الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأصلي على محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أنه رسول الله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى أزواجه وذريته الطيبين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
زلزال هايتي
ونحن في زمن فيه زلازل كثيرة، ونحتاج إلى بناء يقاوم الزلازل، وقد تزامن الإعلان عن هذا الموضوع مع زلزال هايتي مع أنه ليس له به علاقة، فقد تم اختيار الموضوع قبل حدوث الزلزال، لكن هذا الزلزال كان فيه عبرة في الحقيقة؛ لأن ما أحصوه حتى الآن أكثر من خمسة وسبعين ألف قتيل، يتوقع أن تزيد الأعداد إلى مائتي ألف، وبالإضافة إلى مائتين وخمسين ألف جريح، مع هذه الكثرة الهائلة من المباني المدمرة التي شملت كل المرافق، وما أتبع ذلك من السلب والنهب، وأنواع الأمراض التي تنتشر، وكذلك بتر الأطراف نتيجة الخشية من مرض الغرغرينا، من حوادث تساقط هذه القطع الهائلة على الناس، وقد غادر بعض الآباء والأمهات المستشفيات تاركين أولادهم فيها؛ لأنهم لم يعدوا يقوون على رؤية أولادهم وقد بترت أطرافهم، وأحد الأطباء يقول: إنه قد كسر منشاره من جراء العملية العاشرة، وتسير أعمال الإسعاف والبتر في الشوارع؛ لأنه ليس هناك مستشفيات تجرى فيها عمليات أصلاً.
هذا ولا شك يذكرنا بقرب قيام الساعة؛ لأن من أشراط الساعة: كثرة الزلازل، ويذكرنا بزلزال يوم القيامة، الزلزال الرهيب الذي ذكره الله بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحـج: 1 - 2].
وإذا كانت زلازل الدنيا متعددة، وفي أقطار متعددة، ولها توابع زلزالية كما حدث اليوم بالنسبة لزلزال هايتي، لكن زلزال الآخرة واحد: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة: 1 - 3].
زلزلة أهل الإيمان
من أنواع فتن المحيا: الزلازل التي تصيب أهل الإيمان، وقد قال الله في كتابه العزيز: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 11]، وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [البقرة: 214].
فهنالك أيضاً زلازل نفسية، هنالك زلازل تأتي نتيجة طغيان أهل الكفر، هنالك زلازل نتيجة حصار أعداء الإسلام للمسلمين.
الزلزال النفسي هذا زلزال خطير جداً لا يقل خطورة عن الزلزال المادي، بل قد يكون أشد في كثير من الأحيان؛ لأن الزلزال المادي إذا كان ينشأ عنه تلف النفس وإصابات وانهيار المباني، فإن الزلزال النفسي قد ينشأ عنه الكفر -والعياذ بالله-، وذهاب الإيمان.
وأما من أراد الله له الثبات فإنه وإن زلزل فبنيانه ثابت لا يتهدم.
وحديثنا عن "بنيان يقاوم الزلازل".
كثرة الزلازل في هذا الزمان
نحن الآن -أيها الإخوة والأخوات- أمام زلازل متعددة، أشياء تزلزل التوحيد من أمور الشرك، أشياء تزلزل النفس من الكفريات، كل يوم تسمع بكفر جديد، وأحياناً يأتي من لسان بعض من ينتسب إلى الدين، فيأتي من يقول: لو أمرني نبي أن أكفر اليهود والنصارى لكفرت به؟!
يعني ماذا تتوقع من وضع إذا وصلنا إلى هذا المستوى؟
فما بالك بمن يخرج على الناس ليزلزل إيمانهم، ويبلبل عقيدتهم كل يوم بمقالاته وكلامه وأطروحاته؟
ما بالك بهؤلاء الشباب الذين تنفتح عليهم أبواب الفاحشة والفساد كل يوم تزلزل إيمانهم بأنواع الفواحش والصور العارية ومشاهد المعاصي، وألوان التبرج والسفور والأشياء التي تزلزل دين الإنسان وهو يمشي في الشارع والسوق؟
ما بالك بهؤلاء الذين يسافرون إلى الخارج أو يذهبون في بعثة وهم يشاهدون انفتاحاً على عالم مليء بالكفر والشرك والإلحاد والزندقة وأديان وملل ونحل أخرى، وأنواع من الكبائر التي تقترف على الملأ ويومياً وفي العلن، ودعوات إلى الشر والرذيلة وأوكار الفساد والملاهي الليلية والبارات ودور السينما، وما يلاقيه الشاب وهو يعاشر ويخالط هؤلاء حتى ممن هم معه في قاعات الدراسة؟
ما بالك بهؤلاء الذين يزلزل إيمانهم ودينهم وتزلزل عقيدتهم وأخلاقهم يومياً بفعل البث الإعلامي وبرامج القنوات الفضائية يومياً يزلزلون، تزلزل أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم يومياً بما يعرضه أهل البدع من برامج ومسلسلات، كذلك بما يعرضه أهل الكفر والشعوذة والسحر، وكذلك بما يعرض من تنصير والطعن في دين الإسلام والتشكيك في نبي الإسلام، وإثارة الشبهات عن القرآن وعن محمد ﷺ وعن العبادات وأركان الدين يومياً؟
ما بالك بهذا الركام الهائل من الأشياء التي تتقاذف يومياً إلى السمع والبصر والعقل والقلب تزلزل، هذه الزلزلة من مثل زلزلة المناصب وزلزلة الأموال وزلزلة الإغراءات المادية للإنسان، وترى شخصاً قد عرفته من سنين طويلة كان على الجادة وعلى الصراط المستقيم فإذا به قد انزاح إلى مسافة طويلة، وتكتشف أن منصبه أو بعثته أو تجارته أو العلاقات التي دخل فيها مع ناس متفاوتي المستويات قد أضرت به ضرراً شديداً ونقلته من معسكر أهل التدين إلى معسكر أهل الفسق مثلاً.
ما بالك بأنواع الزلزلة التي يتعرض لها حتى المتدين من خلال أطروحات أهل التميع، وكذلك المتساهلين الذين يقذفون يومياً بفتاوى تجعل هذا يقول: طيب هؤلاء مشايخ، هذا اجتهاد فلان، سألت فلاناً، وفلان يقول بكذا، وأحياناً الشهرة الإعلامية لأشخاص قد تزلزل المشاهدين، وتزلزل المستمعين والمستفتين؟
إذًا، الزلزلة يومياً حاصلة على مستويات متعددة من عقيدة الإنسان إلى أخلاقه، ومن الفقه ومسائل الفقه إلى الثوابت، الخلخلة الآن طالت الثوابت، هناك زلزلة الآن للتصورات الإسلامية أو القواعد الشرعية والثوابت الدينية والأسس.
كيف نبني بناءً يقاوم الزلازل؟
فكيف يمكن أن نبني أنفسنا بناء يقاوم هذه الزلازل؟
كيف يمكن أن نستفيد من تلك الأبنية الشاهقة العظيمة لنفوس الأنبياء والصالحين والشهداء والأولياء والحواريين والصحابة والتابعين والعلماء؟
كيف يمكن أن نستفيد من التجارب التي مرت على من سبقنا في تحصين أنفسنا؟
كيف يمكن أن نستفيد من طريقة البنيان الذين كانوا مع نوح هؤلاء القلة بالرغم من الخيانات حتى كانت امرأة نوح تدل قومها على من يسلم من قومه ويتبعوه؛ ليأخذوه فيفتنوه عن دينه؛ لأن من أنواع الزلزلة: زلزلة التعذيب والاضطهاد، زلزلة التخويف التهديد مثلاً.
هؤلاء كيف استمروا معه حتى نجاهم الله في السفينة؟ ماذا كان يقول لهم؟
كانوا يتعرضون لأنواع من الهجوم القاسي من قومهم، سخرية واستهزاء مثلاً؟
وكيف يمكن أن نستفيد من بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى في مرحلة الاضطهاد، وفرعون يزلزل إيمانهم يومياً سواء كان بالذبح أو استحياء النساء أو التسخير في الأعمال المختلفة، وإهانات مستمرة لنفوسهم، فيأتي موسى بينهم ليبدأ مشواراً طويلاً من تربية النفوس، ويجعل من بيوتهم قبلة، ويقيم الصلاة، ويأتي بهذا الإحياء لدين إبراهيم ومن سبقه من الأنبياء كإسحاق ويعقوب، ويعيد في بني إسرائيل بوحي من الله -تعالى- هذا البنيان؟
وكيف كان يبني قواعد الأمل في نفوس من يتبعه: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129]؟
كيف نستفيد من سيرة أبي الأنبياء إبراهيم ذلك الرجل صاحب الامتداد الأثري في البشرية؟ يعني آثاره في البشرية عجيبة وباقية.
ولو سألت عن توراة موسى وإنجيل عيسى لا يوجد.
ولو سألت عن ناقة صالح وعصا موسى لا توجد.
إبراهيم له آثار في الأرض باقية إلى اليوم، فهذا المسجد الأقصى، وهذا البيت الحرام الكعبة، وبقي التوحيد الذي عليه إبراهيم حتى دخل العرب، حتى كان في العرب في بعض الأفراد الذين بقوا على دين إسماعيل ، والعرب يعرفون التوحيد ودين إبراهيم، وأقيمت الحجة عليهم به، وبدعوة إسماعيل ابنه، امتداد إبراهيم بالأنبياء الذين جاؤوا من عقبه ونسله ليكون آخرهم محمد ﷺ.
الآثار باقية إلى اليوم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة: 128]، والمناسك باقية إلى اليوم.
والمشاعر والأذان الذي أذن به في الحج باق إلى اليوم.
ذلك الرجل الذي خرج مضطهداً من أرض العراق إلى بلاد الشام، ويكون هنالك آثار لأبي الأنبياء في بلاد الشام، ويأتي إلى الحجاز ليكون له آثار في الحجاز.
كيف يمكن أن نستفيد من الأبنية الشامخة التي صمدت أمام زلازل الشهوات مثلاً؟
قصص مؤثرة في الثبات أمام الزلازل
لو أخذنا أربع قصص: يوسف في ثباته أمام امرأة العزيز، والثبات الذي حصل، وقاوم ذلك الزلزال، يعني امرأة تدعو شاباً أعزب يدخل بيتها في كل وقت وحين دون ريبة؛ لأنه كالخادم والعبد، وهي سيدته التي لها عليه الأمر والنهي، وهو الغريب عن البلد، وتستعين بكيد النسوة، وتهدده بالسجن، وهي ذات منصب وجمال، وهي البادئة: هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23]، وغلقت الأبواب، وغاب الرقيب، والزوج قليل الغيرة، ومع ذلك يستعين على الثبات بالدعاء: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف: 33 - 34]، رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف: 33]، مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف: 23].
وجريج تأتيه البغي، وتتزين وتعرض نفسها له؛ لأنها تحدت قومها أن تغويه، لكن لم يلتفت إليها، لماذا؟ لأنه كان صاحب عبادة، فالعبادة هذا حصن يقاوم الزلازل؛ لأن الذي تميز به جريج أن عبادته مستمرة، ونوافله بعد فرائضه، لدرجة أن أمه دعته عدة مرات، وفي كل مرة كان يصلي، فما أكثر صلاته؟ هذه الصلاة والعبادة هي التي ثبتته أمام البغي، فلم يلتفت إليها [الحديث رواه البخاري: 3436، ومسلم: 2550].
وكلمة: اتق الله، كان لها مفعول في النفوس، فجعلت ذلك الرجل يقوم من بين رجلي المرأة، وقد أوشك على الوقوع عليها بالحرام، لما قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه [رواه البخاري: 2215، ومسلم: 2743].
وتعرض للحرام أنواع من الناس، وشخصيات صمدت بدعاء وعبادة وتذكير.
شدة الحاجة إلى أبنية تقاوم الزلازل
ولذلك اليوم نحن نحتاج إلى أبنية تقاوم الزلازل في عصر الشهوات.
من خلال هذه المواقع والبرامج في القنوات، والصور المنتشرة في الجوالات. القاذورات الكثيرة الموجودة في الواقع، صورة وشكلاً، حساً ومعنىً، وحقيقة وخيالاً:أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ[التوبة: 109].
لا يستوي من أسس بنيانه على التقوى والطاعة ممن أسس بنيانه على جرف متداعٍ للسقوط.
البنيان القوي الراسخ المتين الذي يقوم على أساس من القرآن والسنة.
والناس يتفاوتون في بناء أنفسهم وفي تأسيسها اختلافاً بيناً جلياً واضحاً يظهر ذلك من خلال المحن والمنح، من خلال الإغراء والإغواء، ومن خلال الضراء والسراء، من خلال النعم والنقم، من خلال الفقر والغنى، والصحة والمرض، من خلال السعة ومن خلال الاضطهاد، منهم من تزلزله أدنى ريح، وتهدمه أدنى هزة، ومنهم من يتماسك لوهلة ثم يسقط، ومنهم من يستمر شامخاً.
لا يثبت أمام الريح العاصف إلا الشجر الثابت، يقال: إن شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة، وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتيها في ثلاثين سنة قد قطعتها في أسبوعين، فيقال لك شجرة ولي شجرة، فتجيبها شجرة الصنوبر: مهلاً إلى أن تهب ريح الخريف، فإن ثبت لها تم فخرك [المدهش، لابن الجوزي، ص: 22].
الثبات أمام العواصف الآن مهم جداً للشباب والفتيات والكبار والصغار، نحن الآن في زمن إشغال، يشغلك بما فيه من الترفيه والألعاب والأشياء البهرجة الآن بهرجة الألوان صور ذوات الأبعاد، المؤثرات النفسية، هذه التي تجعل الوقت يضيع كثيراً على الناس.
ما الذي يمكن مقاومة هذا؟ كيف تكون النفس ساعية للكمالات، وهمتها عالية بحيث ما تلتف إلى هذه السفاسف؟
لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164].
بعض صور زلزلة الثوابت وتميعها
لما ترى أنت -يا أخي- الآن الزلزلة في الثوابت، ترى القضية يعني في التوحيد، الضرب في الأسس في التوحيد، وتمييع قضية الكفر، وتمييع قضية الشرك، وتمييع قضية البدعة مثلاً، وخلط الحق بالباطل، والتدليس والتلبيس الذي يمارس ويستعمل فيه حتى ممن هم ممن يمتون بالصلة حتى إلى بعض العلماء والمشايخ، فهذا ابن العالم الفلاني، وهذا أخو الشيخ الفلاني، وهذا قريب العائلة، سليل العائلة الفلانية، إلى هذه الدرجة استطاع الأعداء أن يصطادوا ويقربوا إليهم حتى من أقارب الناس المعروفين بالعلم والدين إلى هذه الدرجة صارت قضية الإيقاع والاصطياد أو قضية المهارة في الإسقاط، ونصب الشراك للخداع والاستقطاب، ليستعمل هؤلاء في تضليل الناس؛ لأن لفلان نسباً أو لفلان قرابة مثلاً، ثم بعد ذلك يحتار هؤلاء العامة ويقولون: أليس هذا ابن فلان؟ أليس هذا أخو فلان؟ أليس هذا من سليل العائلة الفلانية؟ وهو يقول كذا وكذا؟ أليس هذا شكله شكل شيخ؟ أليس هذا عمته عمة عالم؟ أليس هذا منصبه منصب مفتي؟ وهكذا..
هذه زلزلة، لكن الحق أحب إلينا من الأشخاص.
في النهاية صاحب البناء القوي، المؤمن صاحب الدين المتين ما يهمه من الذي قال بقدر ما يهمه ما الذي قيل، هل هو صح وإلا لا؟ ويعرضه على الكتاب والسنة.
ثم فيه ناس ماضيهم يدل عليهم، ماذا عمل في الماضي، وماذا قال في الماضي، ومن هو، ومن أين خرج، وأين نشأ، وهو عرف بأي شيء؟
كثرة الباطل وأهله
لا يهمك كثرة الأقوال، تعدد المصادر، قضية: الأضواء، الشهرة، قضية النشر، ينشر باطل كثير، ما ينشر في العالم من الباطل أكثر مما ينشر فيه من الحق، كم مجلة يومياً؟ كم جريدة؟ كم قناة؟ كم إذاعة؟ كم محطة؟ كم يوجد من الوسائل التي تبث يومياً؟ لكن ماذا تبث؟ وإذا كان عموم الإعلام في العالم بأيدي أعدائنا، فماذا تتوقع أن تسمع؟
مدافعة أهل الحق للباطل وأهله
ويوجد من القلة المباركة من يدافع حسب السنة الإلهية: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة: 251]، فلا تزال تسمع خيراً من إذاعات أو قنوات أو كتب ودور للنشر، أو...، على قلتها لكن يكتب الله فيها خيراً، ومواقع تنشأ بإمكانات بسيطة، لكن يبارك الله فيها، وجهود فردية، لكن الله ينفع بها وتنتشر؛ لأن الإخلاص الذي في بنيان أصحابها، وسعيهم للعلم الصحيح، جعل لذلك أثراً في أعمالهم التي يذيعها الله -عز وجل-، وينشرها الله ويبعثها الله -تعالى-، هذه مخطوطات علماء يمكن لما كتب الواحد فيهم الكتاب، ما كان يظن أن يتعدى أهل بيته أو بعض جيرانه أو قليلاً من المحبين من تلاميذه، ومع ذلك يطبع منه مئات الآلاف وملايين النسخ اليوم، فما الذي يجعل دور النشر تتجه إليها، ومن الذين يبيعون الكتب ناس من غير المسلمين، لكن لما صارت الكتب الإسلامية رابحة، دخلوا في التجارة، وصاروا سبباً في نشر الكتاب الإسلامي.
إذًا، قضية الكثرة والقلة يجب أن لا تحرف الإنسان عن تلمس الحق، والقلة منصورة بحسب الوعد النبوي في حديث الطائفة المنصورة، وأنها موجودة وباقية، وأن أثرها في الأرض قائم.
اضمحلال الباطل واستمرارية الحق
وهذه الكثرة التي اليوم تروج، وتطفو على السطح، الله أخبر عن ذهابها، فقال: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ [الرعد: 17]، فلو قال الكلمة، لو قالها من بيته، خرجت من قلبه، لجعلها الله سارية بين الناس.
الآن فيه رسائل جوال تنقل عبارات لبعض السلف يمكن ما سمعها منه إلا زوجته، أو ما سمعها منه إلا ابنه، أو ما سمعها منه إلا صاحب له، وربما اشترط عليه، وقال: لا تحدث عني إلا بعد موتي، واليوم هي في الآلاف المؤلفة من رسائل الجوال التي تنتشر بين الناس، من الذي أحياها؟ من الذي بعثها؟ الذي قال هذه العبارة مات من زمان قبل عصر الإعلام، قبل عصر الاتصالات، فمن الذي بثها بين الناس؟
إذًا، هذا مثال لقوله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ .
هذه مخطوطات كتب لعلماء حوربوا سابقاً، وكان مضيق عليهم جداً، ومع ذلك طبعت هذه المخطوطات وانتشرت بين الناس.
بناء النفوس أصعب من بناء المباني هذه المادية؛ لأنه يحتاج إلى جهاد طويل، وصبر ومصابرة.
الزلازل سنة ربانية
والزلازل التي تصيب النفوس سنة ربانية لا بد أن تقع: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [البقرة: 214]، هذا صار في المجتمع في العهد المكي حصل، وحصل في مدة الاستضعاف، وحصل في حياة الأنبياء، ويأتي الرسول وليس معه أحد، ومعه الرجل ومعه الرجلان.
وحصل في المجتمع المدني، و هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 11].
كم فتنة تعرض لها موسى يعني منذ أن ولد، ولد في العام الذي يذبح فيه فرعون أبناء بني إسرائيل، ولما خيف عليه ألقي في اليم، وصارت الأمواج تتهادى به، فتنة وفتنة ثانية، ثم يدخل قصر فرعون، ويخرج منه يوماً ليقتل القبطي الكافر، ثم يهرب ويذهب غريباً طريداً وحيداً إلى مدين حافياً جائعاً فقيراً، يقول: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]، محتاج إلى خيرك يا رب.
ثم بعد ذلك يكلف بالعودة إلى فرعون ودعوته ويقف أمام الطاغية، ويبتلى بجنود فرعون وسحرة فرعون، ثم المطاردة إلى البحر، ثم.. ثم، قال الله -تعالى-: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طـه: 40] يعني محنة بعد محنة، وهو يشتد عوده يقوى ويصلب.
أقسام الناس في التعامل مع الزلازل
وإذا كانت الزلازل أمر لا بد منه للنفوس، ونحن جميعاً نبتلى، كل يوم نبتلى، فإن نهاية الابتلاء ستؤول إلى أحد أمرين: إما ثبات وإما اضمحلال؛ كما قال ﷺ: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، الآن لو نظرت إلى قطعة الحصير التي فيها أعواد سترى أن الأعواد متوالية في قطعة الحصير وراء بعض وراء بعض وراء بعض، تنسج لتكون الحصير، في خطوط طولية وعرضية، لتكون الحصير، لكن الحصير يلاحظ فيه أن الأعواد المنسوج منها أعواد متتابعة، وأعواد متوالية، ولا يكاد يفصل ببينها شيء، والحديث النبوي وحي، والتشبيه الذي فيه بليغ، فقد قال لنا: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً معناها: تعاد وتكرر، فتن شبهات، وفتن شهوات، وفتن اضطهاد، وفتن وفتن، قال: فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء يعني دخلت فيه دخولاً تاماً، فحلت محل الشراب، فصار فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها رفضها طردها أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا مثل الصخر النقي الصلب فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً مقلوباً ومنكوساً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه [رواه مسلم: 144].
تهيئة النفس لمواجهة الزلازل
إذًا، هيئ نفسك -يا عبد الله- لفتن متوالية، واضطهادات متعددة ومحن، وكذلك من البأساء ومن السراء ومن الضراء والشدة والرخاء، ولذلك يتأكد علينا في زمن الفتن والزلازل هذه سواء كانت فتنة مالية، فتنة جاه، فتنة طغيان، فتنة شهوات، ومحنة تصورات وعقائد، ووساوس شكوك إغراءات، تلبيسات شذوذات؛ وطن نفسك ببنيان سليم في المواجهة: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ [التوبة: 109]. ثم نلاحظ قضية الانتكاسات على الأعقاب والارتكاسات، إلخ...، التي تحدث نتيجة التقلبات، ولذلك يجب أن لا نسمح لأنفسنا أن تتقلب، لا تسمح لنفسك بالتغير، التغير السلبي، وأبشر إذا ثبت بحسن الخاتمة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "سوء الخاتمة -أعاذنا الله تعالى منها- لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد" [الجواب الكافي، ص: 167]، إذا واحد استقام على الدين والسنة والإيمان، وما يعرفه من الحق، ما غير ولا بدل؛ لأننا نريد اليوم رجالاً يوفون بما عاهدوا الله عليه، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، لكن الجميع ماذا فعلوا؟ واشتركوا في أي شيء؟ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] خلاص ما عرفناه من الحق نثبت عليه، لا نبدل.
والزلازل -يا إخوان- تأتي كما نرى فجأة ودون سابق إنذار، وهنالك أشياء يعني يحدث لها مقدمات.
الفتن تطرق كالسيول، وتجعل الحليم حيران، ولهذا فإن الفتنة أشد من القتل، والفتنة أكبر من القتل؛ لأن القتل فيه ذهاب النفس، وقد تذهب نفس الإنسان فيكون شهيداً، ولكن الفتنة تذهب الدين، فإذا ذهب الدين فأي خير يبقى؟ لأننا نريد أن نبني أنفسنا وغيرنا، فمسألة البنيان اليوم حساسة ومصيرية.
وإذا كان من زمان يعني في أيام السلف مثلاً يوجد كثرة في الخير، يوجد أعوان على الخير، يوجد وضوح في المنهج، كانت البدع محاربة، كانت السنة منتشرة، كانت الأمة بعافية، وفي نقص، ولكن النقص محاصر ومعلوم ومنبوذ، اليوم هناك ضعف في المعين، وقلة في الناصر، ولكن الله ينزل المعونة على قدر المؤونة.
أهمية البناء الصلب المقاوم للزلازل
ومهما قلنا إن عملية البناء صعبة وشاقة، ولكن الله ييسرها.
ويزيد من أهمية الموضوع: أن القلب الذي يتعرض للفتنة والزلازل حساس، سريع التغير، كثير التأثر، ما سمي قلباً إلا من تقلبه.
وعملية البناء هذه أيضاً مهمة؛ لأنه يترتب عليها الفوز والنجاح في الآخرة، يترتب عليها دخول الجنة، يترتب عليها النجاة من النار: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [الأعلى: 14]، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى [طـه: 75 - 76].
ولأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله [رواه مسلم: 2664] لا بد أن يكون البنيان قوياً، ولأن الوعد بالتثبيت من الله يحصل لمن اهتم بهذا الأمر كان لا بد منه: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 27].
خطوات ووسائل البناء المقاوم للزلازل
البناء الإيماني والعقدي والعبادي التربوي، البناء الأخلاقي، بناء الأدب في النفوس يحتاج إلى خطوات ويحتاج إلى آليات، فأوله ولا شك: تربية النفس على التوحيد، التوحيد وما أدراك ما التوحيد، أجل شيء وأعظمه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "من أَرَادَ علو بُنْيَانه فَعَلَيهِ بتوثيق أساسه وإحكامه" يعني تريد بيتاً من دورين تضع أساساً يكفي لدورين، تريد بناية من عشرين طابقاً لا بد أن تضع أساساً يكفي لعشرين طابقاً، يقول ابن القيم: "من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه" هذه القواعد "وإحكامه، وشدة الاعتناء به؛ فَإِن علو الْبُنيان على قدر تَوْثِيق الأساس وإحكامه فالأعمال والدرجات بُنيان وأساسها الْإِيمَان وَمَتى كَانَ الأساس وثيقاً حمل الْبُنيان واعتلى عَلَيْهِ وَإِذا تهدم شَيْء من الْبُنيان سهل تَدَارُكه" يعني عندك أساس، وممكن تبني وممكن تعلي أكثر، إذا كان الأساس يتحمل ترفع أكثر، قال: "وَإِذا كَانَ الأساس غير وثيق لم يرْتَفع الْبُنيان وَلم يثبت وَإِذا تهدم شَيْء من الأساس سقط الْبُنيان أَو كَاد، فالعارف همّته تَصْحِيح الأساس وإحكامه، وَالْجَاهِل يرفع فِي الْبناء عَن غير أساس فَلَا يلبث بُنْيَانه أَن يسْقط" [الفوائد، لابن القيم، ص: 155- 156].
ما هو الأساس؟ ليس التوحيد كما قال في "مدارج السالكين": "مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله"، هذا يقر به بإبليس "وأن الله رب كل شيء ومليكه" توحيد الربوبية كانت قريش وكفار العرب يقرون به، قال: "بل التوحيد يتضمن محبة الله، والخضوع له والذل، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض" [مدارج السالكين: 1/339].
قال شيخ الإسلام: وكمال هذا التوحيد هو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلاً، بل يبقى العبد موالياً لربه في كل شيء، يحب من أحب، وما أحب، ويبغض من أبغض، وما أبغض، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي" يعني يوالي من يوالي الله، يعادي من يعادي الله، "ويأمر بما يأمر به" يعني ربه "وينهى عن ما نهى عنه" [المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 1/15] ربه.
ولذلك فإن معرفة معنى التوحيد، ومعنى الشهادتين، وما هي نواقض الشهادتين؟ وما هي مكملات الشهادتين؟ وما فضل التوحيد؟ وما الذي يفعل بالإنسان؟ وما هو الذي دعا به الرسل؟ ثم بعد ذلك يحذر من ضده، يحذر من الشرك، يحذر من دعاء غير الله، التوكل على غير الله، الرقى والتمائم الشركية، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بغير الله.
وكان بعض الناس يظن أن هذه قضايا انقرضت، ولما ظهرت قنوات فضائية لأهل الشرك والبدعة اليوم، إذا بك ترى أن أبواب كتاب التوحيد للمجدد ابن عبد الوهاب مهمة جداً في مقارعة ومنابذة هؤلاء المشركين اليوم، الذين طوروا شركهم ليعرض فضائياً، فهنالك أضرحة، قبور تعبد من دون الله، مزارات، ولها فضائل عندهم، وتقديس أشخاص يحلون ويحرمون، وغلو في القبور، واستشفاع بغير الله.
وما حصل اليوم من أدوار كثيرة للكهان والمشعوذين، وازدهار سوق السحر، والتنجيم
وما يحصل حتى من قضية الرياء، ودخول البهرجة في العبادات بحيث أن هنالك أنواع صارت من مساجد الضرار وما شابهها من الأعمال التي ظاهرها الخير وباطنها الشر، فيها كيد بالمسلمين، وإيقاع بالمسلمين: وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ [التوبة: 107] عند ذلك تعلم ما هي الحاجة الماسة لبناء النفس على التوحيد، والحذر مما يضاده.
والتوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون، يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً، أدنى شيء يؤثر فيها.
لم يكن عجيباً أن يستمر البنيان في العهد النبوي للصحابة في مكة ثلاث عشرة سنة، ويستمر في المدينة، لكن كان التركيز في مكة على الأساس، وكان القرآن المكي هذا مهم في البناء عندما ينظر واحد إلى القرآن المكي، ماذا يوجد فيه من عظمة الله وأسمائه وصفاته، وما يوجد من بطشه وقوته وانتقامه وإهلاكه للأمم المكذبة.
وكذلك من ذكر أسس التوحيد، وما بعث الله به الأنبياء، وماذا كان كلامهم مع قومهم، وماذا كان جوابهم قومهم لهم، وماذا كان ردهم على قومهم.
وعندما يتأمل المسلم في القرآن المكي وما فيه من اليوم الآخر، وتصوير مشاهد الحساب والجزاء والجنة والنار، إلى آخره، وبعد ذلك ما يكون يعني من الأحكام والشرائع والقوانين التي جاءت في العهد المدني؛ لتكميل البناء، يعلم حينئذ من أين يبدأ ؟ من أين يبدأ في بنيانه؟
هذا الأساس لو وضع لا بد له من أركان، ولكل بناء أركان يقوم عليه؛ فهذه الأركان؛ منها: تفكر وتعبد وتعلم وتزكية، وأول أمر النبي ﷺ ماذا كان؟ يعني كيف أعد الله نبيه للرسالة العظيمة؟
أولاً: تقول عائشة: "كان أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" [رواه البخاري: 4953، ومسلم: 160].
وهذه -قريباً- امرأة من كرواتيا أرسلت إلينا، تقول: إنها رأت رؤيا، وهي -طبعاً- غير مسلمة، تقول: إنها دخلت مسجداً، وأنها لقيت شيخاً، وأنه دعاها إلى كذا، وقرأ عليها كذا، رؤيا بالنسبة لها عجيبة، ما سبق أن فكرت في شيء كهذا، ثم بدأت تتوجه من خلال المواقع، يعني ما هي الأشياء التي تمت بصلة إلى ما رأته في المنام؟
حديث عائشة: "كان أول ما بدئ به رسول الله ﷺ الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" [رواه البخاري: 4953، ومسلم: 160].
ثانياً: ثم حبب إليه الخلاء، يعني يبتعد عن الناس، يخلو بنفسه، فكان يلحق بغار حراء.
ثالثاً: قالت: فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، التحنث هو التعبد، يعني بقي من دين إبراهيم شيئاً يسيراً مما يتعبد به.
وكان قس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، في بقايا كانوا على التوحيد.
النبي ﷺ بدئ معه بهذا، ثم جاءه الملك قال له: أقرأ.. الحديث.
إذًا، التفكر والتعبد، الخلوة بالنفس، الخلوة مع الله؛ لأن النفس لو خلت بها هي عصت، لكن خلوة مع الله ، وهذا مهم جداً في البناء.
وقضية التفكر تابعة من الخلوة، هو إذا خلا بربه، فإنه سيتفكر في عظمته، أسمائه، صفاته، نعمه، آلائه، آياته المسطورة والمنثورة، ويتأمل في حكمته وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بخلقه، ويربط بين الأسماء ومعانيها، والآثار في الواقع، وهذا فقه عظيم أن يستطيع أن يربط بين الأسماء والمعاني، والأثر في الواقع.
أصل الخير والشر من قبل التفكر، فالفكر يثمر المحبة والمعرفة إذا وجه صاحبه لذلك، إذا توجه له سيأتي، ولذلك لما قال: ((أنزلت علي آيات، ويل لمن قرأها ولم يتدبر فيها، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران: 190 - 191]، في الحديث ذكر وعيداً، قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ، كما جاء عند [ابن حبان: 620، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح الترمذي: 68].
وهذه العملية تؤثر كثيراً في بنيان النفس ولا شك، ولذلك الله أمر بها ودعا إليها، ورغب فيها، وحث عليها، وقال: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185].
والناس تمر بهم مشاهد طبيعية: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8].
لكن -يا إخوان- ما يسمونه: طبيعة الآن، يجري الله -تعالى- فيه من الأقدار ما يكون فيه عبرة، فمثلاً: السيول الآن نحن نتعرض لأشياء لا قبل لنا بها، ولم يكن لنا عهد بها، فيقولون لك مثلاً: هذه السيول التي جاءت في الحجاز ما جاء من أربعين سنة مثلها، ثم جاءت أمس في تبوك أيضاً سيول، ولم تر مثلها من كذا كذا سنة، فيه تغيرات، هذا الزلزال الذي ضرب هذه الجزر، هذه كلها أشياء في الطبيعة، لكن بلا شك أن ما يجريه الله -عز وجل- في هذا الكون هو مدعاة للاعتبار والتفكر والتوبة: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ [الأنعام: 43].
وكذلك فإن التأمل في قدرة الله وقوة الله يثمر في النفس في البناء شيئاً كثيراً، والله -تعالى- دعا عباده للتفكر في آلائه، وما خلق في السموات والأرض، وهذه الآيات الباهرة، وحتى الأشياء اليومية إعادة النظر فيها، الشمس والقمر والسراج المنير، والضياء والنجوم والزينة، واختلاف الليل والنهار، واتساع السماء، وبسط الأرض، ونزول المطر، وإحياء النبات، وما في الأرض من جبال وسهول وعمران وخراب، وما في البحر من العجائب والغرائب.
وهذا كثير في القرآن، والله يأمر ويمدح التفكر والتدبر والتذكر والنظر والاعتبار والفقه والعلم والتعقل، يعني: العقل، والسمع والبصر، ويذم ضد ذلك، ولذلك لا بد أن يكون للواحد فينا من ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من طعام وشراب وزوجة وحاجة.
ولا عبادة كالتفكر، تفكر ساعة خير من قيام ليلة؛ كما جاء ابن عباس -رضي الله عنه- [العظمة؛ لأبِي الشيخ الأصبهاني: 1/297].
وقال أبو سليمان -رحمه الله-: "عودوا أعينكم البكاء، وقلوبكم التفكر" [حلية الأولياء: 9/274].
قد تحدث حادثة فيكون فيها عبرة؛ يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي منه، وجعل يطوف به ويتفكر، ويقول: ما لك لا تقوم؟ ما لك لا تنبعث؟ أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؟ ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي صرعك؟ ما الذي عن الحركة منعك؟ ثم انصرف متعجباً.
أحياناً يخر الإنسان فجأة ساقطاً من سكتة، سكتة، جلطة، ذبحة.
التفكر كما يكون في آيات الله المشهودة، كذلك يكون في آيات الله المقروءة، وهذا من أعظم البنيان النفسي في مقاومة الزلازل، لو الواحد يتفكر في آيات الله، يعني في القرآن: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد: 24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29].
لو أن التدبر حصل فعلاً، وأطلنا التأمل، وجمعنا الفكر، لاطلعنا على معالم للخير والشر، وطرق وأسباب وغايات وثمرات ومآلات، لكان بيدنا مفاتيح كنوز عظيمة، وعلوم نافعة، لثبتنا قواعد الإيمان في قلوبنا حقاً، وشيدنا بنيان الدين فيها، وطدنا أركانها؛ لأن هذه الآيات ترينا صورة الدنيا عند الله، وصورة الآخرة والجنة والنار، وتحضر القلب بين الأمم، وتريه أيام الله فيها، وتبصره بمواقع العبر، فيطوف قلبك على أقوام الأنبياء وما حصل لهم، وتشهد عدل الله وفضله، وتعرف ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يطوف قلبك في الأحكام، فيعرف ما يحبه ربك وما يبغضه، ويعرف صراطه الموصل إليه، ويعرف ما حرمه عليك، ويعرف قلبك ماذا يكون من العذاب لمن عصى وفعل ما نهاه ربه عنه، طريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وأعمال هؤلاء وهؤلاء، وأحوال هؤلاء وهؤلاء، ومراتب هؤلاء وهؤلاء.
قراءة القرآن أصل صلاح القلب، ولذلك لا بد من الوقوف عند عجائبه، وتحريك القلوب به، وليس الهم آخر السورة، ويقرأ المؤمن القرآن فينظر فيه آية آية، يحار العقل، تتعجب النفس، مما انطوت عليه الآيات من المعاني، وهذا مهم جداً في الثبات أمام الزلازل.
فهموا عن الملك العظيم كلامه *** فهما تذل له الرقاب وتخضع
[لطائف المعارف، ص: 173].
وحين تتحقق التلاوة تطعم الحلاوة، وعندما يحدث التفكر والتدبر يأتي العمل والتعبد: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 1 - 3]، وهذا فيه ركوع وفيه هجوع وفيه ضلوع وفيه خشوع، والصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ، والتائبين والذاكرين والشاكرين.
نَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا *** أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَذُوا *** صَالِحَ الأعمال فيها سفنا
[رياض الصالحين، ص: 27].
والعبادات الجسدية مع العبادات القلبية، فأنت إذا صمت صحيح إنه من عبادات الجسد؛ لأن هذا منع البطن عن الطعام، والفرج عن الشهوة، وإذا صليت فإن الأقدام والأيدي والصلب الظهر، وكذلك الأعظم السبعة: الجبهة والأنف والكفان والركبتان والقدمان، عبادات جسدية، تراها كذلك في الحج وتراها.. وتراها..، لكنها ليست بمعزل عن العبادات القلبية لإصلاح القلب؛ مثل: الخوف والرجاء والمحبة والتوكل والذل لله والخضوع له والإخبات إليه، والتوكل عليه، والطمأنينة به، حبه، قال سلمان الفارسي : "لِكُلِّ امْرِئٍ جُوَّانِيُّ وَبَرَّانِيُّ، فَمَنْ أَصْلَحَ جُوَّانِيَّهُ أَصْلَحَ اللَّهُ بَرَّانِيَّهُ، وَمَنْ أَفْسَدَ جُوَّانِيَّهُ أَفْسَدَ اللَّهُ بَرَّانِيَّهُ" [الزهد، لأبي داود، ص: 235].
وقال الحسن:" داو قلبك، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم" [غذاء الألباب: 1/62]، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم القلب، فإذا سأله إنسان غيرها، قال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر.
فإذًا، الذي وقر في قلب الصديق، الشيء العظيم الذي سبق به الأمة، ليس لأنه أكثرهم صلاة مع كثرة صلاته، ولا أنه أكثرهم صياماً مع كثرة صيامه، فقد أصبح يوماً، وقد عاد مريضاً، وتبع جنازة، وصام في ذلك اليوم، وأطعم مسكيناً، لكن فيه أيضاً من محبة الله، وفقه كتابه ودينه ما ساد به الصحابة، قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: "أنتم أكثر صوماً وصلاة من أصحاب محمد، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة" [الزهد، لهناد ابن السري: 1/320].
قضية التعلق بالآخرة هذه؛ ممكن تثبت الواحد أمام زلازل كثيرة.
ثم مسألة التعلم، العلم بالشريعة، ومقاصد الشريعة، العلم بأحكام الشريعة، والأمر والنهي، حتى لا يضيعك ضال أو زائغ أو متساهل، فيصير لك الواجب مستحباً، والمحرم مباحاً، لازم العلم، لا بد من العلم، العلم يرفع صاحبه، العلم يثبت صاحبه، تطرح الشبهات اليوم في القنوات الفضائية والمواقع والمنتديات، اليوم يقولون: عصر الحور، فيتحاور واحد ممكن طالب ثانوي مع ملحد في الإنترنت، يتحاور طالب جامعي مع مبشر منصر على الشبكة، هذا الآن حاصل، حوارات، وكلام، ورد وشبهات، -طيب- من الذي سيجعل الواحد يصمد أمامها؟ لأن هذه أشياء تزلزل.
العلم العلم -أيها الإخوة-، وهو معرفة معاني القرآن والسنة، قال عمر بن سليمان: "كتب لي أبي وأنا بالكوفة: يا بني اشتري الورق واكتب الحديث، فإن العلم يبقى والدنانير تذهب" [جامع بيان العلم وفضله: 1/249]، هي مصروفة مصروفة، فلتنفق على العلم.
النبي ﷺ حرص في بنيان أصحابه على الالتقاء، فكانوا يلتقون في دار الأرقم، كانت المدرسة المكية التي تخرجت منها سادة العالم، وفقهاء الدنيا، وقادة الفتوحات، الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي صاحب أول مؤسسة تربوية في الإسلام، داره التي كان فيها النبي ﷺ يلتقي بهؤلاء الشباب الذين أقبلوا عليه، وكان معظم أصحابه في مكة شباباً، يعني: يمكن أكبرهم أبو بكر وعمره تسعة وثلاثين سنة، وبعد ذلك أصغر عثمان وسعد وطلحة وعمر وابن مسعود وعلي، أصغر، شباب، ويأتون من الخارج يخرجون من الثبور إلى الحبور، ويأتي أبو ذر الغفاري وغيره، ويلتقي بالنبي ﷺ ومن معه، كان هناك ملتقى تربوي فيه مربي:لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[آل عمران: 164].
كان هنالك قدوات، تنزل الآيات غضة طرية، يتلقوها من فم النبي ﷺ، فتنفعل معها الأرواح والنفوس، ويتحول الواحد خلقاً جديداً بسلوك وتطلعات وأهداف ومشاعر ما كانت من قبل. كانت التزكية وهي التربية وتكميل النفس بالفضائل والآداب والأخلاق والرقائق والإيمانيات والتعلم، وينتقل بالعلم من القواعد إلى الفروع شيئاً بعد شيء:وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[البقرة: 129] القرآن والسنة وَيُزَكِّيهِمْ ، هذا بنيان لا يقاوم الزلازل، ولذلك لما فقدوا المربي تأثروا، قال أنس: ولما نفضنا عن رسول الله ﷺ الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا [رواه الترمذي، وهو حديث صحيح].
قال ابن القيم: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه"، يعني شيخ الإسلام "فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة" [الوابل الصيب، ص: 48]، ولذلك لا بد أن نسعى اليوم إلى أرقمة بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا ومؤسساتنا بحيث تكون هي مكان لقاء هذه الفئة المؤمنة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ[الكهف: 28] البنيان المقاوم للزلازل لا بد ينطلق من هؤلاء الفتية أهل الكهف شباب في وسط فاسد، مؤمنون في وسط كفار، كانوا يخشون من تسلط قومهم عليهم، إما أن يتبعوهم وإما أن يظهروا عليهم ويفتنوهم، فماذا يفعلون؟ لا يريدون هذه ولا هذه، اختاروا الذهاب: إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 20] نخرج منهم؟ إلى أين؟ خلاص، يعني: نحن نفر إلى الله، والله يتولى أمرنا، فآواهم الله إلى الكهف، وجعل كلبهم حارساً لهم، وأنزل عليهم النوم أمنة منه، فبقوا نائمين، فبعثهم الله ليعرف الناس فضلهم، وعرفوا فضلهم، وكان هؤلاء الفتية مدرسة في سورة تقرأ كل أسبوع من المؤمنين استحباباً إلى قيام الساعة.
نحتاج اليوم في بناء نفوسنا أمام هذه الزلازل إلى قضية الاهتمام بالنوافل بعد الفرائض: وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه [رواه البخاري: 6502]، فعندما نتأمل مثلاً في قضية: ماذا قال العلماء في الوضوء وإسباغه، والصف الأول والتبكير للمسجد والمشي، وكذلك طلب العلم والرحلة فيه، وما يكون من أعلى الأشياء من الواجبات، إلى السنن إلى السواك إلى قضية محبة المسجد والجلوس فيه، والأذكار، وصباحاً ومساءً، والمحافظة على الجماعة والجمعة، وكذلك ما يكون من الأذكار طرفي النهار، وهذه الصلوات المختلفة، والترغيب في الأشياء البدنية، والأشياء المالية، والأشياء القلبية، وهذه العمرة، وهذا الحج، وهذه التلاوة، وهذا التدبر والتفكر، وهذا الدعاء، عندما تتأمل في هذه الأشياء، يعني الكثيرة التي وردت في الترغيب والترهيب في كتب العلماء، والمتجر الرابح في ثواب العمل الصالح، هم اهتموا بها لأجل أي شيء؟ أن تبنى النفوس عليها وبها.
والذكر حصن حصين، والذي يذكر ربه حي، والذي لا يذكره ميت.
نحن نحتاج الآن في عالم، يعني: اليوم يأتيك شخص يخيفك بتهديد ووعيد، فماذا تحتاج؟
أن تذكر عظمة الخالق، ليهون عندك هذا المخلوق، استحضرت عظمة الله، فصار السلطان في عيني كالذباب، هذه التي قالها هو، اعتمد فيها على ماذا؟
البنيان له أساسات وله أعمدة وله جدران وله أبواب، لكن فيه أيضاً تجميل وتزيين، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فَإِذا كمل الْبناء فبيضه بِحسن الْخلق وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس ثمَّ حَظه بسور من الحذر لَا يقتحمه عَدو وَلَا تبدو مِنْهُ الْعَوْرَة ثمَّ ارخ الستور على أبوابه ثمَّ أقفل الْبَاب الْأَعْظَم بِالسُّكُوتِ عَمَّا تخشى عاقبته ثمَّ ركب لَهُ مفتاحا من ذكر الله بِهِ تفتحه وتغلقه فَإِن فتحت فتحت بالمفتاح وَإِن أغلقت الْبَاب أغلقته بِهِ فَتكون حِينَئِذٍ قد بنيت حصنا تحصنت فِيهِ من أعدائك إِذا طَاف بِهِ الْعَدو لم يجد مِنْهُ مدخلًا فييأس مِنْك ثمَّ تعاهد بِنَاء الْحصن كل وَقت فَإِن الْعَدو إِذا لم يطْمع فِي الدُّخُول من الْبَاب نقّب عَلَيْك النقوب من بعيد بمعاول الذُّنُوب فَإِن أهملت أمره وصل إِلَيْك النقب فَإِذا الْعَدو مَعَك فِي دَاخل الْحصن فيصعب عَلَيْك إِخْرَاجه وَتَكون مَعَه على ثلَاث خلال: إِمَّا أَن يَغْلِبك على الْحصن ويستولي عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَن يساكنك فِيهِ، وَإِمَّا أَن يشغلك بمقابلته عَن تَمام مصلحتك" [الوابل الصيب، ص: - 156 - 157]، فلا تزال تبتلى منه بغارة بعد غارة حتى تضعف قواك، ويوهن عزمك، فتتخلى عن الحصن، وهذا حال أكثر النفوس مع الأعداء.
-طيب- نحتاج إلى ماذا؟ نحتاج إلى خلوة شرعية، عزلة شرعية، شرعية ما معنى الشرعية؟ ما الفرق بينها وبين التصوف الذي يقول: اعتزلوا الناس وراحوا المغارات والكهوف ؟
الخلوة الشرعية؛ مثل: الاعتكاف، التبكير للمسجد، رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
نحتاج إلى عبادات الخلوات، لماذا؟ لأن عبادات الخلوات يباهي الله بها الملائكة، لماذا؟ لأن هؤلاء أصحابها أخلصوا له، فلا يريدون أن يطلع الناس على أعمالهم، يقول أحد أصحاب محمد بن أسلم الخرساني: "صحبت محمد بن أسلم أكثر من عشرين سنة، لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع إلا يوم الجمعة، وكان يدخل بيته، ويغلق بابه، ولا أدري ما يصنع، حتى مرة سمعت ابناً له صغيراً يحكي بكائه، كذا واحد ولد صغير طلع يقول: أبي يبكي زي كذا، فعلمت أنه يبكي، قال: وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل فلا يرى عليه أثر البكاء.
وكان يصل قوماً ويكسوهم، ويقول للرسول: انظر، يعني: لخادمه لولده، أن لا يعلم من بعثه، لا أريد أن يعرفوا من الذي أرسل هذا.
وكان إذا صلى في بيته، ينشج نشيجاً، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله أحد يرى ما فعله.
كانوا يخفون أعمالهم عن نسائهم وزوجاتهم.
ومسألة: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا النساء: 1]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]، هذه مهمة في عملية البناء جداً؛ لأن هناك ذنوب خلوات، ممكن تهدم النفوس، لا بد من هذه القاعدة في التحصين.
تخول نفسك بالموعظة، سماع شريط وعظي، شهود جنازة، زيارة مقبرة، قراءة كتاب في السيرة، في سير هؤلاء الصالحين في العباد والزهاد.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه *** وإن بناها بشر خاب بانيها
ولذلك برامج للارتقاء: عمرة، حج، اعتكاف، دورة تحفيظ قرآن، محافظة على تكبيرة الإحرام، انظروا يا إخوان هذا أرسل لي رسالة مرة كأنه يعظني بها، ولا أعرف من هو، ولا اسمه ولا شيء، ويقول: أبشرك بحمد الله إني من عشرة سنين ما فاتتني تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر، لا بد يكون فيه نوعيات ترى فيه أنت الآن لو ذهبت إلى الحرم وجلست قرب الصف الأول ستجد عجائب، لو جلست أياماً مثلاً في الحرام ودققت في الطائفين ستجد وجوهاً متكررة، هؤلاء عباد كأنهم جاوروا الحرم للعبادة ليس إلا، وسبعة وركعتين، وسبعة وركعتين، وسبعة وركعتين، ثم اثنين وخميس هذا صيام أصلاً، يعني: دائماً في الحرم والإفطار في الحرم أساساً، ثم قضية التبكير، وبعدين ناس تنتظر من المغرب للعشاء، ثم قضية الذهاب قبل الأذان، ثم ستجد أسناناً وأعماراً مختلفة، ثم تجد ناساً ما يفارق المصحف من تعلقه به، ثم ترى بعض المتنفلين هو لا يحس بك أصلاً في صلاته، أنت يمكن أن تتخذ ترى مدرسة، ترحل إلى البيت الحرام، تمكث فيه فقط للنظر في أحوال المتعبدين، تقارن حتى تقول: أنا نفسي ماذا ينقصني؟ أين أنا بالنسبة للآخرين؟ ستحتقر نفسك قطعاً، والحمد لله لا يزال يوجد في الأمة عباد على مستوى.
وقضية الأذكار في بناء النفوس مهمة: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طـه: 130].
والمحاسبة اليومية للنفس: ماذا أردت بنظرتي؟ وماذا أردت بكلمتي؟ وماذا أردت بخلوتي؟ وماذا أردت بصمتي ونطقي؟ ما فيه يعني لن يستقيم بنيان إلا بشجرة طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا من الأعمال الصالحة كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24 - 25] ، أصلها ثابت، بالتوحيد، وكلمة: لا إله إلا الله علماً وعملاً، وفرعها من الكلام الطيب والعمل الصالح، والأخلاق المرضية في السماء شامخاً.
الصيانة الدورية للبنيان مهمة، هذا مبنى، إذا أردت بنيانا نفسيا يقاوم الزلازل لا بد من صيانة دورية: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ، قال الذهبي: رواته ثقات، وحسنه الهيثمي والألباني [رواه الطبراني في الكبير: 14668، والحاكم في المستدرك: 5، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1585].
فإذاً، يهترئ الإيمان مثلما يهترئ الثوب، ويبلى ويخلق كما يخلق الثوب، تعتري قلب المؤمن أحياناً سحابة، سحب المعصية كثيرة، وهي ظلمات ووحشة، فلا بد أن يستعين على ما يقشع السحابة ليعود نور قلبه كما كان، قال أبو الدرداء: "إن من فقه العبد أن يعلم ما زاد من إيمانه وما نقص منه، وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه" [السنة لأبي بكر ابن الخلال: 5/49].
قال ابن القيم: إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم، وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك" [إعلام الموقعين: 1/134]، فالغرس والزرع النافع قد أجرى الله العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه، فإن تعاهده صاحبه ونقاه استوى واستقام وإلا مات.
تحتاج أن تزرع أحياناً بذوراً جديدة، وتحتاج أن تقتلع نباتات غريبة وحشية ضارة دخلت في حقلك، وهذا يحتاج إلى جهد وفيه ألم أحياناً.
ولا بد أن يكون بناؤنا متقيداً بالشرع، نحن لسنا على بدع الرهبانية، أو التصوف الضال، أو طرائق فيها، أحياناً من الناس من يريد أن يربي نفسه تربية دينية بطريقة علوم الغرب في دوراتهم النفسية، النبت ما هو في أرض إسلامية، وقد يؤخذ منه بعض الحكم أو الفوائد لكن قليل، وليست أساساً، فلا بد أن يكون البناء على طريقة السلف.
وأيضاً -أيها الإخوة- نحتاج إلى تدرج إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق [رواه أحمد: 13052، وقال محققو المسند: "حسن بشواهده"]، الحماس قد يوجد حماس عند البعض، فيتحرك كثيراً ثم ينقطع، نريد أن يكون هنالك تدرج وخصوصاً في قضية النوافل بحيث ما نكسبه من النوافل يبقى معنا، فإذا زدنا بقي الأول والثاني، وهكذا..
ونهتم بالظاهر والباطن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كثر في المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته من الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له والخشية له ونحو ذلك" [مجموع الفتاوى: 20/72]، فممكن تراه مثلاً مهتماً بأصول التفسير، مصطلح الحديث، أصول الفقه، علوم الآلة، اللغة العربية، المواريث، إلخ...، لكن أعمال القلب، فيه قسوة، فيه شح دموع الخوف من الله، العين فيها قحط، قال: "وكثر في المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية فلا يبالون إذا حصل لهم توحيد القلب وتألهه" [مجموع الفتاوى: 20/73] أن يكون بقراءة أشياء مبتدعة، دعوات مبتدعة، أذكار مبتدعة، شعائر مبتدعة، وهكذا، وهاتان الطائفتان كلاهما قد أخلا بأمر، فالتربية الصحيحة للنفس والبناء ينبغي أن يهتم بالأمرين.
وإذا فتح الله عليك باباً الزمه، فرب رجل فتح له في الصلاة، يعني في نوافلها، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في العلم، وواحد فتح له في العلم ولم يفتح له في الجهاد، وهكذا...
فإذًا، كما قال شيخ الإسلام الواحد يهتم أكثر بماذا؟ قال: الناس يتفاضلون، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، يعني: من العلم، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، يعني: كثرة الصلاة والصيام والتلاوة، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، وقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، كيف يعني؟ يعني مثلاً: لو قلنا إن هذا العمل أفضل عند الله، لكن يوجد عمل أدنى منه يزيد إيمان صاحبه أكثر من العمل الأول، فليفعل ما هو أنفع لقلبه، -طبعاً- الواجبات لا بد من القيام بها، والمحرمات لا بد من تركها، نحن الآن نتكلم يأخذ في النوافل في أي باب؟ النوافل كثيرة جداً، والطاقة محدودة، يأخذ في أي باب؟ ما هو الأنفع لقلبه.
بعض الناس قد يكون الأنفع لقلبه الخلوة بالمسجد مع القرآن وقيام الليل.
بعض الناس سبحان الله العظيم! الأنفع لقلبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو يحس كذا بحلاوة إيمان وهو يقارع الذين يريدون المعصية، والذين يريدون نشر الرذيلة، والذين يريدون نشر الكفر والإلحاد والزندقة، يجد هو أن تصديه لهؤلاء له حلاوة في قلبه والتقريب إلى الله أكثر من مثلاً تفرغه للعبادات الخاصة.
فبعض الناس أوتي قوة في العلم وفهماً فقهاً حفظاً نشراً تعليماً، عنده قدرة على التعلم وعلى التعليم، ويرى وهو يبذل في هذا الجانب أن قلبه أصلح وأنفع له أن يغوص في هذا الجانب، فإذًا ليستكثر منه، فتح عليه فيه.
ومنهم من يفتح الله عليه في عدة أبواب.
لكن لا بد من علو الهمة، والمداومة على العمل، ونتواصى فيما بيننا بأن لا نبني في أماكن الزلازل ومجاري السيول، اختار الموضع الثابت للبناء.
إذًا، أبعد نفسك عن مواطن الشبهات، أبعد نفسك عن مواطن الشهوات حتى يدوم بنيانك.
وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه [رواه أحمد: 17634، وصحه الألباني في صحيح الترغيب: 2348].
ولا بد أن نعلم أن الابتلاء سنة الله في خلقه، يعني ما يمكن أن تعيش من غير ابتلاء، وما يمكن أن تمكن في الأرض، ولا أن يكون لك في الخير سهم وافر من غير ابتلاء، ليعلم الله الذين صدقوا، وليعلم الذين نافقوا، ليعلم الله الذين كذبوا، وليعلم الذين بروا وأوفوا وما بدلوا تبديلاً.
هذا الابتلاء سواء كان في النفس أو في المال، قد يكون ضرر بدني، وقد يكون ضرر على العرض والسمعة، وقد يعاني الإنسان كما فعل النبي ﷺ كما حصل له، قيل له: كذاب وهو صادق، وقيل له: خائن وهو أمين، وقيل: به جِنة وهو أعقل الناس، ولذلك وطن نفسك على البلاء أنك ستبتلى ولا بد أن تصبر على البلاء: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ [آل عمران: 186]، فسماع الأذى من الغير أو العدوان لا بد منه، ما يمكن تثبت على الحق ولا تبتلى؛ لأنه إذا ما ابتليت معناه أنت لست على الحق، معناه أن أعداءك راضيين عنك، فإذًا متى تبتلى؟ تبتلى لما تواجه الأعداء.
فإذاً، إذا وطنت نفسك على مواجهة الابتلاء ستثبت.
لقد ثبت أقوام.
عامل السن ليس مهماً كثيراً، غلام أصحاب الأخدود، الغلام ثبت مع أنه غلام، قال: خذوه إلى جبل كذا واصعدوا إذا ما رجع عن دينه ارموه، ما رجع، خذوه في البحر في قارب إذا ما رجع عن دينه ألقوه في البحر، ما رجع، فأراد قتله، فدله على كيفية القتل، ولا ضير في ذلك ما دام سيؤمن الناس، بل ولم لا يذهب شهيداً مقابل أن يؤمن الناس؟ هذا بنيان، الراهب الرجل الصالح العالم بنى في هذا الغلام قواعد الإيمان كل يوم يمر عليه كل يوم، هو ذاهب للساحر يمر عليه هو راجع من الساحر يمر عليه، وهكذا حتى انتقل الغلام أن يكون داعية.
أصحاب الكهف في ثباتهم.
كعب بن مالك لما جاءه إغراء ملك غسان: "الحق بنا نواسك" [رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769] لما قيل له: كان كذبت، يكفيك استغفار رسول الله لك، مثلك مثل بقية الناس.
الذي يثبت الإنسان في المواقف الورع، على مستوى النساء لما صار لعائشة ما حصل من الإفك، زينب كانت منافسة عائشة، وأقرب النساء للنبي ﷺ بعدها، كان ممكن تستغل الفرصة، الخصم يستغل أي فرصة لإسقاط خصمه، والإسقاط عملية تشويه مثلاً، دعاية باطلة، كان يمكن لزينب أن تقول في عائشة كلاماً يزهد فيها النبيﷺ زيادة مثلاً، لكن كما تقول عائشة: "وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ﷺ فعصمها الله بالورع" [رواه البخاري: 4141، ومسلم: 2770] الورع هذا مهم جداً في التثبيت، فيه ناس إذا اطلعوا على ما عند الآخرين ما يثبتوا، عبيد الله بن جحش في زلزال الغربة لما ذهب إلى الحبشة ارتد عن الإسلام مع أنه هاجر أصلاً، قال ابن حجر: "وكأنه ممن لم يكن دخل في الإسلام على بصيرة" [فتح الباري: 8/218]، يأتيك واحد فقط يدخل في الدين، فقط يتعرض لفتنة، وطئ رجل فقير إزاره في الطواف بدون قصد، فلطمه جبلة، فلما أراد عمر القصاص من جبلة هرب جبلة وتنصر وإلى بلاد الكفار، بنيان هش ضعيف.
مثل مسلمة الفتح لما خرجوا في حنين ما ثبتوا في البداية.
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني *** رجعت إلى القول الذي قاله عمر
[البداية والنهاية: 8/71].
ابتلى الله الأعمى والأبرص والأقرع، ثبت الأعمى، عرف نعمة الله عليه [رواه البخاري: 3464، ومسلم: 2964].
وفي الجملة -أيها الإخوة- نحن اليوم نبتلى يومياً، ويتعرض الإنسان فينا لمواقف في سفر في حضر في شدة في رخاء؛ فنحتاج أن نتعاهد هذا البنيان ليثبت أمام الزلازل.
والزلازل تكثر الآن في العالم حساً ومعنى، يعني الزلازل الحسية تكثر، من أشراط الساعة: كثرة الزلازل، هذا الحديث الصحيح: من أشراط الساعة كثرة الزلازل [رواه البخاري: 1036]، الزلازل الآن تكثر، واضح أنها تكثر، وأيضاً الزلازل المعنوية تكثر، الفتنة في الدين.
فنسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونسأله عز وجل أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله سبحانه أن يرزقنا القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونسأله عز وجل أن يربط على قلوبنا ويثبت أقدامنا وينصرنا على الكافرين والمنافقين والمبتدعين والمشركين إنه أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد.