنا واشتري منا، نريد قول الله: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [التوبة: 111] فما انسلخ النهار حتى حصل له ما تمنى من الشهادة [معجم البلدان: 4/277 ].
لقد كانت آيات الكتاب العزيز تقرأ عند تسديد الرمية أيضاً إلى نحور الكفار، ولما غزا أبو معاوية الأسود وهو من كبار أولياء الله فيما نحسب مع المسلمين، وحاصر المسلمون حصناً للروم، وكان في هؤلاء المتترسين من النصارى رجلاً رومياً لا يرمي بحجر مسلماً إلا أصابه، فشكوا إلى أبي معاوية، فقال: اشتروني منه، فلما وقف أبو معاوية يسدد سهمه لذلك الرومي الذي لم تمكن إصابته من قبل ولا إيقاعه، وهو واقف فوق يرمي على المسلمين، فقال أبو معاوية: أين تريدون أن يصيب هذا السهم؟ قالوا: المذاكير، نريد أن نضحك من هذا الرجل الذي آلمنا في عورته، قال: أي ربي سمعت ما سألوني فأعطني ما سألوني، وقرأ قول الله -تعالى-: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى [الأنفال: 17]، ثم قال: بسم الله، ثم رمى المذاكير بإذن الله، فمر السهم حتى إذا قرب من حائط الحرس ارتفع حتى أخذ العلج في مذاكيره فوقع [سير أعلام النبلاء: 9/].
لما فتحت المدائن ودخل جنود سعد بن أبي وقاص الإيوان إيوان كسرى ورأى سعد ما خلف ذلك الطاغية من الأموال العظيمة والزروع الكثيرة، ورأى هذه النعمة التي كانوا فيها، لم يغتر بها ولم ينبهر بهذه الدنيا، وإنما كان الحس الحي مباشرة يلتقط الآية المناسبة في التعليق على ذلك الموقف، فلما رأى كنوز كسرى وما كان فيه من النعمة تلا مباشرة قول الله -تعالى-: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان: 25 - 28].
إنه لا يأخذ الآية في هذا الموضع إلا أهل القلوب الحية الذين هم بالقرآن متصلون دائماً وباستمرار، فلذلك تقفز الآية إلى أذهانهم فيتلونها في موضعها المناسب.
وفي وقعة نهرشير التي كانت بقيادة سعد بن أبي وقاص ومعه هاشم بن عقبة وصلوا إلى مكان يقال له: ساباط، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها: بوران، كتائب جنود معدة، قوات خاصة، وهم يقسمون هؤلاء الفرس كل يوم أنه لا يزول ملك فارس، يحلفون أنه لا يمكن أن يزول ملك فارس وكسرى وأنه باق، فحمل سعد وهاشم حملا مع من معهما من المسلمين على هؤلاء الفرس، وهاشم يتلو قول الله –تعالى-: أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [إبراهيم: 44] لقد حلفتم أنكم لا تزولون، ولا يزول ملككم أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [إبراهيم: 44] فحلت بهم الهزيمة.
وكان القرآن الكريم عند القادة يمكن أن تستلهم منه حتى الخطط العسكرية.
وقد فهم ابن كثير -رحمه الله- وهو يروي لنا تحركات المسلمين العسكرية في حرب المرتدين بقيادة أبي بكر الصديق يقول: حيث أن الصديق أمر كل أمير أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر، لما لحظ في ذلك من المصالح، وكأن الصديق اقتدى في ذلك، أن يوزع الجيش أقساماً كل جيش في طريق، ثم يلتقون عند مكان المعركة، وكأن الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب حين قال لبنيه: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف: 67].
وكان النبي ﷺ لما غزا خيبر فنزل بساحتهم، قال ﷺ: الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين [رواه البخاري: 371، ومسلم: 1365].
وواضح هذا الاستشهاد والأخذ من القرآن الكريم.
وحتى التخفي من العدو والفرار منه عند الشدة والحاجة القرآن الكريم ينفعهم، لقينا أحد الشيشانيين بعد موسم الحج، فقال يروي قصة عجيبة: دهم الجنود الروس منزلاً كنا مختبئين فيه، فهرب بعضنا وأما أنا فلم أجد إلا حفرة كانت مخصصة لجمع محصول البطاطس بجانب البيت، ماذا أفعل؟ أسقط في يدي، وهؤلاء يقتحمون، فألقيت بنفسي في الحفرة، فسمعت القائد الروسي يقول لأحد الجنود: اذهب وفتش الحفرة، قال: فرعبت وجعلت أقول: ماذا عساي أن أفعل وليس معي شيء وأنا محبوس في حفرة؟ مغلوب على أمري غير أني جعلت أقرأ آيات من القرآن، قال: فجاء الجندي الروسي فأطل في الحفرة، ثم رجع فقال للآخر: لا يوجد أحد وذهب، فسألته: ما هي الآيات التي كنت تقرأها؟ فقال: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يــس: 9].
دعوة الكفار بآيات القرآن
كانت آيات الكتاب العزيز ترسل للدعوة يدعى بها الكفار إلى الإسلام، كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- في الرسالة التي أرسلها النبي ﷺ إلى هرقل عظيم الروم : بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين: و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] [رواه البخاري: 2941، ومسلم: 1773].
كانت آيات الكتاب العزيز إذاً يوعظ بها الكفار ويدعون بها إلى الله، وهذه الآيات تتحدث أكثر مما يتحدث أحدنا بلسانه وأبلغ، وعندما يتلوها يكون لها الأثر العظيم.
فينبغي على الدعاة إلى الله ألا ينسوا وعظ الناس بالقرآن وتلاوة الآيات عليهم، فإن لهذه الآيات من التأثير في النفوس أكثر من كلام البشر، ما هي الشروط؟
عندما تقرأ من قلب حي معمور بالإيمان، فتؤثر في الناس، مدينة النبي ﷺ لم تفتح بالسيف، وإنما فتحت بماذا؟
بالقرآن كما قال ابن القيم -رحمه الله-: مدينة النبي ﷺ لم تفتح بالسيف، وإنما فتحت بالقرآن.
من الذي فتحها؟
ابن أم مكتوم، ومصعب بن عمير، أرسلهما النبي ﷺ، ماذا كانا يفعلان في أهل المدينة؟ يقرآن القرآن على الناس.
وهكذا حصل التأثر العظيم والتمهيد لدخول النبي ﷺ.
وهكذا كان في الدعوة مجال عظيم لاستعمال الآيات، ومن الأمثلة التي حصلت في ذلك ما جاء عن رجل من المسلمين كان له خال يشرب من الشراب على التأويل، شراب مسكر يتأول به ويقول يمكن الخمر فقط من العنب، أما من التمر وغيره فربما لا يكون هذا حراماً، فكان ابن أخته يقرأ عليه يوماً سورة الأنفال، حتى بلغ قول الله -تعالى-: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] فقال: يا خال إذا ميز الله الخبيث من الطيب يوم القيامة، وبالأحكام الشرعية في الدنيا يميز الله الخبيث من الطيب، يا خال إذا ميز الله الخبيث من الطيب، أين يكون هذا الشراب الذي تشربه؟ قل: هو طيب أم خبيث؟ قال: فنكس رأسه طويلاً، ثم قال: مع الخبيث.
لم يستطع أن يقول: إن هذا الشراب مع الطيب، كما لو أنك قلت اليوم لأحد المدخنين: هذا الدخان الذي تدخنه برائحته وأضراره الصحية وما يتلف من الأموال وما يعرض الخطر من الأجنة، وغير ذلك، حدد لي هل هذا الدخان طيب أو خبيث؟ إن الله قسم المطعومات والمشروبات إلى قسمين لا ثالث لهما البتة، فحرم الخبيث وأحل الطيب وقال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [الأعراف: 157] فأخبرني الدخان هذا أين يقع؟
قال ابن الأخ لخاله: فترضى أن تكون مع أصحاب الخبيث، قال: يا بني امض إلى المنزل فاصبب كل شيء فيه، وتركه.
تاب من ذلك الموقف، فأعقبه الله الصوم، لما ترك الخبيث هذا رزقه الله حب الصيام، فوجد حلاوته، فكان يصوم كثيراً.
وعظ المنحرف بآيات القرآن
وحتى المنتكس كان يوعظ بآيات من الكتاب العزيز، فيقول يزيد بن الأصم: أن رجلاً كان ذا بأس، وكان يوفد إلى عمر لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده، مرت فترة ما جاءه هذا الرجل، فسأل عنه، فقيل له: تتابع في هذا، الرجل حصل له ضعف وانتكس وطاح ووقع في هذا الشراب المسكر، صار من أهل الخمر، فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا الله إليه المصير، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأه ويقول: غافر الذنب قد وعدني أن يغفر لي، وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقابه، ذي الطول، والطول الخير الكثير، لا إله إلا هو إليه المصير، فلم يزل يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع عن الخمر، فأحسن النزعة وتاب وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زل زلة فسددوه ووفقوه وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.
وكان الخليفة إذا تولى يجد من يعظه بآيات من القرآن الكريم، أذن عبد الملك للناس في الدخول عليه إذناً خاص، فدخل عليه شيخ رث الهيئة لم يأبه له الحرس، فألقى بين يدي عبد الملك صحيفة وخرج.
هذا كل ما فعله ذلك الشيخ، ألقى رسالة وخرج، فلم يدر أين ذهب، وإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها الإنسان قد جعلك الله بينه وبين عباده، فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26]، هذه أخذها من سورة ص، وأخذ من المطففين آية أخرى أيضاً، فقال له في هذه الرسالة: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 4-6].
ووعظه باليوم الآخر أيضاً في آية هود، فكان مما كتبه له: ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [هود: 103].
وكذلك قال له: إن اليوم الذي أنت فيه، في الملك، لو بقي لغيرك ما وصل إليك، واستدل على ذهاب أملاك بعض من سبق بقول الله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل: 52] قال: وإني أحذرك يوم ينادي المنادي: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات: 22]، وختمها بقول الله تعالى: أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] قال: فتغير وجه عبد الملك فدخل داراً ولم تزل الكآبة في وجهه بعد ذلك.
تشجيع أصحاب الأعمال الصالحة بآيات القرآن
وكانت آيات الكتاب العزيز يؤخذ منها التشجيع لأصحاب الأعمال الصالحة، يقول أحد الصالحين: شاهدت الحافظ عبد الغني الجماعيلي في الغلاء بمصر يؤثر بعشائه ثلاث ليال، ويطوي بطنه على الجوع، رأيته يوماً وقد أهدي إلى بيته مشمش، في وقت الغلاء وقلة الطعام وندرته يؤتى إلى بيت الحافظ بمشمش، فكيف كان هذا الحافظ عبد الغني قد ربى أهله؟ جعلوا يفرقونه مباشرة، رباهم على البذل والجود والإيثار عند الحاجة ولو كانت بهم خصاصة، وهذا طعام يعتبر نفيس في وقت الغلاء الشديد، فلما رأى هذا المنظر كيف يفرق أهله الطعام، قال: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92].
وهكذا في إنكار المنكرات كما في التشجيع على الصالحات، ولما بلغ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن أحد الطواغيت المجرمين يريد قتل أحد الدعاة المسلمين، فاعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم في مثل هذه النازلة، وكلف أحداً أن يكتب برقية مناسبة لهذا الموقف، فكتبها بأسلوب شديد ظن أن الشيخ سيعدل فيها ويلطف، ولكنه حطم كل التوقعات حين قرأها، ولم يكتف رحمه الله حتى أضاف إليها قول الله -تعالى- في سورة النساء: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
تلاوة آيات القرآن عند الاحتضار
وختاماً: كانت آيات الكتاب العزيز تتلى عند الاحتضار، وصح عن بعض الصحابة أنه أمر بقراءة سورة يس عليه عند احتضاره، وقال العلماء: إن قراءة سورة يس على الميت وهو يحتضر، وليس بعد الموت، لأنه لم يثبت حديث قراءتها بعد الموت على الميت، وإنما جاء عن الصحابة قراءتها على المحتضر، وذلك لأن فيها من الآيات في التذكير باليوم الآخر وغيره من عجائب الله وقدرته ما يسهل خروج الروح، هكذا وجدوه أيضاً بالتجربة.
قراءة "يس" على المحتضر يسهل خروج الروح، وتثبت ذلك المحتضر.
وكان بعضهم يقرأ آيات فيموت عليها، ويختم له بها؛ كما أن ابن تيمية رحمه الله كان آخر ما قرأه قبل أن يموت: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر: 54 - 55].
وكان رجل أسرف على نفسه فيمن مضى، فلما حضرته الوفاة بعدما تاب ونزل به الموت وأراد الله به خيراً فيما نحسب، فإذا به يقرأ قول الله تعالى وهو يموت: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 68 - 71].
أثر القرآن على الكفار
ولا نعجب -أيها الإخوة- من تأثير هذا القرآن على الكفار والفاسقين، وأن يكون لأهله كرامات، فنختم حديثنا بهذه القصص إن للقرآن أثراً على الكفار، وإن له سلطاناً عليهم إذا استمعوا إليه بقلوب، وقد قرأ النبي ﷺ سورة النجم مرة، وكان بعض الكفار يستمعون إليه، فلما بلغ آخر السورة، وقرأ قول الله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 59-62] سجد النبي ﷺ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، سجدوا جميعاً، كانت تلك الآيات عجيبة حقاً، وسجد الكفار. والحديث في البخاري عن ابن عباس: سجد النبي ﷺ بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
فكيف كان هذا؟ كيف حدث هذا أيها الإخوة؟ وكيف صار لهذا القرآن هذا السلطان؟
قال أحد الكفار وهو يعلق على هذه الآيات، وذكر أنه كان يستبعد هذه القصة وكيف يسجد مشركون كفرة لهذه الآيات، فقال: لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود، ويخطر لي احتمال أنه لم يقع، وإنما هي رواية، وبينما أنا كذلك وقعت لي تجربة كنت بين رفقة نسمر حين طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثراً وهو يرتل القرآن ترتيلاً حسناً وشيئاً فشيئاً عشت معه فيما يتلو، وعشت مع محمد ﷺ في رحلته وهو شهيد جبريل، عشت معه وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وأنوثتها، إلى آخر هذه الأوهام المضحكة، ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ في الأرض وأمام الأجنة في بطون الأمهات، وعلم الله يتابعها ويحيط بها، وارتجف كياني في وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة الغيب المحجوب، والعمل المكتوب، وحشود الموتى وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، والنشأة الأخرى، ومصارع الغابرين، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 56 -57] ثم جاءت الصيحة الأخيرة واهتز كياني كله: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُون فلما سمعت قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 62] كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقاً إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر لم أملك مقاومته، فظل جسمي كله يختلج ولا أتمالك أن أثبته ولا أن أكفكف دموعاً هاتنة لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة، وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب، إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، لم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها وكأنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة، وذلك سر القرآن لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعاً، وهكذا مست قلوب المستمعين للنبي ﷺ وهم يسمعونها منه.
أثر القرآن على اللصوص والفسقة
إن هذا القرآن له الأثر على الفسقة، وكثير من الدعاة يحتك بهم، فكيف يكون إذاً التعامل معهم؟
إنه يكون -أيها الإخوة- بالكتاب العزيز، إن قارئاً بالليل يقرأ كان سبباً في هداية رجل كان مجرماً في فترة من الزمن، فصار من كبار العباد في هذه الأمة، كان الفضيل بن عياض لصاً يقطع الطريق على المسافرين بالسلاح يخوفهم ويسلب أموالهم، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها أي ليفجر بها، إذا بقارئ في بيت مجاور يقوم الليل وهو يقرأ قول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16] فلما سمعها قال: بلى قد آن يا رب، فرجع ولم يذهب إلى تلك المرأة فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة أي مسافرون يستريحون، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: لا، حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، وهم لا يدرون أنه يستمع إليهم، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم أني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
أيها الإخوة: نقاش مع أناس لهم منزلة، ونقاش مع العامة يبقى القرآن له سلطانه، واحد من عامة المسلمين في الحرم يصلي وبجانبه رجل من المبتدعة يصلي صلاة سريعة جداً، يصلي صلاة ما أنزل الله بها من سلطان، عندهم صلاة بأعداد معينة، يصلون في وقت معين، بسرعة كبيرة جداً، فبعدما خلص هذا قال العامي له: يا أخي صلاة ركعتين بخشوع وتأني أحسن لك من هذا الذي تفعله كله، فقال المبتدع مغتراً: أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ فقال العامي المسلم السني فوراً: هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية؟
أعرابي كان في اليمن لما أرسل النبي ﷺ معاذاً إلى اليمن، صلى معاذ بهم، فقرأ: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125] فقال رجل من القوم لما سمع: واتخذ الله إبراهيم خليلاً، الله اتخذ إبراهيم خليلاً، فقال: لقد قرت عين أم إبراهيم، يا حظها أم إبراهيم على هذه المنقبة لولدها. والحديث في البخاري.
قال ابن حجر: قرت عين أم إبراهيم أي حصل لها السرور، وكنى عنها بقرت العين أي قرت عينها أي بردت دمعتها، لأن دمعة السرور باردة بخلاف دمعة الحزن فإنها حارة، ثم تكلم في قضية هل أمر معاذ الرجل بالإعادة أو أنه لجهله عذره، وهذه مسألة أخرى.
بعض كرامات الله لأهل القرآن
أخيراً: فإن للقراء كرامات، قراء الكتاب العزيز شاهدها الناس ويشاهدونها ولا زالوا، رأى بعض الصالحات امرأة عائدة من الحج لزيارة أخت لها في الله، فأوصلها زوجها إلى المستشفى، فصعدت لزيارة صاحبتها وانتظر هو، فتأخرت المرأة فصعد ليرى ماذا حصل لزوجته، فسأل ووقع إذا امرأته قد أغمي عليها وهي في الإنعاش، زوجته هذه التي عادت من الحج تذهب لزيارة مريضة راحت الآن في غيبوبة، بقيت في العناية المركزة أسبوعاً، ويظهر أن هذه المرأة صالحة معتنية بكتاب الله، قالوا: فسمعناها تقرأ في الغيبوبة سورة تبارك حتى ماتت، أنهت سورة تبارك ثم ماتت.
ومعروف مفعول سورة تبارك في الوقاية من فتنة القبر.
وحدثني أحد طلاب الشيخ عامر بن السيد عثمان شيخ المقارئ سابقاً في مصر أنه لما جاء إلى مجمع المدينة، هذا الشيخ حنجرته شبه معطلة أصلاً، وصوته مثل الفحيح لا يكاد يسمع، فبعض الناس لما جاءوا إلى حلقة الإقراء لهذا الشيخ استغربوا، قبل الإقراء سلموا عليه قالوا: السلام، رد السلام لا يكاد يسمع، فلما جلس الشيخ في حلقة الإقراء وأخطأ القارئ انطلق صوت الشيخ قوياً مجلجلاً يرد عليه، ولما قام يصلي بهم، الصلاة كاملة القراءة واضحة، بقية حديثه لا يكاد يسمع، وشهد على هذا أعداد يعرفون ذلك من طلابه، عدد طلابه مائة وخمسون في إحدى الحلقات وهو ينتقل من مقرأة إلى مقرأة، ولما جلس مرة في مجلس، فسألوه: ماذا يقرأ بالليل؟ هل لك ورد معين؟ قال: أقرأ في جزء من الليل، ما هو كل الليل، جزء من الليل جزءاً من القرآن من الأجزاء الثلاثين بالقراءات العشر، كل ليلة.
-طبعاً- أصحاب الخبرة يعرفون أن قراءة جزء بالقراءات العشر يمكن يعادل قراءة عشرة أجزاء أو أقل أو أكثر حسب وجوه القراءات الموجودة في الآيات، وهذا عندهم شيء غير معقول، ومع ذلك هذا الشيخ يقرأ جزءاً كامل بالعشر القراءات العشر في جزء من الليل، ولما دخل في غيبوبة في المستشفى في المدينة النبوية سمعه من حوله وهو في غيبوبة يقرأ القرآن يرتله بصوت واضح جداً حتى مات رحمه الله تعالى.
الشيء إذا انطبع في الداخل وصار في الباطن ممكن يظهر أثناء النوم وأثناء الإغماء، وهذا معروف حتى عند علماء النفس.
فهذه طائفة من الأخبار عن أثر هذا القرآن، ومكانة هذا القرآن في الأمة في أجيالها القديمة والحديثة والمتوسطة.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن، وأن يتم علينا نعمته بهذا القرآن، وأن يجعله شافعاً لنا يوم الدين، وحجة لنا لا حجة علينا.
اللهم اغفر ذنوبنا، وأصلح ذات بيننا، وأخرجنا بكتابك من الظلمات إلى النور، إنك سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين.