الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فضائل شهر رمضان وفوائد الصيام
الحمد الله الذي بلغنا شهر الصيام، هذه نعمة عظيمة، فمن الناس من لم يدرك هذا الشهر.
عباد الله: عندما يحيا المسلم حتى يبلغ هذا الشهر فإن هذه الحياة من الله تعالى هبة ينبغي أن يشكر عليها، وعندما يستطيع الصوم فإنها نعمة ومنة ينبغي أن يقابلها بحمده، فمن الناس من بلغ الشهر ولا يستطيع الصوم، فإذا جعلك الله حياً، وأقدرك على هذه الفريضة، فاشكر نعمة ربك عليك.
عباد الله: هذا شهرنا قد جاء، هذا موسم الخير قد أتى، كان النبي ﷺ يبشر أصحابه بقدوم رمضان، بشارة بأن هذه النعمة ينبغي أن تدخل السرور على النفوس، ولذلك كان يقول لهم: أتاكم رمضانويبين لهم ما فيه من نعم الله العظيمة، تغلق فيه أبواب النار، وتفتح فيه أبواب الجنة وتصفد فيه الشياطين[رواه أحمد18318] كل ذلك لإعانتنا نحن على العبادة، ما أكرم الله، إنه منان، عندما يصفد مردة الجان كي تقل الوسوسة، ويقل الشر، ويكون المعين منه على العمل في هذا الشهر، هذا الشهر فيه أعمال وتروك، فأنت تترك ما أباح الله لك في الأصل من الطعام، والشراب، والنكاح، طاعة لله، وتربي نفسك على التحكم فيها، كم نحتاج للتحكم في نفوسنا؟ كم نحتاج لضبط انفعالاتنا؟ فمن الناس من أوصلتهم انفعالاتهم إلى النطق بالكفر، أو النطق بالطلاق، والتهور فيما لا يحمد عاقبته.
هذا الصيام يكسر في نفوسنا الأشر والبطر؛ لأن الجوع، والعطش، يكسر ما في النفس من شهوة الغضب، وكذلك يجعلها مخبتة لربها، منكسرة متذللة له، وهذا معنى التضرع؛ أن تدعو ربك، وأنت متذلل منكسر منطرح بين يديه، تناشده، تناديه، تقبل عليه، تتذل له، تتوسل إليه، تدعوه بأسمائه الحسنى، بصفاته، وأنت تقول: يا رحمان ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا تواب تب عليّ، وهكذا المنان الكريم يدعونا لنكون من المتقين، فإنه لما فرض علينا الصيام قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَالبقرة:183، ولذلك فينبغي أن نجتنب ما حرمه علينا سواء كان بالليل أو النهار، وكثير من الناس يصوم في النهار، ولكن لا تصوم جوارحه عن المعاصي بالليل، أليس الليل من رمضان، فليلة القدر أين هي في الظلمة أم في النهار؟ إنها في الليل، إذن الليالي من الشهر، وبعضهم يفهم أن الساعة لربه والساعة لقلبه، يعني: أن يكون في نهاره طائعاً، صائماً، ذاكراً، تالياً، داعياً، عابداً، آتياً للمساجد، والليل له في شهواته، وهذا ليس من العبادة التي خلقنا الله لأجلها، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِالذاريات:56، يعني: ليعبدوه في الليل والنهار، في الحضر والسفر، في الجهر والسر، يعبدوه في كل الأحوال، نحن عباد لله نعبده دائماً، نعبده في كل حين، ليست عبادتنا مقتصرة على وقت دون وقت، ليست مقتصرة على رمضان، ولا على العشر الأواخر.
عباد الله: بعض الناس يقولون وبألم وحسرة: أنهم لم يفتحوا المصحف من رمضان الماضي وقد فتحوه الآن، وربما لم يقبلوا على الانتظام في صلوات الجماعة إلا في هذا الشهر، وكانوا قد غفلوا عنها، وقصروا أحد عشر شهراً، وقد ازدحمت المساجد بهم في صلوات الفجر، فأين كانوا في صلوات الفجر طيلة العام؟ أليسوا نائمين في بيوتهم وقت صلاة الفجر؟ فلماذا لم يكونوا يأتوها.
هذا الشهر يذكرك، يبعث فيك العظة، ويقول لك: قد أحضرتك لصلاة الفجر الآن، فلماذا لم تكن تحضر من قبل، وهل تنوي أن لا تحضر بعد رمضان، وبعض الناس توبتهم مدخولة، فيؤجل السيئات لما بعد رمضان، ويقول: الآن شهر الصيام فيقبل على العبادة، ويرحل المعصية لما بعد رمضان، والواجب أن تحذف تماماً، وليس أن ترحل، ليس المسلم بالذي يؤجل المعاصي لما بعد الشهر، لكن المسلم هو الذي يتوب منها حقاً، ويندم على ما وقع في ذلك منها، وهو يسأل ربه أن يتوب عليه فيما مضى، وأن يوفقه للإقلاع الآن، وعدم العودة إليها في المستقبل.
الحذر من تضييع رمضان بالمعاصي
عباد الله: لقد كانت توبة إخوة يوسف فاسدة لما قالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَيوسف:9، يعني: افعل الجريمة ثم تب، ليس هذا شأن المسلم، المسلم يحاول أصلاً أن لا يقع في المعصية، ويجاهد نفسه على ذلك، ثم ربما يقع من الازدواجية عند بعض الناس أنه يقبل الطاعة في النهار، وقراءة الجزء من القرآن، والذكر، وبعد الإفطار يقلب القنوات في المعاصي، والله الذي لا إله إلا هو قد أتت أسئلة من بعض الناس يقولون: فسد صيامنا، بماذا؟ بما شاهدوه من الأشياء التي أدت إلى الوقوع في شهوات أثناء النهار، ولذلك فينبغي مقاطعة كل ما يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، والله قال في كتابه: مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِالجمعة:11، وفي كثير من الشاشات لهو سواء في القنوات، أو في هذه الشبكة، فكيف إذا كان لهواً محرماً، وإذا كان الناس قد تدافعوا لمقاطعة بضائع القوم الذين سبوا محمداً ﷺ فلأن يحرصوا على مقاطعة القنوات التي تفسد صيامهم، أو التي تذهب أجرهم، وقد حصلوه بالنهار ليذهبوه بالليل، ينبغي مقاطعتها تماماً؛ لأننا عباد لله في كل وقت، والمباحات طيبة مع الأهل، والأولاد، وإعطاء النفس حظها، ولكن فيما لم يحرمه الله.
عباد الله: إذا كان أهل الباطل قد أجلبوا بخيلهم ورجلهم، وقد استعدوا بالبرامج من قبل، وهم يحشدون الحشود، ويعدون العدة يقولون: إن الناس قد التفوا حول الشاشات، وقد اجتمعوا في هذا الوقت، لكن ماذا فيها من تبرج وسفور، ماذا فيها من الأمور التي لا ترضي الله، ماذا فيها من المسموعات التي لا ترضي الله، والمرئيات التي لا ترضي الله، وإشغال الناس عن الطاعة حتى أن بعضهم لا يكاد يقوم إلى العشاء والتراويح إلا وهو يجر نفسه جراً، وربما تأخر من أجل مسلسل، أو فلم، وفي كثير منها دعوات إلى المحرمات مباشرة، أو غير مباشرة، وتشويه لشخصيات الأمة الإسلامية وقادتها، كما فعلوا بصلاح الدين، وخالد بن الوليد، وعمر بن عبد العزيز، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ويفعلون بالشافعي رحمه الله وبغيره، فمن الذي يمثل أدوارهم؟ وهل كان معهم نساء متبرجات متزينات؟ فقارن يا عبد الله بين ما تسمع هنا وهناك مما أعد، من امرأة تتشبه بالرجال، وقد لعن النبي ﷺ المسترجلات من النساء، وبين ما جاء في هذه الشريعة لتعرف البون الشاسع بين ما أعده أهل الباطل، وبين ما يجب أن يكون عليه المسلم في هذا الشهر، إننا لما نسمع الآيات في صلاة التراويح، ونقرأها في المصاحف، ينبغي أن يكون لها أثر في نفوسنا.
اغتنام شهر رمضان
عباد الله: أيام معدودات لا تلبث أن تنقضي، قال الله : أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍالبقرة:184، سرعان ما تذهب، ولذلك اغتنموها، واحرصوا على ما فيها من الذكر والخير، هذا الصوم يربي في نفوسنا محاربة الوسوسة، وبعض الناس ربما تحرج من أدنى شيء، ويقول لك: بلعت ريقي فماذا في ذلك؟ وهو لا يتحرج مما هو أعظم بكثير، وبلع الريق لا يفطر، لكن القضية كما قال ابن عمر لمن جاءه يستفتي عن دم البعوض، تقتلون ابن بنت رسول الله ﷺ، وتستفتون في دم البعوضة للمحرم، ولذلك عجباً لبعض الناس يقول: لقد دخل الغبار في فمي رغماً عني، هل أنا أفطرت؟ وهو قلق، لكنه لا يقلق من الأمور القطعية المحرمة التي يسمعها، ويشاهدها، ويفعلها.
عباد الله: لماذا هذه الازدواجية في شخصياتنا؟ لماذا لا نكون سلماً لله؟ أليس الإسلام هو الاستسلام لله تعالى.
ونرى كذلك سعة هذه الشريعة، وكذلك عظمة الاجتهاد فيها عندما يبين لنا العلماء أن الأمور غير المفطرة ما يكون غير مغذ من إبر البنسلين، والانسولين، والتخدير، والتطعيم، والتلوين للأشعة، ونحو ذلك، والتحاميل الشرجية وغيرها، والمناظر؛ فإنها ليست بمغذية، ولذلك لا تفطر بينما يكون من الامتلاء كالأكل، والشرب، وما يكون من الاستفراغ كالاستمناء، والحجامة، ولذلك فإنه لا تبرع بالدم في النهار، فإذا اضطر إليه فعله، ويؤجر لإنقاذ نفس معصومة، ويقضي.
وأيضاً فإن المسلم يحرص على التمسك بالسنة، مثل السواك نهاراً وليلاً، وكذلك فإنه يجود لله في هذا الشهر؛ لأنه شهر الجود، وقد كان النبي ﷺ يجود في رمضان أكثر مما يجود في غيره، وكان جواداً دائماً، وتنزه المساجد عن روائح الثوم، والبصل، والعرق، وكل كريه يؤذي الملائكة وعباد الله الذين جاءوا للصلاة.
وهذا الصيام الذي يعلمنا الإخلاص؛ لأن الله قال في الحديث القدسي: فإنه لي[رواه البخاري1904]فاختصه له، وجعله سراً بينه وبين عبده ليكافئه عليه، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍالزمر:10، هذا الأجر بلا حساب، بلا عدد معين، ما قال ألف حسنة، ولا مليون حسنة، وإنما قال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍالزمر:10، وقد فسر جمع من العلماء الصابرين هنا بالصائمين.
عباد الله: هذا الصيام يعلمنا التمسك بالسنة، فالسنة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، فأنت ترى في هذا الصيام؛ تأخير السحور، وتعجيل الإفطار، إعانة من الله لعباده أن يعجلوا الإفطار، ويؤخروا السحور؛ ليكونوا أقوى على الصيام، فليس في هذا الصيام إضراب عن الطعام والشراب، ومنع أيام متوالية، وليس الصيام تعذيباً، وإنما راحة للمعدة، وفوائد صحية، لكن هذا تبع، والأصل أنه فرض علينا، فنحن نطيع الله في أدائه، وفعل الواجبات أجره عظيم، أكثر من فعل المستحبات، فما بالك إذا صار في الصيام هذا واجبات ومستحبات، نوافل وفرائض، وتنوع في العبادات، فأنت ترى الصيام، والقيام، والاعتكاف، والعمرة، والصدقة، وتفطير الصائمين، وهكذا من أنواع البر تتنوع علينا في هذه الأعضاء، في ألسنتنا، في أيدينا، في أقدامنا التي تمشي إلى هذه الجمع والجماعات، وتسعى في الخيرات.
بعض أحكام الصيام
عباد الله: السحور بركة، وهو اسم لكل ما يقع في النصف الثاني من الليل، يكون سحوراً، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، والملائكة تصلي على المتسحرين، وهكذا فإنه إعانة على القيام لصلاة الفجر، فاحرص عليه يا عبد الله، لقد فتحت أبواب الجنة، وجهزت الحور العين فأين الخطاب، فابذلوا المهور يرحمكم الله، حدث عظيم في السماء بدخول هذا الشهر عندما فتحت أبواب الجنان، ومن كان في هذا الشهر الكريم من أهل الأعذار؛ فإنه يفطر ويطعم كما جاءت الأدلة بذلك سواء كان العجز لكبر سن، أو حمل، أو رضاع، ونحو ذلك، ومن رحمة الله أنه عذر أهل الأعذار، وقبل منهم الإفطار، ولم يكلف الحائض بالصيام، وإنما جعل لها القضاء، وفي الصلاة لا قضاء عليها، أليس هذا من يسر الشريعة، قارن بين هذا وبين من يفسر يسر الشريعة تفسيرات أخرى لتشمل محرمات، كلا والله، ليس ذلك من يسر الشريعة، لكن هذا عندما نرى لا صيام على الحائض، ولا الحامل، ولا المرضع، وكبير السن، فيطعم وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍالبقرة:184.
يا عبد الله: لما قال ربك في كتابه: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُالمائدة:54، يعني: يحب هؤلاء الصالحين، المتقين، الصائمين، المصلين، الذاكرين، الخاشعين، الحافظين فروجهم والحافظات، ويحبونه لأنهم يعبدونه، ولابد للعبادة من محبة، ليس العجب في قوله: يحبونه، فطبيعي أن يحب العبد ربه، أليس قد أنعم عليه؟! أليس يرزقه؟! أليس قد أحياه؟! أليس قد أقدره على فعل الخيرات؟! وإنما العجب من محبته لهم، فليس الغريب أن يحب الفقير الغني الذي تصدق عليه، لكن العجيب أن يحب الغني الفقير، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُالمائدة:54، فتأمل في محبته لهم، وهم فقراء إليه وهو الغني، يعبدونه ولا يحتاج إلى عبادتهم، ومع ذلك يحبهم، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُالمائدة:54، ولذلك كان السلف رحمهم الله في غاية الإحسان في رمضان، فإنهم فهموا عن إحسان الله لعباده أن يحسنوا هم للعباد، كان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وترى بعض الأثرياء الأغنياء في رمضان هو يخدم بنفسه، فهو الذي يقدم الطعام، وهو الذي يفرش لهم، وهو الذي يضيفهم، وذلك من حرصه على أجر الخدمة، مع أنه عنده من الخدم والحشم لكنه يتواضع لله بخدمة عباده.
يا عبد الله: عندما ترى هذا الإحسان وهذا الجود والفضل من الله ، وهو يضاعف الأجر، ويفتح باب الريان لهؤلاء الصائمين، وعندما يجعل لنا في هذا اليوم ساعة الجمعة في هذا اليوم المبارك، وفي هذا الشهر تتفق أنواع من الاستجابات، الصائم له دعوة مستجابة، وفي ساعة الجمعة دعوة مستجابة، وعندما يدعو ربه يوم الجمعة عند الفطر، فيجتمع مع الإفطار ساعة الاستجابة، هذا العدد من الفرص الكبيرة للمغفرة فما أحرى بالمسلم أن يستثمرها.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ورضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك، ونبيك محمد، إمامنا، وحببينا، وقدوتنا، سيد ولد آدم، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى ذريته الطيبين وآله وزوجاته وخلفائه الميامين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحكام الزكاة
عباد الله: يخرج كثير من الناس في هذا الشهر زكواتهم، ويتحرون في ذلك أيضاً الأجر والثواب من الله تعالى، ولهذا فإنه ينبغي التفطن لما في الزكاة من الأحكام، بإحصائها لأنها أمانة، وفي الدقة فيها، وإخراجها، ومنحها للمستحقين الذين ذكرهم الله في كتابه في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِالتوبة:60، فهي تملك لهم وتعطى، ولا تجعل في مشاريع أخرى، وإنما تملك لهم، والسفيه تعطى لوليه لينفق عليه، وكذلك فإن الأجر عظيم لمن أخرجها مؤتجراً فهو لا يشعر بأنه مكره ومغصوب على الإخراج، مهما كثرت، بل إنه يجود بها لله، فيخرجها بنفس طيبة، والله تعالى يربي الصدقات، ويضاعفها، ويزيدها، والزكاة رأس الصدقات، وكذلك فإنه تعالى يجعل صاحبها في بركة، وفي زيادة، ويطهر نفسه من الشح والبخل بهذا الإخراج، ومن شروطها: النية، ولذلك لا يحسب ما أخرج سابقاً صدقة على أنه زكاة، فلابد أن تكون نية الزكاة حاصلة عند الإخراج وهي على السنة القمرية وليست الميلادية، فينبغي على أهل الحسابات في الشركات وغيرها أن ينتبهوا لعدم حرمان الفقراء من أحد عشر يوماً وهي الفرق بين السنة القمرية والشمسية، وأن يؤدوا حق الله تعالى، وعندما يستقرضنا ربنا، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًاالبقرة:245، وهو غني، ولا يحتاج إلى أموالنا، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْالحج:37، فإنك تكون مستعداً للبذل؛ لأنه عندما قال في كتابه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌالحديد:11، فإذا كان المقترض غنياً تشجعت على الإقراض، وإذا كان سيردها أضعافاً ماذا سيكون؟ وإذا كان سيعطيك مع ذلك فوق الأضعاف أجراً كريماً يضاعفه له أضعافاً مضاعفة، وفوق ذلك له أجر كريم، كيف سيكون الاندفاع للإعطاء حينئذ؟
وهذه الزكاة بحمد الله لا تشق على الناس فالذي لا يملك النصاب ليس عليه زكاة، وكذلك ليس فيما يستعمل زكاة من أثاث، وسيارات، وآلات المصانع، والمعدات، والورش، وآلات الحساب، والرفوف، والديكورات في المحلات إلا إذا أعدت للبيع، وإنما نجد الزكاة فيما ينمو من بهيمة الأنعام، والزروع والثمار، والأموال التي تقلب، ويكون منها النماء، وعروض التجارة تتولد الأشياء من بعضها، والأرباح من رأس المال، ولذلك تكون تابعة للأصل، فإذا كان الإنسان عنده سلع فيجردها في نهاية السنة القمرية، ثم يحسب على حساب السعر في ذلك اليوم، فيقول الناس عندنا بضائع كاسدة، عندنا أسهم خسرانه، فنقول: أخرجوا على ثمنها الآن، وكذلك فإنه لا ينظر في سعر الشراء، وإنما ينظر فيما تساويه الآن، وبعض الناس عندهم أسهم عقارية، وربما تكون جامدة غير متحركة، وهو يريد بيعها، ولا يجد لها تصريفاً فيقال له: لو عرضتها بكم تمشي الآن؟ نصف السعر، ربع السعر، وهذا يقدره أهل الخبرة، فنقول: الزكاة عليك، فإن قال: لا سيولة لدي لأخرج، فنقول: احسبها واجمعها واكتبها، واجعلها في وصيتك، فإذا بعتها يوماً ما، فأخرج عما كان عليك فيما مضى.
وهذه الزكاة لا تعطى لمن تلزمك نفقتهم، من أب، وأم، وأولاد، وزوجة، ولكنها تعطى لمن لا تلزمك نفقتهم من الأقارب وغيرهم، وكذلك فإنه لا يحابي بها قريباً، وإنما ينفقها لمستحقيها الحقيقيين، وينظر أهلها، ويتحراهم، وعندما يكون الإنسان له راتب ينفقه أول بأول فلا زكاة عليه، لكن عندما يدخر إذا، فإذا مرت سنة فأخرج من المدخرات، في الألف خمساً وعشرين، وأموال الأوقاف، وصناديق البر، وأموال الجمعيات الخيرية، وثلث وصية الميت ليس لها مالك، ولذلك لا زكاة فيها.
عباد الله: إن هذه الزكاة، هي أمانة من الأمانات، ينبغي القيام بها، وعدم البخل بها، بل إن إخراجها يطهر النفس، تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَاالتوبة:103، ولا يجوز أن يعطاها من يستعين بها على معصية الله تعالى، وكذلك فإنها لا تصرف في تفطير الصائمين إلا إذا كانوا فقراء، فيعطونها وهم يشترون ما يريدون، ولا في بناء المساجد، وطباعة الكتب؛ لأنها ليست من الأصناف الثمانية.
من فوائد رمضان
هذا الشهر الكريم من فوائده وبركاته؛ أنه ينمي الملكة الفقهية لدينا، فترى المسلم إذا قرأ في الفتاوى الفرق بين إبرة التحليل، والدم اليسير وبين الحجامة، والتبرع بالدم الكثير عرف أن ذاك لا يفطر وهذا يفطر، وكذلك تجد هذه الفروق التي تجعل الإنسان حريصاً على السؤال دون وسوسة، وأيضاً فإنها فرصة لتعليم نساءنا الأحكام في رمضان، من الأحكام المتعلقة بالنساء في الصيام، وفي التراويح، فنحرص على إتيانهن المسجد بغير تعطر، ولا تبرج، وقد كان النبي ﷺ حريصاً أن لا يقع اختلاط بين النساء والرجال عند الخروج من المسجد، ولذلك أمر الصحابة بتخصيص باب للنساء، وقال للنساء: ليس لكن أن تحققن الطريق[رواه أبو داود 5272 وحسنه الألباني في الجامع الصغير929] يعني: تمشين وسط الطريق، وكذلك فإن بعض الناس يذهبون للعمرة في هذا الشهر الكريم، فينبغي عليهم التعلم من أحكامها، وعدم مضايقة عباد الله، بل أن يعزم الإنسان على الإحسان، وإنك يا عبد الله تتأثر عندما ترى اثنين في الطريق، في نهار رمضان، قد عاند أحدهم الآخر بسيارته، وقد وقفا على جانب الطريق يستبان ويتشاتمان، والنبي ﷺ أمرنا في صيامنا أن لا نرفث، وبعض الناس يتبادلون مع الأسف ما يسمى بالنكات الجنسية، وهذا هو الرفث، أليس هو الكلام في شؤون الشهوة، هذا هو الرفث، فيرفثون، ولذلك فإن كثيراً مما يعرض في هذه المسلسلات والأفلام في الحقيقة هو من الرفث الذي نهانا الله ورسوله عنه في العبادة، وقال ﷺ: فلا يرفث لا يفسق إذا سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم، إني صائم[رواه البخاري 1894 ومسلم 1151]قيل: الأولى لنفسه، والثانية لخصمه، وقيل: يقولها سراً في نفسه إذا كان صائماً صوم نافلة، ويجهر بها يقول: إني صائم، عندما يكون الصيام فريضة؛ لأن تذكير النفس بالصيام حتى لا تتمادى في شتيمة، أو مسابة، أو خصومة مهم، فعندما يكون نافلة قال العلماء: يسر بها في نفسه، يذكر نفسه حتى لا يجهر بعمله، ويؤذي الإخلاص، ولكن إذا كان فرضاً فكل الناس يعرفون أنك صائم معهم، ولذلك لو قلت إني صائم تذكره بها، وتعظه بعدما تذكر نفسك أنت، إني صائم إني صائم، فتأمل فيما يعين به الصيام الإنسان على حفظ لسانه، وعلى كفه.
وكذلك فإن في هذا الشهر عبادة عظيمة، وهي الاعتكاف، فيربي الإنسان على حبس نفسه على طاعة الله، فاعتكف ولو ليلة، اعتكف ولو ليلة وسترى لذلك أثراً على نفسك، وكيف تنقطع للعبادة، وتدخل في هذه المدرسة.
عباد الله: يطعن الطاعنون في ديننا، ويقولون: الصيام يقلل الإنتاج، فنقول: إذا كانت نظرتكم دنيوية بحتة فنعم، لا شك أن الجائع، والعطشان، إنتاجه ليس مثل الشبعان الريان، ولا حرج عندنا في الدين أن تقل الساعات من ثمانية إلى ستة من أجل الآخرة، وأن نضحي بساعتين من الإنتاج الدنيوي لأجل الآخرة، لكن الذي لا يقبل أن لا يكون هناك لا دنيا ولا آخرة، فتراهم ينامون ولا ينتجون شيئاً في النهار، ويظلمون الناس في المراجعات، ويظلمونهم في المعاملات، في حقوق الآخرين، كأن رمضان صار شهر النوم والخمول، وهذا ليس بصحيح، نعم، إنه يقلل الإنتاج الدنيوي، هذا لا شك فيه، ومعلوم عند أصحاب الشركات والمصانع هذا، لكن صاحب المصنع ينوي عندما يقل إنتاجه في هذا الشهر، أو بعض الأماكن التي تنخفض فيها المبيعات من أجل هذا؛ أنه يضحي به لله، لكي يتفرغ العمال شيئاً ما للعبادة، وأما أن يصبح شهر بطالة، وعطالة، يقل الإنتاج في الدنيا، ولا يظهر في الآخرة فهذه مصيبة، هذه المصيبة والله.
يا أيها الطلاب، يا من يذهب إلى المدارس، والكليات: تذكروا بأن تخفيض ساعات الدوام لأجل أن يكون هنالك تفرغ أكثر لعمل الآخرة، ويكون هنالك سهر في القيام، والعبادة، واستعانة على طاعة الله تعالى.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن ترحمنا رحمة تلم بها شعثنا، وتغفر بها ذنبنا، وترفع بها شاهدنا، وتثقل بها موازيننا، وتبيض بها وجوهنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك أن تفرج همومنا، وأن تنفس كروبنا، وأن تشفي مرضانا، وأن ترحم موتانا، وأن تدخلنا الفردوس الأعلى، اللهم قنا عذاب النار، قنا وفتنة المحيا، وقنا فتنة الممات يا رب العالمين، اللهم لا تفرق جمعنا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، تقبل صيامنا، وقيامنا، واجزنا بها الجزاء الأوفى يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، اللهم إن نسألك أن تقضي ديوننا، وأن تستر عيوبنا يا ربنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نعوذ بك من البلاء والوباء، نعوذ بك من الغلاء، نعوذ بك أن نرد على أعقابنا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وذرية طيبة، اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم إنا نسألك أن ترضى عنا يا رب العالمين، وأن تدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أدخلنا الجنة مع الأبرار، واغفر لنا يا غفار، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، آمنا في أوطاننا، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد أمننا بسوء فابطش به، اللهم من أراد بلدنا هذا بسوء فامكر به، واقطع دابره، وكف شره يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.