الثلاثاء 2 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 3 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

39- تتمة ما جاء في صوم رسول الله ﷺ


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فقد كنا في الباب الذي عقده المصنف -رحمه الله- عن صيام النبي ﷺ وأورد فيه حديث معاذة قالت: قلتُ لعائشة: أكان رسول الله ﷺ يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: "نعم"، قلت: من أيه كان يصوم؟ قالت: "كان لا يبالي من أيه صام" [رواه الترمذي: 763، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 262].

وهذا معناه أنه لا يبالي صام من أوله أو من وسطه أو من آخره، ولم يواظب على ثلاثة أيام معينة في الشهر لئلا يظنها الناس فرضًا، ولكن الأفضل أن تكون الأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، ويستحب صيام ثلاثة أيام من غرة الشهر، وكذلك ثلاثة أيام من آخر الشهر، وإن صام يومًا من أوله ويومًا من وسطه ويومًا من آخره فلا بأس بذلك.

ثم قال: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي ﷺ يتحرى صوم الاثنين والخميس"، أخرجه الترمذي وأيضًا في جامعه، وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 745، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1044]. 

وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم  وكذلك أخرجه في جامعه بالإضافة إلى كتاب الشمائل، وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي في جامعه: 747، وفي الشمائل: 308، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2959]. 

ومعنى: "تُعرض الأعمال" يعني: على الله ، فأُحب أن يعرض عملي وأنا صائم  أي: طلبًا لزيادة رفعة الدرجة؛ وهذا لا ينافي قول النبي ﷺ:  يُرفع عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل [رواه مسلم: 179]، لماذا؟

مرة أخرى السؤال: حديث:  تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، - تُعرض على الله -، فأُحب أن يُعرض عملي وأنا صائم ، الحديث الآخر يقول: يُرفع عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل  فهل هناك تعارض بين الحديثين؟

 الجواب: لا؛ ما وجه إزالة التعارض، أو ما وجه الجمع بينهما؟ الآن هذا يكون في الليل والنهار أو يكون الاثنين والخميس؟ الجواب: أنه لا تنافي بينهما أصلاً؛ لأن الحديث هذا: في الرفع.

 والحديث الآخر: في العرض، حديث الاثنين والخميس: تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس.

 والحديث الثاني: يرفع عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، فهناك فرق بين الرفع والعرض
؛ لأن الأعمال تجمع في الأسبوع وتعرض في هذين اليومين.

وفي حديث مسلم:  تُعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل مؤمن إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا [رواه مسلم: 36].

إذن، الرفع يتم باستمرار، والعرض يتم مرتين في الأسبوع على الله، فيغفر الله للمؤمنين إلا أهل الشحناء، من بينه وبين أخيه شحناء فإنه يُستثنى من المغفرة، حتى يصطلح مع أخيه.

وهناك رفع آخر في شعبان: قالﷺ: إنه شهر ترفع فيه الأعمال، وأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم ، فقال العلماء: ذلك رفع مفصل -الذي هو الرفع الأسبوعي-، وهذا رفع مجمل الذي هو رفع أعمال السنة كلها تُرفع في شهر شعبان.

والحديث هذا فيه: فضل صيام الاثنين والخميس على غيرهما من الأيام، ولذلك كان النبي ﷺ يتحراهما بالصيام وندب أمته إليهما.

وفيه: أن الأعمال تُعرض على الله في الدنيا، يعني الآن تُعرض أعمالنا وليس فقط العرض يوم القيامة، فالعرض يوم القيامة عرض آخر، وفي الدنيا يوجد عرض أيضًا في عرض على الله الآن في الدنيا.

قال: وعن عائشة قالت: "كان النبي ﷺ يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس" [رواه الترمذي: 746، وصححه الالباني في صحيح الجامع الصغير: 4971].

فكان النبي ﷺ يصوم من الشهر ثلاثة أيام؛ سبت أحد اثنين، الشهر الذي بعده يصوم ثلاثة أيام ثلاثاء أربعاء خميس، فيعدل بين الأيام، وأراد أن يبين سُنّة صوم جميع أيام الأسبوع، وأنه لا بأس أن يصوم الإنسان السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، لا حرج.

وقد جاء النهي عن صوم الجمعة والمقصود إفراده بالصوم، والنهي عن صوم السبت ورد وفيه كلام كثير للعلماء؛ هل هو ضعيف هل هو منسوخ هل المقصود إفراده بالصوم، هناك في هذه المسألة آراء كثيرة.

لكن من فوائد هذا الحديث أن بعض الناس عندهم أشغال في الأسبوع، فربما يناسبه صوم أيام دون أيام، فهناك بعض الناس مثلاً يداوموا أربعة أيام في الأسبوع يعطّل ثلاثة، أليس كذلك؟ وهنالك أيضًا من يعطّل في أيام دون أيام ويعمل فيها مرة أخرى، فعمله معرّض للمرور على كل أيام الأسبوع، وإجازته تتبدل وتتغير.

كذلك بالإضافة إلى أن هذا الحديث فيه عرض على المسلمين بأن يصوموا أي الأيام يريدون من الأسبوع ما عدا إفراد الجمعة، فإنه كذلك فيه استحباب التنويع بين العبادات، فينوع الإنسان بين صيام أيام وترك أيام، وهذا الحديث فيه أيضًا استيعاب أيام الأسبوع بالصيام.

ثم قال -رحمه الله-: عن عائشة قالت: "كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله ﷺ يصومه، فلما قدِم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما افتُرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وتُرك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" [رواه الترمذي: 753، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 263].

إذن، رمضان نسخ فرضية عاشوراء، لكن استحباب عاشوراء باقية، فلا نقول نسخ عاشوراء، نسخ فرضية عاشوراء، فبقيت استحباب صيامه، وعاشوراء بالمد هو اليوم العاشر من محرّم كانت تصومه قريش في الجاهلية قبل بعثة النبيﷺ.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فلا ريب أن قريشًا كانت تعظِّم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولما قدم النبي ﷺ المدينة وجد اليهود يعظّمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه؟ فقالوا: هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون، فقال النبي ﷺ:  نحن أحق منكم بموسى  فصامه وأمر بصيامه تقريرًا لتعظيمه وتأكيده، وأخبر ﷺ أنه وأمته أحق بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شكرًا لله كنا أحق أن نقتدي به من اليهود لا سيما إذا قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالفه شرعنا" [زاد المعاد: 2/67].

وفي هذا الحديث: أن الكفار قد يعلمون ويعملون بعض الخيرات في جاهليتهم، فيصومون وربما يتصدقون وما أشبه ذلك، ولكن هل هذا ينفعهم عند الله؟

 الجواب: لا ينفعهم إن لم يُسلموا، فإذا أسلموا أُثيبوا على ما عملوا في الجاهلية من الخير؛ عِتق، صدقة، كفالة يتيم، صلة رحم، إكرام ضيف، إغاثة ملهوف، العرب في الجاهلية كان عندهم أعمال خيرية، لا شك، وعندهم مكارم أخلاق، لكن بدون توحيد وإسلام لا ينفعهم، ولذلك قالت: ابن جدعان كان في الجاهلية يقري الضيف ويعمل ويعمل؟ قال: هو في النار ، لماذا؟ قال:  إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين  [رواه مسلم: 214]، ما وحّد الله ودعاه وحده لا شريك له، وإنما أشرك معه، ولذلك حبط عمله، ولهذا بشّر النبي ﷺ المسلم الجديد حكيم بن حزام ، لما جاءه قال: يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنّث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر؟ فقال النبي ﷺ: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير [رواه البخاري: 1436].

أسلمت على ما سلف من خير، يعني: على ما سبق منك من أفعال حميدة، فهي قد ثبتت لك الآن في صفحة أعمالك بإسلامك، وثبت أجرها لك، ومعنى قوله: على ما سلف  أي: على ما سبق منك من فعال حميدة، فهي مسجلة لك في صحيفة أعمالك، وثبت لك أجرها بعد إسلامك.

وكان رسول الله ﷺ يصومه، قالت عائشة في الحديث -يعني عن عاشوراء-: "لعله كان يوافقهم كما في الحج -كان يحج معهم- أو بإلهام من الله صادف ذلك"، ففعل خيرًا وافق فعل أهل الكتاب، فلما قدم المدينة صامه ﷺ وأمر بصيامه فصار فرضًا، إذن، ما الفرق؟ أنا أسألكم: هل كان النبي ﷺ يصوم عاشوراء بمكة؟ نعم، هل كان يصومه بالمدينة؟ نعم، ما الفرق بين صيامه بمكة وصيامه بالمدينة؟ صيامه بمكة ما حكمه؟ ما فُرض عاشوراء إلا في المدينة، كان مستحبًا بمكة، فهاجر إلى المدينة فصامه، ولكن صيامه صار فرضًا، ثم نُسخ فرضيته ونُسخت ورجع الأمر إلى الاستحباب، إذن، صيامه بمكة كان مستحبًا أو إلهام من الله وافق أهل الكتاب، لما جاء المدينة فُرض عليه قبل رمضان، ثم نزل صيام رمضان في السنة كم، فرض رمضان؟ الثانية، فنُسخ صيام عاشوراء فرضًا، فرجع صيام عاشوراء إلى الاستحباب، وصار رمضان هو الفرض.

قال صاحب عون المعبود: "اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب"[عون المعبود: 7/78].

قولها في الحديث: "فلما افترض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه"، يعني: صارت الفريضة منحصرة في رمضان، ونسخ وجوب صيام عاشوراء.

قولها: "فمن شاء صامه" أي: ندبًا واستحبابًا، "ومن شاء تركه" أي: لا حرج عليه.

وفيه: أنه يستحب صيام عاشوراء، وصيام يوم بعده أو صيام يوم قبله، فإن الله يكفّر بذلك ذنوب سنة كاملة، والتكفير هذا هل هو للصغائر أو للكبائر أو لكليهما معًا؟

الجمهور يقولون: هذا التكفير للصغائر، وأما الكبائر فتحتاج إلى توبة، الصغائر تكفّر بالحسنات الماحية، وتكفّر بالمصائب، وتكفر بالاستغفار والتوبة، الكبائر لابد لها من توبة، فإذن ممكن الصغائر تكفر بأشياء من أعمال العبد مثل صيام عاشوراء، مثل صيام عرفة، لكن إذا اجتنبت الكبائر، الكبائر لابد لها من توبة لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ  [النساء: 31]، فالكبائر لابد لها من توبة، فإذن قوله: صيام عاشوراء يكفّر سنة ، و صيام عرفة يكفّر سنتين ، المقصود بها الصغائر، ثم إن من الناس من يتم الصيام كما يحب الله، فيكفّر كل السنة، ومنهم من يفسق في صومه ويلغو ويعصي في صيام عاشوراء وصيام عرفة، فلا يتم التكفير كل السنة، ولذلك قوله:  صيام عاشوراء يكفّر سنة ، صيام عرفة يكفر سنتين ، إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، أما الكبائر فلابد لها من توبة.

وصيام عاشوراء يُستحب فيه مخالفة أهل الكتاب؛ بأن نصوم يومًا قبله تاسوعاء وهذا أفضل، أو نصوم يومًا بعده، فإن قال قائل: ويوم قبله ويوم بعده، نقول طيب أحسن وأحسن، أصلاً محرم كله مجال للصيام؛ لأن أفضل الصيام عند الله بعد رمضان صيام شهر الله الذي تدعونه المحرم، فإذن، مهما أكثر من الصيام في محرم فهو طيب.

قبل ما نغادر حديث عاشوراء، لو صام عاشوراء يومًا واحدًا فقط، هل يجوز؟

نعم، ففي هذه الحالة المخالفة ما حكمها؟ مستحبة، فهناك مخالفة واجبة يجب أن نخالف، وهناك مخالفة مستحبة، فالصلاة في النعال من قسم المخالفة المستحبة أو المخالفة الواجبة؟، المستحبة، عدم التشبه بالكفار في أعيادهم من قسم المخالفة الواجبة أو المستحبة؟، الواجبة، عدم الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها مخالفة للذين يعبدون الكواكب، مخالفة واجبة، صبغ الشيب، عند جمهور العلماء مخالفة مستحبة، هاتوا مثالاً آخر على المخالفة الواجبة حتى نعدل، خالفوا المشركين ،  حفّوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين ، فإذن، الأوامر فيها: أوفوا، أرخوا، وفروا، أعفوا اللحى؛ خالفوا المشركين، فهذا يدل على الوجوب.

قال: وعن علقمة قال: سألت عائشة أكان رسول الله ﷺ يخص من الأيام شيئًا؟

قالت: "كان عمله دِيمة وأيّكم يطيق ما كان رسول الله ﷺ يطيق؟" [رواه البخاري: 1987، وأحمد: 24282].

ومقصود السائل: "أكان رسول الله ﷺ يخص من الأيام شيئًا؟" يعني: يخصه بعبادة معينة لا يفعل مثلها في غيره، وهذا من تقصّي أحوال النبي ﷺ ومعرفة سنته.

فبماذا أجابت عائشة علقمة؟ قالت: "كان عمله ديمة" يعني: دائمًا متواصلاً، والديمة في الأصل الذي يسمي ابنته ديمة، هناك أحد سمى ابنته ديمة، ومعنى ديمة: الديمة: المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق، مناسب؛ لأن بعض الناس يريدون الأسماء الخفيفة اللطيفة العفيفة الشريفة فلا يريدون اسم طويل يقولون: لا، خديجة صعب، اعطني اسم كذا يعني هم يقولون: اسم "مودرن" ويُكتب بالإنجليزي بسهولة، ديمة هو في اللغة العربية المطر المتواصل في سكون بلا رعد ولا برق.

قالت: "كان عمله ديمة": فاستعير من المطر المتواصل هذا التواصل في العمل الصالح، قالت: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله ﷺ يطيق" أي منكم يستطيع ما كان النبي ﷺ يفعله، ولذلك فإن النبي ﷺ كان يفعل أشياء بدون ضرر، نحن لو فعلناها نتضرر مثل الوصال في الصوم، وكذلك كان يقوم بعبادات لو فعلناها نحن حصل علينا ضرر أو ما استطعنا أصلاً، ولذلك قالت: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله ﷺ يطيق"، فإن الله رزقه قوة غير عادية، وأيضًا:  أبيت يطعمني ربي ويسقين [رواه البخاري: 1965]؛ من الذي له هذا؟ ويُحتمل أن يكون: "أيكم يطيق": في الخشوع والخضوع والإخلاص وحضور القلب ما كان النبي ﷺ يطيقه ويفعله.

قال: "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل عليّ رسول الله ﷺ وعندي امرأة، فقال: من هذه؟  قلت: فلانة، لا تنام الليل، فقال رسول الله ﷺ: عليكم من الأعمال ما تطيقون، فو الله لا يملُّ الله حتى تملوا  وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله ﷺ الذي يدوم عليه صاحبه" [رواه الترمذي: 312، وصححه الألباني في الشمائل: 265]. أخرجه البخاري ومسلم أيضًا.

وقولها: "دخل علي رسول الله ﷺ وعندي امرأة"، هذه المرأة: الحولاء بنت تُويت، -رضي الله عنها- من العابدات المشهورات، من الصحابيات في المدينة، الحولاء بنت تويت، فقال: من هذه؟ قلت: فلانة، لا تنام الليل، فكانت تسهر في عبادة الله تعالى من صلاة وذكر وتلاوة، فلما سمع النبي ﷺ عبارة لا تنام الليل، قال: عليكم من الأعمال ما تطيقون ، يعني: الزموا ما تستطيعونه من غير ضرر ولا مشقة،  فو الله لا يمل الله حتى تملوا .

وفي هذا الحديث: جواز الحلف من غير استحلاف، وجواز الحلف لتأكيد الحقائق العظيمة، وكذلك تفخيم أمر من أمور الدين، يعني الحلف لتفخيم أمر من أمور الدين، أو الحث عليه أو التنفير من شيء مخالف للدين.

وقوله: لا يمل الله حتى تملوا ، إذا عملتَ الله يجازيك، وإذا سئم العبد من العمل وملّه سيقطعه، فسينقطع عنه الثواب من الله، والعبد يُجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع ثوابه وأجره إلا إذا قطعه لعذر، فإذا قطعه لعذر استمر الأجر والثواب، أما إذا قطعه لغير عذر انقطع الأجر والثواب.

فمثلاً: صلاتك في المسجد كل يوم تصلي الصلوات، لو سافرت وما وجدت مسجدًا، لو مرضت ولم تستطع أن تصلي في المسجد، لو تقدم بك السن ولم تستطع أن تتحرك إلى المسجد، ففي كل هذه الحالات الله يكتب لك أجر صلاة الجماعة في المسجد؛ لأنك تركتها لعدم القدرة، عذر، فيكتب لك مثل ما كنت تعمل، أما إذا تركت العمل وأنت قادر، لكن من الملل كلفت نفسك ما لا تطيق، فماذا حصل؟ مللت؛ ولما مللت انقطعت عن العمل، فانقطع عنك الثواب، ولذلك الشيء المستمر طيب؛ لأنك لو تركته عن عذر استمر الأجر، وإذا كان غير ممل فأنت مستمر فيه والأجر مستمر أيضًا، ولذلك قال: اكلَفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا .

وعندما تأتي مثل هذه الأفعال: "يمل"، وفي حق الله لا يمكن أن نشبِّه فعل الله بفعل المخلوق، ولذلك الله متكبر، نعم، بلا ريب، لو الإنسان تكبر كيف يكون؟ كمال في حق الله، نقص في حق المخلوق، المخلوق له أولاد، ينجب أولاد، الله له ولد؟، لا، المخلوق ينجب أولاد، إذن، هذه الصفة في حق المخلوق كمال؛ لأن العقيم ناقص، أما في حق الله، الولد لله صفة نقص، ولذلك لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3].

النوم في حقنا صفة كمال، لو واحد ما ينام يقولون عنه: مريض، غير طبيعي، وهذا شبه غير منتج الذي لا ينام، يقول ما أستطيع النوم يأتيني أرق، أرق طويل مستمر، هذا إنسان مسكين، لكن في حق الله النوم نقص، فلا يمكن أن ينام،  لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ  [البقرة: 255].

وهناك أفعال المخلوق يقوم بها، والله أيضًا يعملها ويفعلها، ولكن شتان ما بين معناها في حق الله ومعناها في حق المخلوق، فبعض المخاليق يرحم، والله يرحم، لكن أين رحمة المخلوق من رحمة الله؟، وبعض الناس رؤوف، والله تعالى رؤوف، لكن رأفة الله أعظم ولا مقارنة.

فإذن، الشاهد: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  [الشورى: 11]، فعندما نسمع: "لا يمل الله حتى تملوا"، الملل في حقنا معروف سآمة وملل ونقص، أما في حق الله المسألة تختلف؛ لأن الله لا يلحقه نقص، ولذلك نحن نقول دائمًا سبحان الله، سبحان الله، ننزه الله عن النقائص؛ لأن الله لا يلحقه نقص بأي جهة بأي وجه من الوجوه، وأما المخلوق فتلحقه النقائص، المخلوق ليس معصومًا، المخلوق يعصي.

"وكان أحب ذلك إلى رسول الله ﷺ الذي يدوم عليه صاحبه" يعني: ما يواظب عليه، والمواظبة ما المقصود منها: المواظبة العرفية، أما المواظبة المستمرة في كل لحظة غير ممكنة للمخلوق، يعني لو قلنا مثلاً كان يواظب على الاستغفار، هل معناها كل ثانية في الأربع وعشرين ساعة، كل ثانية يستغفر، ما يمكن، لكنه كان يكثر منه، فإذن، "كان أحب ذلك إلى رسول الله ﷺ الذي يدوم عليه صاحبه" المقصود بها: المواظبة العرفية، أما المواظبة الحقيقية ما يمكن.

الحديث فيه: الحث على الاقتصاد في العبادة، واجتناب تكليف النفس بأعمال من المستحبات لا تطيقها، مثل واحد يقوم الليل دائمًا من بعد العشاء إلى الفجر، من بعد العشاء إلى الفجر، من بعد العشاء إلى الفجر، هل الإنسان بهذا الوضع سيكون بخير وعافية ومزاجًا طيب وصحة وقدرة على العمل والكسب للعيال؟

لا، في النهاية لو فعل هذا كل يوم من العشاء إلى الفجر قيام؛ خلاص سينهار، ما يستطيع،  اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا  [رواه البخاري: 6465، وأحمد: 24322]، وأحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه، ولو كان قليلاً؛ لأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.

 وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا  [الحديد: 27]؛ فهؤلاء الرهبان كلفوا أنفسهم أشياء لا تطاق في النهاية انهاروا، ما استطاعوا، فمثلاً امتنعوا عن الزواج، وبعد ذلك اكتشفت الجرائم الجنسية، واكتُشفت عمليات الفاحشة، واكتشفت الأشياء الكثيرة مع الراهبات، واعتداء الرهبان على الأطفال في الكنائس، المسألة صارت فضائح.

وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص  على تركه قبول رخصة رسول الله ﷺ في تخفيف العبادة ومجانبة التشديد، فإن النبي ﷺ نصح لعبد الله بن عمرو، أول شيء كان شابًا وكان متحمسًا، فكان يقوم الليل يصوم النهار مستمر، قراءة القرآن، ممكن يختم في الليلة، فالنبي ﷺ علّمه أن ينام ويقوم ويصوم ويفطر، قال له: صم من كل شهر ثلاثة أيام ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك،  صم يومًا وأفطر يومين ، أطيق أكثر من ذلك،  صم يومًا وأفطر يومًا ، أطيق أكثر من ذلك، قال: لا أكثر من ذلك [رواه البخاري: 1978، ومسلم: 1159]. الآن هو الآن خرج من عند النبي ﷺعلى هذا الأساس استمر، لما كبر في السن صارت تأتيه أيام ما يستطيع يصومها من كبر السن، فماذا كان يفعل؟ إذا اضطر يعني جاءه مثلاً فترة ضعف شديد وهو في حال تقدّم السن، ما يستطيع يصوم في هذا الأسبوع فيفطر كل الأسبوع، الأسبوع الذي بعده إذا نشط صام أسبوعًا كاملاً يعوض فوات الصيام؛ لأنه يكره أن يكون فارق النبي ﷺ على شيء ثم ينزل عنه، فيريد أن يستمر على نفس المعدل، فهو يقول: "ليتني قبلت رخصة رسول الله ﷺ" لما قال لي يعني أفطر ثلاثة وصم يوم، أفطر يومين وصم يوم، وهو يقول أطيق أكثر من ذلك، أطيق أكثر من ذلك، وفي قراءة القرآن نفس الشيء وفي قيام الليل.

فلذلك الإنسان لا ينقطع عن الخير ويعمل مستحبات ومن كل عمل له سهم منه، يعني سواء كان قيام ليل، تلاوة قرآن، أذكار، أدعية، أوراد، صيام نافلة، لكن بقدر ما يستطيع المواظبة عليه، بقدر ما يستطيع المواظبة عليه، فإن النجاح في المواظبة، وليس في أن الإنسان يتحمّس مثلاً فترة معينة ثم ينقطع طيلة السنة، كما يحصل في رمضان، بعض الناس يتحمّس في رمضان ثم لا يفعل مستحبات في رمضان، ما يفعلها إلا في رمضان أصلاً، غير رمضان ما يفعل لا يكاد يفعلها، وهناك أشياء الإنسان في رمضان ينبغي أن يفعلها لكن في غير رمضان لابد أن يعملها أيضًا، وإن كان بنسبة أقل لكن لا ينقطع.

وفي هذا الحديث: الحث على المداومة على العمل، وأن قليل الدائم خير من كثير منقطع، وإنما كان القليل الدائم أحسن؛ لأنه بدوامه تدوم الطاعة والذكر والصلة بالله والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق، فيحصل الازدياد التدريجي بعد ذلك، أما إذا انقطع انقطع الخير.

وعن أبي صالح قال: سألتُ عائشة وأم سلمة أي العمل كان أحب إلى رسول الله ﷺ، قالتا: "ما ديم عليه وإن قل"، أخرجه الترمذي أيضًا في جامعه وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي في جامعه: 2856، وفي الشمائل: 313، وصححه الالباني في مختصر الشمائل: 266]

"ما ديم عليه" يعني: ما واظب عليه صاحبه وداوم، وإن قلَّ، ولو قلَّ هذا العمل فإن الكثير ينقطع، ففي الحديث الحث على المداومة على العمل، وأن العمل الدائم له ميزات.

قال ابن الجوزي: "إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصول، فهو متعرض لهذا، ولهذا أورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا تتعين عليه.

والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس مَن لازم الباب في كل يوم وقتًا كمن لازم يومًا كاملاً ثم انقطع"[فتح الباري لابن حجر: 1/103].

يقصد أن الذي يداوم على الخير ولو قل فهو دائمًا يقترب من الله في هذا العمل، كل يوم يفعل ولو قليلاً فهو يطيع الله في هذا العمل الذي يعمله ولو كان قليلاً، فلو واحد كل يوم يأخذ عشر دقائق قرآن فقط، مثلاً، عشر دقائق هذه يسيرة، لكن كل يوم هو يقترب، يعني عندما يقوم بهذا العمل فهو يكلّم ربه بقراءة القرآن، وهو يتصل بالله بقراءة القرآن، وهو يعبد الله بقراءة القرآن، فلذلك هو كل يوم عنده اتصال مع الله كل يوم، لكن لو جاء كذا وختم القرآن في يوم، وعليها، معناها سيأتي اليوم الذي بعده ما في صلة بالله، اليوم الذي بعده ما في صلة، اليوم الذي بعده ما في صلة بالله، واليوم الذي بعده، وهكذا، "وليس من لازم الباب في كل يوم وقتًا كمن لازم يومًا كاملاً ثم انقطع".

الحديث الأخير في الباب: عن عوف بن مالك قال: "كنت مع رسول الله ﷺ ليلة فاستاك ثم توضأ ثم قام يصلي، فقمتُ معه فبدأ فاستفتح البقرة فلا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع فمكث راكعًا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر ركوعه ويقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ آل عمران ثم سورة يفعل مثل ذلك في كل ركعة" [رواه أحمد: 23980، والنسائي: 1049، وصححه الألباني في المشكاة: 882]  .

وقوله: "فاستاك ثم توضأ"، فيه إشارة إلى أن السواك قبل الشروع في الوضوء، وورد السواك مع الوضوء فقال بعض العلماء: يستاك عند المضمضة، ووردت أدلة تفيد –بمجموعها- استعمال السواك قبل الوضوء وأثناء الوضوء وبعد الوضوء، كانوا يحضرون للنبي ﷺ سواكه فيقوم يتوضأ ويستعمل السواك، فالأدلة بمجموعها لو قال واحد: كيف بالنسبة للوضوء مع السواك، ما السنة؟

فنقول: مجموع الأدلة السواك قبل الوضوء مباشرة، وأثناء الوضوء، وبعد الوضوء، فلو فعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة لا بأس، فإذا رأيت شخصًا في بيته السواك عند المغسلة مثل فرشاة الأسنان، وضع السواك في كأس من زجاج فوق المغسلة، معناه هذا إنسان يطبّق السنة، يعني يتوضأ ويتسوك أثناء وضوئه، وهذا من السنة، وقيل: عند المضمضة وقبل الوضوء مباشرة وبعد الوضوء مباشرة، كل ذلك صحيح.

قوله: "فاستاك ثم توضأ"، هذا لأن الفم طريق خروج القرآن، فينظف مخرج القرآن ليخرج القرآن فيمر على طريق طاهر نظيف، القرآن يخرج من الفم فيمر على طريق طاهر نظيف، ولذلك ورد في الحديث أن الإنسان إذا توضأ وتسوك وقام الليل يصلي، وضع ملك فاه على فيه، يعني فم الملك على فم القارئ، فلا يخرج من فم القارئ آية إلا دخلت في فم الملك إذا تسوك، أما إذا كانت رائحة الفم متغيرة  فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم [رواه مسلم: 564].

قال: "فاستاك ثم توضأ ثم قام يصلي، فقمت معه ..." الحديث استفتح البقرة "فلا يمر بآية رحمة إلى وقف فسأل" يعني: سأل الله الرحمة، أو ذكر الجنة سأل الله الجنة، "ولا يمر بآية عذاب" إلا وقف فتعوذ من هذا العذاب ومن شر العقاب.

ويقول في ركوعه الطويل: "سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة"، الجبروت: الملك والقهر، والملكوت: الملك الظاهر فيه اللطف، والكبرياء والعظمة: صاحب الكبرياء وصاحب العظمة، وقد اختص بذلك، فلا يجوز لأحد أن يدعو نفسه صاحب الكبرياء، ولا يجوز لأحد أن يلقّب نفسه صاحب العظمة؛ لأن الكبرياء والعظمة لله -عز وجل-، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.