الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
معالجة الشريعة لكل شيء
هذه الشريعة، شريعة الإسلام شريعة عظيمة تعالج كل شيء، حتى المشكلات النفسية، حتى الضغوط، حتى الاكتئابات؛ حتى أي حال يكون فيها هم أو غم أو نصب أو حزن.
وكثير من الناس يقولون: إننا نعيش أجواء عصيبة في الحقيقة، أجواء تمر بها الأمة، إننا نرى ما يحدث للمسلمين اليوم من المآسي والمصائب، ونحتار كيف ننصر؟ ولا نستطيع ذلك، ونحن في حال من الضعف.
وقضية عدم الاستطاعة موجودة في الشريعة، ولها علاجات، في قضية الصلاة، في قضية الوضوء، في الصيام، في الحج، في العبادات، التي لا يستطيعها الإنسان ما هو الموقف الشرعي في هذا الموضوع؟
عندما يعيش الإنسان حالة ضيق نفسي بسبب عدم قدرته على القيام بواجب شرعي، أيا ًكان هذا الواجب الشرعي؟
ما هي الأشياء التي جاءت في الشريعة بهذا الشأن؟
معالجة الشريعة عدم القدرة
إذا نظرنا في الكتاب والسنة نجد نصوصاً في هذا الموضوع، وأن هذا الوضع وضع الضعف أو وضع عدم القدرة، أو وضع العجز الكلي أو الجزئي له معالجات شرعية، فمثلاً: يقول الله : لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] يعني: لا يكلف أحداً فوق طاقته، كما قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم.
وقال سبحانه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7]، يعني في موضوع الإنفاق على الزوجة والأولاد، بعض الناس تضيق عليه الأمر، ربما يفقد وظيفة، تتراكم عليه الديون، تكثر المصاريف، فلا يجد ما يغطي كل شيء،الإيجار، والطعام، واللباس، وفواتير الكهرباء، والجوال.
-طيب- ماذا يجب عليه شرعاً؟
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].
يقول عبد الله بن عمر والحديث في البخاري، ونحن حول أحاديث الصحيح ندندن: " كنا إذا بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعتم [رواه البخاري: 7202].
ما يكلف الشرع الإنسان فوق استطاعته.
ويقول ﷺ أيضاً: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم [رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337].
والإمام النووي -رحمه الله- علق على هذه النصوص قال: "هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي يعطيها الرسول ﷺ، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام" [شرح النووي على مسلم: 9/102].
والنبي ﷺ قال: خذوا من العمل ما تطيقون [رواه البخاري: 1970].
لا تحمل نفسك فوق طاقتها، يعني: بعد الواجبات وترك المحرمات في مسائل المستحبات لا تحمل نفسك فوق طاقتها.
لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة
من القواعد الشرعية المهمة: لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة.
وآخر سورة البقرة دعا المؤمنون والصحابة كما أمروا والله استجاب، كلما دعوا دعاءً قال: نعم، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286].
وجاء في صحيح مسلم: أن الله -تعالى- قال: قد فعلت [رواه مسلم: 126]، فجرت سنته سبحانه أن لا يكلف النفوس فوق ما تطيقه.
ويقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: ثبت في الأصول أن شرط التكليف، أو سببه القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعاً [الموافقات: 2/171].
ولما توعد الله من يقيم بين الكفار، ويسكن مع الكفار وفي مجتمعات الكفار، وفي بلاد الكفار، وتجري عليه أحكامهم، وما يستطيع أن يقيم شعائر الدين الظاهرة؛ لأنه مستضعف، لما توعده الله إذا ما هاجر إلى بلاد المسلمين، قال : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 97]، ما انتهت القضية على هذا الوعيد فقط بل قال : إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 98 - 99].
فإذًا، الوعيد بقي على المستطيع القادر ولا يشمل العاجز.
والملائكة لما تقبض أرواح هؤلاء توبخهم، لماذا لم يهاجروا؟ لماذا بقوا ساكنين مع الكفار وبين الكفار؟ تجري عليهم أحكام الكفار، لا يستطيعون أذاناً ، لا يستطيعون إقامة شعائر الدين الظاهرة، بل كثروا سواد المشركين، وجلسوا بينهم، فاتهم العلم والإيمان والخير، فلما توبخهم الملائكة: ما هاجرتم إلى الله ورسوله، قالوا :كنا مستضعفين في الأرض، ضعفاء مقهورين مظلومين، استثنى الله من هو ضعيف حقاً لا من يدعي الضعف وهو قادر على الهجرة: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء: 99].
و"عسى" من الله واجبة، يعني أنه لن يعاقب العاجزين حقاً، فمن عجز عن المأمور به فإنه معذور، كما قال الله في الجهاد: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ [الفتح: 17].
وقال في عموم الأوامر: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].
لكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل كل ما عنده من الحيلة والقدرة ولم يستطع؛ كما قال تعالى: لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ما عندهم طريقة.
القيام بعمل الممكن والمستطاع
ثانياً: بذل ما يمكن، لو واحد قال: استطيع عشرة في المائة، أستطيع عشرين في المائة، بذل ما يمكن بذله.
صحيح أحياناً الشخص يكون في وضع ليس بمقدوره أن ينفذ الحكم الشرعي كاملاً، لكن هذا لا يعني أنه يسقط عنه تماماً، وأنه لا ينفذ منه ولا شيء، فيجب أن ينفذ ما يستطيع منه، افترض أن شخصاً قال لك: يا أخي أنا في وضع حقيقة مكره على حرام، وأنا غير متلاعب، وأنا جاد، وأنا لو أستطيع أخرج وما أتعرض لشيء من هذا لخرجت، ورزقي على الله، هب أن فتاة في بيت فيه منكرات ومعاصي، وهذه الفتاة متدينة، ولكن إخوانها وأهلها كلهم في البيت يعملون المنكرات، أين تذهب؟ تذهب إلى الجيران؟ تذهب إلى مكان آخر؟ ما كتب الله لها زواجاً، أو ما عندها مكان آخر، هي الآن مرغمة أن تعيش في هذا البيت، لكن عليها أن تتقي الله ما استطاعت، فإذا استطاعت أن تتجنب مجلس اختلاط، أو مكان منكر، أو سماع منكر، أو حضور منكر، يجب عليها أن تتجنبه.
لكن أحياناً تجبر، المرأة ضعيفة ليست كالرجل في التصرف والذهاب، والمغادرة، والقيام بأعمال.
إذًا، عليها أن تتقي الله ما استطاعت، لا يقول الإنسان: والله انا ما عندي قدرة أني أتخلص منه كله إذا فأنا أرضخ وأجلس على كل الحرام مائة في المائة، لا، فيجب على الإنسان أن يبذل كل ما في وسعه وطاقته، وأن يسأل الله أن ييسر له الأسباب، وأن يتخلص من هذا الشيء إذا كان صادقا يسأل ربه أن يخلصه من هذا، ويعمل باذلاً الأسباب للخلاص.
وكل مسلم عليه فيما يستطيعه أن يأتي بما يستطيع.
ونحن في مجال العبادات نرى أن الله كلفنا بأمور، وإذا عجزنا عن شيء قد يكون له بدل، وقد لا يكون له بدل.
مثلاً: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، ما قال: اترك الصلاة بالكلية.
من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس إذا دخل مستشفى لو خرجت منه النجاسة يترك الصلاة، يقول: كيف أصلي وأنا بهذه الحالة؟
نقول: اتق الله ما استطعت، صل ولو كانت تخرج منك، أنت غير مستطيع لشرط إزالة النجاسة يسقط عنك.
ما تستطيع الوضوء تيمم، لا تستطيع استقبال القبلة صل إلى غير القبلة، ما تستطيع القيام اقعد، أما أنك تترك الصلاة بالكلية هذه مصيبة.
ولو قال: أقضي فيما بعد.
لأن الله لا يرضى تأخير الصلاة عن وقتها.
وهذه الأشياء التي هو معذور فيها تصح الصلاة ولو كان لا يستطيع القيام بها تماماً.
لكن بعضها له بدائل -كما قلنا- التيمم بديل الوضوء، القعود بديل القيام.
لا نكلف نفساً إلا وسعها بمقدار ما اتسعت الطاقة.
وإذا عجزت عن بعض الواجبات ممكن تسقط بالكلية أو تسقط إلى بدل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، فلا واجب مع العجز، و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .
وجاء في حديث الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج الطويل، حديث عيسى ابن مريم ومن معه من المسلمين في آخر الزمان، قال ﷺ: فينزل عند المنارة البيضاء يعني: عيسى ، والمنارة البيضاء موجودة الآن في شرقي الجامع الأموي في دمشق، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، وواضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، يعني: كل كافر في دائرة نصف قطرها يوجد منه ريح نفس عيسى، كل الكفرة في المنطقة هذه أول النزول يموتون على طول، هذه أول شيء، أول دفعة.
قال: ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، منتهى النظر، قال ﷺ عن لقاء الدجال، بالمؤمن مسيح الهداية، لقاءه بمسيح الضلالة، مسيح الكفر والكذب والدجل، قال ﷺ: ((فيطلبه)) يعني: عيسى يطلب الدجال، حتى يدركه بباب لُد فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم، يعني: من المسلمين يأتون إلى عيسى، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوماً قد عصمهم الله منه، يعني: من الدجال، وثبتوا، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، وهذا خبر من الله، وحي، فبينما هو كذلك بعد انتهاء فتنة الدجال، إذا أوحى الله إلى عيسى، وهذا موضع الشاهد من الحديث وعلاقته بالموضوع: "إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم" "لا يدان" يعني: لا قدرة ولا استطاعة، "لا يدان لأحد بقتالهم" من هم؟ يأجوج ومأجوج، أذنت بخروجهم وقد نقبوا السد، وقد خرجوا، الآن وهم من كل حدب ينسلون، وسيتوجهون إلى الشام أيضاً من ضمن الأماكن التي في الأرض، قال: يقول الله لعيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور" يعني: عيسى الذي قتل الدجال ليس عنده قدرة، ولا عند المسلمين الذين معه في مواجهة يأجوج ومأجوج، هنا صار في عجز، ما هو الحل؟ يقول الله لعيسى والمؤمنين معه: "فحرز عبادي إلى الطور" تحصن، أنت ومن معك من المؤمنين بجبل الطور، "فحرز عبادي إلى الطور"، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون [رواه مسلم: 2937].
فلم يكلف الله عيسى ومن معه قتال يأجوج ومأجوج، بل سمح لهم وأذن بالانسحاب والتحصن والتحرز في الطور.
ومعنى: "لا يدان" كما قال الحافظ السندي في شرح الحديث: "لا قوة ولا قدرة ولا طاقة"[حاشية السندي على سنن ابن ماجه: 2/511]، ولذلك يكون الانحياز، وهذا الانسحاب للتحصن وليس للفرار".
مراعاة الأحكام الشرعية لجانب الضعف والعجر
إذا جئنا إلى الأحكام الشرعية في هذا الباب.
من عجز عن القيام في الصلاة صلى جالساً، من عجز عن الجلوس صلى على جنب، كما جاء في حديث عمران بن حصين وكان فيه بواسير، كانت به بواسير فسأل النبي ﷺ عن الصلاة فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب [رواه البخاري: 1117].
من عجز عن الصيام بواجب كالهرم، ولا يستطيع القضاء لكبر سنه، وتدهور صحته، وسقوط قوته، وهو كل ما تقدم يزداد ضعفاً، ما يرجى أن يتحسن، فهذا يسقط عنه الصوم ولا يلزمه، ويفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، إذًا هذا البديل.
وكان ابن عباس يرى: أن قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184] هي في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان عن كل يوم مسكيناً [رواه البخاري: 4505].
ومن ضمن هذه الأحكام في هذا المبدأ أيضاً: أن الأخرس والعاجز عن الكلام لا يلزمه تحريك لسانه في القراءة في الصلاة والتكبير ويسقط عنه، لعدم القدرة.
لكن لما تكلموا في موضوع ذبح الجزار الأخرس قالوا: يشير بأصبعه إلى السماء قبل الذبح، يعني: دلالة على أنه سمى في نفسه، وأن أكثر ما يستطيعه الإشارة.
ومن كان لا شعر له لا توجب عليه الشريعة شيئاً في قضية التحلل من العمرة بأخذ الشعر.
ورفع الله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، فيما يتعلق بالتكليف الذي يحتاج إلى هذه الحواس، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النــور: 184]، وهذا في مثل الجهاد ونحوه.
ولو ضعف المولود عن احتمال الختان وخشي التلف حتى على الكبير، المسلم الجديد، يمكن أن يسقط عنه، إذا قدر الأطباء الثقات أنه يؤدي إلى نزيف لا يمكن أن يتوقف أو لا يتوقف، فيمكن أن يسقط بشرط أن يكون فعلاً في عجز، ونص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه، وهو عند الجمهور كذلك.
وكل هذا مبني على قضية سقوط التكليف عند العجز.
إذا استطاع البعض وعجز عن البعض ماذا عليه؟
أن يأتي بما يستطيع، فيجب فعل المستطاع، ويسقط غير المستطاع.
الميسور لا يسقط بالمعسور
ومن قواعد الشريعة: أن الميسور لا يسقط بالمعسور: الميسور المقدور عليه لا يسقط بغير المقدور عليه، فمن قدر على شيء أو بعض أو جزء لزمه الإتيان به؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، وحديث: وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم [رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337].
وكان أحد السلف في سجن الحجاج أو غيره من الظلمة فكان إذا سمع المؤذن يوم الجمعة يقوم من سريره في الزنزانة ويمشي إلى باب الزنزانة، بعد ما يأتي بما يستطيع من ثياب وطيب أو غسل، يأتي إلى الباب فيرده السجان، فقيل له في ذلك، فقال: أفعل ما أقدر عليه، قال الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9]، لو ست خطوات، لو سبع، لو ثلاث، أمشي، المقدور عليه أمشي.
ومن قدر على بعض الفاتحة في قراءة الصلاة أتى بما يستطيع منها، ولا يتركها كلها، وهذا يتصور في بعض من يسلم حديثاً، فيمكن الآن لو أسلم المغرب فقيل له: عليك صلاة المغرب، قال: ماذا أقول؟ قلنا: ردد وحفظناه الفاتحة، سيخرج وقت الصلاة وما حفظ إلا ثلاث آيات، نقول: هات الثلاث.
لو أن إنسانا في يده إصابة فأراد أن يطبق السنة في الصلاة برفع اليدين، يرفع واحدة، ومن استطاع القيام وعجز عن الركوع والسجود يلزمه الإيماء، يعني ينحني بقدر ما يستطيع، ويجعل الانحناء في السجود أخفض من الانحناء في الركوع.
من قدر على غسل بعض الأعضاء في الوضوء هو مصاب بحادث وفيه جبائر يستطيع غسل بعض الأعضاء يمسح على الباقي، ولا يسقط غسل المقدور على غسله.
كذلك لو قدر على غسل بعض البدن في الجنابة ويتيمم عن الباقي، فليزمه الإتيان بما قدر عليه منه.
وعلى ذلك قالوا: من قدر على غسل بعض الأعضاء في الوضوء والماء لا يكفي للبقية، اتقوا ما استطعتم، ويتيمم عن الباقي: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة: 6]
من بذل وسعه فيما يستطيع لا يلزمه أكثر من ذلك
ومن القواعد في هذا الموضوع أيضاً: أن من بذل وسعه فيما يستطيع لا يلزمه أكثر من ذلك، نحن لا بد نستحضر يعني: وضع المسلمين الآن وما يعيشونه من المصائب والكربات، وأن كثيراً من المسلمين يقولون: لا نقدر على نصرتهم ماذا علينا؟ لو أن المسلمين لا يقدروا على مواجهة عدو من الأعداء، بدأ عبد المطلب العاقل مع أنه كان مشركاً لكن هو عاقل، تصرفه كان تصرفاً جيداً، ماذا فعل؟ لما جاء أبرهة الحبشي وأراد هدم الكعبة، جاء في السيرة: أن عبد المطلب سيد قريش دخل على أبرهة، هو يريد أن يجري محاولة حتى يجنب الكعبة الهدم، وكان عبد المطلب من أجمل الناس وأوسمهم، وأعظمهم، فلما رأه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه على أن يجلسه تحته، فجلس على بساطه بجانبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، ففوجيء أبرهة، وقال لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين أباءك قد جئت لأهدمه، ولا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه.
ثم قام عبد المطلب، وأخذ بحلقة الكعبة ودعا الله ومعه نفر من قريش، وقال: اللهم إن العبد يمنع رحله فيمنع حلالك، ما معنى: فامنع حلالك؟ امنع حلالك يعني: امنع القوم من الحلول في البيت، والاستيلاء.
لهم إن العبد يمنع | رحله فامنع حلالك |
لا يغلبن صليبهم ومحالهم | غدوا (يعني غدا) محالك |
فعبد المطلب فعل ما يقدر عليه، وخرج وصعدوا الجبل، ينظرون، ماذا سيفعل الله بهؤلاء؟ ففعل الله بهم ما فعل، بحجارة من سجيل منضود.
في أحكام الصلاة من لم يعرف القبلة واجتهد وليس هناك من يسأله ولا من يعرف المكان الذي هو فيه، ثم تبين له أنه مخطئ فليس عليه إعادة؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، لا يوجد من يسأله واجتهد، حاول، فكر يستنتج، طلعنا من هنا وكنا هنا، ثم، لعله.
من فعل ما وجب عليه واتقى الله ما استطاع برئت ذمته.
من لم يكن عنده ماء فتيمم وصلى، لو جاء بعد يوم أو يومين ورأى ماءً لا يقال له: عليك القضاء.
لأنه فعل ما كان عليه فبرئت ذمته.
الاستطاعة في الواجبات تتفاوت
من القواعد في هذا الموضوع أيضاً: أن الاستطاعة تتفاوت في الواجبات ، فقد يكون المرء مستطيعاً من وجه عاجزاً عن وجه.
فإذًا، يأتي بما يستطيعه، وما لا يستطيعه يسقط عنه.
الآن عندما يرى المسلمون ما يصيب إخوانهم في الأرض، والواحد يقول: أنا أرى مشاهد القتل، والدمار، وأسمع أخبار الاغتصاب، وما أستطيع أن أنصرهم بنفسي، طيب ماذا يجب عليك؟
افعل ما تستطيعه، فإن كنت تستطيع دعاء افعل، وإن كنت تستطيع صدقة افعل، وإن كنت تستطيع مناصرة باللسان افعل، حسان بن ثابت كان ينظم الشعر في نصرة الله ورسوله، وهجاء الكفار، وكان شعره يفعل في نفوس الكفار أشد من رمي النبل عليهم.
فالكلام الذي نقوله الآن في خضم الضعف الذي أصاب الأمة.
صرنا كأضعف ضبية في غابة | منها ينال الناب والمناقر |
ولغت وحوش الغاب في أشلائها | وتخضبت بدمائها الأظفار |
واجتمع الشرق والغرب على المسلمين، وصار هذا الشام سليباً جريحاً، منكوباً.
فؤاد الحر مهموم ثقيل | يخيم فوقه حزن طويل |
على قومي تواترت البلايا | وسارت من جراحهم السيول |
وعضتها الشدائد والرزايا | وداستها الأكابر والسفول |
تكالبت العداء من كل صوب | عليهم لا تحول ولا تزول |
يحاصرهم عدو مستبد | فلا يصل الكثير ولا القليل |
وأسلمهم جميع بني أبيهم | وأغليت المبادئ والأصول |
قصار جهدهم إن ناصروهم | نكير في المحافل أو عويل |
فإن زادوا فبعض فتات خبز | وقد لا يستطاع له وصول |
فماذا يفعل؟
مرة أخرى، نحن لا نموت كمداً على شيء لا نطيقه، ولكن سنأتي بما نستطيعه، سنأتي بما نقدر عليه، سنبذل كل ما بالوسع، تقديم مال واجب، مساعدة طيبة، تعليم وإرشاد واجب، الدعاء والقنوت افعل، النصرة باللسان افعل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة" يعني ممكن واحد يقول: ترى أنا أستطيع أن أقدم رأياً، قدم هذا الذي تستطيع، قدم رأياً، قد يكون عندك رأياً يفيدهم، قال شيخ الإسلام: "الجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة، فيجب بغاية ما يمكنه" [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 5/538].
والنبي ﷺ كان يحشد للطاقات التي عنده في مواجهة العدو، ويقول لحسان: اللهم أيده بروح القدس [رواه البخاري: 3212، ومسلم: 2485] يوجههم ويدعو لهم.
وإذا قال واحد: أنا أستطيع أن أخلفه في أهله، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا [رواه البخاري: 2843، ومسلم: 1895].
فكل من استطاع أن يفعل شيئاً فإنه يفعله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60].
وكذلك فإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء.
لما جاء قوم أصابتهم فاقة وفقر وحاجة شديدة، النبي ﷺ ماذا فعل؟ لما جاء قوم حفاة عراة، تمعر وجه رسول الله ﷺ تغير لما رأى ما بهم من الفاقة والفقر، ثم خطب فقرأ آيتي التقوى، يعني آية النساء وآية الحشر، ثم قال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة [رواه مسلم: 1017].
هذا المبدأ مهم جداً، وصلها إلى شق التمرة.
ما قال: "شق تمرة" ماذا تفعل؟
هذه قدرته، وخلاص.
لو قال: ما في إلا نص ريال، خلاص انتهينا هذه قدرته.
وهذا قد يدخل به الجنة، هذا النصف ممكن يدخل به الجنة، سبق درهم مائة ألف درهم، واحد عنده درهمان فحان وقت الصدقة فأخذ درهماً وتصدق به، ودرهم أبقاه لأهله، تصدق بكم؟ بنصف ماله.
وواحد عنده ملايين أخذ من عرض المال بمائة ألف وتصدق بها، تصدق بكم من ماله، واحد على مائة، واحد على ألف ، قال ﷺ: سبق درهم مائة ألف درهم [راوه النسائي: 2527، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 883].
فإذًا، لا يحتقر ما يمكن.
وتلك المرأة قصت شعرها ليجعل منه في لجام الخيل، في حرب صلاح الدين.
ولو واحد قال: أنا أتألم هل أنا بهذا الألم لمآسي إخواني المسلمين ينفع في شيء؟
نقول: نعم؛ لأن المشاعر يمكن أن يؤجر عليها الإنسان، الحب في الله والبغض في الله، والألم لما يصيب المسلمين هذا دليل الإيمان؛ لأن النبي ﷺ قال: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى [رواه مسلم: 2586].
كان مع الخليل بن أحمد رجل، صاحب له يمشيان سوياً فانقطع نعل ذاك، فخلع الخليل نعليه، وذاك رفض أن يأخذهما فخلع الخليل نعليه، فقال صاحبه: ماذا تفعل؟ قال: أواسيك الحفاء.
وذاك الذي قال: ذكرت الفقراء وما هم فيه ولم يكن لي ما أواسيهم به إلا هذا، أي أشعر أنا بمقاساة البرد معهم.
ومع كل ما يتعرض له المسلمون اليوم نقول: الناس يتفاوتون في القدرات، ويتفاتون في الإمكانات، ما هو فقط القدرات المالية، حتى القدرات البدنية، حتى القدرات العقلية، فقد قلنا: إن من ضمن ما يعاني منها المسلمون الرأي، فقد يستطيع في المال والبدن والرأي والشفاعة الحسنة، والدعاء، يقوم بها كلها، استطاع أربعة من خمسة، اثنين من خمسة واحد من خمسة، يقوم بما يستطيعه.
وهذا -أيها الإخوة- يعني في مسالة البركة في المقدور عليه أنه ممكن تكون من أسباب النصر، لكن المهم أن تبذل، فيبذل الإنسان ولو القليل.
نسأل الله أن ينصر الإسلام وأهله، وأن يجعلنا من أنصار الدين، وأن لا يؤاخذنا بتقصيرنا، وأن يغفر لنا تفريطنا وإسرافنا في أمرنا، ونسأله سبحانه أن يعجل الفرج للإسلام وأهله؛ إنه سميع مجيب قريب.
والحمد لله رب العالمين.