الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه بما علّمنا وأدّبنا وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنلتقي مرة أخرى وإياكم في هذه الليلة لنتكلم عن أدب مهم من الآداب الإسلامية التي ينبغي أن تكون بين الإخوة، وعنوان درس هذه الليلة: "العفو والاعتذار بين الإخوة".
ولا شك أن الشيطان ينزغ بين الإخوان، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53].
ولما كان الشيطان ينزغ بين الإخوان ويحصل من بعضهم خطأ على إخوانهم الآخرين، فيخطئ هذا في حق هذا، أو يتكلم بكلمة تؤذيه، أو يتصرف بعمل يؤذيه، كان لا بد من شيوع خُلُق وأدب العفو والاعتذار بينهم، حتى تصفو النفوس، ويُرجع الحق إلى صاحبه، وإلا فإن قلة أو انعدام هذا الأدب بينهم يتسبب في القطيعة والشحناء واستمرار البغض بين الإخوان.
حث الشريعة الإسلامية على العفو والصفح
أما العفو فإن الله قد أمر به، وقال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: 109].
وكذلك فإنه قال لنبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. وأخبر أن العفو أقرب للتقوى، فقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237].
ومدح الله أهل العفو بقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].
وقال الله : فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85]. آمراً نبيه ﷺ.
وكذلك قال: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]. وقال الله : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34]. وقال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: "قال ابن عباس: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوه عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم".
ومن أسمائه : العفو؛ لأنه يعفو عن الذنوب، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. ويحقق أمل الآملين، ودعاء الداعين له سبحانه بالمغفرة، ومن دعاء المؤمنين: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة: 286]. والله عفو يحب العفو، وقد عفا عن المؤمنين في مناسبات كثيرة، ولا زال سبحانه يعفو عنهم، وقد عفا عن المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وقال الله فيهم: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 99]. وعسى من الله موجبة، لابد أن يتحقق، وعفا عن المخالفين يوم أُحد، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران: 155]. وقد عفا الله عن نبيه ﷺ لإذنه للحالفين بالتخلّف، فقال : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43]، قال عون -رحمه الله-: "هل سمعتهم بمعاتبة أحسن من هذه؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ، ثم قال: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ، فعفا عنه ثم عاتبه بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ .
[الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 4/210].
المعاني اللغوية والشرعية لكلمة العفو
وأما العفو في اللغة فإنه يكون بمعان متعددة، فمنها: ترك العقوبة، وهذا هو المعنى الذي يناسب هذا الموضوع.
العفو: ترك العقوبة، والفرق بين العفو والصفح فإن الله أمر بهما فقال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور: 22]، أن العفو ترك العقوبة، والصفح الإعراض عن الخطأ ونسيانه وعدم ذكره ولا تذكره ولا تعيير المذنب به، فالعفو ترك العقوبة، والصفح ترك التذنيب والتأنيب، ومن الناس من يعفو ولا يصفح.
والله أمر بالعفو في عدد من المواضع؛ فمن ذلك: قوله : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14].
ندب إلى العفو. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية، فقال: "فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم" [تفسير الطبري: 23/423].
ناس مسلمون بمكة أرادوا الهجرة، ولكن أزواجهم وأولادهم منعوهم من الهجرة، فلما أتوا رسول الله ﷺ رأوا الناس قد فقهوا في الدين، يعني علموا أنهم قد فاتهم خير كثير، هاجروا إلى المدينة فوجدوا الناس قد تعلموا علماً كثيراً وهم جالسين في مكة، فهموا أن يعاقبوهم، يعني يعاقبوا الأزواج والأولاد الذين منعوهم من الهجرة، وحالوا بينهم وبينها، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14]. وكذلك فإن الله قد ندب إلى العفو في القصاص فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 178]. فإذن، ندب وقال: مِنْ أَخِيهِ ليحيي رابطة الأخوة ويذكرهم بها.
ولذلك فإن الإنسان أن يسقط حقه في القصاص، لأولياء المقتول أن يسقطوا الحق ويعفو عن القاتل، أو يطلبوا الدية بدلاً من القصاص، وكذلك الإنسان إذا اعتُدي عليه ففُقئت عينه أو كسر سنه، فله أن يعفو، بل إن عفوه له عليه أجر عظيم. وقد قال النبي ﷺ: تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب [رواه الحاكم في المستدرك: 8156، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]. يعني ينبغي أن يكون العفو والإسقاط قبل أن يصل إلى الإمام؛ لأنه إذا وصل إلى الإمام فقد وجب، فمن عفا عن سارق، سقط عن السارق حد السرقة، لكن إذا وصل السارق إلى القاضي قبل أن يعفو المسروق منه فقد وجب.
وكذلك فإن الله رغّب إلى العفو في الطلاق ومستحقات الطلاق، فقال الله : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237]. فالمرأة إذا طلقها زوجها قبل الدخول، يكون لها من المهر نصفه، وإذا طلقها بعد الدخول فلها كل المهر، والله يبين هنا الطلاق قبل الدخول، يقول: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وسميتم المهر فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، فرغّب كلاً من الزوجين في العفو عن الآخر، فعفو الزوجة: أن تتنازل عن نصف المهر الذي لها، لها نصف المهر، عفوها أن تتنازل عن نصف المهر الذي لها وتركه لزوجها، فما هو عفوه، إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وعفو الزوج أن يدفع لها المهر كاملاً، والله أخبر أن العفو، قال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فالعفو بينهم أقرب للتقوى، بالرغم من أنه طلاق وانفصال، إلا أنه رغب في العفو.
عفو نبي الله يوسف -عليه السلام- عن إخوته
والأنبياء -رضوان الله تعالى عليهم- قد ضربوا المثل الكبير في العفو، ومن الشواهد الواضحة في القرآن الكريم: عفو يوسف وأبوه يعقوب، فإن يوسف قد عفا عفواً كتبه الله في كتابه، ذكره الله في كتابه، فقال الله لما أخبر أنهم أخذوه من أبيه آلموا الأب بإبعاد الولد عنه، وآلموا الابن بإبعاده عن أبيه، وآلموا الابن الأصغر بإبعاد أخيه يوسف عنه، وقد كان في غاية المحبة، ثم أخذوا الولد، وألقوه في غيابة الجب لا شفقة ولا رحمة، وتسببوا في بيعه واستعباده واستذلاله، وأن يكون خادماً، وأن يدخل السجن، كل المآسي التي جرت على يوسف بسبب إخوته، ولكن الله هو اللطيف، فإنه قدّر ليوسف هذه الأشياء ليزداد إيماناً ولترتفع مرتبته، ولذلك لما صبر يوسف على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله، كافأه الله بأن جعله على خزائن الأرض، واضطر إخوته إليه، فجاء إخوته شحاذين يسألونه، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف: 88]. صاروا بمنزلة السؤال يمدون أيديهم ليوسف ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف: 88]. فأحوجهم الله إليه لما ظلموه فصبر، جعلهم مضطرين إلى يوسف، أتوا إليه بالذل يمدون أيديهم، يقولون: تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين، ولكن يوسف نبي، وأخلاق الأنبياء شيء آخر، قال: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ [يوسف: 89، 90]. هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ لما فرقتم بينهما، وأضرمتم صدريهما بنار البُعد، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ* قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 89، 90]. التقوى والصبر، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ هنا اعتذروا فقالوا: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا اعترفوا واعتذروا، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف: 91]، لكن يوسف لم يدعهم ليواصلوا التوسل والطلب وذرف الدموع على ما حصل منهم والاعترافات المتوالية، وإنما عاجلهم بقوله: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92]. لا توبيخ ولا زجر ولا تعنيف ولا عقوبة، لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92]، ثم دعا لإخوته فقال: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92]، فهذا عفو نبي لا يتأتى لأي أحد، بعد كل هذه المعاناة وصار بإمكانه أن يبطش بهم، وعنده من القوة ما يستطيع أن يرد الصاع صاعين، وأن يعاقب والمعاقبة جائزة شرعاً وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126]، جائز أن يعاقبهم على فعلهم بمثل ما فعلوا به، لكن أخلاق الأنبياء أمر آخر، وكذلك أبوه عفا عن أولاده، لما رجعوا إليه قالوا: يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [يوسف: 97]. اعترفوا بخطئهم، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف: 98]، وعفا عنهم، وكانت قصة يوسف من الأشياء التي يذكر بها في العفو، يعني لو كان هناك إنسان أُخطئ عليه، فأراد أن ينتقم، فإنه يذكّر بقصة يوسف، ولذلك لما أراد أمير من الأمراء أن ينتقم من أشخاص دخل عليه الحسن البصري فوعظه، وذكر له قصة يوسف وما صنع به إخوته من بيعهم له وطرحهم له في الجُب، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس، ثم قال: أيها الأمير ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، يعني نصره عليهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع حين أكمل له أمره، وجمع له أهله؟ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92].
عفو نبي الله موسى عليه السلام
وأما موسى فالذي جرى بينه وبين هارون أيضاً من الأمثال العالية في العفو والاعتذار، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ [الأعراف: 150].
الله أخبر موسى من قبل أن قومه قد عبدوا العجل، فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 85]، أعطاه الألواح وأخبره أن قومه عبدوا العجل، لكن موسى ما ألقى الألواح لما جاءه الخبر، مع أن الخبر صدق لا شك فيه، لكن لما ذهب إلى قومه فرأى بعينه ما حصل ألقى الألواح؛ لأن الخبر ليس كالمعاينة، يأتيك الخبر، لكن إذا رأيته بنفسك وعاينته، الواقع أشد، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ [الأعراف: 150]. من شدة الغضب ألقى الألواح، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف: 150]، جعله أميراً عليهم استخلفه فيهم، قَالَ ابْنَ أُمَّ الآن هارون يبدي عذره إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي يعني وصلت المسألة إلى حد قريب من القتل فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف: 150]، وقال له أيضاً: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94]، فسرعان ما رجع موسى إلى نفسه، وعفا عن أخيه، وقال: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف: 151].
صور مشرقة من عفو النبي -صلى الله عليه وسلم-
وأما نبينا ﷺ فإن قصصه في عفوه كثيرة، وهو موصوف بأنه يعفو كما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن هذه الآية التي في القرآن: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45]، قال عبد الله بن عمرو: "لها مثيل في التوراة، آية في التوراة تصف النبيﷺ وهي: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً وحرزاً للأميين"، حرزاً حصناً، حرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظٍ ولا غليظ ولا سخّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، هذه صفة نبينا ﷺ في التوراة، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صُمّاً وقلوباً غُلفاً" [رواه البخاري: 2125].
عفوه -صلى الله عليه وسلم- عن أعدائه
وأما عفوه ﷺ فقد شمل الأعداء أيضاً، وليس فقط أصحابه وإخوانه، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها- للنبي ﷺ: "هل أتى عليك يوم أشد من يوم أُحد؟ قال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، وجاءه جبريل فقال: إن الله أرسل لك ملك الجبال على أمرك ماذا تأمره ينفذ، "فسلّم عليه ملك الجبال، ثم قال له: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئتَ، إن شئت أطبقتُ عليهم الأخشبين" الجبلين العظيمين اللذين بينهما مكة، أنت تأمر وأنا أنفذ، "إن شئت يا محمد ﷺ أطبقتُ عليهم الأخشبين، فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً [رواه البخاري: 3231].
ولم يرض النبي ﷺ بأن يهلك القوم، عفوه عن قومه، بل إنه ﷺ كما قال أحد الصحابة: كأني أنظر إلى رسول الله ﷺ يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
وقيل في شرح الحديث: إنه هو النبي ﷺ، إنه حكاها عن نفسه، ولكن ما أخبر تواضعاً، يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون [رواه البخاري: 3477].
عفوه -صلى الله عليه وسلم- عن إخوانه المسلمين
أما عفوه ﷺ عن المسلمين فهو كثير، ويتجلى عفوه عمن كان يؤذيه من الأعراب، الأعراب كانوا يؤذون النبي ﷺ بالقول والفعل، وكان يحلم ويصفح ويعفو، عن أنس قال: "كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، احمرت صفحة عاتق النبي ﷺ من شدة الجبذة، ثم قال الأعرابي: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، يعني بكل صلافة وقلة أدب، جبذه وقال: مر لي يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه ﷺ فضحك ثم أمر له بعطاء" [رواه البخاري: 3149، ومسلم: 1057]. ﷺ.
ولما فعل حاطب ما فعل، وكانت فعلة عظيمة، كان ربما تؤدي بجيش المسلمين، استدعاه النبي ﷺ وسأله، فقال حاطب: "والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله ﷺ أنا مؤمن، أردت أن يكون لي عند القوم يد ويدفع بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فأردت أن يكون لي بهذا من يدفع لي عن أهلي ومالي، فقال النبي ﷺ: صدق فلا تقولوا إلا خيراً [رواه مسلم: 2494].
ولما جاءه وحشي قاتل عمه حمزة سأله ﷺ أن يجلس ويخبره كيف قتل حمزة، فلما أخبره مع أن الخبر يجيش في نفسه ﷺ الانتقام، ولكنه ﷺ نفسه طاهرة لا يأتي فيها هذا، وكان غاية ما قال له أن قال: ويحك غيّب وجهك عني [رواه الطبراني في الأوسط: 1800، وقال الألباني: حسن لغيره: 2/269]. لا أراك. وكذلك هند بنت عُتبة التي لاكت كبد حمزة لما جاءت مسلمة لم ينتقم منها ﷺ. [رواه البخاري: 2211، ومسلم: 1714].
ولما ربُط ثمامة بن أثال الكافر المشرك في المسجد ثلاثة أيام يعرض عليه الإسلام فيأبى، ثم قال ثمامة: "إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر"، فأطلقه ﷺ وكان ذلك سبباً في إسلامه. [رواه البخاري: 462، ومسلم: 1764]. عفوه كان مثلاً، وكان محوّلاً للأعداء إلى إخوان وأحباء، وكان يكسب بعفوه القلوب، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159].
عفوه -صلى الله عليه وسلم- عن أصحابه
وأما صحابة النبي ﷺ فإن العفو فيهم ظاهر معلوم، والأمثلة كثيرة.
ومن ذلك: عفو الصديق ، وله أمثلة، ومن أعظمها حديث الإفك، لما تكلموا في عرض ابنته وقذفوها وسار الخبر وانتشر، ووقعت في همّ عظيم، ووقع هو وزوجته أم عائشة في همّ عظيم، حتى أنزل الله الفرج إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ.. [النور: 11]. الآيات، فلما نزل ذلك، وكان أبو بكر الصديق ينفق على مسطح لقرابته منه، ومسطح من الذين تكلموا في الإفك، قال: "والله لا أنفق على مسطح شيئاً " بعدما تكلم في عائشة، حلف ألا ينفق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية العظيمة: وَلَا يَأْتَلِ لا يمتنع، وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22]. وليعفوا وليصفحوا، فقال أبو بكر: "بلى والله إني لأحب أن يغفر لي"، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، أرجع إليه النفقة وكفّر عن يمينه، هذا تفاعله مع الآية: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال ابن كثير -رحمه الله-: "فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك، فعند ذلك قال الصديق: "بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا"، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: "والله لا أنزعها منه أبداً" في مقابلة ما كان قال: "والله لا أنفعه بنافعة أبداً". فلهذا كان الصديق وعن ابنته، قال في بداية الأمر: والله لا أنفعه بنافعة أبداً، لكن لما نزل: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ، رجع إليه النفقة.
[تفسير ابن كثير ت سلامة: 6/31].
عفو الخليفة عمر -رضي الله عنه-
وعمر كذلك كان مع شدته في الحق متخلقاً بخلق العفو، فقد جاء في صحيح البخاري أن ابن عباس قال: "قدم عُيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه حُر بن قيس، وكان -أي الحر بن قيس- من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرُ لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هيه يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل -ما تعطينا الكثير- ولا تحكم بيننا بالعدل"، أحدهم يقول لعمر هذا الكلام، فغضب عمر وحتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
وكذلك كان العفو في السلف كثير، والقصص كثيرة ومتعددة، وعلى سبيل المثال ما حدث من خادم أحدهم لما كان حوله الضيوف والخادم بصحفة الطعام فوق رأس سيده، فمالت الصحفة وانسكب الطعام فوق رأس السيد أمام الضيوف، موقف يبعث على الغضب، ويحرك النفس للعقوبة، فقال الخادم مباشرة يقول الله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فسكت السيد، قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]. قال: أنت حر لوجه الله، جاءت القصة عن الحسن بن علي بن أبي طالب وغيره.
وفي هذه الرواية أنه قال له: "قد عفوتُ عنك، ثم قال: أنت حر لوجه الله، وقد زوجتك فلانة، فتأتي وعلى ما يصلحكما" وادفع المهر بعد ذلك. أعتقه وزوجه في ذلك المجلس بآية: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]، وكلما كان الأشخاص صاحب منزلة في الإسلام والدين والعلم والتقى ينبغي العفو عنهم قبل غيرهم، لذلك عمر لما طعن أوصى بوصايا، فمن ذلك أنه أوصى: أوصي الخليفة بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، وأوصي الخليفة يعني من بعدي بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل أن يهاجر النبي ﷺ أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم".
وينبغي بين الإخوان إشاعة خلق العفو والصفح، فإذا حصل عليه ما يؤذيه من أخيه يسارع إلى التنازل، وترك المعاقبة ولو بالكلام، وعلى الأخ أن يدرك أنه إذا اعتُذِر إليه أن يقبل الاعتذار، وإذا جاءك الذي أساء إليك يعتذر إليك ويسترضيك فاعلم أنه قد سعى في محو زلته، وأراد أن يكفّر عن خطيئته في حقك، والاعتذار دية الذنب.
قال الشافعي -رحمه الله-: "قيل لي:
قد أساء إليك فلان | ومقام الفتى على الذل عار |
واحد أخطأ عليك وأنت تسكت، هذا عار؟
قلت:
قد جاءني وأحدث عذراً | دية الذنب عندنا الاعتذار |
[الآداب الشرعية والمنح المرعية : 1/302].
وكثير من الناس إذا اعتدي عليه أو أخطئ عليه ثم جيء معتذراً إليه لا يقبل، يسترضى فلا يرضى.
وقال الشافعي أيضاً: من استُرضي فلم يرض فهو شيطان" [الأذكار للنووي: 55]. أنه ركبه الشيطان.
وينبغي على المسلم أن يقبل اعتذار أخيه وأن يعفو عنه، ما دام أنه قد رجع، فلماذا لا يُقبل منه؟
ويدل على هذا المعنى حديث أبي الدرداء قال: "كنت جالساً عند النبي ﷺ إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي ﷺ: أما صاحبكم فقد غامر وعورة الرجل بين السرة والركبة بين، ولذلك الصحيح أن السرة بذاتها والركبة ليستا من العورة، ولكن ما بينهما عورة، فقال النبي ﷺ: أما صاحبكم فقد غامر فسلّم أبو بكر ، وقال: "يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، صار بيني وبينه زعل، فأسرعت إليه، يعني أخطأت عليه، ثم ندمتُ، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، يقول أبو بكر: أنا أسرعت إليه وأخطأت عليه، لكني ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، عمر أبى، فقال النبي ﷺ: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاث مرات ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر هنا؟ يوجد هنا أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي ﷺ، لما دخل عمر على النبي ﷺ، فجعل وجه النبي ﷺ يتمعر، يعني يتغير من شدة الغضب، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: "يا رسول الله، والله أنا أكنت أظلم مرتين أنا أكنت أظلم أنا المبتدئ، ثم وعظهم النبي ﷺ في أبي بكر الصديق وأمرهم أن يتركوا له صاحبه وألا يغضبوه وأنه هو الذي واساه لما تركه الناس، وكان أولهم إسلاماً . [رواه البخاري: 3661].
فالإنسان منا قد يخطئ على أخيه، لكن إذا جاء المخطئ معتذراً، فما وجه رده؟ لماذا يرد؟
وبعض الإخوان ربما يظن أن العفو مذلّة، وليس كذلك والله، بل إن العفو عز، الناس يتصورون الوهلة الأولى أنه مذلة، أن الرجولة والشأن أن تنتقم وأن تريه أنك عاقبته، وأن يتحدث الناس بذلك، ولكن النبي ﷺ يقول: ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة ظلمها إلا زاده الله تعالى بها عزاً فاعفوا يزدكم الله عزاً وفي رواية مسلم قال ﷺ: وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً [رواه مسلم: 2588]. فالشيطان يأتي إلى الأخ يقول له: إن عفوك عن أخيك مذلة، ذُل، لا تقبل.
وينبغي أن نحذر من كلام بعض الناس، بعض الناس يأتون إلى المخطأ عليه، يقولون: لا تقبل، بعد كل هذه الإهانة تقبل بالاعتذار، لا تقبل، بعد كل ما عمل بك تسامحه، لا، لا، لا يمكن أن تفعل هذا، فعلى الإنسان المخطأ عليه أن يرجع إلى نفسه ويدرك ويؤمن ويوقن بحديث النبي ﷺ: وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وأن العفو يؤدي إلى العز، خلافاً لما يتصوره كثير من الناس، وخصوصاً إذا كان الإنسان قادر على الانتقام، فهنا يتجلّى العفو في أقوى صوره، ومن الأسباب التي تمنع بعض الناس من العفو أنهم يظنون أن عدم العفو أكثر أجراً، كيف؟ يقول واحد للآخر إذا أخطئ عليه، وجاء الآخر يعتذر، يقول: أبداً لا أسامحك، لماذا؟ يقول: أنا أريد من حسناتك يوم القيامة، أنا أريد أن أقتص منك يوم القيامة، يوم القيامة أليس يعطى للمظلوم من حسنات الظالم؟ يقول: فأنا لا أريد أن أسامحك، لماذا؟ يقول: لأني أريد أن آخذ من حسناتك يوم القيامة، لو سامحتك الآن ذهبت عني حسناتك، فأنا أبقي هذا إلى يوم القيامة، هل هذا المنطق صحيح؟ هل هذا الجواب وجيه؟ لا، لأن الله يقول: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، بدلاً من أن تأخذ من حسناته مقابل الخطأ الذي أخطأ عليك والظلم الذي ظلمك تأخذ من عند الله، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، ولذلك الذي يعفو يُعطى يوم القيامة من الحسنات أكثر من الذي لا يعفو، يعني لو واحد قال: أنا لا أسامحك، يوم القيامة آخذ حقي منك، وذاك جاء معتذراً، جاء تائباً معتذراً، وهذا متعنت يقول: لا أسامحك، لا يظنن ظان أن عدم المسامحة أحفظ أو أكثر للحسنات، بل إن العفو هو أكثر الحسنات، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]. ولذلك فلا شك أن الذي يعفو ويصفح أجره أعظم بكثير من الذي يقول: لا أسامح، بل إن بعض العلماء قالوا: المظلوم بدعائه على من ظلمه قد أخذ ما له بالدعاء، أي أن عدم الدعاء أفضل، عدم الدعاء أحفظ للحسنات، هذا الظالم الذي ما تاب ولا جاء معتذراً، يرى أهل العلم أن عدم الدعاء عليه أحسن؛ لأنهم يرون أن الدعاء عليه نوع من القصاص، إذا دعوت عليه فقد اقتصصت منه، يجاب دعاؤك فيه ويعاقب في الدنيا ، ولذلك فكل هذه الأشياء من الأمور التي فيها ضبط للنفس والرغبة فيما عند الله وإزالة الشحناء، والتنازل عن الحق والتغاضي، ليس في حد من حدود الله، ولا في شيء للمسلمين، لو كان ذلك ما تتنازل، ما يأتي واحد يسب الله أو يسب رسوله أو دينه، فتقول: عفونا عنك، هذا غاية الذل والله، بل ينبغي أن يؤاخذ، ليس خطأه في حقك حتى تتنازل، ما يحق لك أن تتنازل، هذا حق الإسلام وحق الدين هذا حق الله وحق رسوله ﷺ، لذلك الصحيح من أقوال العلماء ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الصارم المسلول أن الذي يسب النبي ﷺ يقتل ولو تاب، قالوا هذا في حق النبي ﷺ، النبي ﷺ مات، ولا يمكن الآن أن نسقط حقه، فلا بد أن نقتله، وإذا تاب تنفعه توبته عند الله، فإذاً إذا صار الخطأ في الدين، هذا ما نعفو عنه، ينبغي عليه أن يتوب، وإذا كان في حق النبي ﷺ يقام عليه الحد ويقتل إذا أخطأ، إذا سب النبي ﷺ يُقتل، فالعفو عن طعن في الدين بغير توبة من صاحبه مذلة للإسلام وأهل الإسلام، لا يمكن ولا يجوز القبول بها.
وينبغي كذلك كما قلنا أن يدعو الإنسان لمن ظلمه أو يدعو لمن اعتدى عليه وأخطأ عليه، يعفو عنه إذا كان العفو في شيء شخصي ليس فيه ذل للإسلام، جاء أن ابن مسعود سرقت منه دراهم، فجعلوا يدعون على السارق من حول ابن مسعود، يقولون: قطع الله يده وفعل به، فقال ابن مسعود : "اللهم إن كان حملته على أخذها حاجة -يعني فقر- فبارك له فيها، وإن كان حملته جرأة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه، يقول: اللهم إن كان حملته على السرقة الحاجة والفقر فبارك له فيها، وإن كان حملته الجرأة على الذنب فاجعلها آخر ذنوبه".
وبعض الناس يشعر أنه لا بد من الاعتذار، يقول: أولاً: يعتذر ثم أعفو عنه، فيقول: حتى تأتيني وتعتذر وتتأسف وعند ذلك أعفو عنك، وهذا ليس من كريم الأخلاق ومعاليها، فإن الإنسان يعفو عن أخيه حتى لو لم يعتذر إليه، بل يدعو الله له بالمغفرة ولو أخطأ عليه، وليس من مكارم الأخلاق أن تقول: لابد أن تأتي ذليلاً خاضعاً وتعتذر ثم أسامحك، ينبغي أن تكون أنت المبادر بالعفو والصفح حتى من غير أن يأتي ويعتذر.
وبعض الناس يحتاجون إلى تذكير؛ لأن نفوسهم تكون مليئة مستعدة لاختزان الأحقاد والشحناء والبغضاء فيحتاجون إلى تذكير، لتنفيس هذه الأحقاد والمسارعة إلى العفو والصفح، والإنسان اطلع على أن بعض الظلمة -كبار الظلمة- كانوا يعفون أحياناً في بعض المواقف، فيقول المسلم في نفسه: أنا أولى من الظالم، تقرأ في قصص بعض الظلمة أنهم كانوا يعفون ويسامحون في بعض المواقف، خذ هذا المثل: أخرج الرقام البصري في كتاب: "العفو والاعتذار" عن الأصمعي قال: مر الحجاج بن يوسف في بعض عمله متنكراً، يعني الحجاج من خبثه ودهائه مرة من المرات تنكر ودخل في الناس، قال: أرى ماذا يقول الناس عني، دخل في بعض عمله متنكراً، فرأى أعرابياً، فقال: كيف عاملكم؟ عاملكم -يعني أميركم- الحجاج يسأل عن نفسه، يقول: كيف عاملكم؟ تخفى هذا الأمير -الحجاج الظالم- ودخل في الناس، وأمسك بأعرابي يقول: كيف عاملكم؟ قال الأعرابي المسكين الغافل، ما يدري أن هذا الذي يسأله هو الأمير الظالم الحجاج، قال المسكين: شر عامل، قال: أفلا ترفعون ذلك إلى من هو فوقه؟ قال الأعرابي المسكين: هو شر منه، قال: فتنمّر الحجاج ولحق به الناس فقال: عليكم بالأعرابي، خذوه، فلما قعد الحجاج في مجلس الحكم دعا به بالأعرابي، فلما نظر إليه الأعرابي عرفه، الأعرابي لما نظر إلى الحجاج عرف أن هذا الذي كان أتى إلي متنكراً، فقال الأعرابي للحجاج: إن رأيت أن يكون ذلك مستوراً فافعل، يقول إذا كان بالإمكان أن تستر، وتجعل الذي حصل بيني وبينك، فضحك الحجاج وأطلقه، مع أن الحجاج كان لا يتورع أن يقتل من هو أقل منه جرماً بكثير، بل إنه قتل ألوفاً مؤلفة وقتل من الصحابة أناس، ومثّل بجثّة عبد الله بن الزبير، ذهب الحجاج وفي رقبته دماء عشرات الآلاف من المسلمين إن لم يكن أكثر، الحجاج معروف بظلمه، ينبغي على الإنسان أن يعتبر، إذا كان بعض الظلمة يعفون أحياناً في بعض المواقف، فلماذا لا يعفو هو عن أخيه المسلم، وإذا مات الأخ فلابد أن يحلله الإنسان من كل شيء ويسقط حقه لئلا يقدم على الله وعليه أوزار وآثام لإخوانه، هذا من الأمور المهمة أن الإنسان إذا سمع بوفاة أخيه أن يحلله من كل مظلمة إن كان ظلمه بشيء أو أخذ منه شيئاً أن يحلله من كل شيء ويسامحه من كل شيء، فقد روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: عن زياد بن علاقة، قال: "سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة بن شعبة هو أمير البلد، قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير"، يعني حتى يرسل أمير المؤمنين بأمير عليكم بتقوى الله، وعليكم السكينة، "فإنما يأتيكم الآن"، ثم قال: "استعفوا لأميركم -اطلبوا له العفو-، فإنه كان يحب العفو". يقول: "استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو، المغيرة الصحابي كان قائماً بالناس بأهل البلد بأمر الله، ثم قال: "أما بعدُ فإني أتيت النبي ﷺ قلت أبايعك على الإسلام، فشرط علي والنصح لكل مسلم، فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر ونزل".[رواه البخاري: 58].
العفو يحول العداوة إلى صداقة ومحبة
ولا شك أن العفو يحول الإنسان الذي بينك وبينه عداوة إلى صديق فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]، ويزيل العداوة والشحناء بين الإخوان، وقد قيل: إن عبد الله بن الزبير كان له أرض وكان له فيها عبيد يعملون، وكانت مجاورة لأرض لمعاوية فيها عبيد، فدخل عبيد معاوية في أرض ابن الزبير، فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية يقول: أما بعد، يا معاوية إن عبيدك قد دخلوا في أرضي فانههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأن والسلام".
فلما وقف معاوية على كتاب ابن الزبير وقرأه دفعه إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له: يا بني ماذا ترى؟ قال يزيد: أرى أن تبعث له جيشاً يكون أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه، فقال معاوية: لو غير هذا، ثم دعا بكتاب فكتب لابن الزبير: أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله ﷺ وساءني ما أساءه، والدنيا هينة عندي في جنب رضاه، فإني تنازلت عن أرضي وما بها من خدم وأموال فاضممها إليك وإلى أرضك والسلام".
فلما وصل الكتاب صادف ثناء من ابن الزبير، فقال وأرسل إليه كتاباً يشكره، فقال معاوية لولده: يا بني من عفا ساد ومن حلم عضد ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإن ابتليت بشيء من هذه فداوه بمثل هذا الداء.
أما بالنسبة للاعتذار فلا شك أن الاعتذار في العادة يسبق العفو، لكن ذكرنا أن الإنسان عليه أن يعفو عن إخوانه ولو ما اعتذروا إليه، وأن يكون بينه وبين الله أحلهم من كل مظلمة ظلموه بها، الاعتذار مهم، قال حاتم الأصم: "الاعتذار يذهب الهموم ويجلو الأحزان ويدفع الحقد ويذهب الصد، والإقلال منه تستغرق فيه الجنايات العظيمة والذنوب العظيمة، والإكثار منه يؤدي إلى الاتهام وسوء الرأي". [روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: 186]. فالاعتذار خصلة جميلة، ولو لم يكن في اعتذار المرء لأخيه خصلة تُحمد إلا نفي العجب عن النفس، لكان الواجب على العاقل ألا يفارقه الاعتذار عند كل ذي ذلة"، يعني من فوائد الاعتذار وأهميته: أن يذل الإنسان نفسه بإخراج العُجب منها، فالاعتذار لا شك أن فيه تواضع للآخرين، إذا جئت إليه تعتذر، هذا لا شك من تواضعك، فأنت تعتذر له، وبعض علماء اللغة يقولون: إن الاعتذار لمن لم يكن له خطأ، العذر ليس للمخطئ، وإنما لإنسان يبين موقفه، واحد يبين حقيقة أمره، هذا العذر، ومن هذا المعنى ما جاء عن مهاجر بن قنفد أنه أتى النبي ﷺ وهو يبول، فسلّم عليه، الصحابي سلم على النبي ﷺ والنبي ﷺ يقضي حاجته، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال، النبي ﷺ اعتذر، يعني بين لماذا لم يرد عليه، النبي ﷺ أخطأ، ما أخطأ، لكن بيان الموقف يسمى اعتذاراً، ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله -عز وجل- إلا على طهارة رواه أبو داود وهو حديث صحيح.[رواه أبو داود: 17، وصححه الألباني في المشكاة: 467].
وبعضهم يقول: الاعتذار يدخل فيه من أخطأ، يعني من أخطأ يعتذر إلى من أخطأ عليه، وهو من شمائل الكرام.
ومن القصص الواردة عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ما ورد في صحيح الإمام مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، في فتح مكة، أبو سفيان أطلقه النبي ﷺ، فقال بعض الصحابة وهم سلمان وصهيب وبلال، قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، وكان هذا قبل أن يسلم أبو سفيان، قال هؤلاء الصحابة وكانوا من المستضعفين من المسلمين: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر: "أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟"، يعني لا يليق أن تقولوا هذا، فأتى النبي ﷺ فأخبره، فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتَهم لئن كنت أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربك فأتاهم أبو بكر، أتى لسلمان وصهيب وبلال، فقال: "يا إخوتاه أغضبتكم؟" هذا الاعتذار، "يا إخوتاه أغضبتكم؟"، قالوا: "لا، يغفر الله لك يا أُخي". وهذا التصغير تحبيب. [رواه مسلم: 2504].
وفي رواية لأحمد: "أي إخوتنا لعلكم غضبتم؟" فقالوا: "لا يا أبا بكر، يغفر الله لك" [رواه أحمد: 20640، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين].
وكذلك علي يعتذر لأبي بكر الصديق عن تأخره في البيعة؛ لأنه حصل خلاف على الأموال التي تركها النبي ﷺ، وكان أبو بكر محقاً لما رفض أن يعطيهم المال؛ لأنه سمع النبي ﷺيقول: لا نُورَث، ما تركناه صدقة [رواه مسلم: 1757]. يعني النبي ﷺ ليس له إرث، ماله يذهب لبيت المال، ليس لأوليائه أو لورثته حق فيه، هذا من خصوصيات الأنبياء لا يورثون المال، لا نورث ما تركناه صدقة فجاء علي يعتذر بعد ذلك لأبي بكر حتى فاضت عينا أبا بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فلم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله ﷺ يصنعه فيها إلا صنعته، فقال علي لأبي بكر: "موعدك العشية للبيعة، فلما صلّى أبو بكر الظهر رقي على المنبر، فتشهّد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، علي اعتذر لأبي بكر، ثم استغفر وتشهد علي، فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنعه نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ... إلى آخر الحديث، فحصل الاعتذار من علي لأخيه أبا بكر الصديق عما حصل. [رواه البخاري: 4240، ومسلم: 1759].
وقد يكون الإنسان في موقف أحياناً يعتذر فيه عن الآخرين عن أصحابه، وهذا من الاعتذارات الجيدة، قد لا يخطئ الإنسان هو، لكن يعتذر بالنيابة عن غيره، وعلى رأس ذلك ما حصل من أنس بن النضر ، عم أنس، قال: "غبتُ عن أول قتال قاتل فيه النبي ﷺ لئن أشهدني الله مع النبي ﷺ ليرين الله ما أجد، فلقي يوم أُحد، لما لقي النبي ﷺ الكفار يوم أُحد وهُزم المسلمون، فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فقاتل حتى قُتُل". [رواه البخاري: 4048]. الاعتذار صعب على النفس وشاق، ولكن ينبغي على الإنسان ألا يأنف من الاعتذار، إذا أخطأ على أخيه المسلم أن يعتذر إليه، ويكون الاعتذار أشق ما يكون عندما يكون من الأعلى للأدنى، وكذلك يليه بين الأقران، اعتذار الرئيس للمرؤوس هذا صعب، اعتذار الزوج لزوجته هذا صعب، ولكن ينبغي الاعتذار إذا وقع الخطأ ينبغي الاعتذار.
قيمة الاعتذار وثمراتها بين الإخوة
ولا شك أن الاعتذار يذهب ما في النفس، فلو أخطأت على فلان واعتذرت إليه لكان ذلك من أقوى أسباب ذهاب ما في نفسه عليك، وينبغي على الإنسان أن يتأدب في الاعتذار، فإن بعض الناس يكون عذرهم أقبح من ذنبهم، كما قالوا: عذر أقبح من ذنب، فينتقي العبارات، وبعض الناس إذا اعتذر مثل ما يعتذر الطفل العنيد، الطفل العنيد إذا أجبره أبوه على التأسف، تراه أحياناً يقول: آسف، يخشن صوته، وكأنه يريد أن يشتم، يخرج منه الاعتذار بدون نفس، كما يقولون، وبدون إرادة للاعتذار، أو أنه يلوي وجهه ويقول: آسف، فهو كأنه لا يريد أن يقولها مواجهة معتذراً، أو أنه يقول سِف ويحذف منها حرفاً أو آسي، أو أنه يسر بها ويقول: تأسفتُ لكم، والشاهد في هذه الأشياء التي نراها من بعض الأطفال المعاندين عدم الرغبة في الاعتذار، الاعتذار كأنه فُرض عليه فرضاً، ولا يصلح أن يكون موقف الأخ مع أخيه هذا، لأنه يفرض عليه الاعتذار فرضاً، فيعترف له بغير نفس طيبة، يعتذر له بما يكون أحياناً، لو ما اعتذر كان أحسن، وبعضهم يجادل في الاعتذار، ويقدم مقدمات تذهب بأثر الاعتذار، فيقول: على أية حال أنا ما أخطأت عليك، أنت ربما تراها خطأ، لكن أنا لا أراها خطأ، وإذا تريدني أقول لك آسف، فمثل هذا لا يمكن أن يكون اعتذاراً واضحاً تصفو به النفوس، وما يحدث بين الإخوان من المواقف في مثل هذا كثير، لو دقق الإنسان فيه عرف أن للشيطان فيه مدخلاً ونصيباً، وينبغي كذلك للمعتذر أن يتأمل في حاله، ويترك ما يعتذر منه أصلاً، يفكر قبل الذنب، لا يقول: أذنب ثم اعتذر وأخطئ ثم اعتذر، فقد قالوا: "ترك الذنب أيسر من تكلف الاعتذار"؟
والخلاصة أن المؤمنين والإخوان ينبغي أن يكون العفو بينهم قائماً ومستمراً، والاعتذار من الإنسان المخطئ دائماً موجود وحتى لو لم يخطئ فإن اعتذاره لأخيه مما يذهب كل أثر للعداوة، وتذنبون فنأتيكم فنعتذر، تأمل لو أن إنساناً أخطئ عليه ثم جاء يعتذر هو، كم يكون أثر هذا؟ ما أوقع هذا في نفس الشخص الآخر؟ وكثير من هذه الكلمات والتصرفات الحميدة هي التي تصفي ما بين الإخوان.
فنسأل الله أن يجعلنا ممن لا يجدون في أنفسهم على إخوانهم، وأن يذهب ما في قلوبنا من الضغينة والحقد والشحناء، وألا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنه رءوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
الإجابة عن الأسئلة
يقول: لدي جماعة كثيري الخصومة والشقاق، وعندما يصلحون يعودون مرة أخرى للخصومة، فيكون الإصلاح بينهم على شكل حقوق، هل يجوز الإصلاح بينهم؟
إذا كانت هذه الحقوق يعتبرونها مثل الشريعة، يقولون: يا فلان عليك حق، كأنه حكم شرعي، فهذا حرام لا يجوز، وهو من حكم الطاغوت، وإما أن كان عن تراضٍ لا يعتقدون وجوبه، لكنه من باب المصافاة يفعله الواحد للآخر، كأن يكرمه بوليمة، فهذا لا بأس به، أما إن اعتقد أنه حق لا يسعه الخروج عليه، هذا موجود في عُرف بعض البادية فلا شك أنه حرام ومنكر، أما الإصلاح بين الناس ففيه أجر عظيم، وهذا باب آخر وموضوع آخر لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].
يقول: هل التعامل بين الرئيس والمرءوس في العمل من السماح والتنازل هو من العفو؟
الجواب: إذا كان حق للمسلمين كأن تأخر عن الدوام فينبغي على المتأخر أن يتوب إلى الله، وأن يخرج مقابل ما تأخره من المال الذي يأخذه من الراتب، والرئيس قد يعفو عنه مثلاً فلا يطرده مثلاً، ولكن يبقى حق للمسلم أنه يأخذ مالاً راتباً من بيت مال المسلمين على وقت لم يحضره، ولذلك ينبغي فيه التوبة لله فيه، حق لله ينبغي أن يحصل، ولو سامح الرئيس.
بيني وبين أحد أهل السوء شجار طويل وأنا الآن لا أكلمه وأحتقره؛ لأنه لا يصلي وصاحب سوء.
أقول: هجر أصحاب المنكر لا علاقة له بموضوعنا الآن؛ لأنه حكم شرعي، حسب المصلحة إذا كان هجره فيه مصلحة تهجره، وإذا كان فيه مضرة لا تهجره.
قد نعفو ولكن يبقى شيء في القلب، فهل ينافي معنى العفو؟
ينافي كمال العفو كما ذكر، ويجاهد الإنسان نفسه لإخراج المتبقي.
ما قولك في اثنين من الإخوة قد اختلفا وصل الحال إلى عدم السلام على بعض؟
قال النبي ﷺ وخيرهم الذي يبدأ بالسلام [رواه البخاري: 6077، ومسلم: 2560].
وقال: لا يحل لامرئ [رواه البخاري: 6077، ومسلم: 2560]. حرام لا يجوز.
وقال: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه [رواه أحمد: 17935، وأبو داود: 4915، والحاكم في المستدرك: 7292، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 6581].
يقول: انهال على أخيه بالأوصاف القبيحة؟
عليك يا أخي الذي انهلت على أخيك بالأوصاف القبيحة أن تسارع وتبادر إلى التحلل منه، وهذه مواقف محسوبة مكتوبة عند الله، وإن مضت عليها السنون، ولكن لا تذهب، مكتوبة عند الله حتى تتحلل من أخيك، فعند ذلك تمحى تلك السيئات.
يقول: مسئول أخطأ علي وأريد أن أشكوه إلى المدير العام هل أشكوه أم أعفو عنه؟
إذا كان الخطأ شخصي تعفو عنه أفضل وأقرب للتقوى، وإن كان في حق الدين ترفع بأمره.
لي قريب بيني وبينه سوء تفاهم وحصل بيننا هجر، ولكن ما زال السلام بيننا والكلام انقطع.
أين صلة الرحم؟، ما دام قد قطعك فأين صلة الرحم؟.
يقول: هل يكون عفواً مشروعاً إذا عفوتُ عمن ظلمني ابتغاء الأجر، وكان الذي ظلمني ذا منصب رفيع، وظلمني لأني أنكر منكراً وليس لي القدرة على أخذ حقي منه.
الله يأخذ لك بحقك يوم القيامة، وعليك أن تستمر في مناصحته.
شخص دائماً يخطئ عليّ فأهجره ثلاثة أيام لكي يراجع نفسه ثم بعدها أبين له غلطته وأسامحه.
ما دام لا يتخطى ثلاثة أيام فهو جائز.
هذا معناه: أن والدته تأمره بقطع أرحامه؟
نقول: صلهم سراً ولا تطعها، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
بعض العصاة يخطئون علينا بالكلام، وإذا أردنا أن نعفو عنهم اعتبروا ذلك ذُلاً.
إذا كان هذا يحصل فعلاً فلا تفعل ذلك، قد تقول: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون، وتبين أنه ليس بذل ما يحصل.
يقول: إذا تكرر سوء خلق الزوجة وأخطاؤها، فهل يصلح السماح؟
هو بينه وبين الله يسامحها، لا يدعها تلعنها الملائكة، أو يغضب الله عليها، وإنما يسامحها، ولكن يبدي زعله وغضبه لكي تعتدل، لا مانع، لكن بينه وبين الله يسامح.
نرجو ألا يخلو هذا من تذكر إخواننا المسلمين في كل مكان والدعاء لهم.
نعم نحن نسأل الله أن ينصر المستضعفين من المسلمين، وأن يرفع الذل عنهم، وأن يجعل البأس في العدو، وأن يفرق شملهم كما تمالئوا علينا.
يقول: ذاهب إلى مكة لزيارة مريض هل الأفضل أن أعتمر؟
لا شك في ذلك:
وفي حال العمرة أحلق شعري كاملاً؟
هذا هو الأفضل.
شاب لا يصلي قال لأمه: إما تزوجيني وإلا أذهب لفعل المحرمات، فقالت: أزوجك على شرط أن تصلي، فلم يرد عليها؟
إذا صلى تزوجه، وإذا ما صلى فليست مسئولة عن أفعاله.
البيع بين الأذان والإقامة ليس بحرام، والنص الوارد في المنع من البيع بعد أذان الجمعة، ولكن إذا كان هذا البيع يؤدي إلى تخلف الناس عن الصلاة وتبدأ الصلاة ولا زالوا يبيعون فإنهم يُنهون عن ذلك.
هل يحل للمرء إذا طلق زوجته قبل أن يدخل عليها ويبني بها أن يتزوجها مباشرة مرة أخرى؟
إذا طلّق زوجته ولم يدخل بها فإنه إذا أراد أن يتزوجها عليه أن يعقد من جديد.
شخص له صور يحتفظ بها صديق قديم من أيام الطيش، وطلب من صاحبه أن يعطيه إياها ليتلفها فرفض.
يكفيه التوبة إلى الله والوزر على الآخر.
هل شعر الرقبة من اللحية؟
كلا.
هذا الحجر حجر إسماعيل؟
لم يثبت أنه حجر إسماعيل، وإنما يقال الحجر فقط.
عندي مال أجمعه من راتبي لشراء سيارة هل عليه زكاة؟
إذا حال عليه الحول يجب عليه الزكاة.
هل يجوز للمرأة أن تصلي في ثوب فيه صور ذوات أرواح؟
لا يجوز ذلك، ولا يجوز أن تلبسه أصلاً، ويجب عليها أن تستر القدمين.
يقول: يوجد ماء شرب وماء مالح؟
إذا جعلوا الماء الحلو للشرب فلا تتوضأ به، توضأ بالآخر ما دام ماءً يجزئ الوضوء به توضأ به واترك هذا للشرب.
تنزل قطرات من البول أثناء الصلاة.
إذا كان يحدث ذلك دائماً معه فهذا السلس يتوضأ بعد الأذان ويضع شيئاً يتحفظ به ويصلي.
يقول: ما معنى أقرؤهم لكتاب الله؟
اختلف أهل العلم منهم من قال أقرؤهم يعني: أفقههم وأعلمهم، ومنهم من قال أقرؤهم يعني: أحفظهم.
أتيت لصلاة الفجر ولما دخلت المسجد وجدت الصفوف قد اكتملت ولم أجد فُرجة، فوقفت لوحدي ولم يأت أحد وصليت في الصف لوحدي.
إذا كنت لم تتحر مكاناً في آخر الصف، فإنه لا يجوز لك أن تصلي يجب أن تتحرى مكاناً، وإذا كنت تحريت ولم تجد ولم يأت أحد، فقال بعض أهل العلم بصحة الصلاة كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
يقول: خال الرجل هل تكشف عنده زوجة ابن أخته؟
كلا.
عم الرجل هل تكشف عنده زوجة ابن أخيه؟
كلا، لا تكشف.
يقول: طلبني أحد المدرسين من الكفار بأوراق للتعرف على الإسلام، هل أعطيه؟
نعم، لا بأس أن تعطيه، أعطه خارج العمل، لا بأس أن تعطيه خارج العمل إذا كنت تتحرج من إعطائه في العمل.
استقبال القبلة عند النوم سُنّة، والاستقبال أنك إذا صرت عن يمينك تكون القبلة أمامك تواجه القبلة.
هل هناك فرق بين الذي يجلس في الأمام أو الخلف؟
لا شك أن الدنو والاقتراب أفضل.
سأمكث في بلد الكفر فترة تتراوح من شهرين إلى ثلاثة أشهر؟
إذن، أتمّ الصلاة.
بعض الشباب يعتذرون أنهم سيسمعون المحاضرات من الأشرطة؟
إذا كان منشغلاً، وإذا كان عنده وقت فراغ فلا شك أن مجالس الذكر في حضورها أجر عظيم لا يتأتى بسماع الشريط.
كشف المرأة وجهها أمام زوج ابنتها؟
هذا لا شك فيه والتحدث معه، زوج البنت محرم.
يقول: إن كثيراً من الضغائن بين الإخوان سببها تعصب ليس مبني على أساس، وكذلك سببها الأخبار غير الموثوقة، وتصديق كل كلمة تقال.
هذا لعمر الله من المصائب أن يكون التعصب هو سبب التفرق، وقبول الشائعات هو مصدر القطيعة وسبب القطيعة بين المسلمين، ولذلك نقول: لابد أن يتفطن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى لهذه الأشياء وألا يتابعوا على الخطأ، وإنما التجرد لله الذي يجعلهم إخواناً متحابين.
يقول: هل الرسول ﷺ يبتسم أم يضحك؟
يبتسم ويضحك، ولكنه لم يكن يقهقه ﷺ.
حججت هذه السنة وفي الحج عزمتُ على ترك المعاصي، والتوبة والرجوع إلى الله، لكن بعد أن أتيت من الحج بأسبوع وقعت في الفاحشة وارتكبت بعض المعاصي الأخرى، أولاً: هل يقبل الله الحج الذي حججته، أريد أن أتوب، فهل يتوب الله علي؟
هذا أمر مؤسف أن الإنسان يرجع من الحج ثم يقع في الفاحشة، ولذلك عليك أيها الأخ بالعودة إلى الله ، أما حجك فهو صحيح، لكنك فعلت منكراً عظيماً وكبيرة من الكبائر، ولذلك عليك بالتوبة والاستغفار ولو أن تحج حجة أخرى لأجل هذا الذنب، كما قال عمر في خطأ أخطأه: فعملت بذلك أعمالاً، أعمالاً مخصوصة من أجل هذا الذنب، فعليك بأعمال مخصوصة من أجل هذا الذنب ولو أن تكرر الحج.
هل مخاصمة الأخيار مثل مخاصمة الفسقة؟
لا، لا بطبيعة الحال، مخاصمة الأخيار أشد عند الله.
بعض الإخوان قد يفهم أن العفو والاعتذار بين أهل الدين فقط.
لا، حتى لو أخطأ عليك فاسق، النبي ﷺ عفا عن لبيد بن الأعصم الذي سحره، عفا عنه، ما دام العفو من مصلحة الإسلام.
ماذا عن عدم العفو والصفح عندما يخطئ السفيه ويكون ذلك من تأديبه وتربيته حتى لا يتجرأ الآخرون؟
هذه مصلحة شرعية لا شك، إذا كان إبداء العفو والصفح عن هذا السفيه يؤدي إلى تماديه فلا تعفُ ولا تصفح وإنما توبّخ، هذه مصلحة الإسلام.
إذا سبّ رجل غير مسلم رسول الله ﷺ هل يُقتل؟
نعم لا شك، فلماذا أمر ﷺ بقتل سلاّم، وأمر بقتل ابن خَطَل وغيرهما من المشركين والكفار. [رواه البخاري: 1846، ومسلم: 1357].
سُرق مسجّل السيارة وهو من النوع الغالي، فلما علمتُ بالسرقة دعوتُ للسارق بأن يغفر الله له إن كان لا يعلم بأن السرقة حرام.
لا بأس.
أحياناً أقول في نفسي: لا أود أن أبين لأخي خطأه وذلك لعل شخصاً آخر يبين له خطأه، فقد يكون واضحاً في مجلس ما.
لكن إذا ما بين له أحد الخطأ لا بأس أن تبين أنت له.
هل يتنازل عن بيان خطأ للمدعو؟
يؤجل التبيان، وليس يتنازل، يؤجل التبيان إذا كان لا يؤثر، لا يضر، أحياناً يكون لابد منه، مثلاً أخطأ في الصلاة لابد أن تقول له الآن وإلا تصبح صلاته يمر عليه الوقت ولا يكون قد صلى صلاة صحيحة، وأما إن كان يمكن أن يؤجل وفي تأجيله مصلحة فلا بأس أن تؤجله.
هذا ما تيسر الإجابة عليه من الأسئلة.
ونسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.