الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
مكانة الشريعة الإسلامية
فإن شريعتنا شريعة عظيمة والحمد لله، شريعة كاملة، شريعة المصالح العظيمة.
إن هذه الشريعة المباركة المعصومة كما أن صاحبها ﷺ معصوم.
إنها شريعة الشمول والإحاطة: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89].
مبنية على مراعاة مصالح العباد.
إنها شريعة الرحمة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
إنها في جملتها معللة، فيعرف الداخل في هذه الشريعة علل الأحكام: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179].
إنها شريعة اليسر ورفع الحرج: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185].
إنها شريعة تراعي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
فالضرورات التي لا قيام للناس بدونها.
والحاجيات التي يحتاجون إليها ليعيشوا في يسر وسعة.
والتحسينيات من محاسن العادات، وتجنب السفاسف.
هذه الشريعة المبنية على قواعد متينة: "اليقين لا يزول بالشك"، "المشقة تجلب التيسير"، "الضرر يزال"، "العادة محكمة"، نجد فقهاء هذه الشريعة يراعون في فتاويهم تغير الزمان والمكان.
مراعاة الشريعة لأحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم
وهذه الشريعة التي تحث من يفتي للناس أن يراعي اختلاف أحوالهم.
إنها ثابتة لا تتغير، لكن الذي يتغير هو اجتهاد المجتهد وفتواه بحسب ما يظهر له من الأدلة، فيفتي في وقت بحسب ما يظهر له، وفي وقت آخر بخلاف ذلك على أمر قد ظهر له.
وليس معنى ذلك: أن الشريعة تجاري أهواء الناس، أو تجاري رغبات الضلال: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50].
ولذلك لا يمكن للشريعة أن تبيح الربا في أي زمن من الأزمان، ولا أن تبيح الاختلاط، لأي سبب من الأسباب، ولا أن تبيح نزع الحجاب، أو مصافحة المرأة الأجنبية، ونحو ذلك.
إذًا، ليس المقصود تغير الفتوى وتغير الأزمان أن تصادم الأدلة، ولذلك من الضوابط المهمة جداً في الموضوع في مراعاة الأحوال: أن لا ينافي ذلك ولا يخالف دليلاً شرعياً، لكن يقيس على أمر ثم يقيس على غيره، يجتهد في شيء ثم يكون اجتهاده في أمر آخر بخلاف ذلك.
أيها الإخوة: إن من الأمثلة التي ضربها العلماء في إنشاء الدور وبنائها أنها كانت في السابق، في بعض البلدان على طراز واحد، ورؤية واحدة منها يغني عن الباقي.
أما في هذا العصر فقد جرت العادة بأن الواحدة بيوتها مختلفة، وغرفها مختلفة في الأشكال والأحجام، ولذلك فإنها تُرى كلها عند البيع.
وقد عرفنا أن العلماء الربانيين الذين يأخذون بالكتاب والسنة يعرفون عصرهم، ومشكلاته، وظروفه، وتياراته، وعلاقته بالمجتمعات الأخرى.
يعرفون أحوال المسلمين، قوة وضعفاً، فتراهم يفتون هنا بوجوب الجهاد، وهناك بمنعه لأنه يفضي إلى فساد، وهكذا تراهم يعرفون ألفاظ الناس وعاداتهم، يعرفون تعبيرات الناس وما درجوا عليه من الطرق في بيوعهم وإجارتهم، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولاً: أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
والثالثة أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس.
الخامس: معرفة الناس.
قال ابن القيم: وهذه الخمسة هي دعائم الفتوى، ثم قال: وأما الخامسة معرفة الناس، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر، له معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم، والمحق بصورة المبطل، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق بصورة الصِدّيق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل كل زور تحت الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا.
ثم قال: فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 4/157].
وإذًا، التغير المقصود به: ما يحدث من التغير في الأعراف مثلاً، المقصود بالتغير تغير الاجتهاد بتغير الواقع وليس معنى ذلك مصادمة نص شرعي، وليس معنى ذلك اتباع أهواء الناس، كان محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- يذهب إلى الصباغين، ويسأل عن معاملاتهم، وما تواضعوا عليه ليلحظ ذلك في فتاويه، فيما يحدث بينهم، قال في كشاف القناع: لا يجوز أن يفتي فيما يتعلق باللفظ كالطلاق والعتاق والأيمان بما اعتاده هو من تلك الألفاظ، بل يحملها على ما اعتادوه وعرفوه [كشاف القناع: 6/304].
ولذلك ترى أحياناً أموراً مضحكة في فهم بعض الفتاوى، فمثلاً: سئل الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-: ما حكم استعمال العود في نهار رمضان؟ فقال: لا بأس بذلك.
فالمترجم الذي يترجم فهم العود، فقال: كيف هو يحرمه بالليل ثم يبيحه بالنهار، وما ذلك إلا بالجهل لما تطلق عليه كلمة: العود، فإن لها عند الناس أكثر من إطلاق.
ولذلك تكون الكلمة في بلد بمعنى، وفي بلد آخر بمعنى آخر، فلا بد لمعرفة ذلك.
ولما قال أحد المفتين لزوجة تشتكي زوجها وأنه يبغضها ويضطهدها ويظلمها ويضربها قال لها بكلمة عامية: ساحريه، ومعنى ذلك: صانعيه وداريه وتجملي له، فقالت: أسحره، أين أسحره؟ وأين أعمل له السحر؟ وكيف؟
فإذًا، مراعاة الألفاظ وما اعتاد عليه الناس من الكلام هو أمر في غاية الأهمية.
فأما العلماء الربانيون فإنهم يعرفون الأعراف والعادات وأحوال الناس وما تواضعوا عليه.
وأما الجامدون فهم من يفتي من بطون الكتب بدون مراعاة أحوال الناس، وعوائدهم، وقرائن أحوالهم وأزمنتهم، ومن كان هكذا فقد ضل وأضل.
ونذكر قصة صاحب الشجة الذي احتلم وفي رأسه جرح فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما جاؤوا إلى النبي ﷺ وأخبروه، قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإن شفاء العي السؤال [رواه أبو داود: 336، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في مشكاة المصابيح: 531].
وذكر ابن القيم -رحمه الله- قصة لطيفة في هؤلاء الجامدين الذين لا يراعون مقاصد الناس، ونيات السائلين، قال: "ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قال لامرأته: إن أذنت لك بالخروج للحمام فأنت طالق" والحمام، الحمامات العامة التي كانت موجودة في ذلك الوقت يغتسلون فيها، لم يكن للناس مراوش في البيوت، وقنوات للصرف، فقال لزوجته: "إن أذنت لك بالخروج للحمام فأنت طالق" ولعل هذا أخذته الغيرة مما يوجد في الحمامات العامة من أنواع العري والتساهل في كشف العورات، إن أذنت لك بالخروج للحمام فأنت طالق "فتهيأت للخروج إلى الحمام" كأنها تعانده، فقال لها: "اخرجي وأبصري" يعني: شوفي ماذا سيحصل لك "فاستفتى بعض الناس فأفتوه أنها قد طلقت منه، فقال للمفتي: بأي شيء قد أوقعت علي الطلاق؟ قال: بقولك لها: اخرجي"؛ لأنه قال: إن أذنت لك فأنت طالق، فلما أرادت أن تتهيأ للخروج قال: اخرجي وأبصري، وشوفي ماذا سيحصل لك؟ قال: "أوقعته عليك بقولك لها: اخرجي، فال: إني لم أقل لها ذلك إذناً، وإنما قلته تهديداً" أي: إنك لا يمكنك الخروج، وهذا كقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40]؛ فهل هذا أذن لهم أن يعملوا ما شاءوا؟ قال: لا أدري أنت لفظت بالإذن.
فقال له: ما أردت الإذن فلم يفقه المفتي هذا، وغلظ حجابه عن إدراكه، وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به الله ورسوله، ولا أحد من أئمة الإسلام وليت شعري، هل يقول هذا المفتي: أن قوله تعالى: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] إذن له في الكفر، وهؤلاء أبعد الناس عن الفهم عن الله ورسوله، وعن المطلقين مقاصدهم [إعلام الموقعين: 3/46].
أما النوع الثالث وهم الجاحدون الذين يريدون إسقاط الشريعة، ويتهمونها بالجمود وعدم المرونة، أو يقولون: هذه الشريعة مباركة، لكن هؤلاء العلماء ما فهموها، ويشنون الحملات على القضاة وطلبة العلم، والمفتين والخطباء، وكل من يحمل الشريعة، كل من يدرس الشريعة، كل من يقضي بالشريعة، كل من يفتي بالشريعة، وهكذا لإسقاط الشريعة.
كما ذكرنا يقولون: هذا الإسلام دين عظيم، ولكن المشكلة في هؤلاء المتدينين أنهم على ضلالة وعلى عدم فقه إلى آخره.. فهم يريدون بإسقاط المتدينين إسقاط الدين وهذه حيلة خبيثة ومكشوفة.
بعض جوانب مراعاة الكتاب والسنة لأحوال الناس
وهذا الكلام في هذه الليلة، ولعلنا نكتسب إن شاء الله الأجر في طلب العلم ومعرفة كثير من المسائل التي ستوضح لنا بإذن الله كيف تراعى الأحوال.
تراعى الأحوال في المعاملة مع الناس، تراعى الأحوال في الدعوة إلى الله، تراعى الأحوال في الجهاد في سبيل الله، تراعى الأحوال في مجالات كثيرة.
وسنتنوع إن شاء الله في مجالات متعددة نذكر فيها أثر مراعاة الأحوال في الأحكام، في الجوانب الاجتماعية، وغيرها.
لو أننا نظرنا في القرآن الكريم نجد أن الله راعى حال نبيه ﷺ وقال: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا [الأحزاب: 53]، وهذا لحرمته ﷺ حياً وميتاً، وهذا لا يخفى، فإنه لو كان قد أُذن بالزواج من زوجاته بعد مماته لما كان في ذلك المراعاة لحاله ﷺ كما صار الأمر عندما حرم الزواج بزوجاته من بعده.
ولما قال الله -تعالى-: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] لماذا؟
لحالها، زوجات النبي ﷺ يغلظ عليها العذاب ضعفين، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن وتقدمهن على سائر النساء أجمع.
الأمر بالاستئذان روعي فيه أحوال، الناس يضعون ثيابهم خصوصاً في شدة الحر، في أوقات معينة لا بد أن يستأذن الداخل على الأبويين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء [النور: 58]؛ لماذا؟
راعى حال الناس الاجتماعية، هذه الأحوال التي غالباً ما يضعون ثيابهم فلا بد من الاستئذان.
كذلك مراعاة عدم افتتان الناس وخصوصاً الداخلين في الإسلام حديثاً: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض وعلت لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة [رواه مسلم: 1333].
إذًا، راعى أن لا ينفروا من الإسلام، ولذلك قالوا في فوائده: فكر ولي الأمر بمصالح رعيته، وتألف قلوب الرعية، وحسن حياطتهم، وأن لا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي، لو كان هذا واجباً لفعل بالتأكيد، ولكن لأنه ليس بواجب وإنما هو الأفضل، لكن ترك الأفضل لما يترتب على ذلك من المفاسد.
ومن أمثلة المراعاة: إنزال الناس منازلهم، وقد عنون أبو داود -رحمه الله- في كتاب الأدب من سننه، باب في تنزيل الناس منازلهم، عاملوا كل أحد بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف.
فانظروا إلى عظمة هذا الدين كيف يراعي أحوال الناس: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط حديث حسن [رواه أبو داود: 4843، وقال الألباني: "حسن" كما في مشكاة المصابيح: 4972].
النبي ﷺ لما نزل الناس بمنى نزلهم منازلهم، فقال: لينزل المهاجرون هاهنا وأشار إلى ميمنة القبلة، والأنصار هاهنا وأشار إلى ميسرة القبلة ثم لينزل الناس حولهم [رواه أبو داود: 1951، وأحمد: 16588، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1705].
إذاً، راعى أن هؤلاء سبقوا للإسلام، وهؤلاء جاؤوا بعدهم، وهؤلاء مسلمة الفتح، ونحوهم.
إذًا، مراعاة الناس في الأمكنة أين ينزلون؟ أين يجلسون؟
قال أبو الحسن المدايني: خطب زياد ذات يوم على منبر الكوفة، فقال: أيها الناس إني بت ليلة هذه مهتماً بخلال ثلاث: رأيت أن أتقدم إليكم فيهن بالنصيحة، رأيت إعظام ذوي الشرف، وإجلال ذوي العلم، وتوقير ذوي الأسنان، والله لا أوتى برجل رد على ذي علم ليضع منه" يعني يقصد: أن ينزل من مكانته وأن يحتقره "إلا عاقبته، ولا أوتى برجل رد على ذي شيبة ليضعه بذلك إلا عاقبته، إنما الناس بأعلامهم وعلمائهم وذوي أسنانهم".
من الأمثلة أيضاً التي جاءت في الشريعة في مراعاة الأحوال: حديث: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود [رواه أبو داود: 4375، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 638].
من هم ذوو الهيئات؟
أصحاب المروءات والخصال الحميدة، الذين أبلوا في الإسلام، الذين لهم سابقة، الذين لهم أعمال في الخير كبيرة، قال ابن الملَك: الهيئة: الحال التي يكون عليها الإنسان من الأخلاق المرضية.
قال الشافعي: المراد بذوي الهيئات الذي لا يعرفون الشر، فيزل أحدهم الزلة.
قد تحدث منهم مخالفة مرورية، أو قد تحدث منه معصية، فيغتفر له ذلك، ويتجاوز عنه ما لم يتجاوز عن غيره، ((إلا الحدود)) إذا سرق أو قتل أو قذف أو سكر لا بد من إقامة الحد، لكن في الأشياء الأخرى قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود [رواه أبو داود: 4375، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 638].
إذًا، هذا من مراعاة الأحوال، قال ابن القيم -رحمه الله-: "والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد فإن الله تعالى خصهم بنوع التكريم وتفضيل على بني جنسهم فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده ونبا عصب صبره وأديل عليه شيطانه فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع" [بدائع الفوائد: 3/139].
مراعاة أعراف الناس، هذه أيضاً قضية مهمة، نريد إعطاء هذا الموضوع بعده؛ لأنه مهم جداً في التعامل، لأنه يهم الدعاة إلى الله، وعامة الناس.
إن النظر إلى هذه المسألة بالعين الواسعة، والأفق الواسع، إنها في الحقيقة تقود إلى تحسين أحوال النظر والتعامل مع الواقع، وهذا فقه مطلوب لا بد منه.
جاء رسولا مسيلمة الكذاب إلى النبي ﷺ بكتاب من مسيلمة، يعني: أني أشركت معك في الأمر وأوحي إلي، فقال ﷺ: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، على دين مسيلمة، وعقيدة مسيلمة، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما [رواه أبو داود: 2761، وأحمد: 15989، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3982، 3984، وقال محققو المسند: "حديث صحيح بطرقه وشاهده".
إذًا، مسالة مراعاة الأعراف الدارجة كان لها أثر هنا، هذا شيء قد تعارف عليه البشر، وتعارفت عليه المجتمعات والدول: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ، فهذا الأمان جاء بالعرف والعوائد، ولذلك فإن الرسول الذي يأتي بالرسالة ولو كان من الكفار المحاربين لا يعتدى عليه؛ لأنه بعد ذلك ستفوت مصالح، ولن يرسلوا برسالة، وربما يكون في نقل الرسالة مصلحة كبيرة.
النبي ﷺ كان يراعي أيضاً الأعراف في إرسال الرسائل، فلما أراد ﷺ أن يكتب إلى الروم قيل له: "إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه: محمد رسول الله" في ثلاثة أسطر، والحديث في صحيح البخاري [رواه البخاري: 2938].
وأنت لما ترسل رسالة اليوم، دعوية أو نصح، أو شفاعة، فأنت تراعي من ترسل إليهم، في مناصبهم وأحوالهم، ومكانتهم، حتى في نوع الورق الذي تستعمله، والمظروف التي تضعه فيه، والخط الذي تكتب به.
من المراعاة التي حصلت للأحوال: أن النبي ﷺ كان قد نهى عن الادخار من لحوم الأضاحي فوق ثلاث [رواه البخاري: 1719، ومسلم: 1972] ولو أن الناس مُنعوا من الادخار فوق ثلاث فإنهم سيضطرون إلى توزيع ما بقي.
ممنوع الادخار أكثر من ثلاث، كان في الناس شدة فلما فتح الله عليهم، وأيسرت أمورهم؛ أذن النبي ﷺ بالادخار، فصارت الأضاحي تملح وتجفف، وتأخذ إلى البلدان.
لماذا منعت الشريعة الأكل في آنية الذهب والفضة؟ ما هي المراعاة هنا؟
هناك عدة أسباب، وقد يكون هناك عدة علل، لكن ما هو الحال الذي روعي هنا في منع الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة؟
عدم كسر نفوس الفقراء، هذا إذًا واضح جانب المراعاة للحال.
والنبي ﷺ في السنة قد راعى هذا في عدة مواضع، وأحياناً يترك الأفضل مراعاة للحال، فمثلاً: تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل أفضل من الصلاة في أول وقتها، ولكنه كان يصلي في أول الوقت مراعاة لحال الناس الذين يريدون أن يناموا، أو قد تعبوا من أعمالهم.
كان يتجوز في الصلاة مع أن التطويل فيها أفضل إذا سمع بكاء الصبي؛ مراعاة لحال أمه [رواه البخاري: 708، ومسلم: 470].
كان ﷺ قد توقف عن صلاة الترويح جماعة في رمضان خشية أن تفرض على الناس [رواه البخاري: 924، ومسلم: 761].
نهى معاذاً أن يطيل للصلاة؛ مراعاة لأهل قباء.
لم يأمرنا بالسواك لئلا يشق علينا [رواه البخاري: 887، ومسلم: 252].
بعض جوانب مراعاة الفقهاء لأحوال الناس
وإذا نظرنا إلى كلام الفقهاء والأحوال التي ذكروها في مراعاة الأحوال نجد الأمثلة المتعددة في الجوانب المختلفة.
مراعاة حال الزوجة في النفقة، من أي طبقة هي؟ كيف كانت تعيش عند أهلها؟ ما هو المستوى المادي لهم؟ هذا يراعى في الإنفاق، متعودة على ماذا؟
ولو اختلفت حال الزوجين بأن كان الزوج موسراً، والزوجة معسرة، فكيف سيكون الحال؟
فقال بعض العلماء: يراعى حال الزوج في الإنفاق يساراً أو إعساراً.
وقالوا: أنه هو الذي ينفق هو الذي يراعى.
وقال بعضهم: بل يراعى حال الزوجة، فإذا كانت من طبقة غنية يجب أن ينفق عليها، ويوسع عليها أكثر.
وقالوا: قال : وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233]، والمعروف بالنسبة لها هذا المستوى.
وقالت طائفة ثالثة من العلماء ولعله يجمع الأمرين: المعتبر حالهما معا، جمعاً بين الأدلة: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ [الطلاق: 7].
و خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف [رواه البخاري: 5364].
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق: 6] فهذه المسألة يحصل فيها نزاع كثير بين الزوجين، فهذا هو الضابط فيها.
ماذا بالنسبة لخدمة الزوج؟
على الزوجة خدمة زوجها بالمعروف، فعليها أن تخدم الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولذلك تحدث مشكلات أحياناً عندما يتزوج واحد من بلد امرأة من بلد أخرى، فقد يكون عندهم عادة في بلدهم مثلاً: أن النساء تكلف بأشياء معينة، في البلد الأخرى ليس عندهم هذه العادة أبداً، فيحدث اختلاف بينهما بسبب عدم مراعاة الحال، أخذتها من البلد الفلاني تراعي أعرافهم، تراعي أحوالهم، تراعي طباعهم، تراعي ما تعودوا عليه، هذه مهمة جداً.
مسألة الخادم مثلاً: إذا كانت الزوجة ممن لا تخدم نفسها عند أهلها، كانت من ذوات الأقدار، لو واحد تزوج أميرة مثلاً، يقول: لا، ما في خادمة، اغسلي الصحون بنفسك، ونظفي الحمام، ما تعيش معه، لا تطيق ذلك، هي عاشت عمرها في هذا المستوى، ولذلك فإن الفقهاء قد نصوا على مثل هؤلاء من ذوات الأقدار، أو إذا كانت مريضة يلزمه أن يهيء لها من يخدمها.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة وجب لها خادم: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19]، ومن العشرة بالمعروف: أن يقيم لها خادم [المغني: 8/200].
خادم يطلق على الذكر والأنثى، ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة.
لكن قد تكون من بيئة مثل بيئته، هو بيئته متواضعة، متوسطة أو فقيرة، الأم هي التي تخدم في البيت، يسكنون في شقة صغيرة، مثل هذا إذا تزوج من مثل هذه الطبقة لا يجب عليه أن يأتي بخادمة.
لقد تكلم الفقهاء في مسألة مراعاة الحال في الزواج من ناحية الكفاءة في الدين والحرية والحرفة والنسب، إلى آخره، فعلى سبيل المثال: قالوا: يراعى في التزويج -أنت يا أبا الزوجة- تراعي الإسلام والسلام من الفسق والعفة من الزنا، فلا تزوج المسلمة بكافر ولا مرتد، ولا تزوج من فاسق إذا كانت صاحبة دين، ولا تزوج من فاجر زان، ولا مبتدع، قال أحمد: "لا يزوج بنته من حروري قد مرق من الدين" [المغني: 7/39]، فهؤلاء الخوارج أو القدرية، ونحو ذلك، قال: "ولا تزوج امرأة عدل بفاسق شارب خمر؛ لأنه ليس بكفء" [مطالب أولي النهى: 5/85].
قال إسحاق: "إذا زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه" [مطالب أولي النهى: 5/85] فهؤلاء لن يأتوا إليها في بيتها، لن يزوروها؛ لأنهم يجدون غضاضة وإحراجاً أن يأتوا إليها وزوجها من هذه الطبقة.
أما مسألة الحرفة، فقد اختلف العلماء في قضية الحرفة، فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية إلى اعتبار الحرفة في النكاح، وقالوا: إن التفاخر بشرف الحرفة، والتعيير بدناءتها معروف في المجتمعات، فلذلك يراعى.
أما المالكية، والرواية الأخرى عند الحنفية والحنابلة، قالو: إن الحرفة لا يجب أن تراعى، واستدلوا بحديث: يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه، وكان حجاماً [رواه أبو داود: 2102، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح أبي داود: 1832].
وكذلك فإننا إذا جئنا إلى اختلاف نظر بعض الفقهاء فيما يعرف بزواج المسيار الآن، فبعضهم يقول: هذا جيد ومباح ولا حرج فيه.
وبعضهم يقول: لا، هذا زواج فاشل، ولا يحثون عليه، ويحذرون منه، فلماذا قال هؤلاء بهذا، والآخرون بالقول الآخر؟ لاختلاف نظرتهم في الأحوال، فمثلاً: الذي رأى أن كثيراً من الشباب لا يستطيعون الزواج مبكراً، وأن كثيراً من الفتيات في البيوت تقدمت بهم الأسنان، ولم يتقدم إليهن أحد، أو هذا لا تكفيه زوجة واحدة، قالوا: من الحلول هذا الزواج، إنه زواج شرعي؛ لأنه عقد توفرت شروطه وأركانه من الولي والشاهدين، ورضا الطرفين، وقصارى ما فيها أن المرأة تنازلت عن بعض حقوقها، فقالت: لا أريد منك سكناً منفصلاً، ولا أريد منك ليلة مستقلة، ولا أريد منك نفقة، تعال كما تيسر في أي ليلة تريد، وتسكن عندنا، وأنا أنفق، فقصارى ما فيه أن الزوجة رضيت بالتنازل عن بعض حقوقها.
ولذلك يقولون: لو رجعت وطالبت فلها الحق أو يطلق، لو قالت في يوم من الأيام: أريد بيتاً مستقلاً شرعياً، أريد مسكناً شرعياً، أريد نفقة، أريد ليلة، حقي في المبيت، فإما أن يعطيها وإما أن يطلقها، أما ما دامت ساكتة فالزواج مستمر.
الآخرون نظروا وقالوا: هذا زواج مرشح للفشل، غير مرشح للنجاح، أدى إلى تفكك أسر، وترك الأولاد، والزوج لم يتعب فيه، ولم يتكلف فيه، وكما دخل بسهولة يمكن أن يطلق ويخرج بسهولة، وإننا قد رأينا له أثاراً سلبية.
فإذا قال لك شخص: أقع في الزنا أو هذا؟
نقول: هذا طبعاً.
وأما الإنسان يريد أن يبني بيتاً أو يبني كياناً فربما هذا لا يكون، ليس هذا وضعاً مثالياً.
وأحياناً يقال لبعض الناس الذي يسافرون إلى أماكن معينة معروف فيها أن هؤلاء أصحاب المادة أو المال يتزوجون من بناتهم في الصيفية، ثم يطلقوهن ويعودون.
فيأخذ هذه أسبوعاً، وهذه أسبوعين، وهذه شهراً، يطلق ويرجع، وكل صيفية هكذا يفعلون، ثم يتركها، ولا يعطيها ورقة طلاق أحياناً، وقد تكون حاملاً منه، ولا يراعي ذلك، ويبقى الولد معلق النسب، والمعاملات الرسمية متوقفة، وقد تخبره بعد عوته أنها حامل، فيقول: ما أدري هذا من أين؟ ويطعن، ولذلك فإن مثل هذه الزيجات الخطيرة جداً في نتائجها، والتي أشبه ما تكون بنكاح المتعة أحياناً؛ لأن كلا الطرفين يعرف سلفاً أنه زواج مؤقت لمدة أسبوع أو أسبوعين، وأن الانفصال هو العاقبة، وتقول: أنا راضية؛ لأنه يدفع لي عشرة آلاف.
أيها الإخوة: إن في مثل هذه الأشياء فتاوى مهمة تراعى فيها الأحوال، وتقطع الطرق على المفسدين.
مثال آخر: لماذا راعت الشريعة عدم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها في النكاح؟ ما يتزوج الإنسان على المرأة ضرة هي عمتها أو هي خالتها؛ حتى لا يؤدي إلى قطع الرحم، نفس المعنى الموجود في قوله تعالى: وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [النساء: 23]؛ لأن هذه ضرة لهذه، وهذه ستغار من هذه، فيؤدي ذلك إلى قطع الرحم.
والجمع بين المرأة وضرتها في مسكن واحد ماذا يقول الفقهاء فيه؟
قال ابن قدامة: "وليس للرجل أن يجمع بين امرأتيه في مسكن واحد بغير رضاهما" [المغني: 7/300].
إذًا، لو قال: أنا أريد أن أضع الزوجتين في شقة واحدة، كل واحدة أعطيها غرفة نوم، والمطبخ مشترك، والحمام مشترك، والصالة مشتركة، ما حكم ذلك؟
"وليس للرجل أن يجمع بين امرأتيه في مسكن واحد بغير رضاهما، صغيراً كان أم كبيراً؛ لأن عليهما ضرراً" [المغني: 7/300].
الفقهاء يراعون الغيرة، يعني: الآن إذا أتى ودخل غرفة هذه ما هو شعور الأخرى؟
قال: "واجتماعهما يثير المخاصمة والمقاتلة لما بينهما من العداوة والغيرة، وتسمع كل واحد منهما حسه إذا أتى إلى الأخرى" يعني إذا أتى إلى غرفة أو بيت الأخرى، أو ترى ذلك، تراه وهو يدخل عليها، فإن رضيتا بذلك جاز؛ لأن الحق لهما.
لاحظ أنه قال: "إذا أتى إلى الأخرى" ولم يقل إذا أتى الأخرى؛ لأنه لا يجوز أن يأتي واحدة أمام الأخرى، هذا مفروغ منه، لكن أن يأتي إلى الأخرى، "فإن رضيتا بذلك" يعني: أن يجمعا في مسكن واحد "جاز؛ لأن الحق لهما، فلهما المسامحة بتركه. وكذلك إن رضيتا بنوم بينهما في لحاف واحد" وهذا ليس معناه أن يأتي هذه أمام الثانية، مجرد الاضطجاع، "وإن رضيتا بأن يجامع واحدة بحيث تراه الأخرى لم يجز؛ لأن فيه دناءة وسخفاً، وسقوط مروءة" [المغني: 7/301].
وكشف العورات، لم يبح برضاهما، حتى بالرضا لا يجوز.
قال: "وإن أسكنهما في دار واحدة، كل واحدة في بيت جاز إذا كان ذلك مسكن مثلها" [المغني: 7/301] يعني في عمارة واحدة، كل واحدة في شقة مثلاً، فلا حرج.
إلزام عمر المطلقين بثلاث في لفظ واحد: أنها ثلاث، وكانت على عهد النبي ﷺ واحدة، إذا واحد قال: أنت طالق ثلاثاً، أنت طالق بالثلاث، على عهد النبي ﷺ كانت واحدة، عمر جعلها عليهم ثلاثاً، لماذا؟
قال شيخ الإسلام: ومن ذلك إلزامه للمطلق ثلاثاً بكلمة واحدة بالطلاق، يعني: ثلاثاً، وهو يعلم يعني: عمر أنها واحدة، ولكن لما أكثر الناس منه رأى عقوبتهم بإلزامه به، فوافقه على ذلك رعيته من الصحابة، وقد أشار هو إلى ذلك فقال: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أنا أمضيناه عليهم [رواه مسلم: 1472] تقول: بالثلاث، جعلناها عليك ثلاثاً، ليقلوا منه، للردع، فإنهم إذا علموا أن أحدهم إذا أوقع الثلاث جملة واحدة وقعت، وأنه لا سبيل له إلى المرأة أمسك عن ذلك.
إذاً، من باب أن لا تتخذ آيات الله هزوا، أن لا يلعب بكتاب الله، ولا يلعب بالأحكام.
انظر إلى متعة المطلقة مثلاً: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 241] إذا طلق الزوجة.
المطلقات والمتعة أنواع، فهناك مطلقة لم ينص على مهرها، وطلقت قبل الدخول، ولم يذكر لها مهر، ماذا تعطى؟ متاع، تمتع، بماذا؟ بما يناسب عرفاً، بِالْمَعْرُوفِ .
كذلك إذا كان طلق الزوجة ولو كان أخذت المؤخر والمعجل، فإنها وهي ذاهبة إلى بيت أهلها يمتعها بشيء؛ لأن الطلاق لما كان فيها كسر لنفسها ناسب أن تعطى شيء جبراً لخاطرها، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 241] قال الحسن: يمتع كل بقدره، هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة.
قال ابن عطية: فكل مطلقة لها على زوجها أن يمتعها، ويعطيها ما يناسبها، ويناسب حاله وحالها، وهذا يرجع إلى العرف، وأنه يختلف باختلاف الأحوال.
إذاً تراعى.
خروج المرأة في عدة الوفاة للاكتساب، عندها أيتام، ليس لهم مورد، إلا عمل الأم، ستخرج وتعمل، يباح لها ذلك ولو كانت في العدة.
عندما يكون الانفصال بين الزوجين، ويكون هناك أولاد صغار فما هو مصيرهم؟ أول شيء ينظر في الحضانة مصلحة المحضون، قاعدة مهمة جداً، تراعى، أول شيء: مصلحة المحضون، لا مصلحة الأب ولا مصلحة الأم، مصلحة المحضون، فيكون عند الأصلح والأقوم بمصالحه، ولذلك اشترطوا شروطاً في الحضانة: الأمانة في الدين فلا حضانة لفاسق؛ لأن الفاسق لا يؤتمن، كما لو اشتهر بالشرب أو السرقة أو الزنا، أو اللهو المحرم، وإذا كان بيت هذا فيه أدوات الفساد لا يُمكن من الحضانة إذا كان البيت الآخر سليماً، يعطى للحاضن الذي بعده، وهذا إذا كان أرعى له فإنه يسلم إليه، ولا يكون في الحاضن مرض معد أو منفر يتعدى كالجذام والبرص، ونحو ذلك، ولا يكون فيه عاهة تمنع القدرة على الحضانة، لأنه عاجز في هذه الحالة.
انظر إلى الشريعة كيف تراعي الطفل المميز، فتقول له: اختر، هذا أبوك، وهذه أمك، وهذا اختيار تشهي على كيف الولد، ولو غير الولد رأيه يمشى على الولد، ما لم يكن ضرر على دينه في البقاء عند من اختاره، فلو اختار الأم، وبيت الأم، بيت أهل الأم، مليء بالفساد، لا تمكن من حضانته؛ لأن المراعى مصلحة المحضون، وهو لا يدركها، وقد يختار هو ما يفسده، أبوه يريد أن يعلمه، وأن يحفظه القرآن، وأولئك فقط بالألعاب والأغاني والملاهي، هذه مسألة ينظر فيها القاضي.
وعند وجود الأم والأب، فالأم أولى في حضانة الولد الصغير دون التمييز ، لماذا؟
مراعاة؛ لأنها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "أقدر وأخبر وأرحم وأصبر" [مجموع الفتاوى: 34/122] ولذلك فإنه يكون عند أمه مالم تتزوج، فإذا انشغلت بالزوج الجديد ينتقل منها إلى الحاضن الذي بعده.
ولذلك فإن مسألة الحضانة هذه في الشريعة لها أحكام تراعى فيها الأحوال.
وهنالك يقدم القائم بمصلحة الولد، وإذا كان من عنده الدور فاسداً أو فاسقاً أو مهملاً، فإن الحضانة تنزع منه، ويسقط حقه فيها.
وكذلك قد تكون البنت عند زوجة أب تذيقها سوء العذاب، فعند ذلك لا تمكث عنده ولو كان أولى بها في الأصل؛ لأن الشريعة تراعي هذه الحال، تراعي مصلحة المحضون في هذه الحالة، فالأم أصلاً هي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر، والنساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته، وحمله، وتنويمه، ولذلك لما جاءت المرأة إلى النبي ﷺ تقول : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني؟ فقال لها رسول الله ﷺ: أنتِ أحق به مالم تنكحي [رواه أبو داود: 2276، وأحمد: 6707، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 1968].
وقال شيخ الإسلام: "فلو قدرنا أن الأب ديوث لا يصونه والأم تصونه لم نلتفت إلى اختيار الصبي" [مجموع الفتاوى: 34/131] هذه في مسألة تخيير الولد المميز، الذكر المميز، الآن في البنت يقول بعض الفقهاء: إذا بلغت سبعاً تذهب إلى أبيها؛ لأنها ستكبر وتخطب منه.
وبعضهم الفقهاء نظروا من زاوية أخرى، المالكية مثلاً قالوا: عند أمها إلى أن تتزوج، لماذا؟ قالو: لأنها ستبلغ والأم أقدر على إدارة البنت ورعايتها في حال البلوغ، وأن تعلمها ما تحتاج إليه من الشؤون الخاصة في هذا الموضوع، وحتى عندما تخطب وتجهز لزوجها.
من قرأ في كتب الفقهاء، ليتعجب من هذا الذكاء، وبعد النظر، والعمق والبصيرة، والاطلاع على الأحوال، وبناء الأحكام على ذلك، فهذا ممنوع، وهذا مسموح، وهذا يوجب، وهذا حق ينزع، وهذا يؤدى، لأسباب، منع عمر من الزواج بالكتابيات في عهده، مع أن الأصل حل الزواج من الكتابيات، لما رأى في بعض الأماكن إعراضاً عن المسلمات، ورغبة في الكتابيات.
بعضهم يقول: نريد أن نتزوج من نساء الأعاجم، فيهن مواصفات، فرق عمر بين رجلين تزوجا كتابيتين، وكان يمنع من ذلك، يخشى على نساء المسلمات من البوار، ويخشى أن تمنع عوائل أسر من البيوت على امرأة هي من دين أهل الشرك، لها آثار، لكن إذا لم تحدث هذه الخشية، فالحكم ما هو؟
الإباحة إذا كانت محصنة.
ولو قال لك قائل: أنا في بلاد الغرب أقع في الزنا أو أتزوج بكتابية؟
نقول: تزوج كتابية، لقد أبيح ذلك.
لماذا راعى عمر في قضايا الجيوش الذاهبة للغزو في سبيل الله أن لا يتأخر البعث أكثر من أربعة أشهر؟ لا يغيب الجندي أكثر من أربعة أشهر، مع كثرة الفتوحات والحاجة للجنود، وخيول المسلمين تقتحم العالم شرقاً وغرباً؟
لأن عمر يوماً من الأيام وهو يعس بالليل، ويراعي ويتفقد رعيته سمع ذلك الصوت من ذلك البيت، ماذا يقول الصوت؟
إنه صوت امرأة، سمعها تقول:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه | وأرقني أن لا خليل ألاعبه |
فوالله لولا الله لا شيء غيره | لحرك من هذا السرير جوانبه |
ولكنني أخشى رقيبا موكل | بأنفاس ما لا يفتر الدهر كاتبه |
مخافة ربي والحياء يصونني | وحفظا لبعض أن تنال مراكبه |
تعجب عمر من هذا، سأل فإذا هي امرأة لرجل من جنود المسلمين الذين ذهبوا إلى الغزو، وهي تعيش الآن حالة الحرمان، وعيش البؤس، وإنها لتتقلب على جمر من غياب زوجها.
ذهب إلى ابنته حفصة -رضي الله عنهما- قال: كم تحتاج المرأة إلى زوجها؟ كم تصبر المرأة على زوجها؟
قالت: شهر، واثنان، وثلاثة، وأربعة، ثم ينفد الصبر، فجعله عمر أمداً للبعوث، وشهر المسافة في الذهاب، وشهر المسافة في الإياب ستة أقصى مدة.
ولذلك قال العلماء الآن: حتى هؤلاء الذين قد جاؤوا لكسب العيش من بلدان أخرى، هذا الذي نُقل عمله إلى مدينة أخرى، كم المدة التي يجوز فيها أن يغيب عن أهله؟
ما تتعدى ستة أشهر، أكثر من ستة لا بد من رضا الزوجة، وإذا ما رضيت الزوجة يجوز لها أن تطلب المفارقة، لا تكلف المرأة بالبقاء في حال يعرضها للحرام من أجل مصلحة الزوج.
العادات في إطالة الشعر
أيها الإخوة: حتى مسألة العادات، خذ قضية إطالة الشعر، إطالة الشعر أصلاً إذا قرأنا في السنة النبوية، نجده من صفات النبي ﷺ أنه كان له شعر إلى شحمة الأذنين، وأحياناً يطول عن ذلك، ينزل عن ذلك إلى جهة الكتف، وأن له ضفائر، و.. و.. إلى آخره..
تتغير الأعراف، تتغير الأحوال، وقد يوجد عصر أو مصر الشعر الطويل فيه له معنى مذموم، فهل يوجد ذلك حكماً خاصاً؟
نعم، قال ابن عبد البر -انظر المسألة من أيام ابن عبد البر- قال: "صار أهل عصرنا لا يحبس الشعر منهم إلا الجند عندنا لهم الجمم والوفرات"، فشعر الرأس إذا وصل لشحم الأذن وفرة، وإذا سقط عن المنكبين جمة، قال ابن عبد البر: "وأضرب عنها أهل الصلاح والستر والعلم"، قال: أهل الصلاح والعلم في البلد لا يطيلون شعورهم، وهذه الإطالة لا توجد إلا عند الجنود في الجيش فقط، قال: "وأضرب عنها أهل الصلاح والستر والعلم حتى صار ذلك علامة من علاماتهم، وصارت الجمم اليوم عندنا تكاد تكون علامة السفهاء".
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: من تشبه بقوم فهو منهم [رواه أبو داود: 4031، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 4347].
فقيل: من تشبه بهم في أفعالهم.
وقيل: من تشبه بهم في هيئاتهم، وحسبك هذا [التمهيد: 6/80].
فهو يلفت النظر أنه إذا تغير العرف، وصار لا يطيل الشعر إلا السفهاء، لا يطيل الناس شعورهم، قال: "والشعر والحلق لا يغنيان يوم القيامة شيئاً، وإنما المجازاة على النيات والأعمال فرب محلوق خير من ذي شعر، ورب ذي شعر رجلاً صالحاً" الكلام هذا في كتاب [التمهيد لابن عبد البر، المجلد السادس، ص: 80].
سد الشريعة لمنافذ الفتنة بين النساء والرجال
وجود رجل جميل الخلقة في البلد هل مشكلة بحد ذاتها؟
في البداية لا، لكن يمكن أن تؤول إلى أشياء، فيراعى الحال، ويصدر بذلك حكم على شخص، كان نصر بن حجاج فتى جميلاً، كان في المدينة في خلافة عمر.
يوم من الأيام، عمر وهو يعس بالليل يسمع صوتاً، إنه صوت امرأة، ماذا تقول هذه المرة؟ ليست بعفاف تلك، إنها امرأة أخرى، تقول:
يا ليت شعري عن نفسي أزاهقة | مني ولم أقض ما فيها من الحاج |
يعني: من حاجتي.
ألا سبيل إلى خمر فأشربها | أم لا سبيل إلى نصر بن حجاجِ |
إلى فتى ماجد الأخلاق ذي كرم | سهل المحيا كريم غير ملجاجِ |
ترميه أعراق صدق حيث تنسبه | تضيء سنته في الحالك الداجِ |
نعم الفتى في سواد الليل نصرته | لبائس أو لملهوف ومحتاجِ |
يا منية لم أرم فيها بضائرة | والناس من صادق منها ومن راجِ |
وكانت تقول أيضا:
أنظر إلى السحر يجري في لواحظه | وانظر إلى دعج في طرفه الساجِ |
وانظر إلى شعرات فوق عارضه | كأنهن نمال دب في عاج |
تتغزل به.
والدعج شدة سواد العين مع سعة العين.
والساج: ضرب من الشجر.
والنمال: جمع نمل.
فلما سمع عمر امرأة تتغزل بشاب في البلد، وهذا أجنبي عنها، ليس زوجاً، قال: أرى معي في المصر من تهتف به العواتق في خدورها، النساء في قعر البيوت يتغزلن به، علي بنصر بن الحجاج، فأوتي به، فإذا هو من أحسن الناس وجها وشعراً، فأمر بشعره فجز، فخرجت له جبهة كأنها فلقة قمر، فأمره أن يعتم، فاعتم ففتتن النساء بعينيه، فقال: والله لا تساكنني ببلدة أنا بها، قال: يا أمير المؤمنين ولم؟ قال: هو ما أقول لك.
الرجل ماله ذنب، لكن الآن تراعى قضية المصلحة العامة، ويتحمل الضرر الخاص من أجل دفع الضرر العام.
وقد يوجد مثل هذا في بعض البيئات، فيُبعد شخص ليس له ذنب، لكن ليس معنى ذلك أنه يسجن، أو يقاطع، لكن إلى بيئة أخرى لا يحصل به فتنة، ولذلك عمر لما أخرج نصر من المدينة فأمر له بما يصلحه، وسيره إلى البصرة [ينظر: تلقيح فهوم أهل الأثر، ص: 488 - 489].
مراعاة الشريعة للأصحاب العاهات والضعفاء
لو نظرنا إلى مسألة الأخرس في التعامل، يعني: في الصلاة كيف يقرأ الفاتحة، في التعاقد، في النكاح في الإيجاد والقبول، في البيع والشراء، في المعاملات، الإشارة من الأخرس قائمة مقام النطق، وهكذا في الهبة والرهن والرجعة والجهار والطلاق والعتاق، كيف يطلق الأخرس؟
كل ذلك يراعى فيه عاهة الشخص، وتبنى عليها أحكام.
وكذلك أصحاب العاهات الأخرى، ألا ترى أن أوضاعهم قد روعيت في الجهاد: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح: 17].
إذًا، مراعاة الأحوال.
والعبد لا يلزمه ما يلزم الحر، والمرأة لا يلزمها ما يلزم الرجل، فلا جمعة تجب عليها، ولا جماعة، ولا جهاد، والحج لا بد من محرم، ويجب عليها الحجاب عند الأجانب، ويسقط عنها الصوم والصلاة عند الحيض والنفاس، وقضاء الصوم بلا قضاء الصلاة، وهكذا مراعاة للحال.
وهكذا نجد الفقهاء في المسائل التي تعم بها البلوى، وهذا باب مهم اليوم، وهذا يتغير أيضاً بتغير الأحوال، لقد كانوا يقولون مثلاً في ذم القروح والدمامل، والقيح، أن صاحبه معذور في ترك الجماعة في المسجد، لئلا يلوث سجاد المسجد، الآن مع وجود الضمادات الطبية، وهذه الأربطة واللواصق صار يمكن الاتقاء من هذه الأشياء.
كذلك منع جمهور العلماء من الترخص في سفر المعصية كيف يعصي الله ويباح له رخص؟
وكذلك نصوا على أعذار في التخلف عن صلاة الجماعة؛ كالمطر مطلقاً، والثلج إن بل الثوب، والريح العاصفة في الليل، والوحل الشديد، والزلزلة، وريح السموم المؤذية فعلاً، وليس أي حر ولا أي رطوبة.
وكذلك فقد لباس يليق، فلو لم يجد ثوباً يليق به، قاضي يريد الخروج إلى صلاة الجماعة، فقالت زوجته: ما عندك ولا ثوب، كلها في الغسيل، ما في إلا بنطلون رياضة، -أنتم تضحكون- لكن ذكر النووي في المجموع في أعذار التخلف عن صلاة الجماعة الواجبة إذا لم يجد ثوباً يليق به، يعني انظر إلى دقة الفقهاء، وشمول النظرة في مراعاة الأحوال، بل حتى الحج قالوا في الراحلة: أن يملك راحلة تليق به، ولذلك قالوا في الأغنياء: إذا لم يجد إلا حماراً ولم يكن الحمار يليق به لا يجب عليه الحج.
أما متوسط الحال يركب، ويجب عليه، ولذلك لو قال: هذا حاله أنه يسافر بالسيارة وبالحافلة، ويجب عليه، لكن لو واحد حاله لا يطيق ولا يستطيع ذلك، فيسقط عنه.
مراعاة الشريعة للحائض في طواف الإفاضة
وأيضاً نجد مراعاة حال الحائض في قضية اللاتي يأتين من بلدان بعيدة في حملات مؤقتة يجب أن ترجع، ولا يستطعن التخلف، فماذا تفعل المرأة الآن؟
لما جاء وقت طواف الإفاضة حاضت، وما عندها إلا يومين، والحملة جاءت من إندونيسيا، ولا زم ترجع في تاريخ محدد، ولا تستطيع أن تتخلف، وإذا تخلفت بقيت في البلد بلا محرم يصونها، خلاص يرجع أقرباؤها ويرجع الجميع، تبقى هي غريبة في البلد، ولو رجعت متى ستأتي؟ قالوا: الحج بالقرعة، يمكن بعد عشرين سنة، تبقى على التحلل الأصغر لا يقربها زوجها عشرين سنة، وقد تمنع من العودة حتى الموت؟ وهل تبقى على الإحرام ولا تخطب لو كانت غير متزوجة ممنوع الخطبة والزواج؛ لأنها محرمة لم تتحلل بعد؟ أم يؤذن لها في هذه الحالة الخاصة جداً أن تطوف على حيض؟
كلام ابن القيم -رحمه الله- نفيس جداً في هذا الموضع: "فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض" فالمتعين "أن يقال: تطوف بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافق كما تقدم؛ إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عجز، ولا حرام مع ضرورة".
وأما إقامتها بمكة، وإن رحل الركب حتى تطهر وتطوف ففي هذا من الفساد، وتعريضها للمقام حدها في بلد الغربة، مع لحوق غاية الضرر ما فيه.
وأما القول بأنها تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها، وتمتنع من النكاح ووطء الزوج، حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة، ولو كان بينه وبينها مسافة سنين، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود، يعني رجعت وحصل نفس الشيء، لا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه، فهذا القول مما ترده أصول الشريعة، وما اشتملت عليه من الرحمة، والحكمة والمصلحة، والإحسان، ورفع الحرجة [إعلام الموقعين: 2/20- 23].
انظروا، هذا كلام العلماء، كيف تكون الرخصة من أهل الفقه والعلم، وليس من هؤلاء اللعابين اليوم المتساهلين المميعين، الموافقين للأهواء، الراضخين للضغوط، المعطين القوم الفسقة ما يريدون، كلا.
النساء داخل هذه البلاد غير حكم النساء بالخارج، التي في هذه البلاد قد ترجع، وتصبر أسبوعاً أو أسبوعين، ويسافر بها وليها مرة أخرى، فيرخص للمرأة من الخارج غير ما يرخص للمرأة من الداخل، والكل بعذره.
مراعاة الشريعة لمقادير أنصبة الزكاة ومصارفها
أيها الإخوة: إن الزكاة على سبيل المثال، يراعى فيها التعب، انظر إلى ما سقي بماء السماء كم فيه؟ العشر، وما سقي بالسواني والجهد، واستخراج المياه؟ نصف العشر.
الركاز يعثر عليه فجأة، من كنوز الجاهلية كم فيه؟
الخمس، روعي فيه التعب.
وكذلك المستحقون للزكاة، آل البيت أفتى شيخ الإسلام بإعطائهم إذا كانوا فقراء ولم يعطوا من الخمس حقهم، فإنهم يعطون من الزكاة، يأخذون للحاجة والاضطرار في هذه الحالة.
مراعاة لحال المصلحة والاضطرار
وكذلك فإننا نجد اليوم من الفتاوى المراعية للأحوال ما تتضح فيها المصلحة والاضطرار، أفتى جمع من علماء المسلمين بجواز دفن المسلم في مقابر الكفار إذا مات في الغرب وليس هناك مقبرة يقبر فيها إلا مقابر الكفار، إذًا أين يقبر إذا لم يمكن نقله؟ ولا يوجد إلا هي سيدفن ففيها.
بيع المسجد إذا تعطل الانتفاع به، وخيف من استيلاء الكفار عليه، المسجد أصلاً ما يباع أبداً، إلى قيام الساعة، لكن هؤلاء في بلد من بلاد الكفر اشتروا أرضاً وبنوا مسجداً، ثم المسلمون انتقلوا من حول المسجد، وهجر المكان، والآن ممكن يستولى عليه، الكفار استولوا عليه، هل يجوز بيعه؟ أصلاً ما يجوز المسجد، لكن في هذه الحالة يجوز يبع المسجد وتوضع الأموال في مكان آخر يبنى فيه مسجد بهذه الأموال.
مع شيوع المحرمات في الإنفاق، الزوجة والأولاد كيف يأخذون من أصحاب الكسب الحرام؟
يأخذون ما يحتاجون ولا يتوسعون.
النفقة واجبة على هذا الأب وعلى هذا الزوج.
وكذلك نجد من مراعاة الأحوال عند الفقهاء: عدم قطع اليد في المجاعة، فإذا صارت مجاعة واضطر بعض الناس للسرقة حتى لا يموت من الجوع فلا تقطع اليد.
إننا نجد أيضاً من مراعاة الحال: حفظ الودائع في حرز المثل، فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة في حرز الثياب والحطب، ويراعى العرف إذا قدم الطعام للضيوف، إن مجرد وضع الطعام بين أيديهم إذن لهم بالأكل، ولا يحتاجون للإذن.
إن تسييج الأرض اليوم وتسوير الأرض من صاحب الأرض فإنه ينزل منزلة منع الغير من استعمالها، الآن عرفاً الأراضي المكشوفة، صاحبها لو جعلت ملعباً لا يمانع، لكن إذا سور الأرض انتهينا، معنى ذلك الآن عرفاً أنه يمنع من استعمالها.
إن القضية تراعى أيضاً في المروءة، فلو قلت على سبيل المثال: المشي مشمر الثياب، أو الأكل في المطاعم، أو الأكل أثناء المشي، يعني واحد يأكل آي سكريم وهو ماشي، ما حكم ذلك؟
إنه يراعى فيه الحال، فهذا يكون في حقه شيئاً عادياً، ولد صغير يأكل آي سكريم وهو يمشي، وهذا يعتبر في حقه خرم للمروءة تسقط مروءته، ويعتبر شيئاً عظيماً.
وإذا الفتي جمع الْمُرُوءَة والتقي | وحوي مَعَ الأدب الْحيَاء فقد كمل |
إذا الْمَرْء أعيته الْمُرُوءَة ناشئا | فمطلبها كهل عليه شَدِيد |
[المروءة، لأبي بكر محمد بن خلف بن المرزبان، ص: 109].
جوانب لم تعتبر الشريعة مراعاتها
في المقابل نجد بعض الناس يقول: من باب مراعاة الأحوال: يجوز شراء بيت بالربا.
يا أخي: يستطيع أن يستأجر ويعيش؟
يقول: نعم، ممكن.
يستأجر مثله مثل باقي الناس المستأجرين، يستطيع أن يعيش بيسر وسهولة، ويستأجر، بأي حق تبيح له القرض الربوي؟
بعض الدكاترة أفتى بجواز مصافحة المرأة الأجنبية، لماذا؟
قال: تمد يدها وأنت ما تصافح، تكسر مشاعرها، تكسر نفسها، هذه مراعاة؟ هذه مراعاة إبليس.
اقترح بعض المتفيقهين، وليس الفقهاء، المتفيهقين وليس المتفقهين، بجعل صلاة الجمعة في أمريكا يوم الأحد، قالوا: لأنه هو يوم العطلة، والمقصود الاجتماع، -شف اللعب بالدين- يقول: راعينا أن المقصود بالشريعة الاجتماع.
وهكذا أفتى الدكتور أستاذ دين في جامعة في تركيا بذبح الدجاج في الأضاحي، لأن الغنم أسعارها غالية.
تلاعب بالقواعد الشرعية.
ونسمع -يا إخواني- الآن من المآسي.
وكان هذا موت البابا -سبحان الله -كاشفاً لكثير من الزيغ الموجود في عقائد بعض المسلمين، تمييع الأمور، مخالفة الشريعة، وظهر أن بعض هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين عقيدتهم كالهباء، ظهرت أشياء عجيبة فعلاً، بل إنه قد زل من الكبار زلات والمشاهير ليسوا من العلماء الراسخين، العالم الراسخ الحمد لله، علمه يعصمه والله يوفقه، ولو زل يرجع.
لكن تجد بعض هؤلاء كل فترة يخرج علينا بمصيبة جديدة، بطامة من الطوام، بفتيا ليس لها زمام ولا خطام، كل فترة كارثة، وإثارة بلبلة، وينحرف بسببه من ينحرف.
ولعله يكون -إن شاء الله- لنا وقفة مع هذا الموضوع الخطير: زلات المشاهير، لنؤكد على أهمية اتباع الكتاب والسنة، وأن المرجع الكتاب والسنة، لا إلى زيد ولا إلى عبيد، وأن العلماء يبينون للناس الكتاب والسنة.
نسال الله أن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا اتباع سنة سيد المرسلين.
اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً.
ونسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن ينصرنا على القوم الظالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.