الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ :: 31 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

11- الأربعون في عظمة رب العالمين - شرح الأحاديث 24،23،22


عناصر المادة
نص الحديث الثاني والعشرين
شرح الحديث الثاني والعشرين
نص الحديث الثالث والعشرين
شرح الحديث الثالث والعشرين
نص الحديث الرابع والعشرين
شرح الحديث الرابع والعشرين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

نص الحديث الثاني والعشرين

00:00:16

فنحن الآن في الحديث الثاني والعشرين من أحاديث الأربعون في عظمة رب العالمين، عن أبي ذر أن النبي ﷺ قال له حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى:  وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ  [يــس: 38] [رواه البخاري: 3199، مسلم: 159].

وفي رواية لمسلم: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة؛ فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي اصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها، فقال رسول الله ﷺ:  أتدرون متى ذاكم ذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا؟  [رواه مسلم: 159].

شرح الحديث الثاني والعشرين

00:02:31

الكون كله خاضع لعظمة الله، وشاهد على وحدانيته -سبحانه- وقدرته ، وعلى استحقاقه للعبادة، لا شريك له: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11]، فهذه الشمس بحجمها وحرارتها المحرقة خاضعة لله، ذليلة منقادة، خاضعة لله ، وتسجد تحت العرش كل ليلة، ولا تطلع من المشرق حتى تستأذن ربها كل يوم، وهي في حال سجودها، فيأذن لها: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ  [يــس: 38]، مستقرها المكاني تحت العرش، وقد ثبت في الحديث عن أبي ذر قال: "سألت النبي ﷺ عن قول الله -تعالى-: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا  [يــس: 38] قال: مستقرها تحت العرش" [رواه البخاري: 4803، ومسلم: 159].

والشمس في الحقيقة أينما كانت فهي تحت العرش، وجميع المخلوقات كذلك؛ لأن العرش سقف المخلوقات، والعرش قبة لها قوائم تحمله الملائكة، وهو فوق العالم، يعني فوق السماوات والأرض، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك، والفلك مدار النجوم والكواكب، وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون من العرش؛ لأنها من المشرق، ثم تصبح في وسط السماء وسط السماء أقرب ما تكون إلى العرش، ثم تنزل مرة أخرى إلى المغرب فتكون أبعد ما تكون من العرش في وقت نصف الليل، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع؛ كما دل عليه الحديث، [ابن كثير، في التفسير: 6/ 512].

وقيل في ذلك أيضًا: إلى مستقر لها إلى انتهاء سيرها عند انقطاع الدنيا وقيام الساعة فيبطل سيرها وتسكن حركتها، وتكور؛ وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني؛ كما قال تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 5]، ما هو الأجل المسمى؟ قيام الساعة، فالجريان مستمر كل يجري، لكن نهاية الجريان عند قيام الساعة، فتكور الشمس وتلف ويذهب ضوؤها والقمر ويلقيان في النار.

طبعا هذا خزي لعابديهما، وطبعا جاء في الحديث: أن الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس الخلائق  الحديث معروف.

فالشمس لها أحوال، ولها وظائف، وفي وظائف في الدنيا، وفي وظائف للشمس بعد قيام الساعة.

ومن تأمل في عظمة هذه الشمس وما فيها من إتقان صانعها وخالقها وحكمته فإنه يسبحه ، فهذه الشمس آية ساطعة دالة على قدرته تعالى كسطوعها، فيقولون: الآن حجمها مثل حجم الأرض مليون وثلاثمائة ألف مرة، وأنها تبعد عن أرض مائة وستين وخمسين مليون كيلو متر، وأن ضوء الشمس يقطع المسافة من الشمس إلينا في ثمانية دقائق، وأن درجة حرارة الشمس في أجزائها السطحية خمسة آلاف وستمائة درجة مئوية، وأما في باطنها فيقدرون: درجات الحرارة بخمسة عشر مليون درجة مئوية، وهذه كافية لتبخير أي شيء على وجه الأرض في لحظات، وسبحان الله! هي بهذه الحرارة العظيمة والاشتعال، ويقولون في داخلها انفجارات مثل الانفجارات الهيدروجينية التي تبقيها مشتعلة باستمرار، وهي مع ذلك لا تنفجر ولا تبرد، سبحان الله! لا تنفجر ولا تنطفئ، الاشتعال لو انفجرت خلاص تبخرت الناس على هذه الأرض، ولو انطفئت لغرقت الأرض في ظلام دامس، وهبطت درجة الحرارة فيها كما يقدرون إلى مائتين وسبعين درجة تحت الصفر، ولتحولت الأرض إلى قبر جليدي، وانعدام الدفء والنور من الشمس يؤدي إلى قتل كل مظاهر الحياة على سطح الأرض، فمن الذي دبرها؟ من الذي دبر الشمس والقمر والنجوم لا تنفلت ولا تصطدم، والشمس لا تنفجر ولا تنطفئ؟ وبهذا الحساب الدقيق، وانعكاس ضوء الشمس على سطح القمر يولد النور والضوء بحرارة، يعني الله قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا  [يونس: 5].

ما الفرق بين الضياء والنور؟

الضياء فيه حرارة، والنور بارد، ألا ترى أنه وصف توراة موسى بأنها ضياء، ووصف القرآن بأنه نور؛ لأن توراة موسى فيها  فيها أشياء شاقة على بني إسرائيل، ثقيلة شاقة، القرآن فيه تخفيف من الله، ورحمة وتيسير، فكان مناسبًا أن يصف التوراة بأنها ضياء، ويصف القرآن بأنه نور، وسبحان الذي أجراها بهذا الحساب الدقيق لا تتقدم ولا تتأخر، كل يوم حساب دقيق: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا  [يــس: 38].

وطبعا جريانها فيه تحديد العبادات، فالشمس هي سبب طلوع الفجر ثم تطلع هي فيخرج وقت صلاة الفجر، فإذا غابت دخل وقت المغرب، فإذا غاب بقية ضوئها الشفق دخل وقت العشاء، فإذا استوت في كبد السماء فزالت عنه دخل وقت الظهر، وهكذا في ظلها ظل كل شيء مثله، ويدخل العصر، ومثليه يعني الاصفرار ودخول وقت الضرورة، وكذلك الوقت الذي لا يجوز الصلاة فيه اختيارا، وإنما هو وقت صلاة المنافقين إذا اصفرت الشمس.

على أية حال: هذه الشمس لها علاقة وثيقة بأوقات عباداتنا، يوميًّا.

أما القمر له علاقة بأوقات عباداتنا شهريًّا في رمضان وخروجه، وذي الحجة، وهكذا..

فهناك عبادات مرتبطة بالأشهر، وعبادات مرتبطة بالأيام، والشمس والقمر: لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ  [يونس: 5].

سل الشمس عن حالها، قال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ  [يــس: 38-40].

سل الشمس من رفعها نارًا ونصبها منارًا، وآتاها معراجها
وهداها أدراجها، وأحلها أبراجها ونقّل في سماء الدنيا سراجها

[أحمد شوقي].

قال تعالى:  وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ  [فصلت: 37].

فضلَّ في تعظيم الكواكب فئام من البشر؛ وعبدوها من دون الله.

وبعض البشر يعبدون الأشياء لمنفعتها فيعبدون الشمس والقمر.

وبعضهم يعبدون الأشياء لضخامتها وكبرها أو خوفًا منها، لكن الله يقول: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ  [فصلت: 37].

وقد عرف الهدهد هذه الحقيقة، فقال:  وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ  [النمل: 24- 25].

هذا الحديث حديث سجود الشمس تحت العرش، والاستئذان اليوم، وأنها تطلع في يوم من الأيام تطلع من مغربها تحبس ولا يؤذن لها فتطلع من مغربها؛ أنكره وجحده بعض الذين يحكمون عقولهم وأهواءهم في النصوص، يسمون: مدرسة عقلانية، لكن والله ما للعقل فيها نصيب.

بل هذه عقول عفنة، مهترئة، ضالة، منحرفة، يقولون: نرد الحديث؛ لأنه يخالف العقل، وهو لا يخالف إلا عقولهم، الحديث في الصحيحين.

ترد ماذا؟ ترد جبلا؟

وهؤلاء أتباع هذه المدرسة المنحرفة الذين يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة، فإذا اصطدم النص برأيه جحد النص، وآراء البشر تختلف، ولذلك ممكن يقول: رأي هذا يوافق النص، ورأي هذا يخالف النص، ورأي هذا يقول: أنا أتفق معه جزئيًّا، وهذا لا أتفق معه أبدًا، ومن هم! من هم! سبحان الله.

وهؤلاء يمتد عدوانهم إلى القرآن، يعني لا يقتصر عدوانهم على السنة النبوية الصحيحة، وإنكار أحاديث الصحيحين، بل يمتد إلى القرآن، وإذا جاءوا وقالوا يعني يدخل في العقل أن الشمس تسجد؟ لو سجدت توقفت عن الحركة، وهي لا تتوقف.

شف الغباء يعني عنده ما في سجود إلا بتوقف، أنت إذا كنت في الطائرة أنت تسجد، وأنت في حال الحركة، سبحان الله مساكين.

طبعا بعضهم ما هم مساكين، بعضهم من المجرمين حقيقة يتعمدون ذلك، يتعمدون التشكيك في النصوص، ورد النصوص، وضرب النصوص ببعضها، يعني هذا نوع من العدوان على الدين، يعني نوع من المعركة ضد الإسلام، فلماذا قلنا إن شرهم يتعدى إلى القرآن؟

لأن القرآن أثبت سجود الشمس، ماذا تقول في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ  [الحـج: 18] فسجود الشمس كل ليلة لا يعيق دورانها في سيرها، بل هي تسبح في الفلك، وتسجد لله تحت العرش، وهي في حال سيرها كما أخبر الله -تعالى- ورسوله ﷺ، وأن هذا السجود يختص بها لا نعلم كيفيته: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ  [الأنبياء: 33].

والمخلوقات كلها تحت العرش، فكونها تسجد تحت العرش لا يقتضي مفارقتها لمدارها ولا فلكها، ولا توقفها عن سيرها، فهذه الشمس تجري وتسجد وهي تجري، وهذا الرجل يصلي على الدابة وهي تمشي به، فيسجد وهي تمشي.

ورد بعض الناس وجحدهم عندما يقولون بآرائهم هم: أين سجودها؟ ومتى؟ وكيف؟ وما رأينا؟ وما قسنا، والأجهزة والآلات؟ سبحان الله تسجد كل ليلة تحت العرش كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ وهي طالعة كما يقول شيخ الإسلام في "بيان تلبيس الجهمية" يقول: "تسجد وهي طالعة على جانب من الأرض مع سيرها في فلكها، وهي دائمة تحت العرش في الليل والنهار، بل وكل شيء من المخلوقات تحت العرش، لكنها في وقت من سيرها وفي مكان معين يصلح سجودها الذي لا يدركه الخلق، ولكن علم بالوحي وهو سجود يناسبها على ظاهر النص".

هذا كلام أهل الإيمان والعلم آمَنَّا ‌بِهِ ‌كُلٌّ ‌مِنْ ‌عِنْدِ ‌رَبِّنَا [آل عمران: 7].

وقال الخطابي -رحمه الله-: "فليس لنا إلا التصديق والتسليم وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في سيرها، والتصرف لما سخرت له، سبحان الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين"

وهؤلاء الذين يسمون أنفسهم تارة أصحاب المدرسة التنويرية وأصحاب المدرسة العقلانية، والله ما عندهم نور ولا عقل، لا عندهم عقل صحيح، ولا عندهم نور، بل كما قال الله: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ  [يونس: 39].

أما الشمس إذا طلعت من مغربها فهي من أشراط الساعة الكبرى؛ كما قال الله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158].

فإذا طلعت الشمس من مغربها فأنشأ الكفار إيمانا لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنًا قبل ذلك فهو في خير عظيم، وإن كان مخلطًا فأحدث توبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل منه، وعليها يحمل قوله تعالى:  أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] إذا كان مؤمنًا من قبل وكسب في إيمانه خيرًا وإلا لا يقبل منه أن يؤمن، ولا أن يتوب، فيكسب في إيمانه خيرا بعد طلوع الشمس من مغربها، خلاص صار الإيمان اضطراريا؛ لأنه خلاص في شيء هائل خلاص شيء يعني يضطر الناس اضطرارا إلى الإيمان ما في اختيار؛ لهول ما يحدث، من الهول الذي يرونه خلاص؛ لأن هذه طلوع الشمس من مغربها بداية انفراط العالم العلوي خلاص التغيرات التي تحدث بعد ذلكن وأشياء متلاحقة بعدين خلاص، ولذلك قال العلماء: "الضابط أن كل بر محدث يكون السبب في إحداثه رؤية الآية، -يعني مثلا رؤية عذاب- ولم يسبق من صاحبه مثله، لا ينفع سواء كان من الأصول أو الفروع، وكل بر ليس كذلك لكون صاحبه كان عاملا به قبل رؤية الآية ينفع" [السفاريني، لوامع الأنوار البهية: 2/136].

أما ما جاء في حديث: ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكُفي الناس العمل  فقد رواه الإمام أحمد، وحسّنه الحافظ ابن كثير في تفسيره، وجوّده في "البداية والنهاية"، وحسّن إسناده محققو المسند [رواه أحمد: 1671، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].

قال الإمام ابن مفلح -رحمه الله-: ليس المراد بهذا الخبر ترك ما كان يعمله الناس من الفرائض، وكذا من النوافل قبل طلوع الشمس من مغربها، فيجب الإتيان بما كان يعمله من الفرائض قبل ذلك، وينفعه ما يأتي به من الإيمان الذي كان يأتي به قبل ذلك، فقوله إذًا كفي الناس العمل، يعني عملا كانوا يفعلونه" [الآداب الشرعية: 1/ 116، لابن مفلح].

وقد جاءت بعض الآثار عن السلف تفيد أن الصحف تطوى وتؤمر، والأجساد تشهد، جاء هذا في حديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إذا خرج أول الآيات طرحت الأقلام وحبس الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال" كما في تفسير الطبري، وكذلك رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق الشعبي عن عائشة، لكن الشعبي -رحمه الله- لم يسمع من عائشة في قول عامة المحدثين كابن معين وابن المديني، وأبي حاتم والدارقطني والحاكم والعلائي، وغيرهم، وقال أبو داود: سمع، وقول الجمهور أرجح، ففيه علة.

فإذن، سيستمر الناس في أعمالهم الصالحة الذي كان عنده عمل صالح قبل طلوع الشمس يستمر عليه بعد طلوع الشمس، والذي ما كان عنده قبل ذلك ما ينفعه أن بعد طلوع الشمس يحدث أعمالا صالحة أو يتوب أو يؤمن.

هذا بالنسبة إذن لحديث سجود الشمس، وهو من الأحاديث الدالة على عظمة رب العالمين خالق هذه الشمس، وكيف أنها تخضع له، وكيف أنها تسجد تحت عرشه، وكيف أنها تستأذن، وكيف يحبسها الله في ذلك اليوم إذا أراد أن يحبسها حتى تطلع من مغربها، فيصيب الناس هول عظيم، تغشاهم الأهوال لما سيأتي بعد ذلك، ففي علامات لتغير العالم السفلي، وفي علامات لتغير العالم العلوي؛ الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، متقاربة، ففي أشياء بداية تغير العالم السفلي الذي هو التغيرات الهائلة، يعني أما أول تغير في العالم إذا صار طلوع الشمس من مغربها، خلاص يبدأ تغير العالم العلوي، تبدأ الاضطرابات الكونية التي تقوم بعدها الساعة، والناس يدخلون بعد ذلك في أمر عظيم، أمر مريج، خلاص لا طاقة لعقولهم في تحمله.

نص الحديث الثالث والعشرين

00:24:40

قال: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة  الحديث رواه البيهقي في الأسماء والصفات، وصححه ابن القيم، والألباني في الصحيحة، وقد روي موقوفا على مجاهد بإسناد صححه ابن حجر في الفتح، أما الذهبي -رحمه الله- فقد استنكره، والحديث فيه كلام، فيه نقاشات في موضوع صحته، لكن هذا ملخص لما قاله بعض أهل العلم فيه.

شرح الحديث الثالث والعشرين

00:25:30

الحديث فيه دلالة واضحة على عظم عرش الرحمن، وأنه أعظم المخلوقات، وهذا بقطع النظر عن هذا الحديث، يعني لو من النصوص الأخرى فقطعا العرش أكبر المخلوقات، أكبر من السماوات وأكبر من الأرض، وأكبر من الكرسي، والعرش في اللغة: سرير الملك، السرير الذي يجلس عليه في الملك في اللغة، يقال له: العرش، كما قال تعالى عن ملكة سبأ: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ  [النمل: 23]. وقال عن يوسف لما تولى ملك مصر: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ  [يوسف: 100]، وهذا كما في "تهذيب اللغة للأزهري" وغيره.

وعرش الرحمن أكبر المخلوقات، كما قال أهل العلم، كما ذكر ابن تيمية -رحمه الله- في كتبه، وابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" عرش الرحمن سقف المخلوقات، وأكبر المخلوقات، ويحيط بالمخلوقات، وهو أعلاها، ومقبب كالقبة على العالم، وما تحته بالنسبة إليه، ولا شيء أصغر من حلقة في صحراء.

وقد قال الله -تعالى- عن الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255] فكيف بالعرش والكرسي موضع القدمين؟ كما ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما-، رواه ابن خزيمة عنه في كتاب التوحيد، والحاكم، وصححه الألباني موقوفًا في "مختصر العلو"، وإذا كان الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في صحراء، فماذا تساوي السماوات والأرض بالنسبة للعرش؟ وماذا تساوي الأرض التي نحن عليها بالنسبة للعرش؟ وماذا نساوي نحن بالنسبة للعرش؟ وماذا يكون الكل بالنسبة لله -تعالى-؟

فعلام يتمردون، وعلام يعاندون، علام يحاربون الله، ومن يقوم له والعرش أثقل المخلوقات وزنا أيضا، كما قال النبي ﷺ لزوجه جويرية: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته  [رواه مسلم: 2726].

لاحظ في أشياء لها حصر: عدد خلقه، وزنة عرشه ، وفي أشياء لا حصر لها: رضا نفسه، ومداد كلماته .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: المقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن، وغاية ما يمكن من المعدود، يعني أكبر معدود في الدنيا، وأكبر وزن في الدنيا العرش، قال: وغاية ما يمكن من القول والمحبوب؛ لأنه قال عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، نهاية ما يمكن من الوزن الذي هو زنة العرش، وغاية ما يمكن من المعدود الذي هو عدد خلقه، وغاية ما يمكن من القول والمحبوب رضا نفسه ومداد كلماته، "بيان تلبيس الجهمية".

وقال في "مجموع الرسائل والمسائل": وزنة عرشه يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان"

وقد امتدح الله نفسه في كتابه: أنه صاحب العرش، فقال: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر: 15]، وقال: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116]، وقال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  [النمل: 26].

وفي دعاء الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم  [رواه البخاري: 6346، ومسلم: 2730].

 وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج: 14-16].

إذا قلت: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ، تكون المجيدُ صفة لله، الغفورُ، الودودُ، المجيدُ.

طيب فإذن، القراءة: وهو الغفور الودود ذو العرش المجيدُ، هذه من أسماء الله.

فقوله: ذُو الْعَرْشِ  صاحب العرش المعظم العالي على جميع الخلائق خص الله العرش بالذكر لعظمته، يعني ذكر كلها أسماء لله، قال: ذُو الْعَرْشِ وهو الغفور، الودود، ذو العرش، المجيد، فمعناها أن العرش هذا شيء عظيم، حتى أنه يضيفه إلى نفسه ذُو الْعَرْشِ ، وأخص المخلوقات بالقرب من الرب -تعالى- العرش. كما في "تفسير الطبري" و"ابن كثير" و"السعدي".

وفي قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ قراءتان: قراءة الضم، هذه تكون من أسماء الله، والكسر صفة للعرش، فاسم الله المجيد المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها، وعدم إحصاء الخلق لها، وسعة أفعاله، وكثرة خيره ودوامه؛ هذا المجيد.

وإذا قلنا: ذو العرشِ المجيدِ، على قراءة الكسر، فعرشه مجيد ذو مجد، وقد وصف الله عرشه.

فإذن، ذو العرش المجيدِ، المجيد: العظيم، القوي في نوعه، العالي، لعلوه وشرفه، وصفه للعرش على هذه القراءة بالمجيد.

هل ورد وصف آخر للعرش في القرآن؟

 رَبُّ ‌الْعَرْشِ ‌الْكَرِيمِ  [المؤمنون: 116]، نظير المجيد.

وأيضا العظيم: رَبُّ ‌الْعَرْشِ ‌الْعَظِيمِ [التوبة: 129]؛ فإذن، رب العرش العظيم، ورب العرش الكريم.

وعلى قراءة ذو العرش المجيدِ، وهو أحق المخلوقات أن يوصف بذلك لسعته وحسنه وجماله وبهائه، وأنه أوسع المخلوقات، وأثقلها وأعلاها وأجملها وأجمعها، وبهاء منظرها وعلوه، ولا يقدر عظمته إلا الله، وأكبرها، فمجده مستفاد من مجد خالقه، والسماوات السبع، والأراضون السبع، بالنسبة للكرسي حلقة في فلاة، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، فكيف لا يكون العرش مجيدًا؟ فهو عظيم كريم مجيد، كما في "التبيان في أقسام القرآن"، لابن القيم.

والعرش أول المخلوقات، كل هذا في عظمة الله الآن؛ لأن كل هذه العظمة -عظمة العرش- من أين؟ من عظمة الله.

أصلا أنت تعظم ربك بما تسمعه من عظمة مخلوقاته، فإنه لا يخلُق بضم اللام من الخلق، ما نقول لا يخلِق؛ لأنه يخلِق، يعني: يبلى، أيوه لا يخلُق.

العرش أول المخلوقات؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7].

فالعرش كان على الماء عند ابتداء الخلق.

وفي الحديث: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض  [رواه البخاري: 3191].

ومن فضل العرش: أن الله استوى عليه، استواء يليق بجلاله وعظمته، ليس كجلوس المخلوق على الكرسي، لكنه استواء يليق بالرب ، ولا تدرك عقولنا المحدودة هذا الاستواء، ولا نستطيع أن نتخيل، أصلا عقلك لا يدرك ذلك، ولا يصح ولا يجوز لك أن تدخل في هذا؛ لأنه شيء لا يمكن تخيله، والله قال عن نفسه: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طـه: 110]، فكيف ستتخيل استواء الله على عرشه؟

ما يمكن تتخيلها أصلا، ولا أن تدرك الكيفية نهائيًّا، ولذلك اقطع الأمل من أولها، اقطع الأمل عن إدراك كيفية الاستواء، لكنك تعرف معناه في اللغة: استوى: ارتفع، علا، خلاص هذا معروف في اللغة، ارتفع على العرش علا على العرش، استوى على العرش.

خلاص نعرفها في اللغة ما هي، ونثبتها لله كما هي، لكن الكيفية ما ندركها، لا يعلمها إلا الله.

وقول بعضهم في عبارة: استوى بلا كيف، خطأ؛ بلا كيف معلوم لنا، كيف معلوم له.

فإذن، لا بد أن تفسر، وما تبقى مجملة استوى بلا كيف معلوم لنا، أي لا كيف معلوم لنا لا في كيف، لكن ما نعرفه مثل الصفات الأخرى كوجهه ويده وأصابعه -سبحانه- نثبتها حقيقة لله، سمع حقيقي، بصر حقيقي، أصابع حقيقية، قبضة حقيقية، يد حقيقية، قدم حقيقية، وجه حقيقي، لكن كيف نتخيل لا يمكن، لا يمكن والرحمن على العرش استوى، لما سئل الإمام مالك -رحمه الله- عنها قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، قال ابن القيم -رحمه الله-: "الأدلة السمعية المحكمة على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل". "إعلام الموقعين".

أدلة علو الله على خلقه، وكتاب الذهبي "العلو للعلي الغفار" فيه من الألف هذه ما فيه.

والعرش والكرسي حقيقيان، وتفسيره بالملك والسلطان تحريف؛ لأن بعضهم يرفضون إثبات العرش الحقيقي، ويقولون: كناية عن ملكه، كناية عن سلطانه، له ملك وسلطان من غير عرش، العرش عرش حقيقي، فهو مخلوق عظيم حقيقي موجود، قد استوى عليه رب العالمين، لا يشابه استواء المخلوقين.

نص الحديث الرابع والعشرين

00:38:57

 لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي  [رواه البخاري: 3194، ومسلم: 2751].

وفي رواية: إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش  [رواه البخاري: 7554].

شرح الحديث الرابع والعشرين

00:39:19

هذا الحديث يتضمن سعة رحمة الله، ويدل على عظمة الله، وكثرة فضله في حلمه قبل انتقامه، وعفوه قبل عقوبته، وذكر الكتاب تأكيد بالغ في معناه؛ لأن ما زاد تأكيده يثبت في كتاب، يعني ما دلالة إثبات الله لهذا في الكتاب، التأكيد عليه وإلا الله حفيظ لا ينسى شيئا كتب وإلا ما كتب، الله لا ينسى شيئا، لكن لما يكتبه دليل على مكانة هذا، وقدر هذا، وأهمية هذا، وأنه مؤكد عنده، ولذلك كتبه وإلا هو غني عن الكتابة سبحانه، يحفظ، حفيظ بلا كتابة، فالله كتب وأوجب على نفسه في كتاب شرفه وجعله عنده على العرش، لم يول عليه ملكًا، ولا نبيًّا مرسلاً، ولم يرض في مكان خزنه إلا أن جعله فوق عرشه، كتب هذا عنده في كتاب، وغضبه لم تكن لتقوم له السماوات والأرض من الذي يقاوم غضب الرب، ورحمته غلبت غضبه، فدفع العظيم بالعظيم كما قال ابن هبيرة في "الإفصاح".

فالله كتب عنده في كتاب فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي أو غلبت غضبي، قبل أن يخلق الخلق، لما قدر خلقهم وفرغ من التقدير كتب، غلبت سبقت تدل على ماذا؟ كثرة الرحمة، سعة الرحمة، عظم الرحمة. كما في "شرح النووي على مسلم" قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها" انتهى.

فالرحمة والغضب كلاهما من صفات الله، لكن الرحمة أوسع وأشمل وأعظم؛ وكلاهما عظيم، وكلاهما صفة لله، الغضب صفة لله، والرحمة صفة لله، لكن صفة الرحمة أوسع أعم، سبحان الله، وهذا كمال قال تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ  [غافر: 3]، فتأمل كيف وقعت صفة شديد العقاب بين صفة رحمة قبله وصفة رحمة بعده  غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ؛ لأن  ذِي الطَّوْلِ  ما معناها؟

صاحب النعم والمن والخير الكثير، المتفضل على عباده، هذا يعني  ذِي الطَّوْلِ ، فتأمل في أربعة أشياء: غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، ثلاثة كلها في الرحمة والتوبة، والمن، والمن والنعمة، وواحدة شديد العقاب، نبه على هذا المعنى ابن القيم -رحمه الله- في "بدائع الفوائد"، فشدة عقابه وقعت بين رحمتين، فسبقت رحمته غضبه وغلبته، ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ في سجوده، يقول: اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك  [رواه مسلم: 486].

شف لاحظ لما كان الرضا أعظم من السخط استعاذ بالرضا من السخط، ولما كانت المعافاة أعظم من العقوبة استعاذ بالمعافاة من العقوبة، كما لو قلت: أعوذ برحمتك من غضبك، الرحمة أعظم من الغضب، كل هذه صفات لله دالة على عظمته، والمتأمل فيها من المسلمين، يقول ابن القيم: "تأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عند العرش" يقصد الكتاب الذي كتبه لما قدر مقادير الخلائق، قال: "وطابق ذلك وبين قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى  [طـه: 5]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59] ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب -تبارك وتعالى- إن لم يغرقه عنك التعطيل والتجهم" [مدارج السالكين: 1/57] يعني شغل جهم وكفريات جهم وانحرافاته.

فالله -عز وجل- هو الرحمن الرحيم، أرحم الراحمين، وهو خير الراحمين، الغفور ذو الرحمة، ومن رحمته -سبحانه- أنه أوجب الرحمة على نفسه الكريمة تفضلا منه وإحسانًا، وامتنانًا على الخلق؛ كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54]، وقال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ  [الأعراف: 156] شيء، ولا يستطيع أحد أن يحجب عن عباده، قال الله: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا  [فاطر: 2].

ورحمة الله بعباده نوعان: رحمة عامة لجميع الخلائق بإيجادهم وتربيتهم ورزقهم وإمدادهم بالنعم، وتصحيح أبدانهم وتسخير المخلوقات لهم، وهذه تشمل حتى الكافر، قال تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا  [غافر: 7].

والله قرن هذه الرحمة مع العلم فكل ما بلغه علم الله -وعلم الله بالغ كل شيء- فقد بلغته رحمته، فكما يعلم الكافر يرحم الكافر، لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية [ابن عثيمين في "شرح الواسطية"].

الرحمة الثانية: رحمة خاصة، وهذه لا تكون إلا للمؤمنين، فيرحمهم في الدنيا بتوفيقهم للهداية، ويدافع عنهم، وينزل ملائكته من أجلهم، ويرزقهم الحياة الطيبة، وينعم عليهم بالعلم، والفتوحات الإلهية، ويرحمهم في الآخرة بمغفرة سيئاتهم، ورفع درجاتهم، وغفران ذنوبهم، ومباعدتهم عن النار، وإدخالهم جنته: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته العامة والخاصة، أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وأرسل إلينا محمدًا ﷺ، فهدانا به من الضلالة، وبصرنا به من العماية، وأرشدنا به من الغواية، عرفنا أسماءه من رحمته، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض، وجعلها مهادًا وفراشًا، وقرارا وكفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام منقادة للركوب والحمل والأكل والدر، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا وبين سائر الحيوان، حتى ترفع الفرس رجلها أن تصيب ولدها.

بعض هذا الكلام في [مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم -رحمه الله-، ص: 368].