الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران102، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب70-71.
أما بعد:
الإيمان بالصراط
فإن يوم القيامة يوم عظيم، يوم كان شره مستطيراً، وكان يوماً عبوساً قمطريراً، وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، ذكره الله لنا في كتابه لنحذر شره، ذكّر عباده به ليستعدوا لذلك اليوم، لئلا يقول أحد: يا رب لم تخبرني بما يكون فيه، أخبرنا الله بالتفصيل في كتابه وسنة نبيه ﷺ عن ذلك اليوم.
وقد سبق أن ذكرنا في خطبة ماضية أيها الأخوة الحشر، وبعض ما يكون فيه، ونذكر في هذه الخطبة إن شاء الله أمراً واحداً آخر من الأمور التي تكون في ذلك اليوم وهو الصراط، ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس، وتغيير الحال إلى الأفضل، العظة باليوم الآخر هي التي تغير سلوك الناس، توقظ الغافلين، وتنبه السادرين في غيهم.
عباد الله: إذا جمع الأولين والآخرين وحُشر الناس وأخذ بالكفار إلى النار يبقى من ينتسب إلى الإسلام ينتظرون الله تعالى فيأتيهم الله في صورة غير صورته كما جاء في صحيح البخاري يمتحنهم، والمؤمنون يعرفون ربهم فإذا جاء في صورته سجد المسلمون الذين كانوا يسجدون لله في الدنيا لأنهم عرفوا ربهم، وأما المنافقون الذين كانوا يسجدون رياءً يجعل الله ظهر الواحد منهم طبقاً واحداً فلا يستطيع السجود. [رواه البخاري7439] وهذا الامتحان لكشف المنافقين من المؤمنين، ثم إن الله تعالى يدعوهم فيتبعونه، فيأخذهم الله إلى شفير جهنم، ويستشفع النبي ﷺ فيؤذن بضرب الجسر على متن جهنم، فيضرب الجسر على متن جهنم، وهو الصراط، فالصراط إذاً هو الجسر الممدود على متن جهنم، وهو الطريق الذي سيعبر عليه الناس.
والصراط حتم واجب الإيمان به، قامت الأدلة عليه من الكتاب والسنة، وقال العلماء: نؤمن بالبعث، وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض، والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب، والعقاب، والصراط، والميزان، فالميزان من عقيدة أهل السنة والجماعة لا بد من الإيمان به، فإذا صار الناس عند هذا الجسر، عن ثوبان : إن رسول الله ﷺ سُئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر[رواه مسلم315] قال مجاهد: قال ابن عباس: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا، قال: أجل والله ما تدري، إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه -أي من أهل النار الواحد- مسيرة سبعين خريفا، -سبعين سنة ما بين شحمة الأذن والعاتق- تجري فيها أودية القيح والدم، قلت: أنهاراً، قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدري ما سعة جهنم، قلت: لا، قال: أجل والله ما ندري حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله ﷺ عن قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سورة الزمر67، فأين الناس يومئذ يا رسول الله، -إذا طوى الله الأرضين والسماوات أين يكون الناس واقفين؟ ما هو مكانهم- قال ﷺ: هم على جسر جهنم[رواه أحمد24856]، أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح، فالصراط هو جسر جهنم الذي سيعبر عليه الناس وتكليفهم بعبوره هم مضطرون إليه لا خيار لهم في عبوره، لا بد لهم من عبوره، فالأوامر يوم القيامة ملزمة للجميع، لا يستطيع أحد أن يتخلف عن تنفيذ أمر الله أبداً، فإذا شُق عن قبورهم دعاهم الداعي إلى أرض المحشر مرغمين يجب عليهم أن ينجمعوا إلى ذلك الموقف، وإذا نادهم الله إلى الجسر اتبعوا ذلك مرغمين لا خيار لهم، وإذا أُمروا بعبور الصراط فهم مرغمون على ذلك لا خيار لهم، الأوامر يوم القيامة لا مجال للنكوص ولا للتلكؤ عن تنفيذها، اعبر يعني يعبر.
أوصاف الصراط
وصف النبي ﷺ الصراط بعدة أوصاف:
أولاً أنه زلق فجاء في حديث أبي سعيد الخدري قلنا: ما الجسر يا رسول الله؟ قال: مدحضة مزلة[رواه البخاري7439]، ومعنى مدحضة: يعني تزلق فيه الأقدام، ومزلة يعني: تسقط فيه الأجساد والأرجل، فإذاً أول صفة للصراط أنه مضروب على متن جهنم، من أولها إلى آخرها، من الطرف إلى الطرف.
أتدرون يا عباد الله سعة جهنم يؤتى بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها[رواه مسلم2842]، وعمقها إذا رُمي الحجر من شفيرها لا يصل إليه إلى القعر في سبعين عاماً، وإذا كان الواحد من أهل النار ضرسه كالجبل، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه سبعين سنة، مسيرة من الدم والقيح، فكيف يكون سعة جهنم، كيف تكون؟ يضرب الصراط على متن جهنم من الطرف إلى الطرف الآخر.
ومن صفاته: أنه دحض مزلة.
وثالثاً: أن له جنبتان وحافتان كما جاء في حديث أبي بكرة، أن رسول الله ﷺ قال: يُحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار[رواه ابن أبي عاصم837]، وهذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى وغيره، ومعنى تتقادع بهم جنبتا الصراط يعني: يسقط بعضهم فوق بعض، وإذا جاء في بعض صفات هذا الصراط أنه أدق من الشعر، فهل يكون لبعض الناس دون بعض، أو يكون في مرحلة دون مرحلة، أو هو من علم الله بالغيب الذي لا يمكن أن ندركه، كيف يكون له جنبتان وهو أدق من الشعرة، والله على كل شيء قدير، تتقادع جنبتا الصراط بالناس تقادع الفراش في النار، تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض، جنبتا الصراط تتلاعب بالناس تلاعباً، تسقطهم في النار بعضهم فوق بعض.
ومن صفات الجسر الواردة في الحديث الصحيح أن له كلاليب على حافتيه، روى مسلم رحمه الله أن النبي ﷺ قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة[رواه مسلم195] مأمورة بأخذ من أُمرت به.
وفي حديث أبي سعيد قلنا يا رسول الله ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليه، خطاطيف، وكلاليب، وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها السعدان[رواه البخاري7439]، وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال في صفة الصراط: وبه كلاليب مثل شوك السعدان أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير ألا يعلم قدر عظمها إلا الله[رواه البخاري806].
قال الشُراح: الكلاليب جمع كلوب وهو حديدة معطوفة الرأس يُعلق عليها اللحم، والخطاف الحديد المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء، والحسكة شوكة صلبة معروفة، وقيل: نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم، والمفلطحة يعني العريضة، والعقيفاء أي المعوجة، وشوك السعدان نبات ذو شوك يرعى البدو إبلهم عنده مشهور بنجد، يقال مرعى ولا كالسعدان، له شوك أراد النبي ﷺ أن يقرب لهم كيف تعلق هذه الكلاليب بأجساد الناس وكل تتخطف هذه الخطاطيف الناس وتعلق بأجسادهم مثل شوك السعدان الذي يعلق وإذا نشب لا يخرج.
ومن صفات الصراط: أن حده مثل حد الموسى أو حد السيف، كما جاء في حديث سلمان عن النبي ﷺ قال: ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة من تجيز على هذا هذا حد الموس من يستطيع أن يجوزه فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون ما عبدناك حق عبادتك[رواه الحاكم8739]، أخرجه الحاكم وإسناده صحيح، وفي حديث ابن مسعود الطويل الصراط كحد السيف دحض مزلة[رواه عبدالله بن أحمد1203]، إذاً حده حاد جداً مثل حد السيف أو الموس، خطاطيف يا عباد الله وكلاليب تنهش الناس يمنياً وشمالاً، ومن أسفل حد كحد السيف، يقطع من يمر عليه، وهو يروغ بالناس تتقاذفهم جنبتاه فيتساقطون في جهنم إلا من شاء الله.
كيفية المرور على الصراط
كيف يمر الناس على الصراط؟ المرور عليه إجباري لجميع الخلق لا بد أن يمروا عليه الذين نجوا من غير الكفار يمرون على الصراط، الكفار لا يمرون على الصراط؛ لأنه قد أخذ بهم إلى جهنم من قبل، أما الذين يمرون على الصراط هؤلاء المسلمون منهم الطائع ومنهم العاصي، منهم البر، ومنهم الفاجر، منهم المؤمن ومنهم الفاسق، أما المرتدون والكفرة فقد أُخذ بهم إلى جهنم من قبل فلا مرور لهم على الصراط، يتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً، وذلك لأن المرور عليه يكون بقدر الأعمال الصالحة، يعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط، لأن من صفة الصراط أنه مظلم إظلاماً تاماً فتأمل الآن يروغ بهم تتقاذفهم جنباته، وكلاليب، وخطاطيف، وحسك، ومظلم، وكحد السيف، فتكون الأنوار على قدر الأعمال، قال النبي ﷺ: ويعطى كل إنسان منهم منافقاً أو مؤمناً نوراً ثم يتبعونه قبل الجسر يعطى كل واحد نوراً حتى المنافقون الذين دخلوا مع المؤمنين في الدنيا، ثم يبدأ المرور على الجسر فيطفئ الله أنوار المنافقين فتكون الخدعة الكبيرة إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم فإذا طفئت أنوار المنافقين سقطوا في جهنم، بقي المسلمون البر والفاجر الطائع والعاصي يعطون أنواراً على قدر أعمالهم، قال النبي ﷺ: ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله [رواه مسلم191]. رواه مسلم.
وفي حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة، ويطفئ مرة، فإذا أضاء قدمه، وإذا طفئ قام[رواه الحاكم3424]، لا يستطيع أن يمشي، لا نور في تلك الظلمة، فإذا أضاء له مشى، وإذا أظلم قام واقفاً، لأنه إذا غامر بالمشي ربما يسقط، يقوم على حد السيف على حد الموس، والكلاليب من حوله، يطفئ نوره مرة، ويوقد مرة، بحسب العمل، أما أولياء الله نورهم فوق الجبل وفي ذلك الموقف الرهيب ينطفئ نور المنافقين فيسقطون كما تقدم وينجو المؤمنون، والناس لهم سرعات تختلف سرعاتهم بحسب أعمالهم في المرور على الصراط، لأن جهنم في الأسفل واللهب يشتد والنار لها زفير وشهيق والمنظر من أسفل في غاية الرعب، جهنم من أسفل تحت توقد، نار الله الموقدة، تختلف سرعة الناس في المرور على الصراط باختلاف قوة النور الذي يعطى لهم فالنور تابع للسرعة، وجاء في حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ: ويمرون على الصراط والصراط كحد السيف دحض مزلة فيقال: انجوا على قدر نوركم فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، هناك أناس يمرون على الصراط من الجهة إلى الجهة الأخرى كانقضاض الكوكب، هل رأيت النجم يرمى به في السماء بغاية السرعة مع المسافة الشاسعة كذلك هم، ومنهم من يمر كالريح، كالإعصار في السرعة، ومنهم من يمر كالطرف، طرف العين، ومنهم من يمر كشد الرجل، أو الرجِل يعني الراجل غير الراكب، يجري جرياً، ويرمل رملاً فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه آخر واحد الذي ينار ويطفئ له يجر يداً ويعلق يداً ويجر رجلاً ويعلق رجلاً، وتضرب جوانبه النار فيخلصوا بعد العناء الشديد إلى الطرف الآخر، فإذا خلصوا قالوا الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً[رواه الحاكم3424]، وجاء في صحيح مسلم في صفة سرعة هؤلاء قال النبي ﷺ: فيمر أولكم كالبرق ولذلك لا يتأثر هؤلاء بجهنم مطلقاً، لا بخطاطيف، ولا بكلاليب، ولا بحسك، ولا بحد السيف، ولا بلهب النار، لا يتأثرون مطلقاً، فيمر أولكم، هؤلاء أولياء الله، كبار الصالحين الشهداء العلماء العاملون، هؤلاء أولياء الله يمرون كالبرق، قلت: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين نظرتم إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجل، وشد الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً[رواه مسلم195]، زحف على حد الموس على حد السيف مع الخطاطيف من أول جهنم إلى آخرها، يزحف زحفاً هكذا جزاء الله تعالى وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[رواه مسلم2577]، يكفي هذا الموقف، موقف الصراط فقط حتى نغير كل الطريقة التي نحن نسير عليها.
ومن كان يراوغ الله الآن في الدنيا يعتدل، ومن كان يعصيه الآن يتوب، والله لو عقلنا فقط الصراط غير عذاب جهنم فقط لتعدل سلوكنا، لاعتدل سلوكنا وتغير، آخر واحد يزحف زحفاً على الصراط، وجاء في حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح ثم كحضر الفرس كيف تجري الفرس، ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجال ثم كمشيهم[رواه الترمذي3159]، بناء على أي شيء تفاوت السرعة على حسب الأعمال، كلما كانت حسناتك أكثر كان مرورك أسرع، وكلما كانت حسناتك أقل كان مرورك أبطأ.
وهكذا تكون السرعة على متن جهنم حسب أعمال العباد، حتى يكون آخر الناس مروراً على الصراط بعد الزاحف رجل آخر هو المسحوب كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ يقول: حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً[رواه البخاري7439]، رواه البخاري، يسحب على حد السيف، سحب يسحب حتى يُجاز به إلى الطرف الآخر على متن جهنم.
وجاء في وصف آخر رجل في حديث ابن مسعود قال: "ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لماذا أبطأت بي فيقول: لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك"[رواه الحاكم8519]، يتلبط على بطنه، يقول يا رب لم أبطأت بي يقول إنما أبطأ بك عملك"، صحيح عن ابن مسعود لا يقال من جهة الرأي فله حكم الرفع، آخر واحد مع ما لقي من العذاب الأليم إذا جاز الصراط عدها نعمة ما بعدها نعمة.
ولذلك جاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: إن آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط فينكب مرة ويمشي مرة وتسفعه النار مرة فإذا جاوز الصراط التفت إليها إلى جهنم فقال: تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله انتبهوا لعبارة الرجل عبارة آخر واحد يجوز جهنم مع ما لاقاه من العذاب الأليم يسحب على حد السيف وتسفعه النار يقول: تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين[رواه أحمد3714]، إلى هذه الدرجة الرجل يستشعر النعمة يظن أنه ما أحد أعطي نعمة مثله، من الأولين والآخرين، من الأهوال من الأهوال التي رآها، فكيف بالذين يسقطون في النار.
وأخبر النبي ﷺ عن صفة الصراط أيضاً وما يحدث عنه بما يلي قال: لما ذكر ذهاب الناس إلى آدم وإبراهيم وموسى ثم عيسى ثم محمد ﷺ قال ﷺ وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً[رواه مسلم195]، الأمانة عن يمين الصراط والرحم عن شماله الأمانة يبعثها الله، والله يخلق ما يشاء عن يمين الصراط والرحم عن شماله، قال العلماء: لعظم شأنهما عند الله، وفخامة أمرهما،وعظم حقهما، يوقفان هناك عن يمين الصراط وعن شماله، الأمانة والرحم، لأجل أن تكونا شاهدتين للأمين، وعلى الخائن، وللمواصل، وعلى القاطع، ما هي الفائدة؟ يحاجان عن المحق فينجو، ويشهدان على المبطل فيهلك، فكل من خان في أمانة فليحذر، وكل من هو قاطع للرحم فلينتبه.
والنبي ﷺ ثم أمته أول من يجيز الصراط، قال ﷺ: ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها[رواه البخاري7437]، أول من يخترق ويمر محمد ﷺ وأمته، وفي رواية: فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته[رواه البخاري806]، حتى جاء في رواية: أنهم يفسحون الطريق يميناً وشمالاً لمحمد وأمته، قال ﷺ: ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم[رواه البخاري7437]. عند الصراط ما يتكلم أحد مطلقاً من هول الموقف، لا يتلفظ أحد بكلمة، ما عدا الرسل عندهم قدرة على الكلام، لكن كلامهم محدود بعبارة من ثلاث كلمات فقط، اللهم سلم سلم، يدعون بالسلامة للناس لهول الموقف، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: إلى أن تمر أمته كلها ﷺ قال: ونبيكم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم[رواه مسلم195]، من شفقته ﷺ، وكذلك الأنبياء كما جاء في رواية أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: والأنبياء بجنبتي الصراط وأكثر قولهم اللهم سلم سلم[رواه ابن أبي عاصم634].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا في ذلك اليوم من الناجين، اللهم ثبت قدمنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت قدمنا على الصراط يوم تزل الأقدام، وعافنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أشهد ألا إله إلا هو الحي القيوم، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
أحوال الناس على الصراط
أما حال الناس على الصراط فهم ما بين ناجٍ وهالك، قد ذكر أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ في نتيجة مرور الناس قال: فناجٍ مسلم، وناج مخدوش[رواه البخاري7439]، ومكردس في نار جهنم[رواه البيهقي في الاعتقاد ص197]، وجاء في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه عن النبي ﷺ قال في تصنيف العابرين على الصراط: فناجٍ مسلم، ومخدوج به ثم ناجٍ، ومحتبس به، ومنكوس فيها[رواه ابن ماجه4280]، وفي رواية البخاري: فناجٍ مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنم[رواه البخاري7439]. فإذاً يتضح أن الذين يمرون على الصراط ينقسمون إلى أقسام، أولاً ناجٍ بلا خدش، لا تمس منه الكلاليب والخطاطيف شيئاً ولا تصيبه النار مطلقاً، هؤلاء عنها مبعدون كما قال الله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَامن شدة من سرعة المرور وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَسورة الأنبياء102، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ سورة الأنبياء103وأي فزع أكبر من فزع ذلك اليوم، أولاً ناجٍ بلا خدش.
ثانياً: هالك من أول وهلة ساقط في النار.
ثالثاً: ومتوسط بينهما يصاب ثم ينجو، يصاب ثم ينجو، وكذلك جاء في رواية ابن ماجه ومحتبس به[رواه ابن ماجه4280]يُحبس على الصراط حتى يطلق سراحه، وأما الناجِ بلا خدش فقد ذكره النبي ﷺ بقوله: ناجٍ مسلم وهؤلاء الذين يعطون نوراً عظيماً لأجل أعمالهم فينجون ويجوزون، قال ﷺ في صفتهم في حديث جابر: ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون بلا حساب، يعني نحن نظن أن هؤلاء أولياء الله الذين تعبوا في الدنيا قاموا الليالي وصاموا الأيام وعفو عن الحرام وعملوا لله وجاهدوا في سبيل الله بوارق السيوف على رؤوسهم فتنة في الدنيا هؤلاء لا يفوت أجرهم عند الله، وذلك الفوز العظيم، قال: ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء[رواه مسلم191]، وأما الهالك من أول وهلة فإن النبي ﷺ وصفهم بأوصاف قال: مكردس في النار، وقال: منكوس فيها وقال: مكدوس في نار جهنم، ومن هؤلاء المنافقون، والناس الذين زادت سيئاتهم على حسناتهم ورجحت سيئاتهم هؤلاء يسقطون في النار يعذبون حتى يأتي فرج الله، أما المنافقون في الدرك الأسفل من جهنم.
ما معنى مكردس في النار؟
قال العلماء: المكردس الذي جمعت يداه ورجلاه وألقي إلى موضع، والمنكوس المقلوب على رأسه، رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلا في نار جهنم، كيف يخرون من الصراط، الرأس إلى أسفل والرجلان إلى أعلى.
ومعنى مكدوس في نار جهنم، تكدس الإنسان إذا دفع من وراءه فسقط، وأما مكدوش يعني الذي يساق سوقاً شديداً حتى يوقع فيها، هؤلاء الذين أوبقتهم أعمالهم.
أما الصنف الثالث: الذي يصاب ثم ينجو، فهؤلاء وصفهم بقوله: مخدوش مكلم، وفي رواية: مخدوج به[رواه ابن خزيمة في التوحيد2/766]، وفي رواية: ومنهم المجازى حتى ينجى[رواه مسلم182]رواه مسلم، ما معنى ذلك، معنى ذلك أن هؤلاء الصنف الثالث هذا تتخطفهم الكلاليب فتجرح أجسادهم، ثم ينجون بعد ذلك، ومعنى مخدوش مكلم، خدش الجلد قشره، ومعنى، مخموش يعني ممزوق، المخدوش هو المخمش الممزوق، والخمش تمزيق الوجه بالأظافير، والمكلم أي المجروح، مخدوج به من الخداج وهو النقصان، معنى ذلك أن كلاليب الصراط والخطاطيف تجرحه وتنهشه يميناً وشمالاً فتنقص من جسده، يجرح طيلة الطريق وهو يعبر من أول جهنم إلى آخرها، جراح وخدش وخدج يعني نقصان ينقص من جسده بحسب ما يسحب الخطاف، ذلك تلك الكلاليب تسحب من أجسادهم، فإذا نجوا بعد ذلك ماذا يقولون؟ كما مر في الرواية: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يُعط أحدً[رواه أحمد3714]. هذا كلامهم إذا نجوا
وقد نصب الصراط لكي يجوزوا | فمنهم من يكب على الشمال |
ومنهم من يسير لدار عدن | تلقاه العرائس بالغوالي |
يقول له المهيمن يا وليي | غفرت لك الذنوب فلا تبالي |
قال القرطبي رحمه الله: "فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليك إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم زبانية جهنم بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم وتعلو أرجلهم، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه" وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ سورة البقرة197 .
معنى: وإن منكم إلا واردوها
عباد الله: إن الورود على الصراط هو المقصود بقوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّاسورة مريم71-72، فما من أحد منا إلا وهو سيمر على جهنم إن نجا عرف نعمة الله عليه، وإن هلك ففيها، فليس أحد حتى الأنبياء إلا وهم يمرون على جهنم لا بد لأن الله قال: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّاسورة مريم71، لا بد من الورود على جهنم، فسر كثير من العلماء الورود بالمرور على الصراط، وقال بعضهم بالدخول ولكنها لا تؤذي المؤمنين فينجيهم الله تعالى، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا.
من أراد النجاة فلينجو من الآن
عباد الله: من أراد النجاة فلينجو من الآن قبل أن يندم حين فوات الأوان.
نسأل الله أن يجعلنا في ذلك الموقف من الناجين، وأن يرزقنا شفاعته عند الصراط، فإن أنس بن مالك قال: سألت النبي ﷺ أن يشفع لي يوم القيامة فقال: أنا فاعل قلت يا رسول الله فأين أطلبك؟ هؤلاء الأولون والآخرون أين أجدك وسط هؤلاء أين أطلبك قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان. قال: فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن[رواه الترمذي2433]، رواه الترمذي وهو حديث حسن. فإذاً من وفقه الله بمحبته للنبي ﷺ ومتابعته لسنة محمد ﷺ وإيمانه بما جاء به محمد ﷺ فالله يرزقه شفاعة نبيه في تلك المواطن العظيمة، فها نحن قد عرفنا حال الصراط فقط لا نتكلم الآن عن عذاب جهنم عن الصراط فقط فماذا أعددنا لذلك اليوم يا عباد الله، ماذا أعددنا للجواز على الصراط ماذا أعددنا.
نسأل الله تعالى أن يردنا إلى الدين رداً جميلاً، اللهم عافنا واعف عنا، نحن عبادك المقصرون المحتاجون إلى رحمتك فلا ترحمنا من رحمتك يا رب العالمين، وأنقذنا على الصراط يا أرحم الراحمين، وارزقنا الفوز بجنات النعيم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.