الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نص الحديث الثاني
كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء [رواه مسلم: 2653].
شرح الحديث الثاني
طبعا هذا متعلق بالذي قبله، الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة التي يجب على العبد أن يؤمن بها، وهي التي جاءت في حديث جبريل: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره [رواه مسلم: 8].
أركان الإيمان بالقدر
حتى نفهم الإيمان بالقدر فهما صحيحا لا بد أن نعلم أنه ينبني على أربعة أركان، مثل أركان الإسلام الخمسة، أركان الإيمان الستة، أركان الإيمان بالقدر أربعة، ما هي؟
العلم، والمشيئة، والكتابة، والإيجاد.
أنا حرصت أن أقولها كل واحدة بكلمة ليسهل حفظها: العلم، والمشيئة، والكتابة، والإيجاد، أو الخلق واحد.
علم الله
أما العلم: فإن علم الله أزلي، يعلم قبل أن يكتب سبحانه، قبل أن تحدث الكتابة، علمه لا أول له، هو الأول فعلمه كذلك علمه معه، علمه هذه صفة من صفاته.
أحاط بكل شيء علما، وعلم ما كان وما سيكون وما يكون، وما لو كان كيف كان يكون جملة وتفصيلا.
وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم، وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم، وشقيهم وسعيدهم قبل أن يخلقهم: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت: 62]، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
ثانيا: الإيمان بالكتابة، أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء قبل أن يوجد هذا الشيء، قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر: 52]، اللوح المحفوظ المزبور، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] يعني: مكتوب.
ودليل ثاني من القرآن على وجود هذه كلها في اللوح المحفوظ: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يــس: 12] ما هو الإمام المبين؟ اللوح المحفوظ.
إذن، هذا كله داخل في حديث: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فالله علمها وشاءها وكتبها وأوجدها إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما كان وما هو كائن إلى الأبد [رواه الترمذي: 2155، وهو حديث صحيح].
كل شيء في اللوح المحفوظ: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام: 38] ما فات شيء: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ [يونس: 61].
أم الكتاب، والذكر، والإمام، والكتاب المبين، من أسماء اللوح المحفوظ في القرآن.
لو قلت لك: أعطيني أسماء اللوح المحفوظ في القرآن؟
فستقول: أم الكتاب، والذكر، والإمام، والكتاب المبين، كلها من أسماء اللوح المحفوظ.
وهذه الكتابة التي حصلت لها حِكم: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23].
لو جاءك الآن ملايين لا تطغى ولا تفرح، ترى مكتوب من زمان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
ترى لو حصلت لك مصيبة لا تحبط وتنهار وخلاص تكتئب وتصاب بالأسى: لا تأسوا على ما فاتكم، ترى مكتوب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
أما الثالثة: المشيئة، فما يمكن يكون كتب ويحصل إلا وقد شاءه، إلا وقد أراده سبحانه، هذه المشيئة مطابقة لعلمه.
إذن، علم وشاء فكتب وأوجد، فما يمكن يكون يكتب ويوجد إلا وقد شاء، وهذه المشيئة مثبتة في كتاب الله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30].
والرابع: الإيجاد والخلق: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62]، وقال الله في كتابه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96].
فإذن، كل شيء مخلوق، كل مقدر مخلوق، كل قدر مخلوق، كل شيء يحدث في الكون من خلقه وإيجاده سبحانه وتعالى.
مشيئة الله
ثالثا: مرتبة المشيئة، كل ما يجري في هذا الكون فهو بإرادة الله ومشيئته، ومشيئة الله صادرة عن حكمته ورحمته، وما وقع مطابق لعلمه السابق في اللوح المحفوظ، المكتوب في اللوح المحفوظ، فمشيئة الله نافذة، وقدرته شاملة، وما لم يشأ لم يكن فلا يخرج عن إرادته شيء: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29].
وما شاء الله يخلقه، الذي يشاءه يوجده، وهذه هي المرتبة الرابعة: الإيجاد والخلق: قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وقال: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62] فنؤمن بأن الله خالق كل شيء لا خالق غيره، ولا رب سواه، وكل ما سواه مخلوق، والله خلق العامل والعمل، خلق كل شيء عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ما يجري من خير أو شر، وكفر أو إيمان، أو طاعة أو معصية، شاءه الله وقدره.
ونؤمن بأن هذه المراتب الأربعة شاملة لما يكون من الله -تعالى- ولما يكون من العباد، فهناك أشياء يعملها ربنا مباشرة، هناك أشياء يعملها العباد والله خلقها، فكل ما يقوم به العباد من الأقوال والأعمال والتروك معلوم لله، مكتوب عنده ومخلوق، والله قد شاءه وأراده وخلقه، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28-29]، قال: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253]، وقال: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 137].
وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96].
لكن مع إيماننا بأن الله -تعالى- خلق أفعال العباد فإننا نؤمن أيضا كما أخبر أن للعباد مشيئة واختيارا، وأن لهم فعلا حقيقيًّا وعملا، وأنهم ليسوا مجبورين على أعمالهم، فلو شاء الواحد أن يصلي صلى، ولو شاء ألا يصلي ما صلى، ولو شاء أن يشرب الخمر لشربه، ولو شاء أن يتركه لتركه، وهكذا..
إذن، هذه المشيئة التي بناء عليها يحاسبون، ولو كان الأمر أنهم لا اختيار لهم ولا مشيئة ما حاسبهم، ولذلك رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا وصل الأمر بالعبد إلى أن يفعل شيئا بغير اختياره ورغما عنه وبالإكراه وبالإجبار وبالقوة فإن الله لا يحاسبه على ذلك، فالعباد يفعلون ما يشاؤون، لهم مشيئة واختيار يفعلون، يعني أفعالهم بمشيئتهم، ولكن هذه الأفعال وهذه المشيئة كلها مخلوقة خلقها الله، خلق الفاعل والفعل، والعامل والعمل، وخلق الشائي ومشيئته، سبحانه وتعالى، فليس في كتابة الله تعالى وتقديره إذن منافاة لمشيئة الإنسان واختياره؛ لأن الله كتب علمه بما يعمله هذا المخلوق، وما يترتب على ذلك، ولم يجبره عليه، بل هديناه النجدين، وبين له طريق الخير وطريق الشر، وخلى بينه وبين نفسه، قال له: اعمل، وهو يختار ما يريد، من غير إكراه ولا إجبار.
فمن كمال علم الله -تعالى- وعظمته: أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وعلمه محيط بما في السماوات وما في الأرض، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب كل حركة من حركاتها في اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحـج: 70].
كتابة الله للمقادير
ذكرنا للوح المحفوظ أسماء ما هي؟
أم الكتاب، الإمام المبين، الذكر، كتبنا في الذكر: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] كتبنا في الزبور من بعد الذكر، يعني من بعد ما كتبنا في الذكر في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.
قال كثير من المفسرين: الجنة، أرض الجنة.
الكتاب المبين، والإمام المبين، أم الكتاب، والذكر، واللوح المحفوظ، قال عز وجل: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحـج: 70].
وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد: 22] من قبل أن نخلقها، من قبل أن نوجدها في الواقع هي مكتوبة إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].
وذكرنا أن هناك فوائد لهذه الكتابة: أن يسلم العبد لا يطغى إذا أتاه الله مالا، ولا ييأس أو يأسى إذا فاته شيء من الدنيا؛ لأن ذلك مكتوب مقدر من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فعلام على ماذا يكون الأسى؟ خلاص أي شيء يحدث مصيبة فهي مكتوبة من زمان، شيء مقدر ومكتوب ومفروغ منه، وجف القلم بعدما كتب القلم المقادير، جف القلم على علم الله.
قوله ﷺ في الحديث: وعرشه على الماء يعني كتب المقادير القلم، خلق القلم وكتب المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ، وبهذا يستدل على أن العرش سابق على القلم، خلق العرش سابق على خلق القلم، وقد قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7] فهو سبحانه كتب مقادير الخلق حين كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
كتابة القلم للقدر كان في الساعة التي خلق فيها -كما قلنا- في الحديث: إن أول ما خلق الله القلم ثم قال: اكتب فليس القلم أول مخلوق، لكن معنى الحديث أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب وليس القلم أول مخلوق، وإنما أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فكانت الكتابة بعد خلق القلم مباشرة.
وأما العرش مخلوق قبل القلم: إن أول ما خلق الله القلم ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة [رواه الإمام أحمد: 22705، وهو حديث صحيح].
وهذا ذكره أهل العلم كابن تيمية -رحمه الله- في: "الصفدية"، وكما في: "بغية المرتاد" و "شفاء العليل" لابن القيم، و"رسالة العرش" للذهبي -رحمه الله-.
طبعًا هذه المعلومات ثروة كبيرة وفرصة للعباد من رب العالمين، يعني نحن لا شهدنا، ما رأينا، ولا حضرنا، وكيف نستنبط هذا، ما يمكن، ولذلك كل هذه المعلومات ثروة ورزق من الله.
الآن البشرية تخوض في قضية بدء الخلق كيف بدأ الخلق؟
ما عندهم نظريات وأشياء تكهنات تخرصات توقعات، فيه نظرية تقول كذا، وفيه نظرية تقول، وفيه نظرية تقول، ونحن عندنا العلم الأكيد، يعني نحن المسلمين عندنا العلم الأكيد بالقضية الغيبية الذي ما شهدناها، لكن هذا من الله، وهذا فائدة الإسلام والدين أن عندك يا مسلم علم يقيني، والذي عند غيرك من الكفار الذين يتكلمون عن بدء الخلق تخرصات، وبعضهم ملاحدة ويقولون: بالانفجار ما الذي انفجر؟ ما الذي قبل الانفجار العظيم؟ قالوا: عدم، لا شيء، ما كان في شيء.
ما الذي انفجر؟ قالوا: خلية صغيرة.
هذا خلية -كما قلنا- شيء تكهنات وتخرصات كيف انفجرت؟
طفرة، ما الذي طفرها؟ ما في، ولذلك ظنون وتخمينات، وكثير منها طبعا باطل، لكن أنت يا مسلم عندك العلم الحق أنت يا مسلم عندك العلم الحق.