إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أهمية الشخصية الإسلامية في زمن المتغيرات
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشخصية الإسلامية لماذا هي مهمة، وخصوصًا في هذا الزمان؟ الشخصية الإسلامية تمثِّل الدين، الشخصية الإسلامية تجتمع فيها الصفات التي وردت للمسلم في القرآن والسنة، الشخصية الإسلامية قرآن يعمل به، الشخصية الإسلامية امتثال لأمر الله، الشخصية الإسلامية تدعو إلى الإسلام بنفسها بالقدوة تلقائيًا، الشخصية الإسلامية التي عزت في هذا الزمان فذلّ المسلمون.
الشخصية الإسلامية التي افتقدنا جوانب كثيرة منها، فصار الضعف والهوان والتأخر والتراجع، زهد الكثير من العالم في الإسلام بسبب ندرة الشخصيات التي تمثل الدين، حتى قال أحد الكفرة لما درس الإسلام من المستشرقين: يا له من دين لو كان له رجال، الشخصية الإسلامية مهمة جدًا في ملء الثغرات الكثيرة الموجودة في الواقع، هناك مهمات عظيمة تحتاج إلى شخصيات عظيمة، من الذي سيقوم بهذه المهمات؟ الزمن زمن فتن وتقلبات وتغيرات، الزمن زمن صعب، الزمن الذي نعيش فيه، فيه تحديات كثيرة، كيف تواجه إلا بشخصيات إسلامية حقيقية اجتمعت فيها عناصر القوة لأجل أن تقوى على مواجهة هذا الكفر العالمي وهذا الطغيان الذي يعم الأرض اليوم، كيف تصمد هذه الشخصيات أمام الفتن وأمام الرغبة والرهبة من الأعداء إذا لم تكن متمثلة للصفات الواردة في الكتاب العزيز لأهل الجنة؟ أيها الإخوة إن هذه الشخصيات لا تولد من رحم فارغ، إن هذه الشخصيات لا تتكون اعتباطيًا وعشوائيًا، إن هذه الشخصيات ترث دور الأنبياء في المجتمع المسلم، العلماء ورثة الأنبياء، النبي ﷺ حرص على تقويم الرجال، حرص على تربية الرجال، حرص على صياغة شخصيات أصحابه، فكانت شخصيته ﷺ قدوة لهم، فكانت تؤثر فيهم، تبني فيهم قواعد الإيمان والعمل، وهكذا كانت شخصيات الصحابة تهفو إلى شخصية النبي ﷺ تقتبس وتقتدي وتتأسى، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، كان هناك منهج يخرج هذه الشخصيات، كانت هناك تربية وتعاهد، كان هناك متابعة دقيقة أنتجت هذه الشخصيات من أمثال أبي بكر وعمر، كان الفرد المسلم في المجتمع المسلم تتوافر حوله بيئة غنية فيها مقومات يمكن أن تصوغ نفسيات قوية قادرة على تطبيق الدين وحمله ونشره والصبر في سبيله، كانت أشخاص الصحابة تقوم بالتكاليف الشرعية، مستعدة للتضحية، عندها علم، فيها وضوح وتصور، وكل أمة تصوغ أفرادها إذا كانت أمة لها أغراض وأهداف بطريقة منظمة، تصوغ شخصيات الشعب الموجود لديها، وهكذا ترى الغرب يصوغون الشخصيات في مدارسهم وكلياتهم ومنشآتهم، الإعلام يصوغ الشخصيات مثلًا، إذا كانوا يربونهم على الحرية المطلقة، فالشخصيات التي ستنتج تريد هذه الحرية المطلقة، وتفعل ما تشاء على الهواء، تنفلت انفلات البهائم، كل أمة تربي شبابها، حتى أهل البدع الذين يهتمون لتنشئة أفرادهم تجد أن لهم نمطًا معينًا، أسلوبًا معينًا، تربية معينة، وهكذا.
الشخصية الإسلامية فيها صفات يجب على المسلمين أن يحرصوا على إبرازها في شخصياتهم، شخصيات أبنائهم، الشخصيات التي تتربى في بيئاتهم، أن يكون هناك تأثر تفاعل وتلقي، أن يكون هناك حرص على إبراز هذه الشخصيات في أماكنها المختلفة الصحيحة، فهذا يقود قيادة علمية، وهذا قد يقود قيادة في التربية، وآخر في الجهاد، ورابع في الصدع بالحق، وخامس في الأدب والأخلاق والتواضع إلى آخره وهكذا، ونحن نأخذ هذه الصفات من شخصيات الأنبياء؛ لأنها أكمل الشخصيات؛ لأن الله هو الذي رباهم، لأن الله هو الذي فطرهم على هذا، لأن الله بالوحي تعاهدهم؛ لأنهم على عين الله نشأوا، وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي [طه: 39]، شخصية موسى - عليه السلام - هكذا صيغت، هكذا أراد الله، وهكذا ربى الأنبياء بالوحي وأنزل الملائكة، كانت الصلة المباشرة تربية لهؤلاء، كانت الآيات تنزل تعمل في نفس النبيﷺ: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37].
أيها الإخوة لقد تميزت شخصيات الأنبياء بأشياء كثيرة فتحقق التوحيد والمفاصلة من أجله في شخصية إبراهيم واضحًا جليًا، كانت صفة الصبر في شخصية أيوب الشدة والمعاناة والصبر على التواءات من حوله في شخصية موسى، نوح من أولي العزم الذي يصابر ويصبر واستمرارية في الدعوة وتنويع في الوسائل والأساليب، وهكذا التحدي القائم للقوم في لهجة هود وهو يتحداهم إيذاءه بشيء، ويونس الذي يلجأ إلى الله في الشدة، وشعيب الذي يحدد الأهداف: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود: 88]، وهكذا وهكذا حتى يأتي محمد ﷺ بهذا الكمال والجلال الذي كان في شخصيته ﷺ، نحن يجب أن نتلمس مواضع الاقتداء لنكمل شخصياتنا، ويجب أن يكون لنا فيمن حولنا قدوات من الأحياء غير القدوات من الأموات الماضين لتكتمل عملية الاقتداء.
يا قوم والله العظيم نصيحة | من مشفق وأخ لكم معوان |
جربت هذا كله، أنواع البدع وعلم الكلام والصوفيات، ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله | من ليس تجزيه يدي ولساني |
فتى أتى من أرض حران فيا | أهلًا بمن قد جاء من حران |
فالله يجزيه الذي هو أهله
هذا الشيخ، هذا العالم، هذا المربي، الذي رباني ودلني وأرشدني علمني.
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم | حتى أراني مطلع الإيمان |
ورأيت آثارًا عظيمًا شأنها | محجوبة عن زمرة العميان |
ووردت كأس الماء أبيض صافيًا | حصباؤه كلآلئ التيجان |
والناس لا يردونه إلا من الآ | لاف أفرادا ذوي إيمان |
[نونية ابن القيم: 143].
وهكذا كان ابن تيمية - رحمه الله - منقذًا ومربيًا لتلميذه ابن القيم.
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم | حتى أراني مطلع الإيمان |
وأراه الحق وعلّمه.
دور الإيمان في بناء الشخصية المسلمة
أيها الإخوة، إننا إذا عرفنا الصفات التي يجب أن تتوافر في الشخصية المسلمة فإننا سنعرف على أي شيء سنربي أنفسنا ومن حولنا، المربون الذين يصوغون الشخصيات كثر، أكثر من ألفين مليون من البشر يعبدون الأوثان! أكثر من ستمائة مليون يعبدون البقر! كثيرون ضالون تصوغ شخصيات جاهليات، أحبار ورهبان، إعلام فاسد، نريد اليوم أن تُصاغ شخصياتنا على الكتاب والسنة، نريد أن يكون هناك منهج للتربية وصياغة هذه الشخصيات، فعلى أي شيء نريد أن تكون شخصياتنا؟ بأي شيء متصفة؟ لا شك أن الإيمان بالله هو الأساس في هذه الشخصية، هذا الإيمان الذي يقرب الإنسان من الله ، هذا الإيمان الذي يحمله على عبادة الله، هذا الإيمان الذي يقويه في مواجهة الأعداء، هذا الإيمان الذي يثبته أمام الطغيان، قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه: 72]، فكان الإيمان هو الباعث على الثبات.
الإخلاص
الإخلاص من أهم ملامح الشخصية الإسلامية؛ لأن فيه توحيد الوجهة إلى الله لا إلى غيره، النية سر العبودية، تصفية النفس من الشوائب، البعد عن الرياء، ترك ملاحظة المخلوقين والإقبال على الله، وكما أن العمل لأجل الناس شرك، فإن ترك العمل من أجل الناس رياء، إن المخلص الذي يستوي عنده عمل الظاهر والباطن، إنه يخفي عمله، إن هذه الصفة تجعل الشخصية المسلمة تريد الله والدار الآخرة، وليس تريد الحياة الدنيا وزينتها، يا نفس أخلصي تتخلصي، هذه الشخصية المتصفة بالإخلاص عمل السر عندها أكبر من عمل العلانية، إنها تبادر العمل من أجل الأجر وتصبر وتتحمل على المشاق الموجودة في تكاليف العبادات؛ لأن الأجر يجعل المرارة عذبة حلوة مستساغة وهكذا فإن هذه الشخصية التي تتصف بهذه الصفة وهي الإخلاص تأبى أن تباهي بالعمل ولا أن تعلنه على الملأ، بل إنها تخفيه، إن كان الرجل جمع القرآن ما يشعر به الناس، يعني حفظه وما أخبر الناس حتى يقيموا له حفلات، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وهكذا تراه والحمد لله لا يقول: إنني أنهيت وأتممت وفعلت وعملت، إنه يعبد ربه تضرعًا وخفية، إن تلك الشخصية الإسلامية التي جاهدت حتى نقبت حصنًا للعدو، فكانت سبب فتح حصن آذى أهله المسلمين كثيرًا، وانتظر مسلمة قائد الجيش أن يخرج ذلك الرجل الذي كان سبب الفتح المبين فلم يخرج، حتى قال: سألتك بالله وحقي عليك من الإمرة أن تأتي يا صاحب النقب، وفي هزيع من الليل إذا برجل يأتي للحارس يقول: إن هناك من يعرف صاحب النقب، قال: من هو؟ مسلمة يسألك، دله عليه، قال: إن له شرطًا، قال: وما هو؟ قال: أن لا تبحث عنه أبدًا، ولا تتطلب رؤيته ولا الكلام معه، قال له شرطه، فقال الرجل: أنا صاحب النقب، يا مسلمة أحرجتني فأخرجتني، شرطت عليك أن لا تشهر أمري ولا تسألني عن اسمي ولا تطلبني بعد ذلك ومضى، فكان مسلمة إذا دعا يقول: اللهم احشرني مع صاحب النقب، كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت ويقول: ما أشد الزكام، قال الحسن: إن كان الرجل يجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه وتنهمر أمام الناس قام ليبكي في الخارج،
من صفات الشخصية الإسلامية الصدق، الصدق في الاعتقاد والصدق في القول ومطابقة الحكم للواقع والسر للعلانية والظاهر للباطن، إن أحواله لا تكذب أعماله ولا اعتقاده، إن عنده صدق القول وصدق العمل وصدق الحال، استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، استواء الأفعال على أمر الله ومتابعة نبيه ﷺ كاستواء الرأس على الجسد، استواء أعمال القلب وأعمال الجوارح يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] هؤلاء أهل الصدق سيجزيهم الله جزاء عظيمًا: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب: 24] هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 33 - 35].
لما كان النبي ﷺ إمام الصدق في قومه ما استطاعت قريش أن تمسك عليه كذبة واحدة ولو صغيرة، ولو عثروا عليها لأشاعوها ونشروها، لكن ما استطاعوا ولا واحدة، وهذا الصدق يحتاج من الشخصية التي تتصف به إلى مراغمة النفس عليه، ولذلك قال: وإن الرجل لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، الشخصية الإسلامية شخصية مخبتة تتصف بالخضوع لله والتذلل له مع المحبة، هذا هو الإخبات: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [هود: 23] فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج: 54]، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ من هم؟ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج: 35- 34]، الشخصية المتصفة بالإخبات، المخبتة إذا ذكر الله خاف القلب وصبر على الأقدار، وآتى العبادات وأحسن إلى خلق الله.
الاستقامة
الشخصية الإسلامية تتصف بالاستقامة: اهدنا الصراط المستقيم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت: 30] استقاموا على ماذا؟ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود: 112] سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، (أن تستقيم على أمر الله وعلى نهيه لا ترتكبه ولا تروغ روغان الثعالب) كما قال عمر بن الخطاب، استقامة ولا تروغ روغان الثعالب.
قال الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، قال شيخ الإسلام: "استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة" [المستدرك على مجموع الفتاوى: 1/152].
فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه هدي إلى الصراط المستقيم، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط في الدنيا يكون ثباته على الصراط المضروب فوق جهنم في الآخرة، فمنهم من يمر كالبرق وكالطرف وكالريح وكشد الركاب وأجاويد الخيل ومنهم من يجري جريًا ومنهم يمشي مشيًا ومنهم من يزحف زحفًا.
من صفات الشخصية الإسلامية الثبات إنها تثبت على الحق، إنها تستمسك به، هناك مغريات بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل [رواه مسلم: 118]، الثبات سمة مهمة خصوصًا في هذا الزمان، مطلوب من المسلم اليوم أن يثبت على الحق، كل يوم يأتونك بزخرف من القول، يسمونه بأسماء مختلفة، وبعض الأسماء التي يسمونها به أسماء إسلامية، فيقول لك تارة: هذه هي الوسطية، وهذا اسم شرعي: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143]، ومن الذي لا يريد أن يكون وسطًا معتدلًا، لكن عندما تحقق القول تجده التطرف بعينه، لكن سموه وسطًا، ولكن في الحقيقة ليس بوسط، زخرف من القول، زخرفوه زينوه، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر: 8].
فيحتاج الواحد إلى ثبات، فيقولون لك اليوم: هذا هو الطريق، وليس هذا هو الطريق، ولذلك يحتاج الإنسان أن يثبت على ما يعرفه من الحق، وإن جاءه المضللون وأرادوا أن يغتالوه، وأرادوا أن يحرفوه، فإنه غير قابل للانحراف؛ لأنه قد أمسك بالجادة فثبت على شرع الله، يثبت على ألوان الطاعات، ينأى بنفسه عن المحرمات، يثبت على مجاهدة النفس، يثبت على الخير، يثبت على التواصي مع إخوانه، يا إخوان ما هي مشكلتنا؟ لا ينجو إلا من أخذ بالحق، عرف الحق وصبر عليه، فمشكلتنا ستنتج من أحد أمرين: إما الجهل بالحق وإما عدم الصبر عليه، إما عدم معرفة الحق، وإما عدم الصبر عليه، ولذلك قال الله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] لأن عدم معرفة الحق مصيبة، ومعرفته وعدم لزومه والصبر عليه مصيبة أخرى، ولا ينجو العبد إلا بالأمرين: إذا عرف الحق وثبت عليه ويصبر عليه، فعند ذلك يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: 27] إذا أراد العبد الثبات يثبته الله، إذا أراد العبد الزيغ يزيغه الله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ولأجل هذا ثبت الثابتون بالرغم من التخويف فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه: 71-72].
علو الهمة
أيها الإخوة، إن الشخصية الإسلامية تتصف بعلو الهمة، إنها لا تبحث عن السفاسف، إنها لا تنزل إلى المستويات الدنيا، إنها لا تشتغل بالأمور الحقيرة، لكنها نفس تضيء، وهمة تتوقد، من جد وجد ومن زرع حصد، وليس من سهر كمن رقد، قيل لبعض العباد: لو أرحت نفسك، قال: راحتها أطلب، يجب أن نتطلع إلى الأعلى، يجب أن تكون الأشياء التي نسعى إليها عالية.
كن كالصقور على الذرى | تصغي لوسوسة القمر |
لا كالغراب يطارد الجيف | الحقيرة في الحفر |
الله ذكر لنا أمثلة تحفيزية لأجل أن ترتفع الهمة في النفوس وتزداد ويحصل التحفيز، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّات النَّعِيم [الواقعة: 10-12] فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم [الواقعة: 88-89] فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر: 32]، من هم هؤلاء؟ قال ابن كثير:" هم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات" [تفسير ابن كثير: 6/546].
فإذن، الإنسان إذا أراد الاقتصاد والنزول يقول: أعطنا فقط الواجب ولا تتكلم معنا في المستحب، وأخبرنا عن الحرام الحرام، أما المكروه فلا شأن لنا به، النفس المسلمة الشخصية المسلمة لها تطلع إلى الأعلى، إنها تقتدي بالسادات، ولماذا لا يطلب الإنسان الفردوس، لماذا؟ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ [ص: 45 - 47] ، ومعنى أُولِي الْأَيْدِي أولي القوة على عبادة الله وطاعته، وأهل الأبصار قد يكون أعمى فأي بصر له؟ إنها بصيرة القلب، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ المسألة تحتاج إلى همة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف: 145] هي كلها حسنة، لكن فيه أحسن، يعني مثلًا وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [النحل: 126]، يعني يجوز، لكن ما هو الأحسن؟ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ [النحل: 126] وهكذا، قال ﷺ: إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها رواه الطبراني وصححه الألباني. [رواه الطبراني في الكبير: 5928، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1744]. لقد أثنى الله على أهل الإيمان أهل الإيمان القوي، والنبي ﷺ قال: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف [رواه مسلم: 2664]. صحيح في كل خير، لكن هناك نصوص تدفع إلى الأعلى، ولذلك فإنه قال في سلمان: لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس [رواه الترمذي: 3261، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5280]. وأشار إلى سلمان هذا منهم، لماذا؟ عندهم طموح، عندهم علو في الهمة، عندهم سمو في الخير، ولذلك الواحد منهم مستعد أن يطأ بعرجته في الجنة، ومستعد أن يخرج للجهاد وهو أعمى، وجعفر لما شمّ رائحة الجنة لم يصبر تشوقًا إليها.
يا حبذا الجنة واقترابها | طيبة وبارد شرابها |
[حلية الأولياء: 1/118].
عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - مرة من المرات قال لرجاء بن حيوة وهو عالم واعظ ملازم لعمر بن عبد العزيز وزير في الخير، بطانة صالحة، قال: "يا رجاء إن لي نفسًا تواقة، طموحة، أنا ما أعرف أقف عند حد، ما أقف ما أقنع، دائمًا إلى أعلى إلى أعلى، أدفع إلى أعلى، "يا رجاء إن لي نفسًا تواقة تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، فتاقت إلى الإمارة فولِّيتها"، كان أميراً على المدينة قبل الخلافة، "فتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة، فأرجو أن أُدركها إن شاء الله ،" إذن، هذا الطموح قد يبدأ طموحًا دنيويًا عند بعض الأشخاص، ثم يريد الله به خيرًا فيوجهه إلى الطموح، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، أين؟ الجنة.
الصبر
إن الشخصية الإسلامية تتصف بالصبر ولا شك، هذا الصبر الذي هو خير كله، هذا الصبر الذي لا يطيب العيش إلا به، هذا الصبر هو المطية التي لا تكبو، هذا الصبر الذي هو كنز من كنوز الجنة، هذا هو الصبر عنصر المقاومة للمعاصي والمغريات، تدبر الشهوات عند لقائه، ومن يتصبّر يصبّره الله [رواه البخاري: 1469].
هذا الصبر الذي لابد منه للقيام بأمر الله، ولكي لا تجزع النفس عند قضاء الله المؤلم، هذا الصبر الذي يجعل هذه الشخصيات ترتقي في الجنات، فميز بعضهم عن بعض بالصبر، فكان بلال يصبر ولم يصبر غيره مثله، وابن مسعود صبر ولم يصبر غيره مثله، وأبو ذر صبر ولم يصبر غيره مثله، وهكذا، كان الصبر يدفعهم لكي يتبوءوا المنازل العالية، قال ابن عباس لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: أين؟ قال: هذه المرأة السوداء، أتت رسول الله ﷺ فقالت له: يا رسول الله إني أصرع فادع الله لي، قال: إن شئتِ صبرتي ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيكِ ، قالت: أصبر، ثم قالت: يا رسول الله إني أتكشّف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها، فصبرت على الصرع ونالت الجنة" [رواه البخاري: 5652، ومسلم: 2576].
وهكذا تميز الأولياء والصديقون والشهداء والصالحون بصبرهم.
الحذر والحيطة
الشخصية الإسلامية تتسم بالحذر والحيطة، لكن يحذر ممن؟ من أعداء الله، يحذر من المنافقين، يحذر من مكائد الشيطان ووسوسته وخطواته لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين [رواه البخاري: 6133، ومسلم: 2998].
معنى الحديث: ليكن المؤمن حازمًا حذرًا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، لو حصلت مرة ما تتكرر بسبب الحذر، وهذا في أمور الدين أهم من أمور الدنيا أنه لا يلدغ من جحر مرتين، افرض أن واحداً مرة لدغ في قضية، أنه يجعل الساعة بقربه عند النوم صلاة الفجر فيسهل عليه أن يكبت الصوت، فصار له أول مرة اكتشف أنه أتي من هذا، اليوم الثاني هل يبقيها بجانبه؟ لا، يبعدها عنه، حتى لا يقفل المنبه فتفوت الصلاة، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد يقع بسبب في معصية فهل يبقي هذا السبب موجودًا يتكرر عليه ليتكرر وقوعه في المعصية؟ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، لماذا؟ لوجود الحذر، لوجود الحذر الذي يجعل الإنسان يحذر عذاب الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235] أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزمر: 9] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة: 92] الحذر من أعداء الله ومن المنافقين بالذات، وما أكثرهم في هذه الأيام، هذه الأيام نبتت نوابت النفاق بطريقة وشكل وألوان وأعداد لم تكن موجودة من قبل فيمن حولنا، وصرحوا بأشياء ما كانوا يجرؤون على التصريح بها من قبل وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4] هم على الحقيقة هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ والإنسان يحذر العدو الداخلي والنفس الأمارة بالسوء والشيطان الذي يجري منه مجرى الدم، ويحذر العدو الخارجي الواضح الكفار، ويحذر الخفي وهم المنافقون وهكذا، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً [النساء: 102] وهكذا لا يزال المؤمن متيقظًا منتبهًا، لست بالخب ولا الخب يخدعني، فنحن إذا كنا لسنا ماكرين ولا خبثاء ولا مخادعين، فإننا لا نسمح للمكارين والخبثاء والمخادعين أن يوقعوا بنا.
التأني والتثبُّت
إن الشخصية المسلمة تتصف بصفات ومنها التأني والتثبُّت؛ لأن الله قال: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، المؤمن وقاف حتى يتبين، يتثبت من كل خبر ويطلب الحقيقة، يتأنى ولا يستعجل، أحيانًا يستدل عليها بالاستحلاف فيحلفه ليستخرج الحق، وأحيانًا يطلب شاهدًا على الخبر، وأحيانًا يطلب بقية الأطراف ليسمع منهم، وهكذا فعل النجاشي وسمع من هؤلاء جميعًا فتبين له الحق، وأحيانًا يرسل من يستثبت له الخبر، كما فعل النبي ﷺ في استثبات خبر نقض بني قريظة للعهد في معركة الأحزاب، وأحيانًا يذهب بنفسه لتسقط الخبر ومعرفة الحقيقة، ويستعمل الإنسان ما أوتي من حصافة وعلم في كشف المزيفات، قال إسماعيل بن عياش: "كنت بالعراق فأتاني أهل الحديث فقالوا: ههنا رجل يحدّث عن خالد بن معدان، خالد بن معدان هذا شرف أن الواحد يجد راويًا إليه، فأتيته فقلت: أي سنة كتبتَ عن خالد بن معدان؟ فقال: سنة ثلاث عشرة، فقلت: أنت تزعم أنك سمعت من خالد بن معدان بعد موته بسبع سنين، إن خالداً مات سنة ست ومائة، وأنت تقول أنك لقيته وسمعت عنه في سنة مائة وثلاث عشرة وقلت ثلاث عشرة اختصارًا، مائة وثلاث عشرة للهجرة تقول أنك سمعت منه، والرجل مات سنة مائة وستة، تبين تثبّت تحري، وخصوصًا في الفتاوى، في نقل الحديث، الحديث الصحيح، أمور الدين يجب التبين والتثبت فيها، أعراض الناس يجب التبين والتثبت.
الرجولة
من صفات الشخصية الإسلامية الرجولة، والرجولة هذه صفة عظيمة جدًا، إن الرجل الحقيقي هو الذي أخضع ذاته ونفسه لله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة: 108] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228] ولذلك قال العلماء من هذه الآية: إن من تشبّه بالنساء فقد طُعن في رجولته؛ لأن الله قال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228]، فإذا تشبّه بالنساء طُعن في رجولته، وإذا تشبّهت المرأة بالرجل فهي ملعونة وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ [الفتح: 25]، فلكل ما يليق به وما يناسبه، لكن الرجل مطلوب منه أكثر مما هو مطلوب من المرأة، وينتظر منه أكثر مما ينتظر من المرأة، وعليه مسئوليات وواجبات أكثر من المرأة، على سبيل المثال الجهاد في سبيل الله، ونصرة الرسل على الرجال أكثر، ولذلك وصف الله رجلًا: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس: 20] ، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر: 28]، فهذه معاني الرجولة الحقيقية نصرة الرسل والطاعة والعبادة وعدم الانشغال بالدنيا، وإذا رأيت من ينشغل بالدنيا عن الصلاة فاعلم أن في رجولته طعنًا؛ لأن الله قال: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37].
الشجاعة
من صفات الشخصية الإسلامية الشجاعة، الشجاعة خصلة جميلة وصفة جليلة، إنها تثبت النفوس في الميادين، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ [الأنفال: 15].
كان النبي ﷺأحسن الناس وأشجع الناس، كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ﷺ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، "ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ﷺ وهو أقربنا إلى العدو". [رواه أحمد: 654، وقال محققه أحمد شاكر: إسناده صحيح]. الذي يتكلم علي بن أبي طالب من شجعان الأمة وأبطالها، لقد كان هناك شجعان فعلًا، كانت لهم مساهمة عظيمة في نصرة الدين، فلولا الحق الذي قام به حق السيف، لولا حق السيف الذي قام به سماك بن خرشة أبو دجانة لما فلق به هام المشركين، لولا الشجاعة ما استعد الزبير للإتيان بخبر القوم لما قال ﷺ: من يأتينا بخبر القوم؟ ، الشجاعة التي تجعل الإنسان في مصاف الشهداء الكبار، أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر [رواه النسائي: 4209، وصححه الألباني في المشكاة: 3705]، سيد الشهداء حمزة [رواه الحاكم: 4884، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3675].
حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله، هذه الشجاعة في قول الحق، هذه الشجاعة في الاعتراف بالحق، هذه الشجاعة التي تجعل الآخرين يتشجعون.
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته | عند القتال ونار الحرب تشتعل |
لكن من ردّ طرفًا أو ثنى وطرًا | عن الحرام فذلك الفارس البطل |
[ذم الهوى: 143].
هناك أنواع أخرى من الشجاعات مغفول عنها، الشجاعة التي تجعل الإنسان يصرف بصره عن الحرام، يرد شهوة في نفسه شجاعة، وأما القائد فلابد أن تتوافر في شخصيته الدرجات العليا من الشجاعة، قالوا : أن يكون في قلب الأسد لا يجبن، وفي شجاعة الدب يقاتل بجوارحه كلها، وفي غارة الذئب إذا أيس من وجهٍ أغار من وجه آخر، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي التماس الفرصة كالديك.
حكوا عن أحد شجعان المسلمين في تاريخ الإسلام السرماري؛ السرماري سيرة غريبة وعجيبة، السرماري قام بعمود إلى واحد من الكفار يتحدى يبارز وعليه السلاح فكرّ عليه وضربه بالعمود فقتله، فلحقه خمسون من الكفار، فثبت تحت تل مختفيًا، وجعلوا يمرون واحدًا واحدًا، وجعل يضرب بعموده من ورائهم حتى قتل تسعة وأربعين وأمسك آخرهم فقطع منه ما قطع وأطلقه مخبرًا لقومه، السرماري هذا لما مات خلّف ديونًا كثيرة، فكان غرماؤه ربما يشترون من تركته حزمة القصب بخمسين درهمًا إلى مائة حبًا له، فما رجعوا حتى قُضي دينه، ما رجعوا من التشييع حتى قضي دينه، أخرج السرماري سيفه مرة وقال لعبيد الله بن واصل: أعلم يقينًا أني قتلت به ألف تركي يعني: من الكفار، وإن عشتُ قتلتُ به ألفًا أخرى، ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يُدفن معي"، السرماري بعد ما ذكر الذهبي من سيرته ما ذكر قال: "أخبار هذا الغازي تسرُّ قلب المسلم".
أما الشجاعة في إعلان الحق، والشجاعة في إظهار الدين، والشجاعة في النهي عن المنكر فهذه شجاعات لا تقل عن الشجاعة في ميدان المعركة.
العزم
ومن صفات الشخصية الإسلامية العزم، العزم لابد أن تكون العزيمة قوية، إن العزيمة التي تجعل النفس تنضبط، إن العزيمة التي تجعل الإنسان إذا غضب يكبت غضبه وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]، هذه العزيمة التي تتصاغر أمامها عظائم الأمور، على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم، ومن فقد العزيمة فقد روح الحياة، قال ابن رجب: "إذا كانت العزيمة صادقة، وصمم عليها صاحبها، وحمل على هوى نفسه وعلى الشيطان حملة صادقة، ودخل فيما أمر به من الطاعات فقد فاز، وعون الله للعبد على قدر عزيمته، فمن صمم على إرادة الخير أعانه الله وثبته، فهذه العزيمة التي تدل على متانة دين صاحبها، تلين الصعوبات، تعين على طلب العلم، تعين على التوبة، تعين على طلب الحق، هذه العزيمة التي كانت في شباب الصحابة فنبغوا في ميادين العلم والجهاد، أتينا إلى النبي ﷺ ونحن شببة متقاربون جلسوا عنده يطلبون العلم، ما الذي صبرهم عن أهليهم؟ هذه العزيمة، ما الذي جعل أهل الحديث يقطعون آلاف الأميال، وبعضهم مات وبعضهم قد أنقذ وكان على شفا هلكة، العزيمة التي جعلتهم يواصلون المسيرة في طلب العلم.
الوفاء
تتصف الشخصية الإسلامية بالوفاء، الوفاء الذي له حلاوة وطلاوة، الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه وإن كان مجحفًا به، جعل الله تعالى العهد من الإيمان وقال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34]، الوفاء بالعهد والعقد والوعد، الوفاء بالعهد والعقد والوعد، وأوفوا بالعهد، أوفوا بالعقود، وكذلك إذا وعد لم يخلف، والنبي ﷺ من صفاته أنه كان يفي بالعهد وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]، إن ذلك الرجل الذي استلف ألف دينار وسافر قطع البحر، وكان قد وعد صاحبه أن يردها إليه، فلما جاء وقت الرد خرج صاحبه إلى الشاطئ ينتظر، وكان الصاحب على الشاطئ الآخر فلم يجد سفينة ولا مركبًا يحمله، فمن حماسه ومن حسن وفائه وحرصه على الوعد أخذ خشبة نقرها وجعل المبلغ فيها وأغلقها ورماها في البحر، هذه حيلته يريد أن يفي بالوعد بأي طريقة، هذه حيلته، فدعا ربه فأوصل الخشبة إلى صاحبه، كرامة من كرامات الأولياء، وإلا كيف يتصور أن خشبة تقطع الطريق من الشاطئ إلى الشاطئ الآخر في البحر؟ كان ممكن تغرق، كان ممكن الرياح تطيرها إلى شاطئ بعيد، كان ممكن يأخذها واحد آخر من الصيادين، لكن صدق نيته كانت مطية ركبت عليها الخشبة إلى صاحبه، الشخصية الإسلامية تغار وتتصف بالغيرة، الغيرة هي الحمية والأنفة، الغيرة كراهية اشتراك الشخص الآخر في حقك، تغير القلب وهيجانه بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون بين الضرائر يشتركن في زوج واحد، لكن نحن الآن نتكلم عن الغيرة الإيمانية، لا أحد أغير من الله، فلذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وغيرة المؤمن أن تؤتى محارم الله، إذًا عن هذه نتكلم، و إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم عليه [رواه البخاري: 5223، ومسلم: 2761].
فالمؤمن يغار على حرمات الله، هناك غيرة يحبها الله وهي الغيرة في الريبة، وهناك غيرة يبغضها الله الغيرة في غير ريبة، كما جاء في الحديث الحسن الذي رواه أبو داود: الغيرة في الرّيبة في مظنّة الفساد، إذا ظهرت أمارات الفساد، إذا ظهرت علاماته يبدأ القلب يغار، يبدأ القلب يتهيج يتغير يتفاعل، الغيرة في الريبة ويغار على المحارم، ليست الغيرة غيرة الكفار العرب في الجاهلية، كان الواحد يغار أن شخصًا يتزوج مطلقته، ويبرهن على قوة غيرته بأن لا يدع أحدًا يتزوج مطلقته، فتعيش مسكينة لا هي مع الذي طلقها ولا يقترب منها أحد آخر، لكن الغيرة الشرعية أن يغار على حرمات الله، أن يغار على محارمه، أن يغار على زوجته، أن يغار على أخته، أن يغار على عرضه، أن يغار إذا لبست لباسًا غير شرعي، أن يغار أن تكون في خلوة، أن يغار أن تسافر بغير محرم، أن يغار أن يكون لها أي علاقات محرمة، أو بوادر علاقات محرمة، أو وسائل لإقامة علاقات محرمة ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث حديث صحيح. [رواه أحمد: 5372، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3052].
إذن، هذا الذي فقد الغيرة يحرم الله عليه الجنة، القضية خطيرة، والغيرة أن الواحد لا يدع غيره يسبقه في الطاعات بدون إيذاء الآخرين، هو يسابق هذه غيرة عظيمة.
الحرص والمواظبة والاستمرارية في الخير
ومن الصفات التي تتميز بها الشخصية الإسلامية الحرص والمواظبة والاستمرارية في الخير، النبي ﷺ كان يحب المداومة على العمل وإن قل، إن هذه المداومة التي أوصلت الصالحين إلى تلك المنازل العالية، قال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، لازم نافع ابن عمر عشرين سنة، ولازم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، ولازم ابن عثيمين السعدي عشرين سنة، هذه الملازمة هذه المواظبة مهمة لثبات القدم، أن تزل قدم بعد ثبوتها، هذا متى يحدث؟ إذا فقد الإنسان الاستمرارية يزل، نحن نريد أن نكون مستمرين في الخير، أن نكون ثابتين عليه.
الحكمة
ومن صفات الشخصية المسلمة الحكمة، أن يكون حكيمًا، هذه الحكمة وضع الأشياء في مواضعها، هذه الحكمة هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، هذه الحكمة نظر بنور من الله ، هذه الحكمة هي السنة، وهي الفهم، وهي المقالة المحكمة، هذه الحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها أيضًا، وآخر آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، هذه الحكمة التي فيها سير الإنسان بنور من الله، هذه الحكمة التي تجنب الإنسان التهور، هذه الحكمة ليست جبنًا ولا خورًا، هذه الحكمة ليست توليًا عن مناصرة الحق في الأوقات الذي يحتاج الحق إلى من ينصره، هذه الحكمة التي تجعل الإنسان يختار الصواب ويستدل عليه.
الانضباط
والشخصية الإسلامية شخصية منضبطة غير فوضوية تريد النظام، أي نظام؟ كل أنواع النظام المفيدة، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران : 66] تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال يرتبهم ويجعل هذا في هذا المكان، هذا في الميمنة، هذا في الميسرة، هذا في المقدمة، هذا في المؤخرة، هذا في الوسط، هذا في الساقة، هذا في الحراسة، هذا من الرماة على الجبل، هذا هنا، هذا دليل، هذا عين يقدمه أمام الجيش، وعندما يصف الجيش يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، إنها فعلًا قضية النظام الذي نفتقده كثيرًا في شخصياتنا فنصبح في غاية الفوضى وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]، إنهم يوزعون، حتى لا يذهب هذا من هنا، وهذا من هنا، حتى لا تصبح فوضى، إذا صار الجمع كثيرًا فلابد من نظام وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ كم عددهم؟ هائل، فهم يوزعون في ترتيب ونظام تمشي عليه الأمور إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62]. ما هي فوضى، واحد يترك خطبة الجمعة ويمشي، إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم [أخرجه أبو داود 2608 والطبراني في المعجم الأوسط8093 والبيهقي10651وحسنه الألباني] سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة [رواه البخاري: 723، ومسلم: 433] إذن هناك ترتيب، هناك تناسق حتى في حركة المأمومين وراء الإمام إنما جُعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، إذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون [رواه البخاري: 689، ومسلم: 411].
إذن، هذه قضية التنظيم الترتيب التنسيق المضادة للفوضى، هذه إذا اتصفت بها شخصية الإنسان المسلم يرتاح كثيرًا في مواعيده وواجباته وأشغاله، ولا يطغى شيء على شيء، لا يقصر في حق من الحقوق، الشخصية الإسلامية تتسم ببعد النظر وتدبر العواقب ومراعاة المصالح والمفاسد، كمثال على بعد النظر فهي لا تنظر إلى العاجل وتنسى الآجل، لا تنشغل بالقريب وتنسى البعيد، بل إنها فيها الشمولية في النظر للقريب والبعيد، والموازنة بين الأمور، إن الغفلة عن هذه المسألة توقع الإنسان في مشكلات عظيمة، حتى كان الصحابة يفكرون في المستقبل لو تغيرت الأمور ماذا يفعلون، كان حذيفة يسأل عن الشر، وكان الناس يسألون عن الخير؛ لأنه علم أن الدنيا ستتغير وأنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، وإن أدركني ذلك ماذا أفعل؟ هو الآن حذيفة كثيرًا ما ينظر إلى المستقبل، ولذلك سأل عن أشياء للمستقبل، سأل عنها النبي ﷺ، نحن الأجيال المتأخرة استفدنا من سؤالات حذيفة؛ لأنه كان يسأل للمستقبل، يمد بصره إلى الأمام ويسأل، وإذا لم يكن لهم جماعة ولا إمام وإذا ما ... وهكذا ماذا يفعل في الحالات المختلفة؟ ماذا يفعل في الفتن مثلًا؟ ولذلك لما قال النبي ﷺ لعبد الله بن مسعود: كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير وقتها؟ قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله، ماذا أفعل؟ قال: صلّ الصلاة لميقاتها، واجعل صلاتك معهم سُبْحة دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه أخرجه البخاري (3518)، ومسلم (2584)))، [رواه أبو داود: 432، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4593]. فإذا وقع منكر لا يستطيع تغييره وهذه صلاة وإن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، قال: صل الصلاة لميقاتها، هذه التي فرضها الله لا تؤخرها عن وقتها، واجعل صلاتك معهم سبحة يعني نافلة، لكن الفريضة أديتها في وقتها، موضوع بعد النظر والبصيرة والفطنة هذه الأمور المتقاربة قد يفطر الإنسان عليها وقد يكتسب جزءًا منها، فقد لا يكون عنده بولادته وفطرته قدر كبير منها، لكن بالتربية ومراغمة النفس يرزق الإنسان بصيرة يعني بالإيمان والعمل الصالح يصبح عنده بصيرة ويصبح ينظر بنور الله، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29]، وأيضًا فإنه إذا عود نفسه على التفكير قبل اتخاذ القرار، فإنه سيرزق مع الوقت بصيرة، وسيكون لديه أيضًا من بعد النظر ما يساعده في اتخاذ القرارات في المواقف الصعبة، أما الفراسة فإنه رزق يرزقه الله من يشاء، يلقى في نفس الإنسان الصواب، حدس صائب، كان الشافعي ومحمد بن الحسن بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارًا، وقال الآخر: بل هو حداد، فذهب واحد وسأل الرجل، واحد سمع الشافعي يقول: هذا حداد أو نجار، والثاني خالفه، وكلاهما من العلماء، يعني محمد بن الحسن والشافعي، فذهب رجل فسأل هذا الواقف على الباب: ما مهنتك؟ قال: كنت نجارًا وأنا اليوم حداد، غيّرت المهنة، والفراسة لها علاقة بالإيمان، وكلما كان أكثر إيمانًا كان أقرب لإصابة الصواب، وأن يرزق الفراسة، لكن هذه قضية بعد النظر وقضية البصيرة مهمة جدًا اليوم في عالم تتزاحم فيه المفاسد، ويريد الإنسان إذا اضطر لارتكاب شيء منها أن يأخذ الأخف، وقد تزدحم عنده المصالح وتتكاثر عليه الضباء ولا يدري ماذا يصيد، فتكون عنده قواعد يستعين بها في هذا، فمثلًا إذا تزاحمت المصالح وضاق الوقت فإنه يقدم أعلاها، فإن قالوا كيف أعرف أعلاها؟ نقول: الضرورات تقدم على الحاجيات، والحاجيات تقدم على التحسينيات، كذلك فإن الواجب يقدم على المسنون، ويقدم فرض العين على فرض الكفاية، تقدم السنة الراتبة على السنة غير الراتبة، يقدم ما يفوت وقته على ما لا يفوت وهكذا، عملية ترتيب المصالح يشترك فيها العلم والبصيرة مع النظر وبعد النظر الموازنة، وعندما تجتمع المفاسد على الشخص ولابد أن يرتكب واحدًا منها، فإنه سيرتكب الأدنى لدفع الأعلى والأشد والأسوأ، فلا شك أن مفسدة الشرك أكبر من مفسدة البدعة، ومفسدة البدعة أكبر من مفسدة الكبيرة، ومفسدة الكبيرة أكبر من مفسدة الصغيرة وهكذا، والمفاسد درؤها أولى من جلب المصالح، فإذا صار عندك تساوي بينهما، فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وإذا زادت المصالح على المفاسد ارتكبت هذا الأمر، وإذا زادت المفاسد على المصالح اجتنبت هذا الأمر؛ لأن هذه القواعد المأخوذة من مثل قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]، وإذا صار الأمر إلى أن المفسدة تترتب على مصلحة يعني يعمل أمرًا فيه مصلحة في أوله لكن قد ينشأ في آخره مفسدة كبيرة أكبر من المصلحة يتركه، استأذن عمر بن الخطاب النبي ﷺ في قتل عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، فقال ﷺ: دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه [أخرجه البخاري 3518 ومسلم 2584] مع أن قتل هذا الرجل مصلحة واضحة جدًا، من أكفر الناس على ظهر الأرض في وقت النبي ﷺ، ومع ذلك نهى عن قتله، لأن الناس البعيدين من العرب لا يعرفون حقيقة عبد الله بن أبي، ولن يعرفوا لماذا قتل، وكذلك فإن النبي ﷺ نهاهم أن يقوموا على الأعرابي وأمرهم أن يتركوه؛ لأن مفسدة انتشار البول إذا هرب أو أن يصيبه الضرر أكبر من أن يترك الآن يقضي حاجته ثم يهراق على بوله الماء.
أيها الإخوة إن بعض الناس اليوم يوجه أسئلة تدل فعلًا على تلاعب بهذه القضايا، كأن يقول والعياذ بالله: أنا إما تتركوني آتي امرأتي وهي حائض أو آتيها في الدبر، تهديد، وإما آتيها في الدبر أو أزني، يعني هذا الذي يزعم أنه سيدخل هنا في قضية مراعاة المفاسد، أنت ممكن ما تختار شيئاً منها، لماذا تجعل لنا هذه القائمة العفنة وتقول اختاروا لي؟ ما في احتمال آخر أنك لا ترتكب ولا واحدة من هذه الأشياء، ولذلك أيها الإخوة فإنه ينبغي فعلًا الحذر من التلاعب في هذه القضايا، في قضايا المصالح والمفاسد، فإنه يأتي من التلاعب بها شر كبير.
إن الشخصيات الإسلامية إذا تحققت فيها الصفات العظيمة كانت عاملًا مهمًا في نشر الدين وفي حمله، كانت رحمة على العالمين، إنها تتصف بالرأفة والرحمة بالمسلمين والعزة على الكافرين، إن هذا الخلق العظيم الذي تتمتع به الشخصيات الإسلامية كالتواضع يمشون على الأرض هونًا، ولا يصعرون خدودهم للناس، وهم رحماء فيما بينهم، ولا يفخر أحدهم على الآخر، كان النبي ﷺ إذا أكل لعق أصابعه الثلاث، ويكون في خدمة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع اليتيم، يسلم على الصبيان، ويجيب دعوة العبد، ويركب الحمار، وينام على الحصير، ويشرب مع أصحابه في إناء واحد، ويكون مع أهل الصفة، ويمشي في الأسواق، يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، لما كان أبو هريرة أميرًا حمل حزمة الحطب على ظهره، وقال: أوسعوا للأمير، أوسعوا للأمير، ولما رأى محمد بن واسع ابنًا له يمشي مشية منكرة فيها غطرسة وكبر، قال: تدري بكم اشتريت أمك؟ بثلاثمائة درهم، وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله، وأنت تمشي هذه المشية.
تواضعْ تكنْ كالنَّجمِ لاح لناظرٍ | على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ |
ولا تكُ كالدُّخانِ يعلو بنفسِه | إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ |
فأقبح شيء أن يرى المرء نفسه رفيعًا وعند رب العالمين وضيع، نسأل الله أن يجعلنا من الذين يتخلقون بأخلاق القرآن ونسأله عز وجل أن يجعلنا من أنصار دينه وحملة شريعته ونسأله أن يفقهنا في القرآن وسنة نبينا ﷺ، ونريد أن نكتفي بهذا القدر في هذه الليلة، ونسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد.