الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذه الدورة الجديدة من سلسلة الأربعينات.
والأربعون التي سنتحدث عنها بمشيئة الله -تعالى- في شرحها في هذه الدورة متعلقة بعظمة الله ، فعنوان هذه الدورة: "الأربعون في عظمة رب العالمين".
أهمية الحديث عن عظمة الله
وهذا الموضوع موضوع عظيم جدا يتعلق بالله -تعالى-.
ونحن نتلمس أهمية هذا الموضوع من خلال عدة أمور، ومنها أربعة رئيسة:
الأول: أنه من حق ربنا علينا أن نعرف عظمته، وهذا داخل في الإيمان بالله -تعالى- فمن الإيمان بالله الإيمان بعظمته .
ثانيا: أن من عمل القلب تعظيم الله -تعالى-، وإذا تبين للمسلم عظمة ربه فإن قلبه يعظمه هذا من عمل القلب، وهذا شيء تأملي تدبري تفكري.
ثالثا: أن هذا الموضوع عظمة الله هو الذي يقود في الحقيقة إلى الطاعة والقيام بالواجبات وترك المحرمات، فإذا قلت: ما هو أعظم شيء يؤدي إلى انقياد العبد لربه وطاعة العبد لربه وفعل الواجبات التي أوجبها وترك المحرمات التي حرمها فلا شك ولا ريب أن أعظم باعث على ذلك هو عظمة الله؛ لأن القلب إذا امتلأ من هيبته -تعالى- قاده ذلك إلى الانقياد لله -تعالى-.
رابعا: أن هذا الزمن الذي نعيش فيه الآن وجد فيه من العدوان على الله، والطعن في وجوده سبحانه وفي حقه الشيء الهائل مهول في كفر البشرية في هذا الزمان من أنواع الإلحاد والزندقة والجحود والتكذيب والتمرد، فطرح هذا الموضوع موضوع عظمة الله من باب مقاومة الحركة الإلحادية المعاصرة، والتصدي لهذا التيار، تيار التكذيب والإلحاد، هذا الموضوع فيه أهمية بالغة من هذه الجهة محاربة الإلحاد.
فهذه الجوانب أربعة رئيسة في أهمية موضوع عرض عظمة الله ، بيان عظمة الله .
أشهر من صنف في عظمة الله
طبعًا هذا الموضوع كتب فيه بعض الأئمة، يعني على سبيل المثال: أبو الشيخ الأصبهاني -رحمه الله- المتوفى سنة ثلاثمئة وتسعة وستين للهجرة ألف كتابه: "العظمة"، يعني بيان عظمة رب العالمين، وقد طبع الكتاب من طبعاته طبعة بتحقيق رضا الله المباركفوري في خمسة مجلدات، وقد سرد أبو الشيخ -رحمه الله- في إسهاب مظاهر عظمة الله في خلقه وفي الكون والإنسان والحيوان وقيوميته -تعالى-، وتدبير شؤون الخلق، بالآيات، والأحاديث المسندة، والأقوال المأثورة.
الكتاب طبعًا فيه أحاديث لا تصح، ولكن في أبوابه وفي أحاديثه الصحيحة فائدة عظيمة، وكذلك فيه آثار.
المجلد الثاني من كتاب: "مفتاح دار السعادة"، لابن القيم -رحمه الله- فيه كلام طويل عن التفكر في خلق الله، وآيات عظمته سبحانه، وبديع خلقه، وأفاض ابن القيم -رحمه الله- في ضرب الأمثلة، وتنويع العبارة، بأسلوبه المعتاد.
كذلك في كتب بعض المعاصرين: كـ"العقيدة في الله" للشيخ عمر بن سليمان الأشقر -رحمه الله-، وغيره طرق هذا الموضوع.
في دورتنا هذه جمعنا أربعين حديثا صحيحًا في عظمة الله.
طبعا تعظيم الله هذا موضوع، لكن موضوعنا عظمة الله، في بيان عظمة الله، وتم الاجتهاد في جمعها وانتقائها والبحث عنها؛ والبحث في هذا الموضوع أو جمع الأحاديث فيه ليس سهلا، فيه صعوبة في جمع المادة.
مقدمة عن عظمة الله
ولنبدأ مستعينين بالله -عز وجل- في مقدمة هذا الموضوع، ثم ندخل في الأحاديث.
الحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالإلهية خضعانًا، وشهدت بأنه لا إله إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته وبدائع آياته؛ فمنهم من شهد وهو راض مقر، ومنهم من شهد رغما عنه، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ [الإسراء: 44]، سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال وكل رطب ويابس، وكل حي وجامد: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44].
أشهد أن لا إله إلا هو، الكبير المتعال العظيم الجليل ، وهو سبحانه العظيم، دلت آياته على قدرته وعلمه وحكمته وحسن صنعته: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88]، وهو سبحانه حي قيوم، يدبر الأمر؛ وإن كذب بذلك من كذب، من خلقه الذين جحدوه، عتوا ونفورا وكبرا وغرورا: أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10]، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [النحل: 17]، آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59]، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].
وهو سبحانه وتعالى أعرف من أن ينكر، وأعظم من أن يجحد، ووجود الأشياء مستند إلى وجوده.
وليس يصح في الأذهان شيء | إذا احتاج النهار إلى دليل |
ولا ينكر وجوده -تعالى- إلا مكابر، وإن كذب بلسانه؛ فإن عقله شاهد على ما يكذب به.
النزعات الإلحادية المعاصرة
وهذه النزعات الإلحادية التي وجدت في عصرنا، وهذه العلمانيات، وهذه الطرائق الإبليسية التي اغتالت من اغتالت من البشر، فظهرت في نظريات علمية تارة، ومؤلفات ومقررات جامعية وتدريسية تارة، وروايات أدبية تارة، وأفلام ومقاطع تارة.
كتب ومؤلفات وحركات لهؤلاء الملاحدة، الذين لو سألتهم ما الدليل على إلحادكم؟ وبأي شيء أنكرتم وجوده -تعالى-؟ لما أتوك بشيء له مستند أصلا، فتارة يقولون: إن هذا الخلق الذي وجد بالانفجار العظيم الذين يزعمونه تارة يقولون: إنه نتيجة طفرة.
وإذا سألتهم ما معنى طفرة؟ وأين وجدت الطفرة؟
الطفرة ممكن توجد مثلا في سلالة تناسلية طفرات، يزعم بعض علماء الوراثة أنها موجودة؛ لكن موجودة في شيء، وليست في لا شيء، فأين هذه الطفرة؟ وما الذي انطفر؟ وما الذي طفره؟
لا يأتونك بشيء يعقل.
وتارة يقولون: أصل الخلق كرية بسيطة ذات خلية واحدة صغيرة كرأس الدبوس كانت تسبح في اللا زمان واللا مكان، فهل تعقل أنت يا أيها العاقل أن يوجد شيء في اللا زمان واللا مكان؟ وهل يمكن أن تخبرني أين هو اللا زمان أين هو اللا مكان، ومتى كان اللا زمان؟ وهل يمكن أن يوجد شيء في لا زمان ولا مكان؟ وإذا فرضنا أنه وجدت هذه الخلية الكرية ذات الخلية الواحدة التي انفجرت وخرجت منها السماوات والأرض وما فيها؛ فبربكم من الذي أوجد هذه الكرية التي انفجرت وأتت بهذا العالم؟ من الذي خلقها؟ من الذي أنشأ هذه الكرية؟
فعدتم من حيث بدأتم.
الملاحدة لا يمكن أن يأتوك بشيء يعقل أو يصح في الأذهان الصحيحة أبدًا، لماذا كانت هذه الكرية ساكنة؟ ثم قررت هي أن تنفجر؟ ما سبب الانفجار؟
تارة يقولون لك: القوى الكهرومغناطيسية، فتقول لهم القوى: الكهرومغناطيسية الطاقة هذه شيء أم لا شيء؟ وإذا سألناكم قبل الخلق ماذا كان يوجد؟ تقولون: لا شيء، ثم تقولون: كرية، فالكرية شيء أم لا؟
قد تناقضتم كيف انفجرت الكرية؟
قلتم الطاقة الكهرومغناطيسية، الطاقة الكهرومغناطيسية شيء أم لا شيء عدم؟
فستقولون: شيء، فنقول: تناقضتم وأين كانت الكرية؟ وأين كانت الطاقة الكهرومغناطيسية؟ هل الطاقة الكهرومغناطيسية أيضا ستكون في العدم؟ وكيف أنتجت هذه النقطة الجامدة حياة بأنواعها من البشر والبهائم والطيور والأسماك والنباتات؟ وهل يمكن أن ينفجر شيء فينتج هذه المرتبات البديعة المتناسقة بالأفلاك ودورانها والأنظمة، وهذه الكائنات التي فيها نظام التناسل ونظام الحركة ونظام الأكل والهضم ونظام التنفس؟ كيف؟ كيف؟
وكذلك فإننا نقول لكم ما ذكر ربنا؛ الاحتمالات ثلاثة: إما أنكم خلقتم من العدم، أو أنكم خلقتم أنفسكم، أو أن هاتوا الثالث أن أحدًا خلقكم.
وإذا كان من المحال أن تخلقوا أنفسكم أنتم غير موجودين عن شأن تخلقوا أنفسكم، فكيف تخلقون أنفسكم؟
ومن المحال أن توجدوا من العدم؛ لأن العدم لا شيء فكيف ينتج اللا شيء شيء؟ فماذا بقي إلا أن يكون هنالك خلق قد أوجدتكم وخلقكم: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] الله قال: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 35-37].
وأبو حنيفة -رحمه الله- لما لقي الملاحدة الذين ينكرون وجود الله، وقال لهم: إني رأيت سفينة مشحونة مملؤة بالأمتعة والأحمال، وهي في البحر تسير محاطة بالأمواج المتلاطمة، والرياح المختلفة، لكنها تجري من بين ذلك مستوية ليس فيها ملاح يجريها ويقودها، ولا متعهد يدفعها ويسوقها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا يقبله العقل، قال: سبحان الله، إذا لم يجز ذلك في العقل فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أمورها وأعمالها، وسعة أطرافها وتباينها؛ من غير صانع حافظ مدبر، فبكوا واعترفوا.
بعض الأدلة على وجود الله
الأدلة الدالة على الله -تعالى- الفطرة السوية المضطرة للاعتراف بالله اضطرارًا، لا بد الفطرة لا بد حتى لو أتيت بأكفر الكفار، وصار في البحر المتلاطم الأمواج يوشك على الغرق، لابد أن تتجه فطرته إلى الله يلتمس منه النجاة، لا بد، أظهر ذلك أم لم يظهره، لا بد: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30]، فدليل الفطرة واحد.
التفكر: يعني العقل، هو الدليل الثاني: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس: 101]، أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ [الأعراف: 185].
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 190].
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20-21].
قال قتادة -رحمه الله-: "من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله، لينت مفاصلك يا ابن آدم للعبادة"، إذا تفكر الإنسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية، ووجدت آثار التدبير قائمة من الذي خلقه؟ من الذي أودع فيه هذا الجلد، وما فيه وهذه الأعصاب وهذا اللحم، وهذا الهيكل العظمي، وهذا الجهاز للتنفس، وهذا الجهاز للهضم، وهذا الجهاز للإخراج، من الذي أودع فيه هذه الأجهزة؟ قطرة ماء؟ وما يوجد فيها؟ المني القطرة التي خلق منها لحوما منضدة، وعظاما مركبة، وأوصالا مشدودة بحبال العروق والأعصاب بجلد متين على ثلاثمائة وستين مفصل ما بين كبير وصغير وثخين ودقيق ومستطيل ومستدير ومستقيم ومنحني، وعظيم ومستدق، شدت بثلاثمائة وستين عرقا للاتصال والانفصال والقبض والبسط والمد والضم والصناعة والكتابة، جعل لك تسعة أبواب: بابان للسمع الأذنان، بابان للبصر العينان، بابان للشم الأنف، باب للكلام والطعام والشراب والتنفس واحد، وبابان لخروج الفضلات التي يؤذي البدن احتباسها.
تسعة أبواب يا ابن آدم لو فكرت فيها لقادتك إلى الخالق ، نطفة علقة مضغة بشر متكامل من الذي أودعه في هذا الرحم؟ ومن الذي غذاه؟ من الذي شق سمعه وبصره وجعل له عقلا وقدرة وعلما وروحا في قرار مكين؟
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان: 11].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحـج: 73].
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ [فاطر: 41]، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].
وفي البحار: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [النحل: 14]، وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا [الفرقان: 53].
وفي هذه الأنعام: لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79- 80].
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ [النحل: 66] من بين مستقذرين مستخبثين، لَّبَنًا خَالِصًا هنيئا سليما من الشوائب سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل: 66].
و الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ [النحل: 79].
والشافعي -رحمه الله- قال: هذا ورق التوت طعمه واحد؛ تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم -يعني الحرير-، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعيرا وروثا، ويكون منها اللبن، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد.
لو تأملت في البيضة حصن حصين أملس لا باب ولا منفذ كالفضة البيضاء بينما هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وصوت مليح.
من الأدلة الدالة على الله: الاضطرار، دعاء المضطرين: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62] إذا ألجأتهم الحاجات إلى الله: وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان: 32]، قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام: 40].
هؤلاء الذين يسمون أنفسهم: الملاحدة، لما رأينا المقاطع، لما جاء تسونامي، لما جاء المد البحري، لما صارت الزلازل، لما صارت الفيضانات الخطيرة، لما صارت انفجرت البراكين المحرقة، لما صارت الكوارث العظيمة، كلمة واحدة تسمعها: أو ماي جد، صح وإلا لا؟ يا إلهي.
حتى في الأفلام وإلا في الحقيقة ما يستطيع يخرج عن أوه ماي جد، يا إلهي.
حتى لو ملحد إذا جاء الزلزال إذا جاء الطوفان يا إلهي، أين كان إلهك يا أيها الجاحد؟ أين هو عندك؟ أين هو عندك في حال الرخاء تجحد وتكذب، فإذا جاء المد الكاسح قال: يا إلهي؟
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأنعام: 63].
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 63].
النبي ﷺ قال للحصين والد عمران: يا حصين كم تعبد اليوم إلها قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك يعني إذا صرت في الشدة أيهم الذي تدعوه؟ قال: الذي في السماء، خلاص وصلنا انتهينا.
إذن، ما فائدة، البقية الستة الباقين ما الفائدة منها.
عكرمة لما راح في البحر هاربا من النبي ﷺ وأصابته ريح عاصف، قال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا، قال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره وجاء وأسلم.
طبعا هذه الآيات المسطورة يعني في المصحف والمنثورة في الكون شاهدة.
إذن، الآن دليل الفطرة، ودليل العقل، ودليل الدعاء حين الاضطرار، وهذه الآيات في الكون والأنفس والآفاق: أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل: 61].
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل: 62].
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل: 63].
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل: 64].
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم: 22].
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم: 21].
ومن آياته .. ومن آياته .
القرآن مليء سبحان الله! الحس والعقل، والشرع والآيات الشرعية، هذه ظاهرة جدا: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] يعني جزء من الكفار في العالم يقرون بربوبيته، لكن منهم من يقول: خلقهم وتركهم، ومنهم من يقول: نعبده ونعبد معه غيره فيشركون، ومنهم من يجعلون له صاحبة ووالدًا، ومنهم.. ومنهم.
نص الحديث الأول
الحديث الأول: الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه، قال النبي ﷺ: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض [رواه البخاري: 3191].
شرح الحديث الأول
وهذا الحديث له قصة، وهي أن أهل اليمن جاؤوا إلى النبي ﷺ يسألونه عن أول هذا الأمر، أمر الخلق وبداية العالم، فقال لهم النبي ﷺ: كان الله ولم يكن شيء غيره .
وفي رواية للبخاري أيضا: كان الله ولم يكن شيء قبله [رواه البخاري: 7418].
وفي رواية: كان الله قبل كل شيء رواه الإمام أحمد وصححه محققو المسند [رواه أحمد: 19876، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
أولية الله -تعالى- مطلقة
ومعناه أنه تعالى هو الأول قبل كل شيء الأول، ولا شيء قبله، الأول بلا بداية كما أنه الآخر بلا نهاية سبحانه.
بعضهم يقول: الأزل، أو يصفه بالأزلية، ومعنى الأزل عدم الأولية، فليس الأزل شيئا محدودا، فلو قدر أن الأرض كلها وعاء مملوء بالذرات وبعد مليون سنة تفنى ذرة واحدة فقط لفنيت الذرات كلها، والأزل باق، وهذا للتقريب فقط، وإلا فالأزل ليس له بداية أبدا؛ وقد أفاد هذا الشيخ الغنيمان -نفع الله به- في شرحه لكتاب التوحيد.
وقد روي في الحديث: أن رسول الله ﷺ سُئل: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال: كان في عماء يعني ليس معه شيء، هذا معنى لفظة عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء ؛ لكن هذا الحديث ضعيف، رواه الترمذي [رواه الترمذي: 3109، وابن ماجه: 182، وأحمد: 16188، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"]، فنبقى على الرواية الصحيحة.
في تفسير حديث البخاري السابق: كان الله ولم يكن شيء غيره، ولم يكن شيء معه يفسر حديث النبي ﷺ الصحيح الآخر: أنت الأول فليس قبلك شيء [رواه مسلم: 2713].
وهذا أحسن من أن أقول أزلي أو نصفه بالأزلية، نقول: الأول يغني عنه، الأول وتأكيده فليس قبله شيء.
فإذن، كان الله حتى نحافظ على النصوص، النص الشرعي حتى نعبر، لما نجي نعبر في حق رب العالمين نستعمل النصوص الشرعية كان الله ولم يكن شيء معه، ولم يكن شيء غيره، ولم يكن شيء قبله ، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء [رواه مسلم: 2713].
فهذا دليل على أولية الله -تعالى- وأنه قبل كل شيء.
وهذا هو الجواب لمن سأل، لا يزال الناس يقولون: هذا خالق الله كل شيء، والشيطان يقول: من خلق الله؟
فنقول: الله خالق كل شيء، وخلق كل شيء، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [النحل: 17]، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3]؟ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان: 11]؟ فهو يخلق ولم يُخلق، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 3-4] أي واحد يأتي ويقول: ماذا كان قبل الله؟
نقول: لم يكن شيء، ليس شيء قبله سبحانه، هو الأول فليس قبله شيء.
لما يقول واحد: من خلقه؟
نقول: هو خلق كل شيء، لم يخلقه أحد.
ولو قلنا خلقه أحد، فالأحد هذا هو الخالق، وهكذا فسيتبين بطلان السؤال بالتسلسل، فهذا دليل على أولية الله، وأنه قبل كل شيء، وعلى أبدية الله، وأنه يبقى أبدا لا يزول سبحانه؛ الآخر، هذا معنى الآخر ليس بعده شيء.
وخلاص، هذه هي الإجابات القاطعة لكل الوسوسة أو أفكار شيطانية يلقيها الشيطان في نفوس البشر، من أين جاء؟ من أوجده؟
نقول: خلاص هذا شف هذا كان الله خلاص، ولم يكن شيء قبله، ولم يكن شيء غيره، ولم يكن شيء معه، خلق ولم يُخلق سبحانه.
فالأول يدل على أن كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، كل شيء سوى الله مخلوق، وهذا يوجب للعبد شكر نعمة الوجود، أنت وجدت الآن اشكر ربك أنك وجدت، أنه أوجدك، وإلا كنت لا وجود، ولا تأكل ولا تشرب، ولا تنكح ولا تنجب، ولا تفكر ولا تعقل ولا تعمل، خلاص أنت عدم لولا الله ما كنت.
والآخر يدل على أن الله هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها وتعبدها ورغبتها ورهبتها وجميع مطالبها، كما قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في "الحق الواضح المبين".
العرش أول ما خلق الله
وقوله ﷺ في الحديث: وكان عرشه على الماء... وخلق السماوات والأرض [رواه البخاري: 3191] يعني وقت خلق السماوات والأرض كان العرش موجودًا أم لا؟
كان موجودًا إذن، خلق السماوات والأرض قبل وإلا خلق العرش؟
خلق العرش، ففي هذا الحديث دليل على أن خلق العرش سابق على خلق السماوات والأرض.
الماء كان موجودًا قبل وإلا السماوات والأرض؟
الماء؛ لأن الحديث يقول: وكان عرشه على الماء ، كما في الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7]، فقبل خلق السماوات والأرض كان هناك ماء، وكان هناك عرش، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش سبحانه.
والخلق من صفات كماله؛ لأنه يدل على قدرته: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [النحل: 17].
الله قال في مناقشة الكفرة المشركين: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا [الحـج: 73] هذه قضية، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [النحل: 17]، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3]؟ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان: 11]؟
في آيات تهز، في استفهامات في القرآن تهز النفوس ومتعلقة بالخلق، وتزلزل الملاحدة.
أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10]؟
أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا [النمل: 61]؟
مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 63]؟
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]؟
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 40]؟
مثلا: النار أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ [الواقعة: 71-72]؟
الزرع أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64]؟
المني: أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 59]؟
استفهامات مزلزلة للملاحدة:
أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ [البقرة: 140]؟
أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64]؟
أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة: 69]؟
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]؟
هذه الاستفهامات الكثيرة الموجودة في القرآن مهمة جدا في مناقشة الملاحدة، والذي يتصدى لهم يعني سواء في الشبكات في الحوارات من الأهمية بمكان أن يتنبه إلى هذه الاستفهامات؛ لأنها في غاية الأهمية في إفحامهم، هذه إشارة مهمة جدا في هذا الموضوع الذي نحن بصدده.
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]، وجاء في بعض الآيات يعني في مناقشات للمشركين: أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39]، كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28]، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45].
هذه آيات فيها الحجة البالغة: قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام: 149].
كنا نتكلم على موضوع الخلق: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء [النحل: 20-21].
قوله ﷺ في الحديث: وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض الكتابة هنا أضيفت إلى الله، لكن هل يلزم أن يكون باشر ذلك بنفسه سبحانه؟
لا، بل يجوز أن نقول: كتب، وقد أمر شيئا أن يكتب كالقلم.
فقوله ﷺ: وكتب في الذكر كل شيء الذكر: اللوح المحفوظ، الإمام المبين، فأضاف الكتابة إلى نفسه، ولكن لا يلزم من ذلك أنه باشر ذلك بنفسه، بل يجوز أن يأمر بذلك شيئا يكتب.
الذكر ما هو هنا: أطلق على محل الكتابة وهو اللوح المحفوظ، فالمراد أن الله كتب كل ما أراد إيجاده في تلك الساعة التي جرت فيها الكتابة إلى قيام الساعة، في الساعة التي جرت فيها الكتابة إلى قيام الساعة، كل شيء أراد الله أن يخلقه كتبه القلم في اللوح المحفوظ؛ كما قال الله: إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد [رواه الترمذي: 2155، وهو حديث صحيح].
إذن، أيهما خلق أولا القلم أم السماوات والأرض؟
القلم.
أيهما خلق أولا اللوح المحفوظ أم السماوات والأرض؟
اللوح المحفوظ.
ما الذي خلق أولا القلم أم العرش؟ العرش، الدليل؟
أول ما خلق الله القلم هذه الأولية خاصة، وليست عامة، بالنسبة للسموات والأرض والمقادير التي فيها، وما هو كائن فيها، بالنسبة لذلك القلم أول، لكن بالنسبة للعرش والقلم، العرش أول، وقد قال: إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة رواه الإمام أحمد وهو حديث حسن [رواه أحمد: 22705، وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"].
وفي هذا دليل على أن خلق العرش سابق على خلق القلم؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7].
تقدير مقادير الخلائق أزلي
وأصل تقدير مقادير الخلائق أزلي لا أول له، راجع إلى علم الله وإرادته، يعني العلم بها أزلي، تقدير أزلي، الكتابة كان لها بداية لما خلق الله القلم، لكن علمه بالمقدورات وعلمه بالأشياء أول؛ لأنه من صفاته، العلم من صفاته، وصفاته مثل ذاته أول، هو أول، فعلمه أول، وتقديره أول، لكن الكتابة لما خلق القلم وأمر القلم بدأت الكتابة، ما كان في كتابة قبل ذلك، الكتابة التي في اللوح المحفوظ كتابة المقادير، لكن التقدير لاحظ الفرق: بين التقدير وكتابة المقادير، التقدير أول مثل العلم، مثل الذات، والكتابة لا تكون إلا بعد علم، فالعلم سابق على الكتابة، والله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتبها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
نص الحديث الثاني
الحديث الثاني: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء [رواه مسلم: 2653].
شرح الحديث الثاني
طبعا هذا متعلق بالذي قبله، الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة التي يجب على العبد أن يؤمن بها، وهي التي جاءت في حديث جبريل: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره [رواه مسلم: 8].
أركان الإيمان بالقدر
حتى نفهم الإيمان بالقدر فهما صحيحا لا بد أن نعلم أنه ينبني على أربعة أركان، مثل أركان الإسلام الخمسة، أركان الإيمان الستة، أركان الإيمان بالقدر أربعة، ما هي؟
العلم، والمشيئة، والكتابة، والإيجاد.
أنا حرصت أن أقولها كل واحدة بكلمة ليسهل حفظها: العلم، والمشيئة، والكتابة، والإيجاد، أو الخلق واحد.
علم الله
أما العلم: فإن علم الله أزلي، يعلم قبل أن يكتب سبحانه، قبل أن تحدث الكتابة، علمه لا أول له، هو الأول فعلمه كذلك علمه معه، علمه هذه صفة من صفاته.
أحاط بكل شيء علما، وعلم ما كان وما سيكون وما يكون، وما لو كان كيف كان يكون جملة وتفصيلا.
وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم، وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم، وشقيهم وسعيدهم قبل أن يخلقهم: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت: 62]، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
ثانيا: الإيمان بالكتابة، أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء قبل أن يوجد هذا الشيء، قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر: 52]، اللوح المحفوظ المزبور، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] يعني: مكتوب.
ودليل ثاني من القرآن على وجود هذه كلها في اللوح المحفوظ: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يــس: 12] ما هو الإمام المبين؟ اللوح المحفوظ.
إذن، هذا كله داخل في حديث: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فالله علمها وشاءها وكتبها وأوجدها إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما كان وما هو كائن إلى الأبد [رواه الترمذي: 2155، وهو حديث صحيح].
كل شيء في اللوح المحفوظ: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام: 38] ما فات شيء: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ [يونس: 61].
أم الكتاب، والذكر، والإمام، والكتاب المبين، من أسماء اللوح المحفوظ في القرآن.
لو قلت لك: أعطيني أسماء اللوح المحفوظ في القرآن؟
فستقول: أم الكتاب، والذكر، والإمام، والكتاب المبين، كلها من أسماء اللوح المحفوظ.
وهذه الكتابة التي حصلت لها حِكم: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23].
لو جاءك الآن ملايين لا تطغى ولا تفرح، ترى مكتوب من زمان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
ترى لو حصلت لك مصيبة لا تحبط وتنهار وخلاص تكتئب وتصاب بالأسى: لا تأسوا على ما فاتكم، ترى مكتوب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
أما الثالثة: المشيئة، فما يمكن يكون كتب ويحصل إلا وقد شاءه، إلا وقد أراده سبحانه، هذه المشيئة مطابقة لعلمه.
إذن، علم وشاء فكتب وأوجد، فما يمكن يكون يكتب ويوجد إلا وقد شاء، وهذه المشيئة مثبتة في كتاب الله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30].
الإيجاد والخلق
والرابع: الإيجاد والخلق: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62]، وقال الله في كتابه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96].
فإذن، كل شيء مخلوق، كل مقدر مخلوق، كل قدر مخلوق، كل شيء يحدث في الكون من خلقه وإيجاده سبحانه وتعالى.