الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
هو الله
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، تنزه عن الصاحبة والولد، وعن الشريك والند والشبيه، نفد حكمه في جميع العباد، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُسورة الأنعام:13.
وهو يُطعم ولا يُطعم، وهو القاهر فوق عباده، يعلم ما في البر والبحر، يتوفاكم بالليل والنهار، يرسل عليكم حفظة، ينجيكم من ظلمات البر والبحر، والله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، لا يلهيه شيء عن شيء، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأصوات، تأتي إليه الوفود المختلفة، والجموع المتابينة، فيقفون على صعيد عرفة ينادونه جميعاً، ويدعونه ويسألونه ويرجونه، ألسنتهم متباينة، وحاجاتهم متفاوتة، وأصواتهم مختلفة، فيسمع دعاءهم، ويعرف نداءهم، ويميز أصواتهم، ويقضي حاجاتهم، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي[رواه مسلم (2577)].
أفعال الله
أفعال الله ، وغاياتها ونهايتها وحكمتها من المسائل الإلهية العظيمة، وإذا تعلَّم العبد أفعال الله ومعانيها انكشف له من الربوبية والإلهية ما يحببه في ربه؛ فلا يرجو سواه، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوقن إلا بوعده، ولا يدعو إلا إياه، فهو الإله الحق.
أولاً: أفعاله خير كلها، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك.
ثانياً: أفعاله صادرة عن حكمته ومشيئته، منزهة عن العبث: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَنَسورة الدخان:38-39، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِسورة ص:27، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَسورة المؤمنون:115.
حرَّم ما حرم سبحانه لحكم عظيمة، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاًسورة الإسراء:32، وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاًسورة النساء:22،يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَسورة البقرة:185، وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْسورة النساء:27، وهو لا يفعل شيئاً بلا مصلحة وحكمة، بل أفعاله تدور مع الحكمة والمصلحة، والإحسان والرحمة والعدل.
ثالثاً: أفعاله قائمة على العدل والرحمة، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِسورة فصلت:46،وَمَا ظَلَمْنَاهُمْسورة هود:101، إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي[رواه البخاري (7554)].
أفعاله حكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍسورة الأعراف:156، فيقول بعض الناس: فلماذا خلق الله المجانين؟ وقدر الأمراض على الأطفال؟ ولماذا يوجد في العالم أصحاب عاهات؟ فنقول: كل ذلك لحكم يعلمها سبحانه، نعلم منها ما نعلم، ويخفى علينا ما يخفى، فلما خلق الله في العالم مجانين، ومن الرحمة أحياناً أن يكون ذلك فاقد العقل، وإلا لطغى وبغى، فيمتحنه يوم القيامة، وربما ذلك يكون فوزاً له، وأيضاً فإن العقلاء إذا رأوا المجنون عرفوا نعمة الله عليهم بالعقل، فهو يذكِّر الأغنياء بالفقير، ويذكر الأصحاء بالمريض، ويذكر السالمين بأصحاب العاهات، ويذكر العقلاء بالمجنانين، فكأنه يقول لهم، وقد خلق المرض والعاهة والجنون: انظروا في عبادي فاشكروا نعمتي عليكم، انظروا واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم.
وأحياناً يكون للشيء الذي ظاهره الألم فوائد ومنافع عظيمة، قال ابن القيم رحمه الله: "تأمل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الأطفال، وما لهم فيه من المنفعة، فإن الأطباء شهدوا منفعة ذلك وحكمته، وحتى هذا الدمع الذي يسيل تقوى به أدمغتهم وتصح، ويوسع مجاري النفس بالبكاء، ويفتح العروق ويصلبها، ويقوي الأعصاب"، وهكذا يكثر البكاء من الرضيع، وأيضاً اعتبار واتعاظ، وتفكر في دار الآخرة، وقد يرجع بعض الناس عن غي من رؤية طفل يبكي.
رابعاً: أفعاله تعالى لا يسأل عنها، بل هم يسألون عن أفعالهم.
خامساً: متعلقة بمشيئته، وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءسورة البقرة:105، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاءسورة آل عمران:26،وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءسورة البقرة:212، وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءسورة البقرة:213، وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءسورة البقرة:247، يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءسورة آل عمران:129، وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءسورة آل عمران:13، وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءسورة التوبة:15، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءسورة يوسف:56، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءسورة القصص:68، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ سورة الشورى:49، فسبحانه لا راد لحكمه، وسبحانه لا معقب لقضائه، وسبحانه يفعل ما يشاء، ومشيئته نافذة.
سادساً: أفعاله لا تماثل أفعال المخلوقين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌسورة الشورى:11، هل يستطيع الواحد منا أن يحاسب ألف عامل، أو مائة، أو عشراً في دقيقة واحدة، أو لحظة واحدة، لكن الله يقدر على أن يحاسب خلقه كلهم في لحظة واحدة: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍسورة لقمان:28، وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة البقرة:202.
سابعاً: يجب علينا أن نرضى بأفعال الله مهما كانت، لا نعترض، ولا يجوز لنا أن نرى فيها شيئاً من الخلل أو العبث، بل نرضى بها ونسلم، أمرضه أفقره قبضه، وهكذا، أضل وأزاغ وأهلك، أعطى وسع، نحن نرضى بأفعاله، لكن المفعولات المخلوقات؛ لأن الله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَسورة الصافات:96، وكل ما يقع في العالم من مفعولات ناتجة عن أفعاله، فالمطر ناتج عن فعله، ينزل الغيث، وينزل عذاباً، يقضي بالمرض، ويقضي بالموت، يقدر الطاعة، ويقدر المعصية، فحتى هذه المعاصي التي تقع في العالم لا تقع إلا بعلمه وقضائه، فنح نرضى بفعله تعالى، وأما المفولات وما نشأ عن أفعاله تعالى فننظر فيها، فإن كانت طيبة، وافقت الشرع، وافقت ما يحبه؛ فحن نحبها، كهداية المهتد، والمطر الذي ينزل من السماء، والرحمة التي ينشرها، وهكذا.
وأما المفعولات التي يبغضها تعالى ولكن قدرها لحكمة، فإن كان لا يحبها كالضلال الذي حصل، والزيغ الذي صار، والمرض الذي وقع، والفقر الذي أصاب، فنحن لا نحب المرض والفقر، والفاحشة والمعصية التي وقعت، ومن عرف هذا تبين له الأمر، وانكشفت عنه الشبهة، وزالت عنه الغمة، فهو لا يعترض على فعله تعالى، بل يرضى بجميع أفعاله لكن المفعولات منها ما يرضاه المؤمن، ومنها ما يكرهه.
ثامناً: أفعاله تعالى مبنية على قدَرِه، فلا يقع في هذا الكون حادث صغير ولا كبير مما يفرح له الناس أو يحزنون، أو يجتمعون أو يتفرقون إلا وقد قدره تعالى وكتبه، بقدر سابق سطره في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، مطابقاً لعلمه السابق، الذي هو صفة من صفاته، والله تعالى هو الأول ليس قبله شيء، وكان تعالى عليماً، كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان الله ولم يكن شيء معه، وكان عليماً حكيماً، ثم خلق اللوح والقلم، وأمر القلم أن يكتب في اللوح ما هو كائن، وهذه الكتابة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فكل ما يقع الآن في العالم، وكل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء، هذه الأشياء مكتوبة عنده، مطابقة لعلمه الأزلي: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍسورة القمر:49.
ومن أركان الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَاسورة الحديد:22 من قبل أن نخلقها، من قبل أن نوجدها، هي مكتوبة عنده سبحانه، وإذا آمن المؤمن بهذا سهل عليه الرضا بالقضاء، فلو مات له ولد، لو فاتته صفقة، لو خسر مالاً يقول: مكتوب منذ زمن قديم، مكتوب قبل أن أُخلق وتخلق السماوات والأرض، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط[رواه الترمذي (2396)].
وهذه الأشياء التي تقع للمؤمن خير دائماً، فقد قال النبي ﷺ: عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً لهرواه مسلم [رواه مسلم (2999)]، العمر قليل، والدنيا فانية، ويجب على المسلم أن يسعى في مرضاة الرب.
عباد الله: تاسعاً: أفعاله كذلك تعالى متصفة بالحسن، فهو يفعل ما يشاء لحِكم يريدها سبحانه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، ولَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُسورة النمل:65،لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌسورة البقرة:255، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَاسورة البقرة:255، وهو الحي القيوم، قائم يحفظ كل شيء، ولو قام إنسان بقارورتين وزجاجتين على رجليه بلا نوم لربما أصابه نعاس فاصطفقت اليدان وانكسرت القارورتان في لحظة، ولكن ربنا تعالى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فلولا رحمته وقدرته لسقطت السماء على الأرض، فأبيد من عليها: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًاسورة فاطر:41، وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِسورة الروم:25، فمنذ خلقهما لم تسقط السماء على الأرض، ولا غارت الأرض فذهبت، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِسورة غافر:57، فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة يوسف:64.
الله أضحك وأبكى
وهو سبحانه يفعل في أعدائه ما يفعله، يمكر بهم، ويستدرجهم، والله يستهزئ بالمنافقين، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْسورة الصف:5، فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاءسورة الأنعام:42، إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًاسورة آل عمران:178، أَخَذْنَاهُم بَغْتَةًسورة الأنعام:44، فهو تعالى يملي يُمهل، وهو يأخذ ويبطش، وهو يعطيهم زينة في الحياة الدنيا، فتنة لهم، وبعد ذلك إذا ظنوا أنهم قادرون عليها أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِسورة يونس:24، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَسورة القصص:82، وهو سبحانه أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع، ورفع ووضع.
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وأن تتوب علينا يا تواب يا كريم، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انشر رحمتك علينا، اللهم إنا نسألك أن تكتبنا في عتقائك من النار، وأن تدخلنا الجنة مع الأبرار يا غفار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه ووالاه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيكم محمد، وعلى آله وذريته، وأزواجه وخلفائه، اللهم ارض عنهم يا رب العالمين.
تأمل في عجائب أفعال الله
عباد الله: لله في أفعاله عجائب من تأملها زاد إيمانه، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويعطي عطاءً يدهش، ويمنع ويمسك عن أناس فلا يجدون شيئاً، عطاؤه لحكمه، ومنعه لحكمه، يقبض ويبسط، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، أرغم أنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزق شمل الجبابرة، ودمر سد مأرب، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطير أبابيل، وعذب امرأة في هرة، وغفر لبغي سقت كلباً، انظر بعين الاختيار إلى آدم حظي بسجود ملائكته، إلى ابنه ماذا فعل من الجريمة، وكتب عليه من آثام الخلق الذين يقتلون إلى يوم الدين، وانظر إلى نوح نجاه من الغرق بسفينته، وإلى إبراهيم فكساه حلة خلته، وإلى إسماعيل أعان الخليل في بناء كعبته، وافتداه بذبح عظيم من ضجعته، وإلى لوط نجاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب أعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يوسف أراه البرهان في همته، وإلى موسى كلمه، وإلى داود ألان له الحديد على حدته، وإلى سليمان سخر له الريح ينتقل بها في مملكته، وإلى أيوب فيا طوبى لركضته: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌسورة ص:42، وإلى يونس فسمع نداءه في ظلمته، وإلى زكريا فقرن سؤاله ببشارته، بشره بيحيى، وإلى عيسى فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى محمد ﷺ فخصه ليلة المعراج بالقرب من حضرته، والوصول إلى سدرته، وأعرض عن إبليس فأخزاه ببعده ولعنته، وعن قابيل فقلب قلبه إلى معصيته، وعن فرعون الذي ادعى الربوبية على جرأته، وعن قارون فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِسورة القصص:79، وعن أبي جهل فشقي مع سعادة ابنه عكرمة وابنته، وهكذا جرى تقديره سبحانه فلا اعتراض على قسمته، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِسورة الرعد:13.
الله هو الرحيم الكريم
الله من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، الباب مفتوح، ولكن من يلج، والمجال مفسوح، ولكن من الذي يعمل، والحبل ممدود، ولكن من الذي يستمسك به، والخير مبذول، ولكن من الذي يتعرض له، فأين الباحثون عن الأرباح، من أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومن ترك شيئاً من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد.
أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم العبد عليها واستغفر غفرها له، فسبحانه من خالق عظيم جواد كريم، الكرم من صفاته، والجود من سماته، والعطاء من أجل هباته، فمن أعظم منه جوداً، الخلائق له عاصون، وهو لهم مراقب، يكلؤهم في مضاجعهم، ويحفظهم بالليل والنهار كأنه لم يعصوه، ويتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، يجود بالفضل على العاصي، ويتفضل على المسيء، كم في الأرض من كافر ومذنب والله يعطيهم.
من الذي سأله فلم يعطه؟ من الذي أناخ ببابه فطرده؟ من الذي دعاه فلم يجبه؟ وهو الجواد والكريم وصاحب الفضل سبحانه، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًاسورة الإسراء:44.
الله هو العزيز الحكيم
يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِسورة الرعد:39، فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىسورة الأنعام:95، يَهْدِي مَن يَشَاءسورة البقرة:142، ويضل من يشاء، تأمل كيف قرَّب نوحاً وأبعد ابنه، وهدى إبراهيم وأضل أباه، واجتبى محمداً ﷺ وقلا عمه، وحفظ نوحاً ولوطاً، وأضل زوجتيهما، ذلكم الله ربكم، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَسورة الأنعام:103، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍسورة لقمان:10-11، يحيي الأرض بعد موتها، يصرِّف الرياح، يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواسورة الشورى:28، ينشر رحمته، ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر وينادي، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِسورة الحـج:61،يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًاسورة الأعراف:54.
وهكذا فإنه ينصر من يشاء، ويبتلي من يشاء، وكل هذا لحكمة، وقد ينهزم المسلمون فيكون في ذلك دواء للعجب الذي أصابهم، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَسورة التوبة:25، ثم ينزل نصره بعد ذلك وقد رجعوا إليه، وتابوا وأنابوا واستحقوا النصر، فسبحانه يداوي خلقه، يداوي خلقه بالابتلاء، فهذا طغى فيفقره؛ فيرجع، وهذا بغى فيمرضه؛ فيؤوب.
يداوي عباده بأقداره وأفعاله، له الحكمة، ومن تأمل هذا الباب -يا عباد الله- وجد شيئاً لا يوصف، ومن غاص في هذا البحر لقي من الدرر العجب، ونحن مطالبون أن نتفكر في عظمته، وفي أفعاله ، وأن ننظر فيما يفعل المليك لنزداد إيماناً، وهذا من أبواب التوحيد العظيمة، أن نوحده في أسمائه وصفاته وأفعاله.
أفعال الله، إنه الباب العظيم الذي من درسه وتعلمه ثبت على الدين، ووجد ما يزيد الإيمان ويثبته على الصراط المستقيم.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة.
نسألك الإخلاص في الغضب والرضا، وكلمة الحق، اللهم إنا نسألك أن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ارزقنا شكر نعمتك، نعوذ بك من تحولها، ومن زوال عافيتك، يا أكرم الأكرمين.
أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، واقمع من أراد الفساد في الأرض يا رب السماوات والأرضين.
اللهم من أراد أن يعبث بأمن بلدنا وبلاد المسلمين فامكر به، ورده خاسئاً وهو حسير، اللهم إنا نسألك أن تنشر رحمتك علينا، اللهم إنا نسألك بحولك وقوتك أن تهزم الكفرة المشركين، واليهود والصليبيين، وأعداء الدين، وأن تكف بأسهم عن المسلمين، اللهم ردهم صاغرين، اللهم اجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين.
اللهم إنا نسألك أن تصلح نياتنا وذرياتنا، وأن تجعلنا للمتقين إماماً، اللهم هب لنا من رحمتك، وهيئ لنا رشداً إنك أنت السميع العليم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.