الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الأرواح لها مستقرٌ في البرزخ، وكما تتفاوت منازلها في العلم والإيمان في الدنيا، فكذلك تتفاوت منازلها في دار القرار، قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك"، ثم قال: "ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنها كلها حقٌ يصدِّق بعضها بعضا لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها، وأن لها شأنًا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا، وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة - هناك أرواح مرسلة طليقة وأرواح محبوسة - وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة بعد مفارقة الجسد صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار"[ الروح: 116].
فإذن هو يشبِّه حالة الروح في البدن في الدنيا بحالة الولد في بطن امه ويشبِّه خروج حال الروح بعد خروجها من البدن في البرزخ، عندما تكون بعد الموت بحال الولد الذي خرج من بطن أمه، فيكون تأثر الروح ألمًا أو نعيمًا أشد من تأثرها في الدنيا فهي في البرزخ تتعرض لنعيم أو عذاب أشد مما تشعر به في الدنيا.
قال: "فلهذه الانفس أربع دور؛ كل دار أعظم من التي قبلها الدار الأولى في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث، والدار الثانية هي الدار التي نشأت فيها وألِفتها واكتسبت فيها الخير والشر وأسباب السعادة والشقاوة، والدار الثالثة دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، ولذلك لو قال قائل: هل نحن نمكث في البرزخ أكثر أو في الدنيا أكثر؟ في البرزخ أكثر، في الدنيا بين الستين والسبعين في البرزخ الله أعلم كم من الوقت والمدة، لكنها أطول من حياتنا هذه، "والدار الرابعة دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها، والله ينقلها - الروح - في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خُلقت لها وهيئّت للعمل الموصل إليها، ولها في كل دار من هذه الدور حُكمٌ وشأن غير شأن الأخرى، فتبارك الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها، الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها، فمن عرفها كما ينبغي شهد ألا إله إلا الله لا شريك له، له الملك كله وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرجع الأمر كله، وله القوة كلها والقدرة، كلها والعز كله والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذين جاؤوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقرُّ به الفطر وما خالفهم هو الباطل وبالله التوفيق"[ الروح: 117].
ومنازل الأرواح في عالم البرزخ تتفاوت فأولها أرواح الأنبياء وأعلاها هذه الأرواح الطاهرة في أعلى عليين؛ لأن أصحابها الأنبياء - عليهم جميعا صلوات الله وسلامه - هم أعلى البشر مقاما في الدنيا وفي الآخرة فهكذا تكون أرواحهم في البرزخ في أعلى مقام للأرواح وإن كانوا يتفاوتون في منازلهم في البرزخ النبي ﷺ لما عرج به إلى السماء مر بالأنبياء في السماوات على رتب متفاوتة وقد سمعت عائشة رسول الله ﷺ يقول في آخر لحظات حياته وهو يجود بنفسه: بأبي هو وأمي اللهم الرفيق الأعلى فقالت أم المؤمنين : "فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها" [رواه البخاري: 4463، ومسلم: 2444].
وثبت أيضا في البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين الدنيا والآخرة وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بُحّة شديدة فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فعلمتُ أنه خُيِّر" [رواه البخاري: 4586]
يعني أنه الآن اختار اللحاق بالرفيق الأعلى مع إخوانه الأنبياء السابقين والشهداء والصالحين وهذه البُحّة التي أخذته تغير في الصوت يغلظ له الصوت بما يعتري الحلق أخذته البحة وهو في اللحظات الأخيرة من وفاته ﷺ وكان يقول: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى والرفيق الأعلى سبق تفسيره وقيل: هو الجنة وقيل: هو الله ولكن الراجح هم الأنبياء والصديقون والشهداء قال آخر الآية: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69].
نلاحظ أن النبي ﷺ لم يُنقل عنه في آخر كلامه الشهادة وإنما كان آخر كلماته الرفيق بل الرفيق الأعلى، قال السهيلي - رحمه الله -: "الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يُستفاد منه الرخصة لغيره، أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر" فمثلا لو واحد مات بالسكتة القلبية وما استطاع أن يقول لا إله إلا الله هل يُقال: خاتمة سوء وهذا الرجل معذّب مثلا؟ لا، بل قد يكون في قلبه من الإيمان اعظم من بعض الذين تمكنوا من نطق الشهادة، لكن من نطق الشهادة قبل الموت يُرجى له حسن الخاتمة والذي ما نطق بالشهادة قبل الموت قد يكون مثل الذي نطق أو أعلى أو أقل، فهذا النبي ﷺ آخر ما قال: بل الرفيق الأعلى ثم قُبِض.
قال الحافظ - رحمه الله -: "فهم عائشة من قول النبي ﷺ: في الرفيق الأعلى أنه خُيّر نظير فهم أبيها من قوله ﷺ: إن عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عندهففهم أبو بكر في تلك الخطبة أن العبد هو النبي ﷺ وبكى، كذلك فهمت بنته صاحبة هذا الفهم بنت صاحب ذلك الفهم" [فتح الباري لابن حجر: 1/165].
ثانيا: المرتبة التي تليها أرواح الشهداء؛ والشهداء قال بعض المفسّرين: العلماء، وقال: بعضهم: قتلى المعارك وأما تسمية العلماء بالشهداء؛ لأنهم يشهدون لله بالواحدنية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران: 18]، فهم شهداء؛ شهداء لله على شرعه وعلى دينه وهم الموقعون عن رب العالمين والشهداء قتلى المعارك ثبتت تسميتهم بذلك في سبيل الله فلا شك أنهم اشتهروا باسم الشهداء، هؤلاء المرتبة التي تليها بعد الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169].
وفي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية؟
قال: "أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال - يعني رسول الله ﷺ: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطّلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئًا؟ شهداء المعارك في سبيل الله كقتلى أُحد، جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة وتأكل من أشجار الجنة، وبعدما تنتهي من هذه الرحلة في الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ومعروف أن العرش - عرش الرحمن - سقف جنة الفردوس، فبعدما تنتهي من رحلتها في الجنة تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا وماذا نريد أكثر من ذلك ففعل ذلك بهم ثلاث مرات هل تشتهون شيئا هل تشتهون شيئا فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ولا بد من جواب قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى يعني لما رأوا من النعيم قالوا: نريد شهادة بعد شهادة بعد شهادة لنزداد نعيما بعد نعيم، فلما رأى - يعني الله أن ليس لهم حاجة تركوا فإنه قد قضى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا" [رواه مسلم: 1887].
ومن الفروق بيننا وبين أهل البدع كالمعتزلة أننا نؤمن بأن الجنة موجودة الآن وأن الأرواح تنعّم فيها، نحن الآن في الدنيا وهناك أرواح تنعّم في جنات النعيم أما أولئك المبتدعة يرون أن الجنة غير مخلوقة وأنها لن تخلق إلا يوم القيامة بينما الجنة خلقت من زمان وفيها أرواح تنعّم، هذه الجنة التي أُخرج منها آدم أصلا، وفي هذا الحديث إثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة، وفي الحديث أن الأرواح باقية لا تفنى فينعم المحسن ويعذب المسيء، والذي يظن أن الميت إذا مات ماتت روحه معه فهذا مسكين جاهل أو ضال، فإن الروح لا تموت باقية وتشعر وتعذّب وتنعّم موجودة، خروج من الجسد وتعود لعلاقة خاصة، تختلف عن علاقتها به في الدنيا.
وقال النبي ﷺ: إنما نسمة المؤمن والنسمة تًطلق على الجسد والروح وتُطلق على الروح فقط وهو المراد بها في الحديث هنا نسمة المؤمن [رواه النسائي: 2073، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2073].
أخبر أنها تعلق من شجر الجنة تأكل النسم هذه الأرواح أرواح المؤمنين حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم القيامة، وقال تعالى عن آل فرعون بعد الموت وبعد الغرق: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46]، فمعنى ذلك أن أرواحهم تُعذّب وأنهم يُعرضون على النار غدوا وعشيا في الصباح والمساء، إذن الروح تُنعّم وتعذّب الآن في البرزخ.
هل يستثنى من تنعيم أرواح الشهداء أحد؟
قال ابن القيم - رحمه الله - عن أرواح الشهداء: "ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تُحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة عن رسول الله ﷺ أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قُتلتُ في سبيل الله تُكفّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله ﷺ: نعم إن قُتلت في سبيل الله وانت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله ﷺ: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قُتُلتُ في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين فإن جبريل قال لي ذلك إذن، أخبرني به آنفا الآن جاءنا خبر من جبريل أن الدين مستثنى، إذن أرواح الشهداء تنعّم، أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، لكن ليست كلها كذلك؛ لأن منهم من هو محبوس بدينه، فدلّ ذلك على الفضيلة العظيمة للمجاهدين وعلى خطورة حقوق العباد، وأن حقوق الأدميين عند الله مصانة وحتى الشهيد، وقوله في الحديث: مُقْبل غير مدبر احترازا ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت والمحتسب هو المخلص لله فلا يدخل في ذلك من قاتل لعصبية ولا من قاتل لغنيمة ولا من قاتل لصيت أو ذكر أو ليقال فلان شجاع وجريء، فليس له هذا الثواب.
وقوله: إلا الدَّين فيه دليل على أن الاستشهاد في سبيل الله لا يكفّر حقوق الآدميين وإنما يكفر التقصير في حقوق الله تعالى، وقوله: إلا الدَّين فإن جبريل قال لي ذلك أوحي إليه في ذلك الحال، وهناك من الشهداء من يكون محبوسًا على باب الجنة لحديث: رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، لكن هذا ارتكب معصية، فقد قُتل في سبيل الله لكن كان غالا من الغنيمة خرج في سبيل الله ورماه العدو بسهم فقُتل، لكن كان قد غلّ من الغنيمة فتسبب هذا الغلول في أسره في قبره"[الروح: 115].
وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ يوم خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع فأهدى رجل من بني الضبيب يقال له: رفاعة بن زيد أهدى لرسول الله ﷺ غلامًا يقال له مدعم فوجّه رسول الله ﷺ إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى بينما مدعم يحط رحلا لرسول الله ﷺ إذا سهم عائر فقتله السهم العائر الذي لا يدرى من راميه، وقيل: الذي حاد عن قصده السهم العائر فقتله فقال الناس: هنيئا له الجنة فقال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا [رواه البخاري: 6707]، أخذها من المغانم قبل قسمة الغنائم أخذها بغير حق لبقية المقاتلين فيها نصيب لماذا استأثر بها فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي ﷺ فقال: شراك من نار أو شراكان من نار والشراك: سير النعل الذي يكون على ظهر القدم، قطعة الجلد هذه خيط الجلد سير النعل الذي يكون على ظهر القدم، لما سمع الرجل الموعظة في الشملة جاء بشراكين فوضعهما عند النبي ﷺ فأخبره أنهما من نار فقد يكون المعنى يعذّب بهما وهما من نار، وقد يكون أنهما سبب لعذاب النار و وهذا الحديث يدل على أن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل إذا قتل.
ومن الشهداء من يكون مقره باب الجنة كما في المسند من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: الشهداء على بارقٍ نهر بباب الجنة في قُبّة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا حديث حسن. [رواه أحمد: 2390، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3742].
"بارق" هذا اسم النهر ليس داخل الجنة خارج الجنة أين هو عند الباب لعله الموضع الذي يظهر منه النهر ويبرق يخرج عليهم رزقهم، يعني رزق أرواحهم ويصل إليهم، كما تُعرض النار على آل فرعون غدوا وعشيا ويصل إليهم الوجع كذلك يعرض نعيم الجنة على هؤلاء فيأتيهم من الروح والريحان.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء" إذن تأمل الآن مراتب الشهداء جعفر يطير بجناحين في الجنة وشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح وشهداء يأكلون من ثمر الجنة وشهداء على باب الجنة وشهداء في القبر محبوسون بأسباب، فهم على مراتب هذه أرواح اهل الإيمان، وهناك أرواح أهل الكفر وهناك أرواح أهل الفجور والعصيان، ومنهم من يكون محبوسا في الأرض لم تعلُ روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضية فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية، يعني لا تجتمع معها ليست بمنزلتها، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها والأُنس به وذكره والتقرب إليه ومحبته ورجاءه والخوف منه، هي نفسٌ سُفلية لا تستحق أن تكون مع الأرواح العلوية، والمرء مع من أحب والله تعالى يزوِّج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، يعني يجمع أرواح بعضهم إلى بعض: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7]، الأرواح بالأبدان أو جعل كل واحد مع نظيره ومن هو على شاكلته ولذلك يكون الزناة مع الزناة وشراب الخمور مع شراب الخمور، وعُبّاد الكواكب مع عباد الكواكب اليهود مع بعض النصارى مع بعض وأهل السرقة مع بعض وأهل الرشوة مع بعض، كذلك يكون أهل الدعوة مع بعض وأهل العلم مع بعض وأهل الجهاد مع بعض وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: "والله تعالى يزوِّج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد ويجعل روح المؤمن مع النسم الطيب" [الروح: 116]، أي الأرواح المشاكلة لها أرواحهم في عليين، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك، فتأمل مثلا أهل الحديث: أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، أهل الحديث سعيد بن المسيِّب وسفيان وشُعبة وأحمد وابن معين والبخاري والترمذي ومسلم والطبراني والبيهقي، أهل الحديث هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم فيه ولقوا ربهم عليه، هم مع من هم على شاكلتهم، وأهل الفقه وأهل الجهاد وأهل الدعوة أهل الصدقات أهل المعروف واعمال البر والخير الأرواح تتجمع وتكون مع من هم على شاكلتها.
شُبهة والرد عليها
في مسألة أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر حاول بعض المبتدعة من الكفرة من القائلين بتناسخ الأرواح أن يقولوا هذا هو الذي يدل على صحة عقيدتنا موجود عندكم؟ فنقول: هيهات هيهات البون شاسع بين ما تقولونه ويقوله رسول الله ﷺ فهم يقولون: إن الميت إذا مات روحه تتحول إلى حيوان بحسب عمله، فإن كان خيِّرا صارت روح طائر وإن كان شريرا صارت روح كلب أو خنزير مثلا يعتقدون ذلك، تناسخ الأرواح ولهم تفصيلات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان كفر أصلا كفر عظيم، أين هذا الكلام من قول النبي ﷺ: إن أرواح الشهداء تكون في حواصل طير خضر هي داخل الحواصل تسرح بها في الجنة فيكون الطائر كالمركب الذي يحمل الروح ويطير بها فتنعّم، فأين هذا من هذا؟ هو قال أن الروح تصبح طائرا، يعني أنها ترجع إلى الدنيا على شكل طائر وتموت وترجع مرة أخرى وطائر ثانٍ وطائر ثالث، أو تكون كلبا أو خنزيرا وترجع مرة ثانية إذا مات الكلب يرجع كلب ثاني وثالث الذي يقول به هؤلاء الكفرة شتان شتان.
وهؤلاء ما عندهم يوم بعث ونشور خلاص العملية دوارة الروح من حيوان إلى حيوان إلى حيوان ما في نهاية وهو من أبطل الأقوال وأخبثها ويليه في البطلان من قال إن الروح تموت وينتهي كل شيء خلاص ما بعد ذلك شيء وأن الموت هو نهاية العالم ما بعده شيء، وأن الروح تموت والجسد يموت وخلاص ومنهم الذين يقولون: نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ[الجاثية: 24]، قالوا أرحام تدفع وأرض تبلع وهكذا ومن أباطيلهم أنهم يقولون إن الدنيا تعود كما كانت كل ستة وثلاثين ألف سنة يرجع آدم مرة ثانية وهكذا بدون نهاية أقوال سخيفة مضحكة شتان بين هذا وبين هذه الأدلة من الكتاب والسنة.
اجتماع أرواح المؤمنين في حياة البرزخ
ثالثا: أرواح المؤمنين الصالحين، قال النبي ﷺ : إذا حضر المؤمن يعني حضره الموت أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي أيتها النفس راضية مرضيا عنك إلى رَوح الله وريحان ورب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا، حتى يأتون به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غمّ الدنيا، فإذا قال أما أتاكم؟ قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية نعيد مرة أخرى فيأتون به أرواح المؤمنين [رواه النسائي: 1833، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 222].
إذن، روح المؤمن أين تذهب بعد الموت؟ ومع من تجتمع مع أرواح المؤمنين، قال: فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، لو أن إنسان مسافر من أحبابك وأقاربك سفرا بعيدا ثم جاء بعد طول غياب كيف فرحك به؟ فرح المؤمنين وهم يتلقون أرواح أخيهم الذي قدم حديثا من الدنيا ومات وخرجت روحه إليهم، الملائكة تأتي به أرواح المؤمنين أرواح المؤمنين في عليين، فيفرح المؤمنون لملاقاة أخيهم ويستقبلونه ويسألونه ماذا فعل فلان ماذا فعل فلان؟ وهذا يدل على أن الأموات لا يعلمون ماذا يحدث في الدنيا وما يفعله الأحياء كما يقول بعض الناس، وبعض الناس يظن أو يقول وهذا يحتاج إلى دليل وربما يسألون: هل الاموات يعلمون ماذا يدور عندنا؟ هل الأموات يعلمون ماذا يفعل أقاربهم من بعدهم وفلان تزوج وفلان ولد له ولد وفلان حصل كذا وسافر، هل يعلمون؟ نحن لا نثبت ولا ننفي إلا بدليل هذه قاعدتنا في عالم الغيب لا بد من دليل، الحديث يقول: فيسألونه ماذا فعل فلان ماذا فعل فلان ماذا فعل فلان فيقولون يعني يستدرك بعضهم يقولون نحن الآن نكثر عليه الأسئلة والآن جاءكم من الدنيا ومن غمّها دعوه يستريح؛ لأن المؤمن مستريح إذا مات مستريح؛ لأن الدنيا مليئة بالغموم والهموم والأوجاع والأحزان والأمراض والأكدار والضغوط النفسية، فلما الواحد يموت إذا كان مؤمنًا يستريح فيقولون دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ فلان مات قبلي ما جاءكم أينه؟ قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية هذا ليس معنا هذا في مكان آخر فقوله: بحريرة بيضاء التي تلف فيها الروح وترفع إلى السماء وهذا الكفن الذي تحضره الملائكة من الجنة وإلى روح الله وريحان الروح الراحة من التعب والنصب والريحان ما يشم ورزق الله الذي يأتي به من الجنة لهذا العبد وقوله حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا روح المؤمن يتناوبون عليه والملائكة يصعدون به من يد إلى يد تكريما وتعظيما وتشريفا لا كسلا ولا تعبًا، فإنها لا تكسل ولا تتعب ولا يعجز الواحد من الملائكة أن يحمله كل الطريق لكن من الإكرام الملائكة تسلّم الملائكة وهو صاعد في رحلته العلوية يأتون به أرواح المؤمنين يقول بعضهم لبعض: دعوا القادم فإنه كان في غمّ الدنيا حديث عهد بتعب الدنيا دعوه يستريح، فإذا سألوه عن شخص يقول ما أتاكم مات قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية يعني الأرواح التي تسأل عن القادم إذا أخبرهم المسؤول عنه أنه مات وليس معه في منازل المؤمنين يعلمون من ذلك أنه قد مات وأنه ذهب به إلى أمه الهاوية، فهم يسألونه عن شخص فيقول: مات ما جاءكم؟ فيعرفون بما أنه مات وبما أنه ما جاءهم أين ذهب؟ هم يسألونه عن شخص يظنونه كان في الدنيا يسألون الميت حديثًا عن شخص، معلوماتهم أنه في الدنيا، فهذا الميت حديثًا يقول تسألوني عن فلان فلان مات ما جاءكم؟ فيعرفون أنه ذُهب به إلى أمه الهاوية؛ لأنه هم كانوا يظنونه حيّا فلما أخبرهم أنه مات هم لا يعلمون الغيب هم لا يعلمون كل ما يحدث إلا ما أطلعهم الله عليه، فكونهم يسألون عن شخص ولا يعلمون أنه مات والميت حديثًا يخبرهم أنه مات، فإذا كان مات وليس عندهم فهو في أمه الهاوية مع أرواح أهل النار؛ إما انتكس ارتد كان منافقا كانوا يرجون أن يتوب فمات بغير توبة والهاوية من أسماء النار؛ لأنها مأوى صاحبها فهو يلازمها وتلازمه ملازمة الأم للولد إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان: 65]، يعني: لازما لا مفر منه ولا انفكاك عنه.
هذا الحديث الذي رواه النسائي يوضح شيئًا مما يحدث في قضية تلاقي أرواح المؤمنين من الميتين حديثًا مع من ماتوا قديمًا ومن ماتوا في أوقات متقاربة أيضاً، كونهم يعرفون فلان ويسألون عنه معناه أنه من جيل واحد لكن ماتوا قبل هذا الميت حديثا مع الشخص الذي كان معهم في الدنيا، وقد ثبت ما يدل على أن أرواح المؤمنين تكون طيرا تعلُق يعني تأكل من شجر الجنة كما في مسند أحمد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: قالت أم مبشّر لكعب بن مالك - أم مبشر صحابية ابنها مبشر مات قتل شهيدا من الصحابة - كعب بن مالك لما صار على فراش المرض أم مبشّر جاءته وكانت كلما سمعت بواحد على وشك الموت أو على فراش المرض تأتيه؛ لتطلب منه أن يسلم على ابنها؛ لأنها كان فيها لوعة على ابنها الذي قُتل فكانت كلما سمعت بواحد على فراش الموت أو على فراش المرض جاءته تقول بلّغ ابني السلام فوجدت كعب بن مالك مريضا فجاءته فقالت: اقرأ على ابني السلام تعني مبشّرا فقال يغفر الله لك يا أم مبّشر أولم تسمعي ما قال رسول الله ﷺ: إنما نسمة المسلم طير تعلُق في شجر الجنة تعلق: يعني تأكل حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة قالت: صدقت فأستغفر الله" قالت الألباني إسناده صحيح على شرط الشيخين.[رواه أحمد: 15776، وقال محققه الأرنؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين].
لعله لامها على جزعها على الولد وأنها استغفرت من جزعها على ابنها وأنه كان يكفيها الاطمئنان بالحديث النبوي الذي أخبرهم به النبي ﷺ
قوله: إنما نسمة المسلم النسمة هنا هي الروح نسمة المسلم تكون طيرا تعلق، والطير جمع طائر ويطلق على المفرد أيضا طير، ويقال هذا طير على المفرد، ويقال على الطيور: طير جمع طائر، خُضر: جمع أخضر، تعلُق: ترعى وتأكل من أعالي شجر الجنة من ثمر الجنة أو من شجر الجنة.
وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: أرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل [رواه مسلم: 1887].
فمن هم هؤلاء الذين أرواحهم تكون طيرًا تأكل من شجر الجنة من أعالي شجر الجنة؟ قال ابن عبد البر: "اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال منهم قائلون أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دَين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم وبالرحمة لهم، فهؤلاء تتحول أرواحهم تكون أرواحهم طيورًا تأكل من شجر الجنة" وقال النبي ﷺ: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة والحديث يثبت عذاب القبر ويثبت نعيم القبر، وأن الروح لا تفنى وأن الأرواح موجودة، قال ابن عبد البر: "استُدل به على أن الأرواح على أفنية القبور المعنى أنها قد تكون على أفنية قبورهم لا أنها لا تفارق الأفنية" [التمهيد: 14/109].
وتقدم أنها تصعد تطير تكون في الجنة وتنزل ولها تعلق بالبدن في الأرض هذه المدة ثم تصعد، وفي أرواح في أعلى عليين في أرواح في القناديل في الطيور وتأكل وعند باب الجنة وفي أرواح محبوسة في الأرض، وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي ﷺ فقالت: يا بني الله ألا تحدثني عن حارثة؟ وكان قُتل يوم بدر ابن صغير شاب صغير قتل يوم بدر أمه جاءت تريد عزاء وشيئًا يبرد حر المصيبة أصابه سهم غرْبٌ لا يدرى من راميه؟ فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى [رواه البخاري: 2809].
وجاء عن عبد الله بن عمرو أن أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويُرزقون من ثمر الجنة.
وذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى أنه لا تنافي بين قوله: نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، وبين قوله: إن أحدكم إذا مات عرضه عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار لأن المعارضة التي يمكن أن تتوهم مثلا أن يقال كيف هو في قبره يرى مقعده من الجنة وكيف الأحاديث الأخرى التي فيها أن الأرواح تدخل الجنة وتأكل من شجر الجنة فهل هو في القبر يرى مقعده رؤيا فقط؟ أو يدخل الجنة ويعاين ويأكل، فابن القيم - رحمه الله - يقول: لا تعارض، وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد كما أن قوله: نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يتناول الشهيد وغيره، ومع كونه يُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ترد روحه أنهار الجنة وتأكل من ثمارها" يقول لا مانع ما يتعارض أن يكون في القبر يرى مقعده من خلال النافذة المفتوحة الباب الذي يفتح يرى مقعده من الجنة وروحه تصعد إلى الجنة وتأكل من ثمارها، لا يتعارض هذا مع هذا، وأما المقعد الخاص به والبيت الذي أُعدّ له فإنما يدخله يوم القيامة يعني جسدا وروحا.
فإذن، الان هو في قبره يرى مقعده من الجنة وروحه ممكن تصعد وتدخل حسب المنزلة؛ لأن ناس محبوسين في القبر وناس عند باب الجنة وناس أرواحهم تدخل الجنة تأكل منها وناس تأوي إلى قناديل تحت العرش أرواحهم، فإذن هم درجات مراتب لكن متى يدخل المكان الذي هيئ له في الجنة وأعد له في الجنة مقعده في الجنة بيته في الجنة قصره في الجنة متى يدخله جسدا وروحا هذا لا يكون إلا يوم القيامة بعد يوم القيامة، أما في القبر الان في عالم البرزخ فهو يرى مقعده من الجنة والنعيم للجسد؛ والروح ممكن تصعد وتأكل من شجر الجنة، لا مانع، لكن الجسد والروح والدخول التام والمقعد والتمتع بما أعد الله له واستمتاع تام جسدا وروحا لا يكون إلا بعد يوم القيامة، "فإن الدخول التام بالكامل إنما يكون يوم القيامة ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك" هذا كلام ابن القيم - رحمه الله - لا شك أن استمتاع الروح فقط أقل من استمتاع الجسد والروح معا. [الروح: 97].
ونظير هذا أهل الشقاء تُعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا، فإذا كان يوم القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ، الآن فرعون وجنوده ومن هو على شاكلتهم ماذا يحدث لهم في البرزخ؟ يُعرضون على النار هل يصيبهم من عذابها؟ نعم، هل يشعرون بذلك؟ نعم، هل أرواحهم تعذّب؟ نعم، هل يرون مقعدهم من النار؟ نعم، متى يكون دخولهم النار الدخول الكلي الذي يُعذبون عليه جسدا وروحا في النار في مقعدهم في النار غير الوهج واللهب الذي الحرارة التي تلفحهم وهم خارج النار في القبر الآن في البرزخ تلفحهم يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46]، يعرضون عليها، هذا العرض فيه لفح من النار يأتيهم من سمومها ويحمومها يأتيهم لكن الدخول الذي يكونون في غمرات العذاب في وسط جهنم هذا يكون بعد يوم القيامة، قال: "فتنعُّم الأرواح بالجنة في البرزخ شيء وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شيء آخر فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث" يعني مستوى أقل "ولهذا قال: تعلُق في شجر الجنة أي: تأكل العلقة وتمام الأكل والشرب واللبس والتمتع إنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة" فالأكل الآن أكل خفيف بالنسبة للذي سيكون فيما بعد الأكل الآن الذي يأكلون الأرواح تأكل من الشجر تعلق العلقة من الطعام يعني الشيء اليسير، هذا خفيف أكل خفيف لكن عندما يأكل الجسد والروح عندما يستمتع الجسد والروح يوم القيامة بالجنة دخولا وأكلا، فإنه شيء فوق هذا وأعلى منه وأكمل منه وأتمُّ منه فإذن، بهذا يتبين أنه لا تعارض بين حصول شيء من الاستمتاع في عالم البرزخ، وشيء من العذاب في عالم البرزخ وبين ما سيحدث يوم الدين، وقد أراد بعض العلماء أن يقول إن الأرواح التي تأكل من ثمر الجنة وتعلُق من شجر الجنة هم للشهداء هي أرواح الشهداء، والذين في حواصل الطير خضر أرواح الشهداء والذين على باب الجنة أرواح الشهداء، وأن الذين ليسوا بشهداء ليس لهم هذا، ولكن عموم الحديث: إن نسمة المؤمن طيرٌ تعلُق من شجر الجنةيشمل الشهداء وغير الشهداء وردّ ابن القيم - رحمه الله - بقوة في المسألة وقال:" إن هناك طبقة أعلى من الشهداء وهم الصديقون فهل تقولون إن أرواح الشهداء تعلُق من شجر الجنة ومن هو أعلى منهم كأبي بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وغيرهم من الذين لم يقتلوا في سبيل الله ماتوا ميتة عادية لا تدخل الجنة ولا تعلق من شجر الجنة؟ قال: هذا لا يمكن، إذن يريد أن يقول - رحمه الله - أن أرواح الشهداء التي في طير خُضْر تعلُق من ثمر الجنة، وأرواح المؤمنين نسمة المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة، أن المؤمنين يشتركون مع الشهداء في هذا وإن كان الشهداء أو بعض الشهداء أعلى من بعض المؤمنين، ولذلك فإن أرواح هؤلاء الشهداء في حواصل طير خُضْر وهي التي تسرح بهم وهي التي تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش.
وقد جاء في حديث رواه الطبراني وحسّن إسناده الهيثمي والألباني: افتحوا له بابا إلى الجنة فيفتح له فيقال هذا منزلك وما أعدّه الله لك فيزداد غبطة وسرورا، فيُعاد الجلد إلى ما بدا منه ويُجعل روحه في نسم طير يُعلّق في شجر الجنة[رواه ابن حبان: 3113، والحاكم: 1403، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3561].
فإذن لا يمنع أن تكون أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح تأوي إلى قناديل وأرواح المؤمنين من الذين ليسوا بشهداء في أجواف طير خضر تُعلّق من ثمر الجنة ولكن لا تتنقل في أرجائها وتأويل إلى قناديل كأرواح الشهداء ميزة للشهداء فأين أرواح العصاة؟ سيأتي في حديث سمرة بن جندب في البخاري في عذاب القبر عذاب الزناة وأكلة الربا والكذابين، وكذلك من عذاب الذين يغتابون الناس ونحوهم، والذي يضيِّع الصلاة عن وقتها، [رواه البخاري: 1386]، سيأتي نماذج لعذاب العصاة في البرزخ أين أرواح الكفار؟ قال ﷺ: وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح ثوب من الشعر غليظ هذا في اللغة، لكن هذا المسح والمسوح هذه من النار فيقولون اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به باب الأرض فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السفلى.
إذن هناك مستودع لأرواح الكفار تأتي أرواح الكفار تلقى فيه قال يأتون به باب الأرض، إذن يجمع الله هؤلاء بعضهم إلى بعض وقد جاءت بعض الأحاديث مثل: ما أشار إليه عبد الله بن مندة - رحمه الله - قالت طائفة من الصحابة والتابعين: "إن أرواح المؤمنين بالجابية" الجابية: اسم موضع بلد معروف في بلاد الشام ناحية من نواحي الجولان شمال حوران قريب من دمشق، وأرواح الكفار ببرهوت بئر في حضرموت، وقال صفوان بن عمرو: "وهذا الذي قاله ابن مندة أشار إليه فيه حديث مرفوع: أرواح المؤمنين بالجابيتين وأرواح الكفار تُجمع ببرهوت والحديث ضعّفه الألباني رحمه الله.
نعود إلى كلام ابن مندة قال صفوان بن عمرو: "سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ قال: إن الأرض التي يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]، هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث، وقال: هي الأرض التي يورثها الله للمؤمنين في الدنيا وقال كعب: "أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة" وقالت طائفة: "أرواح المؤمنين ببئر زمزم وأرواح الكفار ببئر برهوت، وردّه ابن القيم - رحمه الله - قال: "لا دليل عليه في الكتاب والسنة ولا قول صاحب يوثق به، وأما أرواح الكفار فلم يرد فيها حديث مرفوع وإنما هي آثار موقوفة ساقها ابن القيم وهي ضعيفة الأسانيد" [الروح: 106]، وهي ملخصها أن أرواح الكفار في بئر برهوت في حضرموت، وهذه بئر برهوت موجودة معروفة في حضرموت وجاء فيها حديث صحيح أن: خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم وشر ماء على وجه الأرض بئر برهوت الذي في حضرموت، فهو ماء منتن رائحته كريهة وبئر معروف والآن موجود معروف عند أهل حضرموت، ورد أن أراوح الكفار في سجين في هذا البئر لكن ما ثبت النص بهذا ما ثبت النص أن هذا مستودع أرواح الكفار، لكن جاء الحديث الصحيح أنه شرُّ ماء على وجه الأرض الذي هو ماء بئر برهوت كما أن ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض، أما كون أرواح المؤمنين في زمزم وأرواح الكفار في بئر برهوت هذا يحتاج إلى إثبات دليل هذا من عالم الغيب؛ لأنك إذا ثبت لديك يجب أن تعتقد به وأن يكون لقلبك عملٌ؛ وهو الاعتقاد والتصديق، فإذا ما ثبت فلن تعتقد به، وقال سلمان الفارسي: "أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وأراوح الكفار في سجين" وعلَّقه ابن القيم عن سلمان فلم يسق إسناده.
لكن كون أرواح الكفار في سجين فهذه قد جاءت فيها أحاديث ومنها إذا وضع الميت في قبره قال في شأن الكافر: ويضيق عليه قبره حتى تلتقي أضلاعه، فذلك قول الله : مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124]، قال: وتُجعل روحه في سجين هذا الحديث موجود في مصنّف عبد الرزاق موقوفا على أبي هريرة وسنده حسن. ملخصه هو: أن أرواح الكفار في سجين. [مصنف عبد الرزاق: 6703].
هذه اللفظة وردت في سورة المطففين: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: 7]، وسجين مكان ضيق سجن أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم، قال قائلون: هو تحت الأرض السابعة.
وجاء في حديث البراء: يقول الله في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجين [رواه أحمد: 18534، وصححه الألباني في أحكام الجنائز: 1630]. قال الشُّرّاح: "سجين تحت الأرض السابعة" [تفسير القرطبي: 19/257].
وفي تفسير ابن كثير قال في هذه اللفظة؛ ذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره قال: "والصحيح أن سجينًا مأخوذ من السجن وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي بالسفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة" [تفسير ابن كثير: 8/346]. وهو في المركز في وسط الأرض السابعة، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [التين: 5، 6].
الخلاصة إذن: أن أرواح المؤمنين في عليين وأنها طليقة تسرح وهي مراتب في دخولها الجنة والأكل منها وأن أرواح الكفار محبوسة في ضيق في سجين في الأرض السفلى تُعرض على النار ويصيبها ما يصيبها من عذابها، ولا تعارض بين النصوص التي تدل على أن الأرواح تعاد إلى الأبدان ثم تسأل وبعدها ينعَّم المؤمن ويعذّب الكافر وبين النصوص التي تبين أن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تُعاد إلى البدن، كما أنها قد تكون في البدن ويُعرج بها إلى السماء كما في حال النوم، أما كونها في الجنة ففيه أحاديث عامة، وقد نصّ على ذلك أحمد وغيره من العلماء" [مجموع الفتاوى: 5/447].
وكما دلّت عليه النصوص، فالروح كما تدل على الأحاديث تُعاد إلى الجسد بعد الرحلة إلى السماء ثم تُسأل ثم تكون طيرا يعلق في شجر الجنة إلى أن يبعث العباد ومع كونها في الجنة فإنه يبقى لها تعلق بالجسد كحال الإنسان في النوم فإنها تجول في ملكوت السماوات والأرض مع أن لها تعلُّقًا بالجسد وذلك أن الروح وأحوالها مخالفة للجسد فهي في مستقرها أما في الجنة أو في النار على ما مضى بيانه ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى" إذن أرواح المؤمنين تسرح وتذهب للجنة وتتصل بالبدن متى شاء الله تعالى.
ومن ضمن الاتصالات ما يحدث من عودتها إلى البدن لكي تُسأل يُقعد الإنسان ويسأل جسدا وروحا عند السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ يسأل جسدا وروحا ويسأل وروحه في جسده، حتى ولو احترق حتى ولو أكلته السباع وتخطفته الطير يجمعه الله وتدخل الروح البدن في القبر ويُسأل، قال: "ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى وهي في تلك اللحظة بمنزلة مرور الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم"
عذاب الميت ببكاء أهله عليه
نأتي الآن إلى مسألة من المسائل المتعلقة أيضا بحياة البرزخ وما يكون في القبر وهي عذاب الميت بما نيح عليه كثير من الأموات الان إذا ماتوا ناح النساء أو ناح أهله عليه لطموا: يا ويلي يا خرابي واحزناه واسنداه واعضداه واثكلياه إلى آخره النياحة الصياح والزعيق وشق الثياب ونتف الشعر ولطم الوجه والدعاء بالويل والثبور والخراب؛ هل هذا له تأثير على الميت أم لا ؟ هذا ما سنحاول الوقوف عليه.
روى البخاري عن المغيرة قال: سمعت النبي ﷺ يقول: من نيح عليه يُعذّب بما نيح عليه[رواه البخاري: 1291]، وعند مسلم عن علي بن ربيعة: "أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من نيح عليه فإنه يعذّب بما نيح عليه يوم القيامة [رواه مسلم: 933].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن أبيه عن النبي ﷺ قال: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه [رواه البخاري: 1292، ومسلم: 927]، قال النووي: "وفي رواية بإثبات: "في قبره" وفي رواية بحذفها" يعني الميت يُعذّب بما نيح عليه ورواية الميت يعذّب في قبره بما نيح عليه" [شرح النووي على مسلم: 6/230].
وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان بمكة وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس ما وإني لجالس بينهما فإذا صوتٌ من الدار - صياح - فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ يعني الآن البكاء من بيتكم على أختك اذهب وانههم عن البكاء الصياح "فإن رسول الله ﷺ قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فقال ابن عباس قد كان عمر يقول بعض ذلك ثم حدّث قال: لما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول وا أخاه وا صاحباه، فقال عمر : "يا صهيب أتبكي عليّ وقد قال رسول الله ﷺ: إن الميت يُعذّب ببعض بكاء أهله عليه؟ قال: فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال ببعض" يعني حديث عبد الله: الميت يعذّب ببكاء أهله عليه حديث عمر: الميت يعذّب ببعض بكاء أهله عليه.
قال ابن عباس : "فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: "رحم الله عمر والله ما حدّث رسول الله ﷺ: إن الله ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله ﷺ قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه وقالت: حسبكم القرآن" يعني: يكفيكم وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]، قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر شيئا" يعني ما علّق على كلام عائشة، ولما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبَين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ" [رواه البخاري: 1287، ومسلم: 929].
الآن النقاش من عدة جهات في نصوص عامة الميت يعذب بما نيح عليه أو ببعض بكاء أهله عليه هذا الميت هل هو المؤمن أو الكافر أو من هو هذا الميت عائشة أرادت أن تقول الحديث هذا غير موجود أصلا يعارض القرآن وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]، ما ذنب الميت يعذّب؟
فقالت عائشة: هذا الحديث خطأ يعني ابن عمر أخطأ ابن عمر سكت ما ردّ على كلام عائشة فلماذا سكت؟ هل لأنه لاح له الحق فكست مذعنا أو لأنه كره المجادلة؟ ابن عمر يعرف أن الحديث هو سمعه من النبي ﷺ أو من أبيه عن النبي ﷺ إذن يعلم أنه حقٌ لكن ما أراد أن يجادل عائشة وعائشة أم المؤمنين وهي بمنزلة أمه فاحتراما وتوقيرا ما أراد أن يجادل؟
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي ﷺ يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله فبكى النبي ﷺ فلما رأى القوم بكاء النبيﷺ بكوا، قال: ألا تسمعون إن الله لا يعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذِّب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم، وإن الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه [رواه البخاري: 1304]
وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب ما معنى الحديث ذهب النبي ﷺ ليعود سعد بن عبادة في مرضه فوجده في غاشية من أهله يعني أهله يغشونه للخدمة يعني النساء دخلوا عليه ويحتمل أن يكون المقصود غاشية الكرب، والغاشية هي الداهية والشر من مرض ومكروه والمراد ما يتغشاه من الكرب والوجع وليس أنه مات؛ لأنه هذه المرة لم يمت فيها، وجده في غاشية فقال: ألا تسمعون؟... وذكر لهم الحديث، هذا الحديث يشبه حديثا آخر أن النبي ﷺ أرسلت ابنة له إليها إن ابني لي قبض فائتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسبفأرسلت إليه تُقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرُفع إلى رسول الله ﷺ الصبي ونفسه تتقعقع كأنها شن" القعقعة صوت الشيء اليابس إذا حرك والشن القربة الخلقة اليابسة، فكأنه شبّه النفس بالجلد هذا والصوت، ففاضت عيناه، صوت الولد الآن صدره فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا أتبكي؟ وفي رواية أولم تنه عن البكاء فقال رسول الله ﷺ إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وقوله إن الله ليعذب بهذا يعني اللسان إذا قال سوءا أو يرحم به يعني إذا قال خيرا وحديث عبد الله بن عمر أن حفصة بكت على عمر فقال "مهلا يا بنية ألم تعلمي أن رسول الله ﷺ قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فهذه الأحاديث عن عمر وابن عمر والمغيرة فيها إثبات تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وعمر كان إذا سمع صياح على ميت يضرب الصائح بالعصا وممكن يدخل على نساء في نياحة ويضربهن أو يحثو التراب عليهن أو على من ينوح، وكذلك فإنه ورد أنه كان يرميهم بالحجارة.
ما المراد بالبكاء؟ أول شيء هل هذا الحديث ثابت؟ أو غير ثابت؟ عائشة نفته، والصحيح أنه ثابت وأنه قد رواه صحابة معتبرون لا يتطرق الشك إليهم أبدًا ولا يمكن أن يقال أصلا أفهامهم قاصرة أو أنهم يعني عمر وابن عمر والمغيرة كلهم وهموا؟ لا يمكن، إذن الحديث ثابت.
فبقي أن نسأل نقول: ما هو البكاء الذي يكون سبب للتعذيب ومن هو الميت الذي يعذب؟ إذا انجلت هاتان النقطتان انجلت القضية؛ لأن الإشكال كيف يعذب الميت بشيء لم يفعله؟ كيف يعذب الميت بشيء فعله غيره؟ ألم يقل الله: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]، فما هو ذنب الميت يعذب وغيره الذي فعل المنكر وهل البكاء سبب لتعذيب الميت البكاء العادي طيب النبي ﷺ بكى بكاء عاديا الجمع بين الأحاديث أن نقول: إن الله لا يعذّب بدمع العينخلاص هذه مسلمة؛ لأنه نص عليها والبكاء العادي الذي ما فيه صياح ولا زعيق ولا اعتراض على القضاء والقدر ولا تسخُّط على ما أمر الله وقدر أن هذا البكاء وهذا دمع العين ليس سببا لعذاب لا لحي ولا لميت وأنه شيء في الطبيعة البشرية وأن النفس أحيانا ترتاح بالبكاء بعض الناس يبكون ليرتاحوا وإذا صار في مصيبة مثل هذه بكاؤه يريحه لكن ما هو البكاء الذي يعذب صاحبه ويعذب الميت بسببه، ومتى يعذب الميت بسببه؟ هو الصياح الزعيق الذي فيه التسخُّط على القضاء والقدر العويل المصحوب بكلمات من النياحة: واثكلياه واخراب الدهر واسناداه واعضداه وا ويلاه وا ثبوراه، وهذه كل عصر ومصر فيها ألفاظ يعني إذا كان الجاهلية يقولون واثكلياه واثبوراه واويلاه واعضداه الآن يقولون: يا ويلي يا خرابي... إذن كل ألفاظ بحسب البلد فالزعيق والصياح المصحوب بهذه الكلمات وربما يكون مصحوبا بلطم الوجه وشدّ الشعر وشقّ الثياب هذا نياحة، صاحبتها تُلبس درع يوم القيامة تُلبس من قطران نحاس مذاب جرب درع من جرب وسربال من قطران جرب وسربال من قطران يوم القيامة وهي تعذّب نتيجة النياحة التي هي اعتراض على القضاء والقدر؛ لأنها ما رضيت بأمر الله ولا رضي هذا النائح أو النائحة بقضاء الله، هذا بالنسبة للحي إذا كان دمع عين أو بكاء عادي وهو راض بالقضاء ما عليه شيء وإذا كان زعيق وصياح ولطم وشق ونتف و هذه العبارات وبعضهم يتعدى يقول: ولماذا أخذته؟ ما فعل لك؟ والعياذ بالله يعترضون على الله في أفعاله وربما يقولون وهذا صغير وكان أخذت فلان هذا الذي نحن متورطين في تنظيفه وحمله يعني واضح أن هؤلاء لا يفقهون ما عندهم فقه، ما معنى: إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا تعني إنا لله فقط الكلمتين هذه ما معنى إنا لله ؟ اللام لام الملك إنا لله يعني نحن ملك الله يأخذ من يشاء ويترك من يشاء يمهل من يشاء ويعجل من يشاء إنا لله ولذلك هذه تقال في المصيبة حتى الواحد لا يعترض ولماذا هذا الآن مات ولماذا أخذه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]، إذن البكاء العادي ودمع العين للحي ما عليه شيء مباح طيب وإذا تحول إلى نياحة وسخط وزعيق وصياح وكلام واعتراضات هذا يعذّب عليه الميت، كلام عائشة لما قالت إنه ما قال إن المؤمن يعذب صحيح المؤمن في حالات ليس مسؤولا ولا يعذب وقولها: إن الكافر يعذب ويزداد عذابا بالنياحة صحيح لكن لو كان مسلم مات ممكن يعذّب، هذا الكلام الذي رددته عائشة - رضي الله عنها - اجتهاد منها، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله - أن عائشة أخطأت في ردها هذا في هذه النقطة، وأن هناك من يعذّب في قبره بما نيح عليه، يعذّب في قبره بما نيح عليه، لكن متى يعذب في قبره؟ فقال بعض العلماء: وهذه طريقة البخاري إنه يعذّب إذا كانت سنته وطريقته يعني واحد ينوح هو أصلا ينوح ثم مات فيعذب على النياحة وإذا كانت ليست النياحة من عادته ولا من منهجه ولا طريقته فإنه لا يعذّب، وقال بعضهم إذا أقر أهله في حياته على النياحة إذا مات يعذّب؛ لأنه كان يرى المنكر في أهله ولا ينكر فإذا واحد أهله من عادتهم النياحة زوجته لما مات أخوها ناحت وأمه لما مات زوجها أبوه يعني ناحت وما أنكر عليهم قالت يا خرابي يا ويلي واثبوراه لطم شقّ شدّ الشعر صياح زعيق وما أنكر ما أنكر هذا إذا مات ممكن يعذب بما نيح عليه لأنه كان يرى المنكر في حياته وما أنكر أقرهم ما نبههم ولا علمهم وسكت وإذا اشترك معهم إذا كان أصلا في حياته يشترك معهم يصير أطم عليه في القبر، معنى ذلك: إذا كان ينكر عليهم في حياته ويقول اتقوا الله لا اعتراض على قضاء الله إنا لله وإنا إليه راجعون، حرام عليكم هذا، اتقوا الله كفّوا عنه، البكاء عادي ودمع العين، أما هذا اتركوه إذا كان يُنكر عليهم لو مات لا عذاب عليه بهذا.
ومنهم من قال - ونسبه النووي إلى الجمهور - أنه يعذّب الميت إذا أوصى أهله بالنياحة عليه، وقد كان أهل الجاهلية يوصون أهاليهم بالنياحة عليهم إذا ماتوا كما قال طرفة بن العبد:
إذا متُّ فانعيني بما أنا أهلُه | وشُقِّي عليَّ الجيب يا ابنة معبدِ |
[شرح النووي على مسلم: 6/228].
يقول لزوجته إذا مات فانعيني، والنعي هذا ذكر مفاخر الميت ورفع الصوت إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد وهذا ما هو فقط كان يقرهم هذا أوصى قبل الموت بالنياحة عليه فهذا أهل للتعذيب في القبر إذا ناحوا عليه فإذا أوصى بهما أو أقرهما ولم ينكر أو أقر أهله على النياحة ولم ينكر عليهم ممكن يعذب في القبر إذا ناحوا عليه وإذا أنكر ذلك في حياته وأوصى بعكسه كتب في الوصية قال: أوصي أهلي بعدم النياحة فهذا برئ ولا يصله شيء إن شاء الله في قبره؛ لأنه أنكر بل أوصى بعدم النياحة وعلّم أهله الرضا بالقضاء، وكان النعي في الجاهلية فيه تعديد شمائل الميت ومحاسن الميت، وكان أصلا يقفون صفوف وهؤلاء يردون وهؤلاء يردون ويجتمع النساء وفي فرق للنياحة، هناك فِرَق، أصلا يوجد الآن في بعض الأماكن يستأجرون النواحة مثلما يستأجرون الطقاقات في العرس يستأجرون النواحات في المصيبة ويجتمع النساء والتي تصرخ أعلى هذه هي اللي فعلا قامت معهم في المصيبة وهذه قامت بالواجب ربما يشكرونها في آخر حفلة النياحة وهي تقول لا نحن هذا واجبنا! سبحان الله النياحة واجبنا كيف واجبنا؟ فإذن الذين يفعلون هذه الأفعال أهل للتعذيب في القبر.
وقد جاء عن النبي ﷺ قوله: الميت يعذّب ببكاء الحي إذا قالوا واعضداه واكاسياه وانصراه واجبلاه يُتعتع الميت [رواه ابن ماجة: 1594، وحسنه الألباني في الترغيب والترهيب: 3523].
يعني يزعج بشدة ويُجر ويقال له: أنت كذلك أنت كذلك؟ في القبر هم يصيحون في الدنيا يصيحون في البيت وهو يعذب في القبر كلما قالوا كلمة في البيت هو في القبر يُلهز؟ أنت كذلك؟ إذا قالوا واعضداه أنت كذلك واسنداه أنت كذلك؟ الملائكة تلهزه في قبره تزعجه في قبره، فإذن هذا الذي يرضى أو يوص وروى الترمذي بلفظ: ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول واجبلاه واسيداه إلا وكل به ملكان يلهزانه الميت يضربانه ويدفعانه ويقولان: أهكذا كنت؟ وحسنه الألباني. [رواه الترمذي: 1003، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5788].
ويشهد له ما رواه البخاري عن النعمان بن بشير قال: عن النعمان أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي وتقول واجبلاه واكذا واكذا وتعدد عليه فقال حين أفاق يعني هذه كانت غشية الموت، قال لأخته: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي أنت كذلك؟" [رواه البخاري: 4267].
هذه الغشية في غشية الموت، قال: أنت ما قلت شيئا بجانبي إلا وأنا في غشية الموت قيل لي أنت كذلك لما أفاق من غشية الموت أخبرها فلما مات لم تبكي عليه يعني اتعظت من هذا الموقف ولم تبكي عليه ولذلك كان الصحابة يوصون قبل موتهم لا تتبعوني بنار ولا تنوح عليّ نائحة، وجاء في حديث حسن: قَيلة بنت مخرمة أن النبي ﷺ نهاها عن البكاء على ابنها وقال: أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبة في الدنيا معروفا وإذا مات استرجع يعني لماذا الواحد يصاحب قريبه مثلا زوج ابن أخ، يصاحبه في الدنيا معروفا، وإذا مات استرجع، فو الذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صوحبيه فيا عباد الله لا تعذِّبوا موتاكم قال الحافظ إسناده حسن. [رواه الطبراني في الكبير: 25/ 8، وحسّن إسناده الحافظ في الفتح: 3/155].
وروى أبو هريرة إن أعمال العباد تُعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقهم بإسناد صحيح إليه، قال الحافظ: "ويُحتمل أن يُجمع بين هذه التوجيهات فينزّل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ في ذلك عُذِّب بصنعة، ومن كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عُذِّب بما نُدب عليه ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي ومن سلم من ذلك كله واحتاط، فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كانت تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربه" [فتح الباري: 3/155].
إذن هذا آخر واحد هو الذي ينهى أهله ويعلمهم عدم النياحة وإذا مات ناحوا هو لا يعذب لأنه نهى لكن إذا عرض عليه عملهم تألم للمخالفة يعني كيف أنا ربيتهم ونهيتهم وعلّمتهم ثم الآن يخالفوني؟ فإذن يكون تألمه في قبره: لمخالفتهم له وليس تعذيبا له؛ لأنه لا ذنب له، والله أعلم