الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ :: 31 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

ووهبنا لداوود سليمان


عناصر المادة
تدبر القرآن
قصة سليمان -عليه السلام-
ملك سليمان وقوته
ورث سليمان العلم عن أبيه
سلميان كان وزيراً لأبيه داود
زهد سليمان وعدم انشغاله بالدنيا
ابتلاء الله لسليمان
تقديم الآخرة على الدنيا
استجابة دعاء سليمان
إدارة سليمان لمملكته
شكر سليمان للنعمة
بعض الدروس المستفادة من قصة سليمان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

تدبر القرآن

00:00:28

فليس شيء أنفع للعبد من تدبر كتاب الله -تعالى-: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82].

ومن أعظم العبادات: الجلوس في بيوت الله لتدبر كلام الله، فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده.

وتدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر عليه يصحح العقل، ويقوي النفس، ويؤسس فيها قواعد الدين وثوابت الشريعة، ويحصل به العلم بالأحكام، وكذلك الإيمان والقصص والأمثال.

ومن أعظم مواطن التدبر: ما قصه الله علينا في كتابه عن هؤلاء الأنبياء الكرام: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ  [يوسف: 111].

فنتفكر فيما جرى للأمم السابقة: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ   [الأعراف: 176].

ونعتبر بما وقع فيهم: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ  [يوسف: 111].

ونحن اليوم في زمن فتن، شبهات وشهوات من كل جانب، فنحتاج إلى تثبيت: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ  [هود: 120].

إذًا، قصص هؤلاء الأنبياء تثبيت لنا.

قصة سليمان -عليه السلام-

00:02:12

ومن هذه القصص: قصة سليمان مع أبيه داود، وما حصل لهذا النبي الكريم مع أبيه الكريم.

وهذه القصة لنبي الله سليمان ورد ذكرها سبع عشر مرة، في سبع سور من القرآن الكريم.

ملك سليمان وقوته

00:02:34

مع قصة نبي الله سليمان الذي كان صاحب ملك عريض فسخر ملكه في نشر الدين، آتاه الله سلطانا لن يؤتيه ولم يؤتيه أحداً بعده، لا من الدول المتقدمة، ولا من الغرب ولا من الشرق، ما في أحد ولا دولة من الدول قامت على قوة وفيها قوة كما حصل لدولة سليمان ، كانت مملكته تسع الأرض كلها، وكانت عاصمتها القدس، وكانت حضارة الدنيا ومركز القيادة للعالم في ذلك الزمان.

وكان لسليمان من الجنود والحاشية والمراكب والمساكن والزوجات، وشيء ما أوتي أحد مثله ولن يؤتى أحد مثله مهما بلغت أساطيرهم وطائراتهم، فإن لسليمان من القوة الجوية والأرضية والبحرية ما ليس عند أي قوة أخرى في العالم.

إذا أردت قوة بحرية: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ [ص: 37].

وإذا أردت قوة جوية: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً [الأنبياء: 81]، ترفع جنوده أعظم من الطائرات، وتسير بهم، وتهبط بهم،  وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ  [الأنبياء: 81].

ورث سليمان العلم عن أبيه

00:04:16

وسخرنا لسليمان، الله سخر له أشياء عظيمة، لكن أول شيء كان سليمان ابناً باراً لاب عظيم، وقائداً عسكرياً فذاً، ورجلاً شجاعاً، وأتاه الله  قوة في العلم، وقوة في الجسم أيضاً:  وَوَهَبْنَا لِداود سُلَيْمَانَ [ص: 30]  وهبنا لداود  الأب  سليمان  الابن، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ  وما تقر عين الأب مثل ما يكون عنده مثلما تقر بالولد الصالح، الولد النابغة، الولد الفهيم، الولد العليم، الولد الصالح.

 وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داود  [النمل: 16] من بعده، ما هي وراثة مال، وراثة النبوة، وراثة العلم.

والله لو أنك تورث ولدك العلم -يا أخي المسلم- ما مثله، إذا ورثته العلم والإيمان فخرج منك ولد صالح يعبد الله عنده إيمان وعنده علم،  نِعْمَ الْعَبْدُ هذا سليمان اتصف بما يوجب المدح،  إِنَّهُ أَوَّابٌ  رجاع إلى الله في جميع أحواله، متأله، منيب، مجتهد.

والأوبة إلى الله ميزة عظيمة، وهذه تذكرة لنا جميعاً أن نعود إلى الله باستمرار؛ لأننا خطاؤون دائماً نقع في الآثام، نقع في الأخطاء، سواء كانت كبائر أو كانت صغائر، أو غير ذلك، ولذلك دائماً يجب أن نتذكر الأوبة، العودة إلى الله.

سليمان كان أواباً، وتذكرة للأب أن يجعل من أولاده صالحين ينتفع بهم من بعده.

وكذلك فإن هذه الاستمرارية للأجر بعد الأب بهذا الولد الصالح عظيمة، نعمة عظيمة.

نلاحظ أن إبراهيم -عليه السلام- كان له إسماعيل، ويعقوب يوسف، وقبله إسحاق ولده يعقوب، وكذلك زكريا ولده يحيى، وكذلك داود ولده سليمان، يعني في الحقيقة أن الذريات الطبية هذه، النسل الطيب هذا، الأسر العريقة في العلم والإيمان، مثل: الكريم ابن الكريم،  الكريم ابن الكريم، الكريم ابن الكريم، يوسف  بن يعقوب  بن إسحاق بن إبراهيم، -عليهم السلام-.

سلميان كان وزيراً لأبيه داود

00:07:04

الابن الصالح يكون وزيراً لأبيه؛ كما قال الله : وَداود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ  [الأنبياء: 78 - 79]، جاء راعي غنم وراعي زرع إلى داود ، فقال راعي الزرع: غنم هذا نفشت في زرعي وأفسدت وأتلفت وخربت، فأمر وقضى داود أن الغنم لصاحب الزرع، فلما خرجا من عنده قابلا سليمان فسألهما: ما الأمر؟ قال: كذا وكذا، قال الله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء: 79]، فهمناه القضية، وكيف الحكم الأصوب فيها:  وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79] يعني: ما كان داود ناقص في العلم، لكن كان سليمان في هذه أفهم، والأنبياء يجتهدون، وهذا من الأدلة.

وسليمان لما سمع القصة دخل على أبيه يقول: يا أبت يا نبي الله،  إن القضاء سوى الذي قضيت، قال: كيف؟ قال: إن الحرث لا يخفى على صاحبه، الآن صاحب الزرع يعرف المتلف كم، يعرف كم الذي أصابه الخراب، هب أنه مثلاً ذاك مواشيه أتلفت ما قيمته أربعين ألفاً من المزرعة، فقال: الغنم تسلم لصاحب البستان، وتقعد عنده سنة، يبيع من أصوافها، وألبانها ومنها حتى يستوفي قيمة المتلفات؛ لأن للغنم در ونسل كل عام، فاستصوب داود قضاء ولده، وعرف أنه أصاب:  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ  [الأنبياء: 79].

إذًا، قد يخطيء الكبير، وقد يصيب الصغير.

ولذلك -يا معشر الشباب- لا تستصغروا أسنانكم أنتم حدثاء، لكن الله يمن على من يشاء، فإذا وجهك يا أيها الشاب إلى العلم، وإلى الفقه، فإنه والله نعم التوجيه.

والناس أكثر ما يحتاجون كما قال علماؤنا إلى أمرين:

أولاً : العقيدة وتصحيح العقيدة من الشرك والبدع، ونشر السنة فيهم.

ثانياً : الحلال والحرام والفقه والأحكام.

وما كانت هذه القصة هي أول قصة حصلت من هذا النوع، فإن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا أنه كانت امرأتان معهما ابناهما خرجتا كل واحدة معها ولدها، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، خطفه، ذهب، الذئب يفترس، فقال صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فقال بعضهم: لعله كان في يدها، لما جاءتا إليه، وفيه قاعدة في القضاء أن الأصل أن الشيء لمن هو في يده، إذا ما في بينة اختصما في شيء، وجاء إلى القاضي، وهذه الشيء بيد أحدهما وما في بينة ولا شهود ، الأصل أن الشيء لمن هو في يده، قال بعضهم: لعله كان في يد الكبرى، قضى به للكبرى، داود ، هذا اجتهاده.

لما خرجتا من عنده ومرتا على سليمان بن داود، سألهما فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل، هو ولدها يرحمك الله، يرحمك الله هو ابنها، هو ابنها، فقضى به للصغرى، والحديث في البخاري ومسلم.

النسائي ماذا عنون عليه؟ انظروا إلى عناوين الأئمة، فيها فقه، "باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق" يعني: هات السكين أشقه بينكما، كأنه هذا هو الحكم، أنه يقصه نصفين، لكن هو لم يرد هذا قطعاً، أوهم أنه يريده، لماذا؟ ليستكشف من هي صاحبة العاطفة الأكبر، من المستعدة تتنازل عن ولدها يروح للأخرى ولا أنه يشق نصفين، كيف استخرج الحكم؟ هذا تفهيم من الله، إلهام من الله.

فاحتال بهذه الحيلة اللطيفة، وقصد استخراج صاحبة الرحمة والشفقة الحقيقية الأقوى التي هي الأم الحقيقية، وجعل ذلك قرينة كما قال ابن القيم -رحمه الله- في الطرق الحكمية: وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله -تعالى- في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده، يعني: عند سليمان، حتى قدمها على إقرارها، فإنه حكم به لها مع قولها هو ابنها.

مع أنها أقرت هو ابنها، الأخرى، أقرت، لكن القرينة كانت أقوى من هذا الإقرار.

زهد سليمان وعدم انشغاله بالدنيا

00:13:20

سليمان الذي لم يغتر بالدنيا، وكان رجاعاً إلى الله، وإذا ألهاه شيء سرعان ما يعود، وهذا درس عظيم لنا في قضية الملهيات، والمشغلات في هذه الحياة، قال الله: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص: 31]، عرض عليه، من الذي عرض له؟ جنود كثيرون، عرض عليه بالعشي من زوال الشمس إلى غروب الشمس، هذا العشي، لو قال لك واحد: ما هو تعريف العشي؟ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ  [ص: 18] هذا العشي ما هو؟ من أين يبدأ؟ إلى أين ينتهي؟ فالجواب: العشي يبدأ من زوال الشمس إلى غروبها.

فإذًا، العشي إذا جاءك في حديث: إحدى صلاتي العشي  [رواه البخاري: 482، ومسلم: 573] فما المقصود؟

الظهر والعصر.

قلنا من الزوال إلى الغروب، فيه صلاتان.

الغروب ما يدخل.

فيه صلاتان: الظهر والعصر.

العشي غير العشاء.

 إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ  طبعاً الاستعراض هذا يأخذ وقتاً طويلاً، استعراض الخيل، وكثيرة جداً، عنده جند عظيم، قال الله:  الصَّافِنَاتُ  وهذه من أجمل صفات الخيل، فإنها تقف على ثلاث قوائم أحياناً، وترفع الرابعة عند الوقوف، منظر جميل جداً، الصَّافِنَاتُ .

 الْجِيَادُ  جمع جواد، وهو الذي يسرع في جريه.

أو جياد بمعنى: جمع جيد، بمعنى الحسن.

فالخيل موصوفة بهذين الوصفين، وهذا غاية ما يكون من الجمال فيها.

وهذا يدل على عظم ملك سليمان .

وقد استعرض الخيل المعدة للجهاد في سبيل الله، وهذا من إعداد العدة.

كم أعد سليمان من العدة للجهاد؟

 وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60].

وفي المسلمين اليوم متهورون يريدون جهاداً بلا إعداد، فكيف سيستقيم لهم الحال؟ وكيف يتغلبون على الكفار؟

فمن الضلال المبين: إعلان الجهاد بلا استعداد.

من الحماقة إعلان الجهاد بلا استعداد.

النبي ﷺ خمسة عشر سنة يعد، ثلاثة عشر في المدينة، وسنتين في مكة حتى خرجوا للقافلة، ما كانوا يريدون الجيش أصلاً، أصلاً في بدر ما خرجوا للجيش، ما خرجوا لقتال جيش، خرجوا لقافلة، ثم صارت المواجهة مع جيش، وخلاص، ممنوع الفرار إذا صارت المواجهة.

فإذًا، كم سنة النبي ﷺ يستعد ليكون جهاداً تحت راية واحدة وليس رايات؟ جهاد بفقه، جهاد بعلم، جهاد على منهج نبوي، هذا الجهاد الصحيح، بخلاف الاستعجالات والحماقات، والأشياء التي لا يكون فيها فقه ولا علم وإنما يكون فيها عجلة.

أما إذا اضطر المسلمون للقتال دفاعاً عن أنفسهم فهذا باب دفع الصائل الذي جاء به الشرع يدفع الإنسان عن نفسه ودينه، وعرضه، وماله، وإذا قتل فهو شهيد.

أما قتال الكفار جيشاً لجيش هذا أمر يختلف، ولا يكون إلا بعد إعداد عظيم، وتربية طويلة.

الآن لما استعرض سليمان الجيش: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص: 32]، من هي التي توارت؟

الشمس بالحجاب، فانتبه سليمان إلى أن هذا قد فوت عليه وقت الصلاة: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص: 32]، يعني: آثرته، والخير يطلق على المال قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ  [العاديات: 8]، مع أن سليمان ما اتخذ الجياد هذه يتربح من وراءها تجارة، وإنما للجهاد في سبيل الله، ومع ذلك اعتبر أن الدنيا أشغلته مع أنه كان هو في أمر الجهاد.

 أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي  [ص: 32]، صلاة العصر، حتى توارت الشمس بالحجاب وغربت.

 رُدُّوهَا عَلَيَّ  [ص: 33] أمر بأن ترد الخيل.

الآن يعني هل هو ردها ليقضي عليها  مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ يعقرها بسيفه، ويضربها مع سوقها وأعناقها؟ أم أنه أمر بردها ليمسح على سوقها وأعناقها تودداً إليها، وتحبباً إليها، والأنبياء يحبون الخيل؛ لأنه كما قال ﷺ: الخيل معقود في نواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها، وادعوا لها بالبركة، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار ؟ [رواه أحمد في مسنده: 14791، وهو حديث حسن].

الأوتار: جمع وتر، وهو الدم، والمقصود ما كان عليه الجاهلية من طلبوا الدماء، فقال: اقصدوا بها الخير، ولا تقصدوا بها الشر، وثارات الجاهلية.

وكذلك لا تعلقوا الأوتار هذا معنى آخر لدفع العين؛ كما كان بعضهم يعلقون الأوتار في أعناق الدواب.

وبعضهم كانوا يعلقون الأجراس لأجل هذه المعتقدات الباطلة.

وقد رجح جمع من العلماء أنها ردت عليه ليمسح عليها، وليس ليعقرها؛ لأن نبي الله لا يتلف المال، ولا يقضي على شيء بغير ذنب من هذا الشيء.

وتتجلى قوة سليمان بقوله: رُدُّوهَا عَلَيَّ معناها كم لكم من الأتباع والجند الذين يردون هذه الخيل.

وكذلك الآية تبين أنه لا يجوز أن ننشغل عن ذكر الله بشيء، ولا حتى عن الصلاة ما ننشغل بأي طاعة أخرى من الطاعات، فإن بعض الناس ينشغل عن الصلاة بأشياء.

وبعضهم ربما يقول: من أمور الدعوة  ما يشغله عن الصلاة، فلا يجوز الانشغال عن الصلاة لا بأمور الدعوة ولا بأمور العلم، إذا صار وقت الصلاة انتهينا، إذا أقيمت الصلاة تترك كل شيء وتخرج، والسنة أن تبكر.

فكيف بمن يشغله فلمٌ عن الصلاة؟ وكيف بمن تشغله البلايستيشن والبوكس والتنتدو، والألعاب هذه الإلكترونية عن الصلاة؟ فكيف بمن تشغله مواقع التواصل عن الصلاة؟ مشغلة، مجهلة، إدمان، غرق، هؤلاء الذين ينشغلون بهذه عن الصلاة: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ  [الماعون: 4 - 5]، فهم يصلون ليسوا بترك صلاة، لكنهم ينشغلون عن وقتها، عَن صَلَاتِهِمْ  يعني عن وقتها  سَاهُونَ .

إذًا -يا عبد الله- لا تشغلنك هذه القنوات ولا الشبكات ولا الألعاب، ولا غيرها عن ذكر الله، عن الصلاة، وإلا فإنما يشغل عن الصلاة سيجتمع مع الميسر والخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة: 90]، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ  [المائدة: 91].

ابتلاء الله لسليمان

00:22:58

الله من حكمته: أنه يبتلي، وربما ابتلى الممكن حتى ما يتعلق قلبه بالدنيا وما مكن فيه، حتى ما يغتر بشيء من القوة التي عنده، كم كان لسليمان من القوة؟ لكن الله ابتلاه ابتلاء، هو دعاء ربه:  وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي  [ص: 35] ما في واحد، ما في دولة ولا بلد ولا مجتمع بعد سليمان أقوى من سليمان، ما في، لا يمكن.

الابتلاء هنا للتمكين، يعني: لا يمكن حتى يبتلى، ابتلاء من عنده قوة من الصالحين حتى لا يركن إليها، ويرجع إلى الله.

الابتلاء لسليمان كان بشيء عجيب، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ  [ص: 34].

 وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ [ص: 34]، هذه مؤكدة بثلاث مؤكدات، القسم المقدر، واللام المؤكدة للقسم، وقد، ولا، هذه لام الدالة على القسم، قد، ولقد فتنا ، اختبرناه وامتحناه.

فيه إبهام يعني  وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا [ص: 34]، أيش الابتلاء هذا؟

فيه إسرائيليات كثيرة لكن نحن في غنى عنها.

هل ألقى الله على كرسي سليمان شيطاناً صار هو الذي يدبر أمور المملكة، وسليمان عاجز ما استطاع أن يصل إلى كرسيه؟ فكأنه يعني: سحب منه الملك مدة فيتذكر ضعفه، وقوة الله؟

أم أن سليمان نفسه سلب القوة وصار مثل الجسد الملقى على الكرسي ما يدبر ولا يحرك شيئاً؟

كلاهما قال به المفسرون.

بعضهم قال: شيطان صار على كرسيه هو الذي يقود يأمر وينهى مدة شاء الله بها، ورجع سليمان بعد ذلك إلى ملكه، أو أن جسده هو جسد سليمان نفسه، فسلب قوة الجسد صار مرمياً على الكرسي كالثور،  ثُمَّ أَنَابَ [ص: 34]، وعرف أن هذا الأمر الذي نزل به من الله، وليبلوه، ويبتليه.

وسليمان لا شك أن عنده من الإيمان واليقين ما عنده، لكن هذه زيادة، هذا الدرس الإلهي زيادة، حتى يعرف هو الآن بحق اليقين، فإن الإنسان قد يعرف بعلم اليقين، وبعين اليقين، لكن يعرف بحق اليقين، يعني: كيف أن الله إذا أراد أن يسلبه سلبه، فيصبح لا حيلة له ولا تدبير، والله يختبر عباده بما شاء، وقد ابتلى أيوب بما ابتلاه به.

ابتلى أنبياءه ابتلاءات عظيمة.

ابتلى نوحاً بإعراض قومه عنه.

وكذلك صالحاً وشعيباً وهوداً، وغيرهم.

ابتلى يوسف بالجب والسجن، وفراق أبيه.

الله يبتلي، ابتلى سليمان بما ابتلاه به.

والأنبياء رجاعون إلى الله، والله يعتني بعباده وأنبيائه وأصفيائه فيعيدهم أقوى مما كانوا.

تقديم الآخرة على الدنيا

00:27:06

ولذلك بعد الحادثة هذه لما صارت الحادثة وأناب سليمان إلى الله قال: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ  [ص: 35].

من أين نأخذ من الآية تقديم أمر الآخرة على أمر الدنيا؟

 قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي  [ص: 35] أولاً، ثم قال: وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [ص: 35].

إذًا، لازم نقدم أمر الآخرة، طلب مصلحة الآخرة على طلب مصلحة الدنيا.

مع أن سليمان في طلب الملك ما كان مجرد يستمتع وإلا يطغى، وإنما يريد أن يستعمل هذه القوة في الجهاد ونشر الدين، لكن قدم أمر الآخرة أولاً، ومصلحة الآخرة أولاً، وقال: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي  [ص: 35].

ونبينا ﷺ كان يراعي هذا، مع أن سليمان مات، بين النبي ﷺ محمد وبين سليمان كم؟

آلاف السنين.

قال ﷺ: إن عفريتاً من الجن تفلت البارحة  يعني: تعرض لي بغتة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته، قبضت عليه، وأمسكت عنقه، وخنقته حتى شعرت ببرد لسانه على يدي، خنقته، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي  [ص: 35]، فرددته خاسئاً  [رواه البخاري: ].

الأنبياء محتاجون إلى مغفرة الله فكيف بنا نحن؟

سليمان يقول:  رَبِّ اغْفِرْ لِي  فكيف بنا نحن؟

وكذلك فإن الوهاب من أسماء الله يهب الإيمان والعلم واليقين، والولد والمال والرزق، والزوجة والسكن والمركب، والوظيفة والمال، وهاب إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ  [ص: 35].

لماذا طلب سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟

جواز أن يطلب الإنسان شيئاً إذا كان عنده استعداد للقيام بحقه.

 اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ [يوسف: 55].

 وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [ص: 35] يعلم من نفسه القدرة على استعمال النعمة التي يسألها ربه في مرضاته سبحانه وتعالى.

ولذلك العلماء تكلموا في قضية سؤال الإمامة والقضاء، ومن أجاز ذلك بهذا الشرط استدل بقول يوسف ومن منعه استدل بحديث عبد الرحمن بن سمرة: لا تسألوا الإمارة  وقالوا : سليمان ويوسف أنبياء من الذي يكون في مثل إيمانهم لكي لا تخونه نفسه.

الطائفة الثالثة من العلماء فصلوا قالوا: إذا علم  في نفسه القدرة على القيام يجوز أن يسأل، وإذا كان يظن أن نفسه ممكن تخونه، أو أنه يعجز ويضعف ما يسأل أبداً.

استجابة دعاء سليمان

00:31:11

لما قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [ص: 35]، ماذا فعل الله؟

 فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ  [ص: 36] صارت أعظم من مواكب ومراكب الملوك، وأعظم من السيارات والطائرات، أول شيء طبيعي، لا يوجد تلوث، والسيارات والطائرات تحتاج صيانة، والريح ما تحتاج إلى صيانة، ثم السيارات والطائرات يصير لها حوادث، وهذه الريح تحمل بلا حوادث، ثم السيارات والطائرات سرعتها، الريح ممكن تكون أسرع من هذا.

وما عندك هبوط اضطراري، وحوادث هبوط، وانزلاق على المدرجات، وحوادث سيارات.

 فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء  [ص: 36] رخوة هينة لينة مطواعة لأمر سليمان بإذن ربه.

 تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء [ص: 36] لينة طيبة.

لو واحد قال:  وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً  [الأنبياء: 81] يعني: سريعة قوية.

فالآن كيف نجمع بينهما؟

 رُخَاء  و عَاصِفَةً  كيف نجمع بينهما؟

يعني: أنها رخاء بيان لتذليلها له.

عاصفة وصف لسرعتها وقوتها.

فهي من جهة لينة مذللة له، ومن جهة سريعة.

وربما تكون رخاء عند الإقلاع عاصفة عند الاستواء في السماء سريعة.

ليس هذا فقط، طبعاً هي ريح غدو ورواح؛ كما قال الله : وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12]، والمسافات التي تقطعها غدواً ورواحاً في أنحاء العالم.

سخر الله له الشياطين، وهذا لم يكن لأحد أن الله يسخر له كل الشياطين:  وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ [ص: 37]، ما سخرت لأحد قبله ولا بعده.

 بَنَّاء يشيدون قصوراً، بيوتاً، يشيدون مصانع للسلاح، اصطبلات للخيل، يشيدون مساكن لجنده، يشيدون مساكن للفقراء، ما عندك أيدي عاملة، يعني يقول لك: أن هذا ما هو مدرب، وقوته محدودة، يهرب من كفيلة، لا يستطيع أن يهرب.

الشياطين هذه وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ  [سبأ: 12] ما في.

 وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ  [ص: 38]، ومسلسلين في الحديد.

الشياطين  كل بناء وغواص بناء على سطح الأرض.

 وَغَوَّاصٍ  تحت في البحر يستخرجون له حلياً، يستخرجون له ثروة سمكية، يستخرجون له مواداً.

إذا كان صنع قصراً من زجاج، ما في العالم قصر كله زجاج، كله من أوله إلى آخره، كله زجاج، إلا ما يدخل فيه إسمنت، ألمنيوم، مواد، هذا صرح ممرد من قوارير، حتى ملكة سبأ لما جاءت  حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ [النمل: 44]، فهؤلاء الشياطين كلهم قد سخروا لسليمان .

 وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ  [سبأ: 13] أماكن العبادة،  وَتَمَاثِيلَ  [سبأ: 13] كما يكون من الأشجار، وغيرها مما لا روح فيه، وإذا قلت مما فيه روح فيكون في شريعته لم تحرم كما حرمت في شريعتنا.

 وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ  [سبأ: 13] جمع جفنة، القصعة، إناء الطعام، معناها نأخذ منها نحن منها الكرم، أنت تكرم عباد الله، سليمان كان له من يعمل الجفان.

والجوابي جمع جابية الحوض الكبير الذي يوضع فيه الماء.

 وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ  يصنعون له للطعام الجفنة الواحدة كالجابية، كالبركة الكبيرة.

 وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ  طبخ لطعام الجيوش التي كان يقودها في سبيل الله.

ولذلك ما يمكن يجي أحد عنده ملك مثل سليمان .

وإذا كان يحتاج إلى مواد خام للتصنيع، فعندك قال الله تعالى: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ: 12] النحاس المذاب، عين تتدفق بالنحاس المذاب القابل للتصنيع والتشكيل، تجري على وجه الأرض.

فاستخدم الجن، والشياطين في إنتاج الصناعات المعدنية والعمرانية والمادية في سبيل الله والجهاد لإعلاء كلمته.

 هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39]، فقر عيناً، ومنَّ على من شئت وأمسك ما شئت، بلا حرج عليك.

وليس هذا فقط هو نعيم سليمان فإن الله قال: وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ  [ص: 25].

إذًا -يا إخواني- الواحد لازم يسخر ما عنده من الإمكانات في نصرة الدين.

إذا كان عندك إمكانات خطابية، اخطب في نشر الدين.

إذا كان عندك إمكانات نثرية، هذه للصياغة، للعبارات، والإنشاء لنصر الدين.

إذا كان عندك مواهب شعرية، انظم القوافي لنصرة الدين، والرد على أعداء الدين.

إذا كان عندك إمكانات تقنية وإلكترونية، سخرها في خدمة الدين.

عندك إمكانات إعلامية، إمكانية مالية تجارية، تفهيمية، تعليمية، تخطيطية، إدارية، سخرها في خدمة الدين.

هذا درس نأخذه من سليمان-.

سليمان الذي دخل في ملكه الصغير والكبير والهدهد والنمل.

النملة: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ  [النمل: 15].

 وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داود وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 25]، حتى اللغات، حتى لغات الطيور، ما هو فقط لغات الآدميين، عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 16]، زراعة حيوانية، جن، إنس، معادن، ريح.

 وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ  [النمل: 17 - 19] يعني شرف العلم، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  [المجادلة: 11] شرف العلم.

ولذلك الله قال: آتَيْنَا داود وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا  [النمل: 15].

احرصوا على العلم.

احرصوا على تفسير القرآن وشروح الأحاديث.

احرصوا على المتون العلمية وشروحها.

احرصوا على التفقه في الدين، ومعرفة قواعد الشريعة والكليات، ثم تعرفوا إلى الجزئيات، وكيف تندرج تحت الكليات، ويضم بعضها إلى بعض تحت هذه القواعد والكليات.

ونتعلم من هذا التوريث الحقيقي أنه توريث العلم والدين.

هذا التوريث الحقيقي، لا توريث المال.

إدارة سليمان لمملكته

00:41:18

وكذلك فإن سليمان عنده إدارة عظيمة لمملكته: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17].

أيش يعني:  يُوزَعُونَ ؟

هناك وزعة، يزعونهم، في ترتيب إداري لهذه الحشود، في ترتيب إداري لهذه الجنود.

الوزعة ما يتركون أحد يتقدم أو يتأخر أو يطلع على جنب، أو يغير مسيرة، أو يدخل بعضهم في بعض.

فرق منظمة جداً من الجن والإنس والطير فهم يوزعون.

في وزعة يقودون هذه الفرق.

لماذا قدم الجن على الإنس؟

لأن الجن طائفة عاتية وماردة كيف تحشر وتوزع ومع ذلك يحشرهم ويزعهم؟

فإذا قلت: كان عند سليمان تجنيد إجباري، يوزعون ويكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد على مكانه، وجيش كبير منظم غاية التنظيم في غاية الانضباط في غاية الحزم، مع أمير مطاع، وقائد واحد.

ولذلك من أسباب نجاح الجهاد في سبيل الله أن تكون الراية واحدة، وليسوا فرقاً ولا أحزاباً ولا طوائف، ولا كتائب متناحرة، الراية واحدة، هذا من أعظم أسباب نجاح الجهاد في سبيل لله.

سليمان لما أعطي كل هذا، وقدم قدم ذكر الجن على الإنس.

طبعاً في آيات أخرى قدم ذكر الإنس على الجن، وآيات قدم ذكر الجن على الإنس، وهذا من بديع النظم القرآني.

فيقول الله : قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ  [الإسراء: 88].

وآية أخرى قال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا  [الرحمن: 33]، فالأولى قدم الإنس، والثانية قدم الجن، لماذا؟

في باب البلاغة والبيان الإنس أقوى، ولذلك قال: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ  [الإسراء: 88]؛ لأن هذا في أي باب؟ البلاغة والبيان.

أما في باب الاختراق والطير الجن أقوى، ولذلك قال:  يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا [الرحمن: 33].

والمقصود أرض المحشر إذا أحاط الله الخلائق جناً وإنساً بأطواق الملائكة يتحداهم الهروب، لا يستطيع أحد أن يهرب.

أيش رأيكم لو خرجنا شيئاً بسيطاً،  وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38]، قدم السارق على السارقة، في الزنى قال:  الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا [النــور: 2]، قدم الزانية ليه؟ لماذا قدم السارق هنا والزانية هناك؟

قال بعضهم: في مجال الكسب وطلب الرزق الرجل يقدر أكثر من المرأة، فإذا كان قدرته أكثر راح يسرق فهو أسوأ، وإن كانت السرقة من كليهما سيئة.

وفي باب الزنى المرأة أشد حياءً من الرجل، فالمفروض أنها تكون عن الجريمة هذه أبعد، فإذا وقعت فالزنى منها أقبح مع أنه من كليهما قبيح، ولذلك في السرقة قدم ذكر الذكر وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ، وفي الزنى قدم ذكر الأنثى،  الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي .

 حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ  [النمل: 18].

ما أروع هذه النملة في مقالها، وما أبلغها {يا} نادت أيها  نبهت النمل  سمت ادخلوا  أمرت  مساكنكم  نصت  لا يحطمنكم  حذرت سليمان  خصت وجنوده  عمت  وهم  أشارت  لا يشعرون  أعذرت وبينت عذر نبي الله سليمان.

وهناك بلاغة عظيمة في هذا فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا  [النمل: 19].

النصيحة للقوم، ما أورع أن نتعلم من هذه النملة كيف ننصح قومنا كما أن هذه النملة نصحت لقومها، وعدم إساءة الظن من المصلحين، وأن الأخيار لو الواحد فعل شيئاً فيه إيذاء يكون بغير قصد، ويلتمس العذر، ومع ذلك تتخذ الأسباب الشرعية للوقاية، ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ .

 فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا  تبسم سرور، وهناك تبسم المغضب كما فعله ﷺ في قصة كعب.

شكر سليمان للنعمة

00:47:34

لكن هذا هل صرف سليمان عن شكر النعمة؟

أبداً، ما أطغاه ولا ألهاه، أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19] ألهمني شكر نعمتك، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ  تحبه، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] وألحقني بهم،  واجعلني من ورثة جنة النعيم [الشعراء: 85].

والنمل لا يقتل إلا إذا أذى، وسليمان الذي استعمل من عنده للدعوة إلى الله حتى وصلت رسله إلى اليمن، وطار طائره الهدهد بالرسالة إلى ملك سبأ.

لما يكون عندك رعية في البيت، أنت عندك أولاد أبناء وبنات وعندك زوجة، قد يكون عندك خادمة وموظفون وعمال، إذا جعل الله تحت يدك رعية ماذا يجب عليك شرعاً؟ الدليل من قصة سليمان -عليه السلام-.

تفقدهم، من قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ [النمل: 20] أنت تتفقد أولادك في الصلاة.

وكان بعض مشايخنا إذا رجع من صلاة الجماعة في المسجد يقف على باب بيته، فيدخل أولاده وأحفاده، وكل واحد يذكر اسمه، يقول: فلان، فلان، فلان بن فلان، فلان بن فلان، فلان بن فلان، حتى يدخلوا جميعاً، هذا من تفقده رحمه الله.

أحد شيوخنا -رحمه الله- عُمر كان مع كبر سنه على باب البيت بعد الصلاة يتفقد من الذي صلى، يدخلون يعدون أسماءهم.

 وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ  [النمل: 20-21] الهدهد هذا يقول العلماء أنه مهندس، ما معنى مهندس؟ يعني: يعرف أماكن الماء في الأرض.

كان عند عمر مسألة التفقد هذه للرعية واضحة جداً، وهو الذي قال: "لو أن سخلة بشاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر".

قال ابن العربي في "أحكام القرآن": "فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية، وتضيع الرعيان" [أحكام القرآن لابن العربي 3/ 479].

وكذلك الأب المسؤول عن بيته، والمدير المسؤول عن دائرته، وصاحب المال المسؤول عن شركته.

ولاك الله عليهم ماذا فعلت في تفقدهم؟ أمرهم بالدين، بالمعروف، منعهم من الحرام، جعل الخير يتسرب إليهم، تفتح لهم منافذ الخير وتغلق لهم منافذ الشر.

وسليمان عنده عدل وعنده حزم، وعنده متابعة، ولم تشغله كثرة رعيته عن متابعتهم.

طبعا هذه قدرة -يا إخوان- يعني: في ناس أتاهم الله قدرات إدارية عظيمة، عنده قدرة يتابع أعداداً من الناس، ماذا فعل هذا؟ وماذا يفعل هذا؟ وهذا ماذا يكلف؟

ولذلك إذا جعل الله تحت يدك من جعل فلا تفرط فيهم ولا في دعوتهم، ولا في محاسبتهم، فهذا سليمان اكتشف غياب الهدهد مع أن جنوده كثيرون جداً، اكتشف وانتظره ليأتي ليسمع منه فيه عذر أو لا، وما كان ليعذبه بدون أن يسمع عذره، والله يلقن عباده درساً، يعني: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ  [النمل: 22] أنت نبي الله، وأنت.. وأنت.. ولكن أنا الهدهد على صغر حجمي  أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ، ولذلك الإنسان ما يحتقر أحداً ممن تحته لأنه قد يكون عنده فكرة، أو قدرة، أو خبر ليس عنده، ليس عند من فوقه.

 وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76]، لكن هذا يعلمنا أن الأنبياء لا يعلمون الغيب، ولذلك ما في مجال للغلو بالأنبياء، والاستغاثة بالأنبياء.

وكيف تستغل الطاقات في الدعوة إلى الله، يعني الهدهد هذا يفهم أنه يطوف، وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ  [النمل: 22 - 24] يعرف التوحيد، وكثير اليوم من المنتسبين للإسلام لا يعرفون التوحيد، فيشركون بالله، ويدعون غير الله، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ  [النمل: 24] سبيل الحق والتوحيد،  فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ [النمل: 24] لإفراد الله في العبادة  أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ [النمل: 25] وحده لا شريك له،  الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  [النمل: 25].

انظر إلى الهدهد ما اغتر، الهدهد يكتشف أشياء تحت الأرض، ومع ذلك قال: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ [النمل: 25] يعني: يقر لله بأنه أقوى وأعظم وأعلم منه مع أنه الهدهد يعلم أشياء، أتاه الله قدرات في اكتشاف المخبوءات، الماء تحت الأرض، ومع ذلك قال: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ [النمل: 25] ثم قال: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ  [النمل: 25].

إذًا، يعلم ما تخفون وما تعلنون، يعلم ما في السموات وما في الأرض.

 اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  [النمل: 26]

ولاحظ أنه قال في بلقيس يعني ملكة سبأ: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] بدون الألف واللام، ولما جاء في وصف عرش الله قال: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  بالألف واللام.

وهذا يبين أن الهدهد يفرق بين عرش المخلوق وعرش الخالق في العظمة.

كان لسليمان مصادر معلومات، وهذا الهدهد كان عنده فطنة وبلاغة.

بعض الدروس المستفادة من قصة سليمان

00:54:39

وفي القصة دروس كثيرة لا يسمح الوقت بعرضها، لكن سنأخذ منها قضية الدعوة إلى الله حتى بالرسائل، ويدخل فيها اليوم الرسائل الإلكترونية، الرسائل الإلكترونية سواء كانت بالإيميل أو بغيره، رسائل الواتسآب.

الدعوة إلى الله بالرسائل.

والرسول ﷺ أرسل رسائل لملوك الكفار.

وأرسل سليمان الرسالة هذه إلى ملكة سبأ حتى قالت: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل: 29].

وكيف الرسائل مبدوءة بالبسملة، مبدوءة بتعظيم الله، وأن الرسالة تبدأ بذكر اسم المرسل: إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ  [النمل: 30]،  من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم  [رواه البخاري: 4553].

فالسنة في الرسائل تبدأ في البسملة، ثم ذكر اسم المرسل، ثم ذكر اسم المرسل إليه، ثم السلام.

هذه هي القصة العظيمة التي تتجلى فيها فطنة هذا الطائر الذي قص الله علينا من خبره ما قص، كما قص علينا من ذكر النملة ما قص.

وكذلك فيها تقديم التقرير الموجز الكافي كما فعل هذا الهدهد، وأنصت له نبي الله سليمان حتى فرغ من حديثه، وأراد التحقق من الخبر  قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل: 27] وهذا فيه التأني والتثبت قبل الإقدام على اتخاذ القرارات.

وكذلك استعمال من تحت يد الإنسان للدعوة إلى الله كما أرسل الهدهد بهذا الكتاب، وأمره أن يلقيه وينظر بعدما يستأخر غير بعيد ما هي الآثار، وماذا سيكون الجواب، فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ  [النمل: 28].

وكذلك فإنه لما رجع إليه بأن القوم يريدون مصانعته، وجاء وفدهم بهدايا؛ لأن القوم اختاروا المهادنة، وتقديم مال للاسترضاء، ولكن لم يكن سليمان بحاجة لهذا.

فلماء جاءت سليمان الهدية، وجاء رسول القوم بها، قال منكراً عليهم:  قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36]؟ لحبكم للدنيا، أنا لست ممن تقدم له الرشوة، فلو كان واحد يريد أن ينكر منكراً، أو يبلغ عن شر، فأعطي رشوة ليسكت، قالوا: لا تبلغ عنا وخذ ما تريد، هنا امتحان.

وبعضهم يعطيه، يقول: يا أخي خذ مائة ألف ولا تبلغ عنا، خذ مليوناً واكتم خبرنا، خذ الذي تريد ولا توصل أمرنا.

يقول له: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ  [النمل: 36]؟  بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36]،  ارْجِعْ إِلَيْهِمْ  [النمل: 37] ارجع بالهدية، الهدية رشوة، الهدية الباطلة ما تقبل، ما تؤخذ غير الهدية الحسنة، الهدية الجائزة.

فإذا كانت رشوة خلينا على ديننا، وانصرف عنا، ما أخذها، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ؛ لأن هذه الآن صارت رشوة للسكوت عن باطلهم، لتركهم على كفرهم.

 ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا [النمل: 37] الترهيب قبل الغزو، يعني لو أنهم خافوا وجاءوا مذعنين أحسن، نحن لا نقصد أن نريق الدماء ابتداءً، فإذا أذعنوا وجاءوا، الحمد لله، حصل المقصود، أليس المقصود أن يسلموا؟ فإذا أسلموا بغير قتال فإن القاعدة تقول: الدعوة بالأسهل فالأسهل، والأخف فالأخف، وليس البدء بالأشد، ولا بالأثقل، هذه من قواعد الدين.

 وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل: 37] مدحورون، وأظهر عزمه على القتال أمام رسول الكفار، وأن عنده إقامة الدين والتوحيد وإزالة الكفر والشرك مقدم على الأموال والهدايا والرشاوى.

وكذلك فإنه أظهر القوة استعداد لاستقبال الأعداء، أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 38] وكان الذي عنده علم من الكتاب ويعلم اسم الله الأعظم، أقوى من ذلك العفريت من الجن، ولذلك بسؤال الله صار العرش حاضراً بين يدي سليمان آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 40].

فإذًا، صار عند سليمان منافسة بين أصحاب الطاقات والقدرات، وهذه منافسة صحية جداً.

المنافسة بين أصحاب الطاقات والقدرات في خدمة الدين أيهم يسبق، أيهم عنده القدرة أكثر، هذه علامة صحية للغاية في المجتمع المسلم.

 فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ  [النمل: 40]، ما طغى ولا بغى، قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل: 40].

ثم أراد أن يختبر عقل ملكتهم، فقال: نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا  غيروه بزيادة، بنقص، تغير  نَنْظُرْ  نختبر عقلها  أَتَهْتَدِي يعني: يصير عندها فطنة ومعرفة الصواب، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ  [النمل: 41].

 فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ [النمل: 42]؟ فكان من ذكائها وفطنتها أنها ما قالت: هو، ولا قالت: ليس هو، وإنما قالت: كأنه هو  لم تنف ولم تثبت، ولذلك قادها عقلها وقادتها فطنتها في النهاية إلى الإيمان.

ولذلك أصحاب العقليات الكبيرة، أصحاب الأذهان والذكاء، أصحاب القدرات العقلية ما بينه وبين الحق شيء كثير؛ لأن فطنتهم وذكائهم وعقولهم تقودهم إلى معرفة الحق، ولذلك حسن العرض عليهم مهم، انظر إلى سليمان كيف تلطف لأجل إبهار الكفار؛ لأنهم هم أهل دنيا، فإذا شاهدوا شيئاً ما عندهم مثله، خلاص، ماذا بقي يعني؟ وجدت عرشها أمامها، وصرحاً ممرداً من قوارير، وشيئاً لا قبل لها به، خلاص، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  [النمل: 44]. رأت صرحاً ممرداً من قوارير، وأرادت أن تكشف لتمشي ولكن بهرها بهذا، فأذعنت ورضخت، واعترفت بالتوحيد، وأنها ظلمت نفسها بالشرك: إني ظلمت نفسي يعني بالشرك، والنتيجة: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ [النمل: 44]؛ لأن هذا هو النبي واجب الاتباع، ونحن مع محمد ﷺ، مع النبي، الهداية مع النبي.

كيف كانت النهاية؟

سبحان الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون.

سبحان من لا يزول ملكه ولا سلطانه، وسلطان البشر وملكهم يزول وهم زائلون.

 فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: 14]، وجاء الأجل المحتوم في نهاية المطاف وذلك المشوار من الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وتعليم الخلق، ونشر الدين، وقيادة البلاد والعباد والجن والإنس، والطير والمخلوقات، وتسخيرها لله وطاعته سبحانه وتعالى، فلما قضينا عليه الموت ، وجاء أجل الله الذي لا بد منه في النهاية: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30].

 مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ: 14]، الأرضة، تأكل منسأته وعصاه، والشياطين يعملون، والجن يعملون، ويرونه قائماً منتصباً، يظنونه يصلي، يحسبونه حياً، وهم من هيبته خائفون.

وكان يشرف على مراقبة أعمالهم، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله، أرسل الله الأرضة لتبين هذه الحقيقة للناس،  فَلَمَّا خَرَّ  وأكلت الأرضة منسأته وعصاه التي كان يستند عليها خر ميتاً  تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14].

وهذا فيه رد على الذين يلجؤون إلى السحرة والمشعوذين والعرافين، والذين يتعاملون مع الشياطين، فيقال لهم: الجن والشياطين كانوا مع سليمان يشتغلون ليلاً نهاراً، ما كانوا يعلمون أنه مات وهو أمامهم، فكيف يعلمون الغيب الذي استأثر الله به؟

نسأل الله أن يجعلنا من المعتبرين، ومن المتدبرين لكتابه والتاليين.

نسأله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم أحينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  • هانى الراشد

    اللهم انى اشهدك انى احب هذا الشيخ فيك

  • ابراهيم

    جزاك الله خيرا يا شيخنا وبارك الله لنا في علمك وأمدك الله بمدد من عنده

  • سعيد الشهراني

    وفقك الله شيخنا وثبتنا الله وإياك