الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قال المصنِّف - رحمه الله -: باب ما جاء في صفة سيف رسول الله ﷺ، عن أنس قال: كانت قبيعة سيف رسول الله ﷺ من فضة" حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1691، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 85].
والقبيعة هي غطاء المقبض سواء كان هذا الغطاء من حديد أو من غيره.
وقال ابن الأثير في كتابه النهاية: "القبيعة هي التي تكون على رأس قائم السيف، وكانت قبيعة سيف رسول الله ﷺ من فضة" [النهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 7].
والحديث دلّ كما قال البغوي في شرح السنة على: "جواز تحلية السيف بالقليل من الفضة وكذلك المنطقة" [شرح السنة للبغوي: 10/398].
وقال ابن قدامة: "ولا بأس بقبيعة السيف من فضة لما روى أنس وذكر الحديث، وقال هشام بن عروة: "كان سيف الزبير محلّى بالفضة أنا رأيته"[المغني لابن قدامة: 9/175].
لكن روى البخاري عن سليمان بن حبيب، قال: "سمعتُ أبا أمامة يقول: "لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة، إنما كانت حليتهم العلابي، والآنُك والحديد" [رواه البخاري: 2909].
وهذا الحديث الذي رواه البخاري - رحمه الله - عن سليمان بن حبيب المحاربي قاضي دمشق في زمن عمر بن عبد العزيز، يروي عن الصحابي الجليل أبي أمامة أنه قال: "لقد فتح الفتوح قوم" يتحدث عن الصحابة، أساس الإسلام ومادة هذا الدين الذين فتحوا جزيرة العرب وفتحوا فارس والروم والفتوح العظيمة فيصف أسلحتهم، وحلي هذه الأسلحة، هل كان فيها ذهب وفضة، أم لا؟ فقال: "ما كان حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة، إنما كانت حليتهم العلابي"، جمع علباء، والعلابي الجلود الخام التي ليست بمدبوغة، و تُطلق العلابي أيضًا على العصب تؤخذ رطبة فيشد بها جفون السيوف وتلوى عليها فتجف، إذن، هذه الجلد، وكذلك تلوى رطبة على ما يصدع من الرماح، وقيل هي عصب العنق، فالعصب من البعير مثلًا معروف؛ دم ولحم وعصب، في أوتار في عصب، عصب العنق هو أمتن ما يكون من عصب البعير، فهل هذا العصب يؤخذ رطبًا ويُشد على جفون السيوف ويُلوى عليها فتجف؟ أو أنه يُلوى رطبًا على ما يتصدع من الرماح؟
فإذن، قيل في العلابي: هي الجلود غير المدبوغة، وقيل: هي العصب.
وقوله: "والآنُك"، الآنك هو الرصاص وهو معدن معروف، فقيل: الآنك هو الرصاص الخالص، وقد ورد في الحديث الصحيح: أن من استمع حديث قوم وهم له كارهون صُبّ في أُذنيه الآنك يوم القيامة [رواه أحمد: 3383، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6028]. والآنُك هو الرصاص المذاب، والأذن حساسة جدًا، فإذا صُبّ فيها هذا المعدن الثقيل فهو العذاب الأليم، وجاء التعذيب في موضع المعصية، أليس قد تجسس عليهم، واستمع إلى حديث قوم وهم له كارهون؟ فيُصبّ الرصاص المذاب في أذنه.
فالآنك هذا الرصاص كان مما تُحلى به سيوف الصحابة، والمقصود أن تكون قوية ومقبضها قوي، وليس هي مجرد زينة وزخرفة، لا، ولذلك قوله: "العلابي والآنك" ليبين أن القوم كانوا بعيدين عن الزخرفة والنقوش، القضية قضية تهيئة هذا السلاح للضارب به بحيث لا يفلت من يده، وأنه يستطيع التحكم به تحكمًا قويًا.
قال: "وقد وقع عند ابن ماجة لتحديث أبي أمامة بذلك سبب؛ وهو: "دخلنا على أبي أمامة فرأى في سيوفنا شيئًا من حلية الفضة، فغضب وقال وذكر الحديث"، قال ابن حجر: "وأخرجه هشام بن عمار في فوائده، والطبراني من طريقه من وجه آخر عن سليمان بن أبي حبيب قال: "نزلنا حمص قافلين من الروم - راجعين من غزو الروم -، فإذا عبد الله بن أبي زكريا ومكحول، فانطلقنا إلى أبي أمامة - يعني الصحابي - فإذا هو شيخ هرِم، فلما تكلم إذا رجل يبلغ حاجته - مع أنه هرِم لكن في الكلام مبلغ مؤدي مبين - ثم قال: "إن رسول الله ﷺ بلّغ ما أُرسل به، وأنتم تبلغون عنا"، والمقصود بقوله: "أنتم؟" التابعون، مثل مكحول وغيره، "ثم نظر إلى سيوفنا، فإذا فيها شيء من الفضة، فغضب حتى اشتد غضبه"
الآن كيف نجمع بين الأحاديث، هذا حديث أبي أمامة ينهى عن الفضة وفي الحديث الذي قبله أنه كان في فضة، فما هي القضية؟ قال ابن حجر - رحمه الله -: "وفي هذا الحديث أن تحلية السيوف وغيرها من آلات الحرب بغير الفضة والذهب أولى، وأجاب من أباحها بأن تحلية السيوف بالذهب والفضة إنما شُرع لإرهاب العدو، وكان لأصحاب رسول الله ﷺ عن ذلك غنية - يعني ما هم محتاجين لإرهاب العدو بهذه الطريقة؛ لأن عندهم من الشجاعة وقوة النفس وذكر الله ما يغنيهم عن إرهاب العدو بجعل الذهب والفضة في الأسلحة - "فكان لهم غنية لشدتهم في أنفسهم وقوة إيمانهم" [فتح الباري لابن حجر: 6/96].
وما دام ثبت الحديث بجواز تحلية مقبض السيف مثلًا بيسير من الفضة، فلا بد أن نقول بجوازه، لكن لعل أبا أمامة أنكر عليهم التوسُّع في ذلك، وليس النهي عن أي شيء من الفضة، لكن كأنه رأى التوسُّع فنهاهم عنه.
ونفيه أن يكون الذين فتحوا الفتوح وهم أصحاب النبي ﷺ يفعلون ذلك يعني أنهم ما كانوا يتوسعون فيه، وأما ما رواه أحمد - رحمه الله - في المسند: "لقي أبو ذر أبا هريرة وجعل قبيعة سيفه فضة، من الذي جعل قبيعة سيفه فضة؟ أبو هريرة؛ لأن أبا ذر أصلًا بعيد عن هذه الأشياء كلها، أبو ذر من أزهد الزاهدين في العالم، ولذلك فلا يمكن أن يفعل مثل هذا، والقبيعة: مقبض السيف.
أبو ذر لقي أبا هريرة وعلى قبيعة سيفه شيء من الفضة فنهاه، وقال أبو ذر: قال رسول الله ﷺ: ما من إنسان، أو قال أحد ترك صفراء أو بيضاء إلا كُوي بها والصفراء: الذهب، والبيضاء: الفضة.
والمقصود بالحديث: ترك الذهب والفضة بلا زكاة فيكوى بها يوم القيامة، ألم يقل الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة: 34 - 35]، لو واحد عنده مليون دينار ما أخرج زكاتها، مليون دينار ذهب، مليون قطعة، كيف يُكوى بها يوم القيامة وأصلًا مساحة جسمه ما تحتاج مليون لتُغطّى، فيكفي عشرات من القطع لتُغطّى جباههم وجنوبهم وظهورهم، الجبين والجنب والظهر، فكيف يُعذب بها؟ تمد جلودهم كما قال الصحابي كما ثبت، تمد جلودهم حتى تتسع لكل الأموال التي ما زكوها وتضاعف مساحتها لتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، بكل المال بكل الكنز، مليون قطعة، سيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، وقيل: إن التعذيب على هذه الأشياء الثلاثة؛ لأن الفقير المستحق أول ما يأتي يصد عنه بوجهه يعني: الجبين، فإذا زاد الفقير في السؤال أعطاه جنبه، فإذا زاد الفقير في الطلب ولى ظهره، هذا الغني ولاه ظهره، أول يعرض الوجه والجبين ثم الجنب يعطيه الجنب ثم يعطيه الظهر، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، منعوا حق الله، فإذن، يُحمل حديث أبي ذر: قال رسول الله ﷺ: ما من إنسان أو قال أحد ترك صفراء أو بيضاء إلا كوي بها على المال الذي لم تؤد زكاته وهو الذي يسمى كنزًا، أما إذا أُديت زكاته فليس بكنز ولو بلغ ملايين، كل مال أديت زكاته فليس بكنز، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يسمى كنزًا، متى يسمى كنز؟ إذا كان ما أديت زكاته يسمى كنزًا ويعذب صاحبه، أما قليل من الفضة في مقبض السيف فلا بأس به، ولا يدخل في هذا الوعيد.
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد أن النبيﷺ كان له تسعة أسياف، قيل إن أولها يسمى مأثور ملَكه وورثه من أبيه، والعضب اسم سيف آخر، وذو الفَقار الثالث، أو ذو الفِقار، بفتح الفاء أو بكسرها، وكان لا يكاد يفارقه وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله فيها فضة" [زاد المعاد: 1/126].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن ذا الفقار كان سيفًا لأبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر، فصار للنبي ﷺ، والقلعي والبتّار والحتف والرسوب والمخذم والقضيب، أسماء سيوف النبي ﷺ التسعة، وقد رأى النبي ﷺ في سيفه ذي الفقار رؤيا فيما روى الإمام أحمد - رحمه الله - عن ابن عباس قال: "تنفّل رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، فقال: رأيت في سيفي ذي الفقار فلًا فأولّته فلًا يكون فيكم، ورأيت أني مُردفٌ كبشًا، فأولّته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تُذبح، فبقرٌ والله خير، فبقر والله خير فكان الذي قال رسول الله ﷺ. [منهاج السنة النبوية: 8/103].
يعني فعلًا حصل ما أوله من الرؤيا في غزوة أحد فكان ذبح البقر هو ما وقع في الصحابة من القتل، والمدينة التي رجع إليها، وخرج منها أصلًا هي الدرع الحصينة، ولذلك الكفار ما رجعوا إليه في المدينة ولا هاجموه في المدينة بعد ذلك، بعد الغزوة أو في الغزوة مباشرة، إنما جاءوا في الخندق، وهناك عبارة مشهورة: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي، وهذا يُروى حديث عن النبي ﷺ، ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذبه معروف من غير جهة الإسناد" [مختصر منهاج السنة: 252].
باب ما جاء في صفة درع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال - رحمه الله -: باب ما جاء في صفة درع رسول الله ﷺ، عن الزبير بن العوام قال: كان على النبي ﷺ درعان يوم أُحد، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فأقعد طلحة تحته فصعد النبي ﷺعليه حتى استوى على الصخرة، قال: "سمعت النبي ﷺ يقول: أوجب طلحة حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1692، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 89].
والدرع جُبّة من حديد وهي من ملابس الحرب.
كان للنبي ﷺ درعان، وهذا فيه تعليم لنا باتخاذ الأسباب، يعني مع أن النبي ﷺ لن يموت قبل أن يبلِّغ ولن يقتل قبل أن يبلغ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، ومع ذلك أخذ الأهبة واستعد ولبس درعين ﷺ مبالغة في أخذ الحذر والحيطة وامتثالًا لأمر الله وخذوا حذركم، وامتثالًا لقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، وهذه من أسباب القوة، وأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، النبي ﷺ حفر له يوم أحد حفرة حفرها هذا الفاسق أبو عامر فوقع فيها النبي ﷺ حفرها له ذلك الكافر فوقع فيها النبي ﷺ، فلما أراد أن ينهض وعليه الدرعان ثقل، وكان يريد أن يتوجه إلى الصخرة ويعلو عليها ليستوي وينظر إلى الكفار ويشرف على الأبرار من أصحابه ويقوم المعركة وميزان المعركة ويوجه بأوامره ﷺ، ويرى ما آل إليه الأمر ويوجه بأوامره ﷺ فلما لم يستطع أن يفعل ذلك بنفسه، أقعد طلحة وصعد حتى استوى على الصخرة، ولذلك قال ﷺ: أوجب طلحة [رواه الترمذي: 1692، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 89]. أي: وجبت له الجنة، أثبتها لنفسه بهذا العمل، فقد خاطر بنفسه يوم أحد، وفدى النبي ﷺ بنفسه، وجعل جسده وقاية للنبي ﷺ حتى طُعن ببدنه وجُرح جميع جسده، بل شُلّت يده، بل قيل: إن في طلحة كان بضع وثمانين جرحًا، ولما أصابه السهم الذي قطع الأصابع أو جرح الأصابع، قال: حس، قال: لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون [رواه النسائي: 3149، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5276]. وحس كلمة تقولها العرب عند الألم، و هذا الحديث فيه منقبة عظيمة لطلحة ، وهو أحد المبشرين بالجنة، وقد فدى النبي ﷺ بنفسه وطأطأ له ظهره حتى اعتلاه وصعد عليه، ﷺ، وهذه أعمال الصحابة التي فاقوا غيرهم فيها.
قال: وعن السائب بن يزيد: "أن رسول الله ﷺ كان عليه يوم أحد درعان قد ظاهر بينهما" [رواه الترمذي في الشمائل: 112، وحسنه الألباني في مختصر الشمائل: 90]. لبس أحدهما فوق الآخر، كأنه جعل أحدهما ظهارة والآخر بطانة، ولبس الدرع ولبس الدرع يقوي في الإقدام على العدو.
ومن الأشياء التي لبسها النبي ﷺ أخذًا بالأسباب أيضًا والحيطة والحذر من آلات الحرب المغفر، فقال ابن القيم - رحمه الله - في فوائد فتح مكة: وقد دخلها النبي ﷺ وعلى رأسه المغفر، ومن الفوائد: أن من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله تعالى بمسبباتها قدرًا وشرعًا، فإن رسول الله ﷺ أكمل الخلق توكلًا، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح، ودخل رسول الله ﷺ مكة والبيضة على رأسه" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 3/420]. وقد أُنزل الله عليه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، وكثير ممن لا تحقيق عنده ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا ويتكايس في الجواب تارة بأن هذا فعله تعليمًا للأمة، وتارة بأن هذا نزل قبل الآية، أي آية؟ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وهذا كلام كله خطأ، يعني النبي ﷺ فعل هذا أخذًا بالأسباب وامتثالًا لقول الله: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71]، امتثالًا لقول الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، وقد يقول قائل: إذا كان الله عصمه من الناس، فكيف جُرِح؟ وكيف سقط في الحفرة؟ وكيف أكل من الشاة المسمومة ومات بسببها؟ حدث مرة في مصر عند بعض الأمراء لما ذُكر له الحديث أكل الرسولﷺ من الشاة المسمومة التي أهدته إياها اليهودية، وما نُقل من أنه كان لا يأكل بعد ذلك شيئًا من أحد إلا إذا أكل الذي قدّمه إليه أولًا، قالوا: وفي هذا أُسوة للملوك، فقال قائل: كيف يجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، فإذا كان الله - سبحانه- قد ضمن له العصمة فهو يعلم أنه لا سبيل لبشر إليه، وأجاب بعضهم بأن هذا يدل على ضعف الحديث، وبعضهم بأن هذا كان قبل نزول الآية، فلما نزلت لم يكن ليفعل ذلك بعدها، ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها لأغناهم عن هذا التكلُّف، فإن هذا الضمان له من ربه - تبارك وتعالى - لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، يعني هل معنى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، يعني لا تأخذ بالأسباب، إذن يخرج هكذا متجردًا؟ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أم وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، ومن أسباب العصمة من الناس أخذ الأسباب، الأخذ بالأسباب، كما أن إخبار الله له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العُدّة والقوة ورباط الخيل والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه ومحاربته بأنواع الحروب والتورية، فكان إذا أراد الغزوة ورى بغيرها، وذلك لأن هذا إخبار من الله عن عاقبة حاله ومآله فيما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله مفضية يعني مؤدية إلى ذلك يعني إلى العصمة، يعني لا يستطيع أحد أن يقتل النبيﷺ قبل أن يبلغ ما أمره الله بتبليغه أو النبي ﷺ ميّت ميّت، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30]، فالله ضمن للنبي ﷺ الحياة حتى يبلغ كل الدين، والله يعصمك من الناس، يعني أنت محفوظ لا يمكن أحد أن يقضي عليك حتى تبلغ رسالة ربك، فهل معنى أن الله يعصمك من الناس يعني أنك لا تأكل ولا تشرب ولا تحتاط ولا تأخذ الأهبة ولا الحذر من العدو؟ لا، الله يعصمك من الناس وأنت تأخذ بالأسباب، لا تعارض، وهذا موضع غلط فيه كثير من الناس، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وقال لا فائدة فيه المقدور سيأتيني سيأتيني، الرزق سيأتيني سيأتيني، دعوت أو ما دعوت، سيأتيني، والحادثة التي سيحصل علي سيأتيني سيحدث سواء دعيت أو ما دعيت، والولد سيأتيني دعيت أو ما دعيت وهكذا فتركوا الدعاء، والمغفرة ستحصل لك ستحصل دعيت أو ما دعيت بأن الله يرحمك ويغفر لك، الرحمة ستأتي ستأتي، دعيت الله يرحمك أو ما دعيت، والهداية ستأتي إذا دعيت بالهداية أو ما دعيت وهكذا واطرد هذا، فيقال وهل هذا إلا قول المجانين، أليس الدعاء من الأسباب، إذا واحد أراد أن ينبت له زرعًا، أليس يبذر، ما هو البذر؟ سبب، إذا أراد الولد تزوج، ما هو الزواج؟ سبب، وطء الزوجة سبب، فهل يقول الواحد والله الزرع إذا كان الله مقدر أنه يطلع لي زرع في مزرعتي سيطلع الزرع سواء بذرت أو ما بذرت، سقيت أو ما سقيت، والولد سيأتيني ولد إذا كان الله مقدر لي ولد سيأتيني سيأتيني سواء تزوجت أو ما تزوجت، وطئت الزوجة أو ما وطئت الزوجة، فهل يقول هذا عاقل؟ إذن ممكن يكون دخول الجنة بسبب دعائك، وعتقك من النار بسبب دعائك، وغفران ذنوبك بسبب دعائك، وهذا سبب، والله كتب وقدّر الأسباب والمسببات، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن النبي ﷺ كان له سبعة أدرع؛ ذات الفضول وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير لعياله ﷺ بثلاثين صاعًا، وكان الدين إلى سنة، وكانت الدرع من حديد، وذات الوشاح وذات الحواشي والسعدية وفضة والبتراء والخرنق"، فهذه أو فهذا شيء من خبر سيوفه ﷺ وأدراعه، ووصلنا إلى باب ما جاء في صفة مغفر رسول الله ﷺ وهي الآلة التي كان يلبسها على رأسه؛ لتقيه من ضربات العدو، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.