الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ :: 31 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

13- الأربعون في عظمة رب العالمين - شرح الأحاديث 28،27،26


عناصر المادة
نص الحديث السادس والعشرين
شرح الحديث السادس والعشرين
حكم تارك جنس العمل
نص الحديث السابع والعشرين
شرح الحديث السابع والعشرين
نص الحديث الثامن والعشرين
شرح الحديث الثامن والعشرين
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله))

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ومرحبا بكم في هذا الدرس من دروس هذه الدورة: الأربعون في عظمة رب العالمين، وكنا قد انتهينا من الحديث الخامس والعشرين.

نص الحديث السادس والعشرين

00:00:35

 قال رجل لم يعمل خيرًا قط: فإذا مات فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم، فغفر له [رواه البخاري: 7506، ومسلم: 2756].

وفي رواية: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا ربي خشيتك  وفي رواية: مخافتك يا ربي، فغفر له [رواه البخاري: 3481، ومسلم: 2756].

وفي رواية: فتلقاه برحمته  [رواه البخاري: 3478، ومسلم: 2757].

شرح الحديث السادس والعشرين

00:02:07

هذه القصة من عجائب القصص التي وقعت في الزمن السابق، وهي من الوحي الذي أوحاه الله إلى نبينا ﷺ ما كان يعلمها هو ولا قومه، فأخبره الله بها؛ فقصها نبي اللهﷺ علينا.

وحاصل هذه القصة: أن رجلا من الأمم الماضية أنعم الله عليه بالمال الكثير، ورزقه الأولاد، لكنه لم يشكر ربه على هذه النعم، وأسرف على نفسه بالمعاصي، فلما حضره الموت تذكر حاله مع ربه، وكثرة ذنوبه، وتفريطه في حق الله، فتملكه الخوف الشديد من الله، وعلم أنه متى ما لاقاه فإنه سيعذبه عذابًا شديدًا، فهو يعلم تفريطه، ويعلم معصيته، وهو يؤمن بالله، ويؤمن باليوم الآخر، يؤمن بالجزاء والحساب، وأن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، لكنه ظن بجهله أنه إذا أحرق سينجو، ولن يعذب؛ لأنه لا شيء، أو لا شخص موجود حتى يعذب، فظن بجهله هذا، وإلا هو مؤمن بالله، ومؤمن باليوم الآخر، ومؤمن بالحساب والجزاء، لكن ظن أن هذا سيجعله يفلت من العقاب، فأوصى أولاده بأن يفعلوا به ما فعلوه بعد موته؛ لأنه قد أخذ عليهم المواثيق.

لكن هذا المسكين غفل أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد أن يبعثه بعثه، وأنه مبعوث لا محالة، حتى لو أحرق  وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ‌وَهُوَ ‌أَهْوَنُ ‌عَلَيْهِ [الروم: 27].

فإذن، كل البشر مبعوثين حتى لو غرق الواحد في البحار فأكلته الأسماك، أو احترق بالنار وذهبت به الرياح برماده كل مذهب، أو افترسته السباع ووحوش البراري، وتفرق في أجسادها وأجساد الطير، وحتى لو مات وتحلل في التراب، والتراب هذا هبت عليه الريح، وتفرق في الأرض، ولو نبشت تلك القبور وفرقت وبعثرت، ولو زرعت الأرض، ولو غمرتها المياه، ولو حصل فيها خسف أو زلزال، ولو غطتها البحار؛ سيبعثه الله، وهو على ذلك قادر: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ  [الشورى: 29]، فالله جمعه أمر الأرض، جمعت ما فيها منه، فقام بين يدي ربه فسأله أولا: ما هو السبب الذي حمله على صنيعه؟ فقال: يا رب خشيتك، مخافتك، فغفر له، وتلقاه برحمته.

إذن، عظمة الله في قدرته على جمع ما تفرق، وما ذهبت به الرياح، وما صار في مياه البحار، والله على كل شيء قدير.

ثم إنه أقامه وسأله؛ فأجاب؛ فتلقاه برحمته، هذا يدل على سعة رحمة الله.

لو قال قائل: ما حكم الشك في قدرة الله على البعث؟

نقول: كفر أكبر لا شك، لكن هذا لمن علم، لكن من جهل.

فإذن، هذه حالة خاصة حالة الرجل هذا حالة خاصة.

وإلا لو قال: قائل ما حكم الذي يشك في قدرة الله على البعث، أو يظن أن الله لا يبعث، أو يمكن يبعث ويمكن ما يبعث، فهو كافر لا شك، كفر أكبر.

لكن قد يبلغ الجهل ببعض الناس مبلغًا عظيمًا، يعذرهم فيه ربهم، فالجهل بتفاصيل اليوم الآخر أو بتفصيلات بعض ما يتعلق بالقدرة الإلهية قد يحصل من بعض الناس، يظنون أشياء، فهو غير هازل ولا ساخر، ولا يطعن في قدرة الله، أو أنه يكفر، أو قامت عليه الحجة وجحد، أو أنه عاند، ليس كذلك، ليس بمعاند، ولا جاحد ولا مكذب ولا مستهزئ ولا ساخر، هذه حالة خاصة، والإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله يعيد الأموات ويجازيهم، هذا أمر مفروغ منه، هذا من أركان الإيمان، وهذا مما يجب على كل إنسان أن يؤمن به، وأن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، هذا الرجل لما حضره الموت وهو لم يعمل خيرا قط المقصود به عمل الجوارح؛ لأن عمل القلب لا بد من وجوده، وإلا لكان كافرا، لو قال: هذا ما عنده شيء من عمل القلب معناها لا يؤمن بالله أصلا، ولا يؤمن باليوم الآخر، لكن ليس كذلك هذا الشخص عنده عمل القلب، وقول القلب موجود، لكن تقصيره في عمل الجوارح، تقصيره في الواجبات والمحرمات، مع إيمانه بالله وبالجزاء والحساب، وهذا واضح من قوله: "من خشيتك، وأنت تعلم لئن قدر علي ربي ليعذبني".

وفي هذا الحديث: أن الخوف من الله من أسباب المغفرة، وقد غفر الله لهذا الرجل على ذنوبه العظيمة لأجل خوفه من ربه.. فغفر الله له على ماذا؟

وجود أصل الإيمان، وعلى خوفه من الله، يقول الحافظ العراقي -رحمه الله-: في هذا الحديث: فضيلة خوف الله -تعالى- وغلبتها على العبد، وأنها من مقامات الإيمان، وبها انتفع هذا المسرف وحصلت له المغفرة. [طرح التثريب: 3/269].

والخوف من الله عبادة جليلة تحمل صاحبها على طاعة الله واجتناب معصيته، وقد قال الله:  وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ المعارج: 27]، وقال: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49]، وقال: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [الرعد: 21]، وقال: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57]، وقال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40]، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 41]، وقال:  وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46].

وقال: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله  [رواه الترمذي: 1639].

الحديث هذا فيه بيان عظيم قدرة الله، وأن بعث الموتى هين يسير على الله؛ كما قال تعالى:  وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27]، وقال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7].

وقصة إحياء الموتى لإبراهيم وقال الله له: ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة : 260]، فأخبر تعالى خليله عمليًّا كيف يحيي الموتى مع أن إبراهيم الخليل يوقن ويؤمن، لكن أراد زيادة الإيمان، وأن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، هو يعلم علم يقينيًّا، لكن يريد أن يرى بعينه ليزداد إيمانًا، وفي هذا طلب المؤمنين الزيادة في مراتب الإيمان والارتقاء إلى مرتبة أعلى، وأن من طموح المؤمن أن يزيد إيمانه، وهذا من الاستبصار بالله -تعالى- وعظمته وقدرته.

حكم تارك جنس العمل

00:12:28

لو قال قائل: ما حكم تارك جنس العمل؛ الذي لا يعمل أبدا؟

نقول: في شريعتنا تارك العمل بالكلية كافر، ماذا كان في شريعة من قبلنا، هذا الرجل رحمه الله بسبب مخصوص وتجاوز عنه له وضعه الخاص؛ لأنه في بعض الحالات بعض البيئات بعض الأزمان بعض الأماكن قد يبلغ الجهل ببعض الناس مبلغًا عظيمًا، يوجد أحيانا عند حديثي العهد بالإسلام ما عنده علم، يعني نعم الآن آمن بالله بتوحيده وباليوم الآخر، لكن ما عنده علم بتفاصيل الأعمال، ففي بعض الناس يمكن ما تبلغهم الأعمال حتى أشياء من العقيدة تخفى عليهم.

إذا خفيت أشياء من العقيدة على واحد، يعني معذور حتى لو أشياء أساسية هب أن شخصًا مثلا لم يصل إليه وجود الملائكة، ما عرف ما علم هل يقال هذا في النار خالد مخلد؟

لا، لم يبلغه، فلذلك نحن القواعد عندنا واضحة، يعني لا ينجي الإنسان من النار إلا الإيمان بالله، والإيمان معروف، وأركانه ستة، ولا بد من الإيمان بها جميعًا.

وقضية أنه لا بد من العمل، وتارك جنس العمل كافر؛ الذي يترك، ما يعمل أبدًا خيرًا قط نهائيًّا، يعني عامدًا متعمدًا، لكنه ممكن توجد حالات بعض أركان الإيمان تخفى على بعض الناس في بعض الأماكن، وفي بعض الأزمان، أو أن العمل مثلا يخفى عليه أشياء أو ما يعرف تفاصيل الأعمال، أو.. أو.. هذه حالات خاصة، وهذا الرجل منها، فلا يمكن يحتج بحديث هذا الرجل واحد كسلان أو لا يريد أن يعمل، ويقول: أنا خلاص يكفيني الإيمان، وأنا خائف من ربي، وما راح أفعل واجبًا، ولا أترك حرامًا، وربي رحيم، وإذا قدمت عليه سوف يغفر لي كما غفر لهذا الرجل.

نقول: هيهات هذا، ومع ذلك نحن ترى ما نحكم على مصائر العباد أمرهم إلى الله، ما نقول: أنت في الجنة وأنت في النار، أمرهم إلى الله: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ [المؤمنون: 117].

لكن نقول: لا تظنن أن هذا ينفعك، هذه الحالة الخاصة أنها تنطبق عليك، وكل واحد كسلان لا يريد العمل، إنا نقول: وهل ستخبر أولادك أن يحرقوك بعد موتك ويبعثروك في البحر؟

فالهازل والمتلاعب معروف، وشأنه مكشوف.

وبعض الناس سمعوا من الخطب، وقرأوا من الكتب، واطلعوا على الشبكات، وسمعوا في القنوات سماعا تقوم به الحجة عليهم، ما في كلام، ما هو مثل واحد في الأدغال، واحد في أدغال أفريقيا، أو ما وصل إليه شيء، أو في عصور ماضية قبل عصر الاتصالات، وقبل عصر الشبكات، وقبل عصر القنوات، ما سمع ما جاءه من نذير، ما جاءه أحد من رسل الرسل ولا من أتباع الرسل، ولا.. ولا.. الوضع اختلف، ومع ذلك الآن نقول: لو وجد واحد، لو وجد ناس قوم في أدغال، في بيئات، في قطب، في مكان ما وصلهم شيء، خلاص لهم الله يحاسبهم حسابًا خاصًا، يختبرهم الله ، وأهل الفترة حكمهم معروف، المجنون والذي جاء الإسلام وهو يعني هرم لا يعقل، والذي كان في مكان ما سمع عن رسول ولا عن رسالة، هذا شأنه خاص له رب يحاسبه.

نص الحديث السابع والعشرين

00:16:47

عن عبد الله قال: "اجتمع عند هذا البيت ثقفيان وقرشي -أو قرشيان وثقفي- كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إذا كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله -تعالى-: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 22-24] [رواه البخاري: 4817، ومسلم: 2775].

وفي رواية فقال: بعضهم لبعض: أتُرون  بضم التاء  أن الله يسمع حديثنا، قال بعضهم: يسمع بعضه، وقال: بعضهم لئن كان يسمع بعضه لقد يسمع كله [رواه البخاري: 4816].

شرح الحديث السابع والعشرين

00:18:07

هؤلاء ثلاثة رجال من المشركين أسلم بعضهم بعد ذلك، اجتمعوا عند البيت العتيق وصف اجتماعهم ابن مسعود وصفهم بقلة الفقه؛ لأنهم شبهوا الله بخلقه، من أنه يسمع جهر الأصوات دون سرها، أو يسمع بعضها دون بعضها، فصدرت منهم تلك المقولة الدالة على قلة الفهم، وأفطنهم وأفقههم من قال: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، لكنه لم يجزم بذلك، يقول: لئن كان، كأنه يستنتج استنتاجًا، يعني لكن ما في جزم، وعلق علم الله -تعالى- بما يخفونه بسمعه إذا جهره، فلم يقطع بأن الله يسمع قولهم، يعني سرًّا وجهرًا، ولهذا وصف بقلة الفقه معهم. كما قال ابن بطال في شرحه، وكذا في "الإفصاح".

والله -تعالى- سميع بصير يسمع جميع الأصوات الظاهرة والباطنة والخفية والجلية، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، وتعدد الحاجات، كما يقف على صعيد عرفة ملايين، ما هي لغاتهم؟ عشرات، أو مئات اللغات، ما هي حاجاتهم؟ كل واحد يسأل، هذا يسأل شفاء مريض، وهذا رحمة ميت، وهذا هداية ضال، وهذا رزقًا، وهذا ولدًا، وهذا يسأل زوجة، وهذه..، وهذا، كل واحد يسأل منهم عشرات الطلبات، ومع ذلك الله لا تغلطه المسائل، ويعلم كل واحد ماذا يقول، وبلغته، وما هي الطلبات التي يطلبها، ويعطي هذا، ويمنع هذا، ويؤخر هذا، ويعطي هذا خيرًا مما سأل، وهذا شر مما استعاذ منه، عظيم، هذا من العظمة الإلهية، فهو  الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، والبعيد عنده قريب:  وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طـه: 7]، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ  [الزخرف: 80].

وقال سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [التوبة: 78].

وقال: أَلَا ‌إِنَّهُمْ ‌يَثْنُونَ ‌صُدُورَهُمْ ، يعني يخفون ما صدورهم من الشحناء والعداوة للنبي ﷺ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ  يعني يغطون رؤوسهم بثيابهم  يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  [هود: 5].

فالله يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، -سبحانه وتعالى- أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، يعلم السر وأخفى من السر، والسر ما انطوى عليه ضمير العبد، وما خطر به قلبه، ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بعد، يعلمه الله، وما سيأتي من الخواطر يعلمها الله، ويعلم أنه سيخطر في بال فلان كذا وكذا في وقت كذا وكذا في حال كذا وكذا. كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- في "الوابل الصيب".

فعلمه وسمعه يشمل الإسرار والإعلان: سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ  [الرعد: 10] من هو مختف في قعر بيته في الليل، ومن هو ظاهر ماش في الطريق في بياض النهار، كلاهما في علم الله سواء، وقد قال الله  في كتابه ذكر قصة المجادلة، وقد روتها عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة إلى رسول الله ﷺ تشكو زوجها، فكان يخفى على كلامها- لأنها في ناحية البيت في الطرف،- تستفي النبي ﷺ" تقول: أنا يعني أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه، أنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ  [المجادلة: 1] والحديث قد أخرجه البخاري -رحمه الله- تعليقًا، ووصله النسائي، وابن ماجة، وصححه ابن تيمية، وابن الملقن، وابن حجر.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

وهو العليم بما يوسوس عبده في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني مع الـ قاصي وذو الإسرار والإعلان
وهو العليم بما يكون غدا وما  قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شيء لم يكن لو كان كيـ ـف يكون موجودا لدى الأعيان

[الكافية الشافية، ص: 36].

وقال الله -تعالى-: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت: 22-23] ظنكم هذا الظن السوء، وظن الضلال أرداكم  فَأَصْبَحْتُمْ ‌مِنَ ‌الْخَاسِرِينَ ، بارزه بالكفر، وتكذيب رسله، فيجمعون ويوزعون يوم القيامة، ويرد أولهم على آخرهم ويساقون إلى النار سوقًا عنيفًا، يوزعون لا يستطيعون امتناعًا، ولا ينتصرون يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وكل عضو من أعضائهم ويوبخهم تعالى:  وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ  ما كنتم تستخفون من القبائح ولا تحاذرون منها، بل كنتم تجاهرون، ولا تبالون، وتظنون بإقدامكم على المعاصي أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون، هذا ظنكم الفاسد الباطل صار سببًا لشقائكم وهلاككم، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ، أهلككم، فَأَصْبَحْتُمْ ‌مِنَ ‌الْخَاسِرِينَ ، وحق عليكم الخلود الدائم في النار.

إذن، هذا حديث عظيم يدل على عظم سمع الله -تعالى- وإحاطته أنه رقيب على عباده، شهيد على ما يعملون يعلم ما يفعلون، وأن على العباد أن يخشوه -سبحانه-.

نص الحديث الثامن والعشرين

00:26:14

 مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر" [رواه البخاري: 1039].

وفي رواية: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله  [رواه البخاري: 4697].

وفي رواية:  مفاتح الغيب خمس  ثم قرأ، يعني النبي ﷺ: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] [رواه البخاري: 4697].

شرح الحديث الثامن والعشرين

00:27:23

هذا الحديث اشتمل على أصل عظيم من أصول الإيمان وثوابت العقيدة.

هذا حديث يدل على عظمة الله، ومن عظمته: علمه بالغيب  وتفرده بذلك، استأثر الله به، قهر عباده بعلم الغيب، ما يستطيع أحد يعلم الغيب إلا هو، وبيده خزائنه لا يملكها إلا هو، لا يطلع عليها إلا من شاء، وما في أحد يطلع على كل الغيب أبدًا إلا الله، لا ملك ولا نبي، ما يطلع الغيب إلا الله، يطلع على بعض الغيب من يشاء من خلقه فقط، قال الله -تعالى-: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]، الآن في نقاشاتنا مع الدجالين والعرافين، والذين يدعون علم الغيب والمنجمين وقراء الكف والفنجان، والذين يضربون بالودع، ويخطون في الرمل، وحساب أبجاد، أبجد، والناظرون في كرة الكريستال، إلى آخره، نتناقش معهم ماذا تقول لهم؟

 وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]،  قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ  [النمل: 65]،  لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: 26]، إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ  [يونس: 20]،  عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ  [الرعد: 9]،عَالِمُ ‌الْغَيْبِ ‌فَلَا ‌يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26- 27]،  وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ  [آل عمران: 179].

وقد علم الله نبيه ﷺ أن يقول: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ‌لَاسْتَكْثَرْتُ ‌مِنَ ‌الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ  [الأعراف: 188]، كان تفاديت كل الحوادث وما كان في شيء سبب كل سبب مهلك كان تلافيته، لكن أنا ما أعلم الغيب، يأتي حادث من هنا، سم من هنا، دابة، أفعى، عقرب من هنا، دابة تقلبه من فوقه، تقلب من على ظهرها، يدق عنقه، عدو يتربص به.

وأمر الله -تعالى- نبيه ﷺ وهو صفوته من خلقه أن يقول: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ  [الأنعام: 50].

الجن المؤمنون ماذا قالوا؟

قالوا:  وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا  [الجن: 10].

وماذا قال الله في قصة سليمان لما مات: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين [سبأ: 14] لكنهم يشتغلون، يظنون سليمان على قيد الحياة.

ولأننا لا نعلم الغيب شرعت لنا الاستخارة، ونحن نقول في دعائها: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب [رواه البخاري: 6382] هذه آثار الإيمان بالعظمة الإلهية، وقدرة الله، وعلم الله الغيب.

ويجب على كل مسلم أن يؤمن بهذا الأصل، وأن يوقن به، ومن اعتقد أنه يعلم، أو أن أحدًا غير الله يعلم ما في الغيب، أو ادعى ذلك؛ فقد كفر وضل ضلالاً بعيدًا.

ومن يعتقد أن السحرة أو الكهنة أو العرافين أو المنجمين أو آل البيت أو الأئمة الاثني عشر أو الأولياء أو السادة أو الجن يعلمون الغيب؛ فقد كفر.

فما بالك عندما يقول بعضهم الأئمة: يعلمون ما كان وما يكون وما لو كان كيف سيكون، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنه.

كلام فارغ، سبحان الله، ضلالات، ضلالات متتابعة، شيء مذهل، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "من ادعى علم الغيب فهو كافر، ومن صدق من يدعي علم الغيب فإنه كافر أيضا؛ لقوله تعالى: ‌ قُلْ ‌لَا ‌يَعْلَمُ ‌مَنْ ‌فِي ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌الْغَيْبَ ‌إِلَّا ‌اللَّهُ [النمل: 65]، لا يعلم الغيب في السماوات والأرض إلا الله، وحده".

شف بعض ضلال الصوفية وصلوا إلى درجة أنه يقول: رح للشيخ واسأله، خله يشف لك ماذا في اللوح المحفوظ؟

ولما واحد راح للشيخ قال له: أنا أبغى أسافر؟ قال: لا، في حادث سيظهر عليك قطاع الطرق، قال: أنا بس مضطر يا شيخ أنا لازم أسافر؟ قال له: أنا ما أستطيع أفعل لك شيئًا، بس أنا أخبرك، قال: طيب وإذا لازم ولا بد؟ قال: اذهب للشيخ الآخر فلان، واحد رتبة أعلى، يعني راح له قال كذا كذا، قال: خلاص رُح سافر، سافر ورجع ما صار له شيء.

راح للشيخ الأول: شيخ رحت وسافرت ما حصل لي شيء، ما صار لي شيء؟

قال: أنا عارف، قال: لما قلت لي أول؟ قال: لما أنا حولتك على هذاك، قال: هذاك يغير في اللوح المحفوظ، واحنا ما نغير، أنا بس أطلع، أنا بس أشوف، هذاك يغير.

والله الواحد يعني هل فيه بشر كذا ممكن؟ يعني تقبل عقولهم يعني؟

أين الدين؟ أين الإيمان؟ أين أركان الإيمان لا يعلم الغيب إلا الله؟ أين.. على اللوح المحفوظ على طول أنت أين أنت في الأرض تحت، وهذا يقرأ، وهذا يغير؟

ماذا أبقيتم لله؟ سبحان الله.

وقد قال النبي ﷺ  من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا  [رواه مسلم: 2230]، فإن صدقه، يعني لو سأله لا تقبل له صلاة أربعين يومًا، ولو سأله وصدقه، يعني في ناس يروحوا للتجربة، يقول: أجرب، ويقول: ما نخسر شيئًا.

تخسر عقيدتك يا مسكين، يقول: ما نخسر شيء، خلينا نسأل ما نخسر شيء، وإذا سأله وصدقه خلاص كفر، خرج من الإسلام، كفر بما أنزل على محمد، قال ﷺ: من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ  [رواه أبو داود: 3904، والإمام أحمد: 9536، وغيرهما، وصححه ابن حجر].

والعراف: الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المغيبات فهو أعم من الكاهن.

في واحد يدعي علم المستقبل، في واحد يدعي علم الحاضر والمستقبل، وفي واحد يدعي علم المسروقات والمغيبات.

طبعا هذه ممكن تكون أهون أن الجن يخبرونه، يرون أشياء يخبرونه عن غيب مضى، عن شيء مضى، أو عن شيء مدفون في مكان الآن، لكن المستقبل ما أحد يعرف نهائيًّا، يعني إطلاقا إلا الواحد في المائة من مسترقي السمع التي ينزلون بها إلى الكهان في الأرض، ويخلطون معها تسعة وتسعون كذبة.

والعراف الذي يخبر عما في الضمير أيضا، يجي يقول: أنت في نفسك كذا، وأنت في نفسك كذا.

والكاهن الذي يخبر عن المغيبات التي في المستقبل. كما في "القول المفيد".

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله))

00:35:57

وقوله ﷺ:  مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله  مفاتح الغيب  يعني خزائن الغيب جمع مفتح، وهو المفتاح الذي يفتح به، وهو عبارة عن كل ما يحل مغلقًا كالقفل على البيت.

و"مفاتح" جمع مفتاح، فشبه الأمور المغيبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يدخر بالمخازن، والخزائن المستوثق عليها بأقفال، بحيث لا يعلم ما فيها إلا من بيده مفتاحها أو مفاتحها، فلا يعلم الغيب إلا من بيده مفاتح أقفاله، وهو الله .

ما وجه كون هذه الخمس هي مفاتح الغيب؟ وما هي هذه الخمس على التفصيل؟ وما هي أنواع الغيب؟ يعني في عندنا غيب حاضر؟ غيب ماضي حصل: مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا [هود: 49]، وغيب حاضر الآن في أعماق المحيطات أشياء وفي المجرات الشمسية تحدث أشياء، غيب حاضر، وفي غيب مستقبلي، سنتعرف على ذلك بمشيئة الله -تعالى- في الدرس القادم.

وصلى الله على نبينا محمد