الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تحدثنا في الدرس السابق عن وصف الجنة وعن رؤيتها من الداخل، فذكرنا: أن في الجنة نورًا لا يؤذي ولا يحرق ولا يضر الأجساد، بل يزيدها جمالاً ووضاءة.
وذكرنا: أن الوقت والزمن في الجنة ليس بليل ولا نهار، وإنما هم في نور وضوء أبدًا.
وذكرنا: أن لون الجنة هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد في العموم؛ كما قال الله: مُدْهَامَّتَانِ[الرحمن: 64]شديد الخضرة يضرب إلى السواد.
ثم تحدثنا عن رائحتها وطيبها، وأن سيد ريحان أهل الجنة: الفاغية، وهو العطر الذي يستخرج من زهرة الحناء، وهو عطر طيب كان يعجب النبي ﷺ.
وذكرنا: أن ريح الجنة يوجد من مكان بعيد، يتفاوت من يجده بحسب أعمالهم ومقاماتهم، فمنه ما يوجد على بعد أربعين عامًا، أو سبعين، أو مائة، وكذلك فإن هناك من يشم ريح الجنة وهو في الدنيا كما حصل لبعض أولياء الله -تعالى-.
ثم تحدثنا عن دواب الجنة، وذكرنا أن فيها خيولاً وإبلاً، وأن الغنم من دواب الجنة.
ثم تحدثنا عن طيور الجنة، وأن أعناقها كأعناق الإبل، وأنها ناعمة لذيذة إذا اشتهاها المؤمن أتته مشوية بين يديه.
ثم تحدثنا عن أشجار الجنة وثمارها والفواكه التي فيها، وأن الحدائق والبساتين والظلال الممدودة من ذلك، وأن أصول الأشجار في الجنة الذهب واللؤلؤ، وليست عيدان وأخشاب.
وتحدثنا عن شجرة طوبى وأنها شجرة عظيمة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام في ظلها لا يقطعها.
وتحدثنا عن سدرة المنتهى، والتي ثمارها كقلال هجر، وورقها من آذان الفيلة، وقلنا: إن هذه الأشجار تغرس الآن، وأن أراضي الجنة منها ما هو لم يغرس بعد، ومنها ما فيه شجر مخلوق، وأن غراس القيعان التي لم تغرس بعد بذكر الله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكذلك فإن في الجنة -كما مضى- من يطلب من ربه أن يزرع فيزرع ويحصد زرعه، ويرتفع أمثال الجبال.
عظم أنهار الجنة وجريها من غير أخاديد
وبلغنا أنهار الجنة في الحديث عن نعيمها، فنقول: أنهار الجنة عظيمة، إنها جنات تجري من تحتها الأنهار، قال الله : وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[البقرة: 25]وهذه الأنهار العظيمة تجري في غير أخاديد؛ كما قال تعالى: مِن تَحْتِهَا والمقصود بالأخدود المجرى الذي يشقه النهر في الأرض؛ فعن أنس بن مالك موقوفًا عليه قال: "لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله، إنها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينه المسك الأذفر، قلت: ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط له" [قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا، ورواه غيره مرفوعًا، والموقوف أشبه بالصواب"].
قال ابن كثير-رحمه الله-: فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت أشجارها وغرفها[تفسير القرآن العظيم:1/204].
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "أنهار الجنة وإن جرت في غير أخدود -ليست في مجرى يشق في الأرض-فهي تحت القصور والمنازل والغرف وتحت الأشجار"[حادي الأوراح، ص: 121]؛ لأنه لقائل سيقول: إذا كانت لا تشق مجرى في الأرض فهي على أرض الجنة إذًا تسير ولا تنساح ما تنساب، يمسكها الله في جريها، لكن ما معنى: تَجْرِي تَحْتَهَا[التوبة: 100]، و تَجْرِي مِن تَحْتِهَا [البقرة: 25]إذًا؟
فالجواب: من تحت البيوت والقصور والأشجار.
فإذًا، فالجواب كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "فهي تحت القصور والمنازل والغرف وتحت الأشجار، وهو سبحانه لم يقل: من تحت أرضها، وقد أخبر سبحانه عن جريان الأنهار تحت الناس في الدنيا، فقال: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ[الأنعام: 6]فما معنى: تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ قال: فهذا على المعهود المتعارف[ينظر: حادي الأرواح، ص: 121].
وكذلك ما حكاه من قول فرعون: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي[الزخرف: 51]انتهى من [حادي الأوراح، ص:121].
ويشهد لذلك أيضاً قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَايعني من تحت الغرف الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [العنكبوت: 58].
وقال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ[الزمر: 20].
من أين تتفجر أنهار الجنة وإلى أين تتجه؟
أنهار الجنة من أين تتفجر؟ وإلى أين تتجه؟لأن النهر له اتجاه، وله منبع، هذا في العادة: منبع ومصب واتجاه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأنهار الجنة تتفجر من أعلاها ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجاتها"[حادي الأرواح، ص: 123]؛ كما روى البخاري-رحمه الله تعالى- في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، أراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة[رواه البخاري: 2790].
بحار الجنة وأنهارها
بحر الماء والعسل واللبن والخمر
وللجنة أربعة بحار تتشقق منها أربعة أنواع من الأنهار، فأما البحار فهي: بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تتشقق منها الأنهار: أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ[محمد:15].
لقد جاء في الحديث أن باقي الأنهار تتشقق من هذه الأربعة؛ فعن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي ﷺ قال: إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد [رواه الترمذي:2571، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2122].
قال الطيبي -رحمه الله-: "يريد بالبحر مثل دجلة والفرات ونحوهما، وبالنهر مثل نهر معقل -بالبصرة، نسبة إلى معقل بن يسار- حيث تشقق منها جداول"[فيض القدير: 2/591].
فالمقصود إذًا بالبحر النهر الكبير، والمقصود تتشقق الأنهار منها بعد يعني الفروع الأصغر، وقد قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ[محمد: 15].
وقوله تعالى: غَيْرِ آسِنٍيعني غير متغير الطعم، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة ولا بكدورة، بل هو أعذب الماء وأصفاه، وأطيبه ريحًا، وألذه شربًا؛ لأن الماء إذا وقف في الدنيا صار آسنا، فإن طعمًا كريهًا يعتريه بسبب وقوفه وعدم جريه.
وقال : وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ يعني لا بحموضة ولا بغيرها، بل هو في غاية البياض والحلاوة والنعومة. وقال: وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ أي ليست كريهة الطعم، كما يوجد في خمر الدنيا.
وقوله: وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّىأي ليس فيه شوائب من شمعأو وسخ، ونحو ذلك.
قال ابن القيم-رحمه الله-:
أنهارها في غير أخدود جرت | سبحان ممسكها عن الفيضان |
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجـ | ـرة وما للنهر من نقصان |
عسل مصفى ثم ماء ثم خمـ | ـر ثم أنهار من الألبان |
والله ما تلك المواد كهذه | لكن هما في اللفظ مجتمعان |
هذا وبينهما يسير تشابه | وهو اشتراك قام بالأذهان |
[متن القصيدة النونية، ص:327].
فإذًا، كلمة: "عسل"، وكلمة: "خمر"، وكلمة: "لبن"، وكلمة: "ماء"، الاشتراك لفظي، لكن خمر، وماء، وعسل، ولبن؛ الجنة يختلف تمامًا عما نعهده في هذه الدنيا.
الفرات والنيل من أنهار الجنة
هناك في الجنة نهران ظاهران ونهران باطنان؛ فعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: النيل والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة [رواه البخاري: 5610].ولم يسم في هذه الرواية ما هما هذان النهران تكملة الأربعة.
وعن أنس بن مالك ولعله قال عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال: حدث نبي الله ﷺ أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها، يعني من أصل سدرة المنتهى، من أصل الشجرة تخرج أربعة أنهار، قال: نهران ظاهران،ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان: فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات[رواه مسلم: 434].
وروى الترمذي عن عبادة مرفوعًا قال ﷺ: في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين الأرض والسماء، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة[رواه الترمذي: 2531، وأحمد: 22790، وذكره الألباني في سلسلته الصحيحة: 922].
أيضاً، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء: أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة.
سيحون وجيحون من أنهار الجنة
لقد وردت روايات أخرى بأن سيحان وجيحان أو سيحون وجيحون كذلك من أنهار الجنة، فما هو المقصود؟
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: سيحان وجيحان، والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة[رواه مسلم: 7340].
وروى أحمد عن أبي سلمة: أن النبي ﷺ قال: فجرت أربعة أنهار من الجنة: الفرات والنيل، والسيحان والجيحان[رواه أحمد: 7535، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة: 111].
قال القاضي عياض -رحمه الله-: الأصح أنها على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة، والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة[شرح النووي على صحيح مسلم: 17/177].
إذًا، هذا أول فهم: أن مادة هذه الأنهار من الجنة، لكن سبق أن ذكرنا أن الأشياء إذا خرجت من الجنة يتغير طبعها -كما قلنا- في الحجر الأسود، والركن اليماني: ياقوتتان من الجنة بالتأكيد، لكن تغير طبعهما الآن في الدنيا.
وكذلك ما ورد أن آدم نزل ومعه ثمار من الجنة.
-طيب- إذًا هذا واحد.
الثاني: قال بعض العلماء: إن الأنهار هذه الموجودة في الدنيا الآن: النيل والفرات، وسيحان وجيحان، يوم القيامة الله يأخذها من الأرض فيجعلها في الجنة، وتتغير طباعها إذا صارت في الجنة.
فإذًا، منهم من قال: إن هناك علاقة خفية بين هذه الأنهار الموجودة الآن وبين الجنة، نحن لا ندركها ولا نرى مياها تصب من السماء في هذه الأنهار، ونقول: هذ من هذه، هذه علاقة خفية.
ومنهم من قال: إنها يوم القيامة تجعل في الجنة.
لكن هل سيحان وجيحان من أنهار الجنة أصلاً؟
قال عليه الصلاة والسلام: سيحان وجيحان، والفرات والنيل؛ كل من أنهار الجنة[رواه مسلم: 7340]فهذا نص لكن لم يثبت أنهما ينبعان من سدرة المنتهى كما ثبت ذلك في النيل والفرات، قال ابن حجر -رحمه الله-: وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: سيحان وجيحان، والنيل والفرات؛ من أنهار الجنة فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة" [فتح الباري: 7/214].
هل هذه الأنهار موجودة في الجنة وأوتي من مائها في الجنة شيء فجعل في الأرض؟
-طبعا- تغير الطبع، فجعل في الأرض فتكون مادة هذه الأنهار الموجودة عندنا الآن أصلها من تلك، فهذا أيضاً مما يمكن أن يفهم في هذا الموضوع، يقول ابن حجر -رحمه الله-: "وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: سيحان وجيحان، والنيل والفرات؛ من أنهار الجنةفلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض في أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب، فهما غير سيحون وجيحون -والله أعلم- [فتح الباري: 7/214].
وقد مر معنا: الكوثر والسلسبيل، قال القرطبي-رحمه الله-: "لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليس أصلأ برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرع عن النيل والفرات" نقله عنه ابن حجر -رحمه الله- في [الفتح: 7/214].
فإذًا، هو قال في حديث الإسراء والمعراج أنه رأى النيل والفرات، لكن ما ذكر سيحان وجيحان، فأورد القرطبي احتمال أنهما يتفرعان عنهما.
كيف يكون النيل والفرات من أنهار الجنة؟
جاء في حديث أنس بن مالك في حديث الإسراء والمعراج: فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان يعني يجريان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما[رواه البخاري: 7517]يعني أصلهما.
قال ابن حجر: "وظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيها بعد ذكر سدرة المنتهى، فإذا في أصلهما أربعة أنهار، ويجمع بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض" [فتح الباري:13/482].
-طبعًا- العلاقة خفية نحن لا ندرك، لكن ابن حجر -رحمه الله-جمع بين الروايات: الأصل من سدرة المنتهى ومقرهما المنبع من سدرة المنتهى، مقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض.
وقال النووي: "في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر، فليعتمد" [فتح الباري: 7/214].
وإلى ذلك مال الشيخ الألباني-رحمه الله- في تعليقه قال: "لعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة"[السلسلة الصحيحة: 1/111]يعني يقال: لا تستغربوا لهذا أو موضوع الأنهار، نحن أصلنا من وين؟أصلنا من آدم، وأين كان يسكن آدم أصلاً؟ كان في الجنة.
فإذًا، أصلنا نحن أصلا كان مسكننا في الجنة، الجنس البشري، ثم بالذنب هبط الأبوان، وتاب الله عليهما، وكانت الحكمة العظيمة والابتلاء والمرجع لمن أطاع الله إلى المكان الأصلي.
فحي على جنات عدن فإنها | منازلك الأولى وفيها المخيم |
ولكننا سبي العدو فهل ترى | نعود إلى أوطاننا ونسلم |
[حادي الأرواح، لابن القيم، ص: 7].
وقد قيل من الأقوال أيضاً في هذا الموضوع: أن المراد بذلك أنها تشبه أنهار الجنة، لا أن أصلها منها حقيقة، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: قوله ﷺ: من الجنة ليس على ظاهره، فيقول: "كأن المراد -والله أعلم- من هذا أن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها، ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها، كما قال في الحديث الآخر: العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم[رواه الترمذي: 2066، وأحمد: 8653، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 4126]أي تشبه ثمر الجنة، لا أنها مجتناة من الجنة، فإن الحس يشهد بخلاف ذلك، فتعين أن المراد غيره.
وكذا قوله ﷺ: الحمى من فيح جهنم فأبرودها بالماء [رواه البخاري: 3263، ومسلم: 5885].
وكذا قوله: إذا اشتدت الحمى فأبردوها بالماء، فإن شدة الحر من فيح جهنم.
وهكذا هذه الأنهار أصل منبعها مشاهد من الأرض. انتهى[البداية والنهاية: 1/28].
وقال ابن كثير-رحمه الله تعالى- في حديث الإسراء: وأما الظاهران فالنيل والفرات، وفي لفظ في البخاري: وعنصرهما أي مادتهما أو شكلهما وعلى صفتهما ونعتهما [البداية والنهاية: 1/27].
لكن -طبعًا- هذا الكلام يعني أنه لا يرى الأخذ بظاهر الحديث، ولذلك نقول: الأصل أن يؤخذ بظاهر الحديث، وأن يقال: هذه من الجنة.
هل هذه الأنهار امتداد لأنهار في الجنة على نفس الاسم؟ وبما أن الامتداد موجود إذًا الاسم واحد، لكن إذا خرجت من الجنة يتغير طبعها؟ أشياء غيبية نحن لا ندركها، ولذلك نحن الأصل نسلم أن نقول: هذه الأنهار من الجنة، ثم وجه الارتباط، إدراك كيفية من هذه كيف لا ندركه بعقولنا، لكن نحن نؤمن أنها أربعة أنهار في الجنة، سماها النبي ﷺ، وهذه الأنهار المعروفة من الجنة لا نستطيع أن نفسر ذلك نحن.
الكوثر من أنهار الجنة
على أية حال: هنالك في الجنة نهر عظيم قد أخبر الله عنه نبيه ﷺ بقوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر: 1].
وعن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر[رواه البخاري: 6581].
ومعنى: حافتاه يعني على جوانبه حافتاه قباب الدر المجوف.
وعن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله ﷺ عن الكوثر، فقال: نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه المسك، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر جمع جزور وهو البعير، قال أبو بكر: يا رسول الله إنها لناعمة؟ فقال: أكلتها أي المؤمنون أنعم منها[رواه أحمد:13500، وقال الألباني: "حسن صحيح"، كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3724].
وعند أحمد أيضاً: فإذا هو نهر يجريعلى وجه الأرض لا يشقها شقًا، فإذا حافتاه قباب اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى تربته، فإذا هو مسكة ذفرة، وإذا حصاه اللؤلؤ[رواه أحمد: 12564، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة: 2513].
وقد سبق قول أنس في أنهار الجنة: "وفيها إنها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينها المسك الأذفر" فهي سائحة يعني تجري على وجه الأرض لكن ليست منسابة، بمعنى أنه ليس لها حواف، بل لها حواف، والله يمسكها، والكوثر حوافه قباب اللؤلؤ المجوف.
وروى الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعًا: الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج[رواه الترمذي: 3361، وابن ماجه:4334، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 3498].
عيون الجنة وصفاتها
ماذا يوجد غير الأنهار في الجنة من مصادر المياه؟
العيون، والإنسان بطبيعته يحب الماء، وقد جعل الله في الجنة عيونًا كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب والأوصاف؛ كما قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ[الحجر: 45].
وقال : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: 41].
وقوله : وَعُيُونٍيعني جارية من السلسبيل والرحيق، وغيرهما [تفسير السعدي، ص: 905].
وتلك العيون سارحة تشرب منها تلك البساتين، ويشرب منها: عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 6].
ومن صفات هذه العيون: أنها جارية، قال : فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [الغاشية: 12].
قال الطبري: عين جارية في غير أخدود[جامع البيان: 24/387]، وهذا كالذي ورد في شأن الأنهار.
وقال أيضاً: وَمَاء مَّسْكُوبٍ[الواقعة: 31].
قال الطبري: يعني مصبوب سائل في غير أخدود.
قال سفيان: وَمَاء مَّسْكُوبٍ يجري في غير أخدود[جامع البيان: 23/117].
والمؤمنون في الجنة على درجات، ولذلك فعيونهم على درجات، فمثلاً: العينان اللتان تجريان للمقربين، والعينان النضاختان لأصحاب اليمين، قال ابن كثير: "والجري أقوى من النضخ" [تفسير القرآن العظيم: 7/507]؛ لأن الله قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ[الرحمن: 50]، قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ[الرحمن: 66]، فأما قوله: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ[الرحمن: 50]في سورة الرحمن تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان.
قال الحسن البصري-رحمه الله-: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى: السلسبيل[تفسير القرآن العظيم: 7/503].
وهذا إشارة إلى ما ورد في القرآن في قوله تعالى: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ[المطففين: 27] فسر ما هي تسنيم، فقال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[المطففين: 28].
وقال في سورة الواقعة في الكلام عن المقربين: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ[الواقعة : 17- 18]فدل على أن الخمر وتسنيم والزنجبيل مما يشربه المقربون.
وأما قوله تعالى: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن: 66]في سورة الرحمن، قال ابن عباس: "أي فايضتان"، والجري أقوى من النضخ -كما تقدم-.
وقال الضحاك: نَضَّاخَتَانِأي ممتلئان لا تنقطعان [تفسير القرآن العظيم: 7/507].
السلسبيل من عيون الجنة
ومن عيون الجنة: السلسبيل، قال : وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا[الإنسان: 17- 18].
وقال عكرمة: سَلْسَبِيلًا اسم عين في الجنة.
وقال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة سيلها، وحدة جريها، فهي قوية في الجري، وسلسة في الانسياب.
وقال قتادة: عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا[الإنسان: 18] "عين سلسة مستقيد ماؤها".
"وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق" يعني أثناء الشرب، فإنها تسري بغاية النعومة والسلاسة "واختار هو -أي ابن جرير- أنها تعم ذلك كله" [ينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 8/292]يعني سلاسة سيلانها، وسرعة جريانها، ولين شربها، نسأل الله أن يطعمناها.
وهذه العين قيل: إنها أصل لنهرين باطنين؛ وأنه يتفرع منها نهر الكوثر ونهر الرحمة، وذكر مقاتل: أنها أحد النهرين الباطنين.
وهذه العين هي العين التي يشرب منها الزمرة الأولى التي تدخل الجنة أول من يدخل؛ كما جاء في صحيح مسلم في قصة اليهودي الذي سأل النبي ﷺ قال: فمن أول الناس إجازة؟ فقال النبي ﷺ: فقراء المهاجرين فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النونوعرفنا معنى: النون، الحوت، وزيادة الكبد، هذه القطعة الصغيرة الملتصقة به، وهي ألذ وأطيب ما في الكبد، زيادة كبد النون، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً[رواه مسلم: 742]هذا الحديث الصحيح الثابت يبين أنها من شرابهم، أول من يدخل الجنة من شرابهم من عين السلسبيل.
قال النووي -رحمه الله-: قال جماعة من أهل اللغة والمفسرين: السلسبيل اسم للعين.
وقال مجاهد وغيره: هي شديدة الجري.
وقيل: السَّلِسَة اللينة [شرح النووي على صحيح مسلم: 2/227].
وهذا كله يدل على أن عين السلسبيل من أفضل عيون الجنة.
الزنجبيل من عيون الجنة
والزنجبيل، ذكر بعضهم أنه اسم لعين يشرب منها المقربون، وتزمج لمن دونهم.
قال الطبري: وقال بعضهم الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار، ثم نقل تفسير قتادة، وأنه قال: رقيقة يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لسائر أهل الجنة[ينظر: جامع البيان: 24/107].
إذًا، يشربها المقربون صرفًا، لكن من هو أقل منهم يخلط لهم منها.
تسنيم من عيون الجنة
وأما تسنيم التي قال الله -تعالى- فيها: يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[المطففين: 25 - 28]، فإن قوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ يعني من خمر من الجنة، والرحيق من أسماء الخمر، وقال ابن مسعود في قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌ يعني خلطه مسك[تفسير القرآن العظيم: 8/353].
وقال ابن جرير بسنده عن أبي الدرداء: خِتَامُهُ مِسْكٌ"فالشراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم، ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها" [جامع البيان: 24/298]يعني طيب تلك الرائحة.
وقوله: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ أي ومزاج هذا الرحيق، وما هو الرحيق؟ الخمر، ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم، فإذًا الشراب الذي هو الخمر يمزج معه من تسنيم، أي من شراب يقال له: تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه، قاله أبو صالح والضحاك، ولهذا قال: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، ولذلك قال: الْمُقَرَّبُونَيشربون منها صرفًا، في تفسير ابن كثير نقل قال: أي يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا، قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم [ينظر: تفسير القرآن العظيم: 8/353].
الكافور من عيون الجنة
وأما الكافور، فقد ذكر بعضهم: أنها اسم عين، وهذا ليس بالراجح، الكافور موجود في قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا[الإنسان: 5 - 6].
قال الطبري: كان مزاج ما فيها من الشراب كافورًا، يعني في طيب رائحتها كالكافور، وبهذا قال عامة أهل التأويل، فإنهم قالوا: الكافور صفة للشراب، ولم يقولوا: اسم للعين، قالوا: صفة للشراب، قال قتادة: قوم تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك، والمعنى أن مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين يشرب بها عباد الله الذين يدخلهم الجنة.
وقد قيل: إن الكافور اسم عين لماء في الجنة [ينظر: جامع البيان: 24/93].
لكن عامة أهل التأويل على خلاف هذا.
قال السعدي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور، أي خلط به ليبرده ويكسر حدته، وهذا الكافور في غاية اللذة، قد سلم من كل مكدر ومنغص موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا، تعدم في الآخرة[تيسير الكريم الرحمن، ص: 901]، فالآن هذه الأشياء الموجودة في الدنيا لا تخلو من آفات،لكن في الجنة خالية من هذه الآفات، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: وذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، وهي عين دائمة الفيضان والجريان، يفجرها عباد الله تفجيرًا، أنى شاؤوا، في أي مكان يشاء يفجر العين، فتنبجس ويخرج منها الماء، أنى شاؤوا، وكيف أرادوا، فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض الناضرات، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات[ينظر: تيسير الكريم الرحمن، ص: 901].
فإذًا، يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 6]حيث شاؤوا، وقت ما يريد في أي مكان يريد.
طعام أهل الجنة
ما هو طعام أهل الجنة؟
أخبرنا : أن في الجنة كل ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشراب، قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] ناس حرموا أنفسهم من الطعام والشراب للصيام لله -تعالى-، ناس حرموا أنفسهم من الطعام للجود به على الفقراء لله -تعالى-، هؤلاء ألا يكون لهم من الجزاء أضعاف أضعاف ما تركوه، ومن ترك الخمر في الدنيا لله -تعالى-، ومن ترك الزنا، ومن ترك الغناء، فهناك من الحور العين وغنائهن، ومن الخمر ولذتها، ما لا يقوم معه شيء في الدنيا أصلاً.
لقد أباح الله لأهل الجنة أن يتناولوا من خيراتها وألوان الطعام والشراب التي فيها كما يشتهون، قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
أول طعام أهل الجنة
وقد سبق التعرض لشيء من الطعام والشراب في دروس سابقة في الكلام عن الأشجار والأنهار، وسنذكر -هنا بعضا منها-:
أول طعام أهل الجنة؛ كما جاء في الحديث الصحيح وما يقدم لهم من الضيافة والنزل والإكرام في أول الدخول: زيادة كبد الحوت، القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد، وهي أطيب شيء فيه، ثم ينحر لهم ثور الجنة، ويشربون عليه السلسبيل.
وقوله في الحديث: تحفتهم ما يهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف؛ لأنه قال في الحديث اليهودي للنبي ﷺ: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون[سبق تخريجه].
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد بسند حسن عن كعب الأحبار: "إن الله -تعالى- يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضيف جزورًا، وإني أجزركم اليوم حوتًا وثورًا، فيجزر لأهل الجنة" [الزهد: 1/130].
ثم هنالك الخبزة -التي ذكرنا سابقًا في الدورة الماضية: أحداث فوق الأرض الجديدة في مشاهد اليوم الآخر- ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجباريعني يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي، يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، وقلنا: شبهها بالخبزة أو العجين الذي يعمله الواحد في طريق السفر، فهو يعمل وليس معه آلات، فهو يعملها بيده، ويرققها، ومن يد إلى يد، هذه الأرض تكون يوم القيامة خبزة يتكفؤها الجبار بيده، قال: نزلاً لأهل الجنة فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى، قال: تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال النبي ﷺ، يعني النبي عليه الصلاة والسلام حدث أصحابه وجاء اليهودي وما سمع الكلام ولا يدري ما الموضوع أصلاً، فهو جاء يتبرع بمعلومات يعرفها، قال: ألا أخبرك؟ قال: أخبر، فأخبر فإذا عند اليهودي معلومات صحيحة من كتابهم، وافقت ما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- قد أخبرهم به قبل قليل تمامًا، فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى، قال: تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال النبي ﷺ، فنظر النبي ﷺ إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: إدامهم بالام ونون، قالوا: وما هذا؟ قال: ثور نون، والنون هو الحوت -كما عرفنا- قال: يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا" متفق عليه [رواه البخاري: 6520، ومسلم: 7235].
النُزُل، ما يعد للضيف عند نزوله.
ويتكفؤها بيديه يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي؛ لأنها ليست منبسطة كالرقاقة في البداية، قال: ومعنى الحديث أن الله -تعالى- يجعل الأرض كالرغيف العظيم، ويكون ذلك طعامًا نُزلاً لأهل الجنة، والله على كل شيء قدير. والنون، هو الحوت باتفاق العلماء.
صاحب الحوت يونس .
وقوله: "بالام" لفظة عبرانية معناها بالعبرانية: ثور.
وزائدة الكبد القطعة المنفردة المتعلقة به، وهي أطيبه.
فواكه أهل الجنة
من طعام أهل الجنة: الفواكه والثمار، قال : وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ[المرسلات: 42].
وقال : لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 73].
وقال تعالى: عن الجنة: أُكُلُهَا دَآئِمٌ [الرعد: 35].
إذًا، لو واحد أخذ شيئا ما ينقص، يخرج بدلاً منه.
وقد مر بنا ما فيها من الحدائق والبساتين واحتواء هذه على جميع أنواع الأشجار، وأنها ذات ثمار قد أينعت لذيذة، وأنها في جميع الأوقات، وليست تنقطع كما في الدنيا في الصيف دون الشتاء، وفي الشتاء دون الصيف، ثمار تنقطع، وفواكه تنقطع، أما في الجنة لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 33]. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر: 45]. هذه فيها فواكه كثيرة، قال تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ[الدخان: 55]. وقال: وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ[الواقعة: 20].
النخل والرمان والعجوة والعنب من فواكه الجنة
وذكرنا: أن من ثمار الجنة: النخل والرمان والعجوة والعنب؛ كما قال تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ[الرحمن: 68].وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ- قال: العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم[رواه الترمذي: 2066، وأحمد: 8653، وصححه الألباني في صحيح الجامع: : 4126].
وقد قال ﷺ: إني أريت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا[رواه البخاري: 748، ومسلم: 2147].
قرب فواكه الجنة من أهلها وسهولة الحصول عليها
إن هذه الثمار وهذه الفواكه ليست منغصة لا بشوك ولا بغيره عند تناولها، فهي مذللة تذليلاً؛ كما قال : وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا[الإنسان: 14]لقد ذلل الله لهم اجتناءها، وجعل القطوف دانية، فهم يأخذون منها كيف شاؤوا، متى شاؤوا، قيامًا، قعودًا، متكئين، يأخذون منها بكل يسر وسهولة، ما يحتاج أن يقفز، ولا أن يصعد الشجرة، ولا أن يرميها بشيء حتى ينزل الثمر؛ لأنها دانية عليها، إذا اشتهى تناول، جاءه، نزل الغصن إليه، على أي مستوى كان هو، وقد قال ابن كثير -رحمه الله-: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَاأي قريبة إليهم أغصانها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًاأي متى تعاطه دنا القطف إليه، وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع مطيع؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ[الرحمن: 54] [تفسير القرآن العظيم: 8/291]، وَجَنَى الجنى الثمر والقطاف دَانٍقريب بمتناول اليد، وإذا أراده نزل إليه، ليس هو الذي يصعد، ولا يتعب نفسه.
وقال تعالى: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة: 23].
وقوله : وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا[الإنسان: 14].
قال مجاهد: إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلت له حتى ينالها، وإن اضطجع تدلت له حتى ينالها، فذلك قوله: تَذْلِيلًا.
وقال قتادة: لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد.
وقال مجاهد: أرض الجنة من ورق، الفضة، وترابها المسك، وأصول شجرة من ذهب وفضة، وأفناؤها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت.
وقال: والورق والثمر بين ذلك، يعني ورق الشجر وثمر الشجر بين ذلك، فمن أكل منها قائمًا لم يؤذه، ومن أكل منها قاعدًا لم يؤذه، ومن أكل منها مضطجعًا لم يؤذه [ينظر: تفسير القرآن العظيم: 8/291].
اللحم من طعام أهل الجنة
وكذلك من طعامهم: اللحم، قال تعالى: وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ[الطور: 22]فمن أنواع اللحوم لهم ما لهم.
وقال : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 21]طيور ناعمة لذيذة جداً، أعناقها كبيرة كأعناق الإبل؛ كما جاء في حديث أنس: فيها طير أعناقها كأعناق الجزر الحديث[رواه الترمذي: 2542، وأحمد: 13500، وهو في السلسلة الصحيحة، للألباني: 2514].
إنها طيور عجيبة يشتهيها المؤمن، فبمجرد أن يشتهيها تخر بين يديه مشوية، قال عبد الله بن مسعود :"إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويًا" [أخرجه البزار في البحر الزخار بإسناد صحيح: 5/401، رقم: 2032، كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله-].
كيفية شوي اللحم في الجنة وليس في الجنة نار
مسألة:
فإن قيل: كيف يشوى اللحم وليس في الجنة نار؟
فقد أجاب بعض العلماء: بأنه يشوى ب"كن"، الله على كل شيء قدير يشويه ب"كن"، ولو ما في الجنة نار، وهذا أحسن من جواب من تكلف، فقال: يشوى خارج الجنة ثم يأتيهم من خارج إلى الداخل.
وقد جاء أيضاً عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ[الزخرف: 71]، وَيُطَافُ عَلَيْهِم[الإنسان: 15]في تفسير الآية يقول عبد الله بن عمرو : بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة منها فيها لون ليس في الأخرى، فيها نوع ولون ليس في الأخرى.
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم | ولحوم طير ناعم وسمان |
وفواكه شتى بحسب مناهم | يا شبعة كملت لذي الإيمان |
لحم وخمر والنسا وفواكه | والطيب مع روح ومع ريحان |
وصحافهم ذهب تطوف عليهم | بأكف خدام من الولدان |
وانظر إلى جعل اللذاذة للعيو | ن وشهوة للنفس في القرآن |
للعين منها لذة تدعو إلى | شهواتها بالنفس والأمران |
سبب التناول وهو يوجب لذة | أخرى سوى ما نالت العينان |
[متن القصيدة النونية، ص: 327].
إذًا، العين لها لذة، وهو كذلك عندما يأكل له لذة، والعين قيل: إنها تأكل أيضاً، المقصود يعني تجد لذة للشيء عند ما تبصره.
شراب أهل الجنة
وأما شراب أهل الجنة، فقد ذكرنا: الأنهار والعيون، وأن الجنة لها أربعة بحار تتشقق منها أربعة أنواع من الأنهار، وبحر الماء والعسل واللبن والخمر، والله قد بين أنها لا تتغير، وأنها طيبة، قال ابن القيم-رحمه الله-: فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أن يأسن، قال: مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير إلى الحموضة، وأن يصير قارصًا، ولذلك قال: وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي في اللذة وشربها، قال: وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ، وآفة العسل عدم تصفيته، قال: وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد: 15]قال: وهذه من آيات الرب -تعالى- أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويجريها في غير أخدود" [ينظر: حادي الأرواح، ص: 122]، لا يوجد في الدنيا نهر عسل، لا يوجد في الدنيا نهر خمر، لا يوجد في الدنيا نهر لبن، لكن في الجنة في أنهار من هذه، فلا يمكن أن يخطر ببال أنها تنتهي أو تنفد؛ لأنها أنهار وجارية ولا تنقطع، قال الطيبي -رحمه الله-: "وخص هذه الأنهار بالذكر لكونها أفضل أشربة النوع الإنساني، فالماء لريهم وطهورهم، والعسل لشفائهم ونفعهم، واللبن لقوتهم وغذائهم، والخمر للذتهم وسرورهم، وقدم الماء لأنه حياة النفوس، وثنى بالعسل؛ لأنه شفاء الناس، وثلث باللبن لأنه الفطرة، وختم بالخمر إشارة إلى من حرمه في الدنيا لا يحرمه في الآخرة" [ينظر: فيض القدير: 2/591].
خمر الجنة وأوصافها
ومن أشربة أهل الجنة: الخمر، هذا الشراب الذي تفضل الله به على أهل الجنة، وجعله جزاءً على تركهم للخمر في الدنيا، وعلى أنهم أطاعوه، وإذا كان خمر الدنيا فيها لذة السكر، فخمر الجنة فيه لذة أعظم من ذلك، بلا ذهاب للعقل، إنه يختلف تمامًا عن خمر الدنيا، إن خمر الدنيا فيه صداع الرأس، ووجع البطن، ومجلبة الأمراض، وإذهاب العقل.
أما خمر الجنة، فإنه أبيض كما قال تعالى: بَيْضَاء [الصافات: 46]من أحسن الألوان، وفي طعمها: لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ[الصافات: 46]، يتلذذ بها شاربها وقت شربها وبعده، وهي سالمة من غول العقل وذهابه، ونزف مال صاحبها، وليس فيها صداع ولا كدر.
أما خمر الدنيا، تنزف العقل تنزف المال، تجلب الأمراض، وفيها صداع، وفيها مغص، وفيها كدر، وفيها ذهاب العقل.
وقد نوه الله -تعالى- ذكره بها، فقال: يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء، والمعين: الخمر بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ[الصافات: 45 - 47]. ولا بدّ من التفصيل في وصف الخمر للناس؛ لأن الدنيا مليئة بالخمر، وعندما يمنع الإنسان نفسه من الخمر لأجل أن يشرب مما في الجنة، فلا بدّ أن يعلم أن في الجنة أشياء عظيمة في هذا، وقد بين تعالى أنه كم كثير طيب مبارك من الخمر في الجنة أنهار: وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ [محمد: 15].
وقال في وصفها: يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ[المطففين: 25 - 26]، والرحيق هو: الخمر، فبين فيه خصلتين:
الأولى: أنه مختوم، وعليه خاتم.
والخصلة الثانية: أنه بعد شربه تفوح منه رائح المسك، فتكون خاتمة له، قال ابن القيم-رحمه الله-: يريد -والله أعلم- أن آخره مسك يخالطه، فهو من الخاتِمة وليس من الخاتَم".
وقال زيد بن معاوية: سألت علقمة عن قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌهل هو من الختم وإلا الخاتمة، يعني نهاية الشرب رائحة المسك؟ إذا الإنسان نظر إلى الذين يشربون الخمر، إذا شم رائحة الفم، فم السكران منتنة، مقرفة، بعدما يشرب السكران رائحته سيئة جداً، لكن خمر الجنة ختامه مسك، يعني بعدما ينتهي من الشرب، الرائحة مسك، وليست كنتن رائحة هؤلاء.
وقال زيد بن معاوية: سألت علقمة عن قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌالمطففين: 26] فقرأها: خاتمه مسك، فقال لي: ليست خاتمه، ولكن اقرأ: خِتَامُهُ مِسْكٌ.
قال علقمة: ختامه، خلطه، ألم تر أن المرأة من نسائكم تقول للطبيب: اخلطه من مسك لكذا وكذا.
وروى سعيد بن منصور عن مسروق: الرحيق الخمر، والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك، وبهذا الإسناد عن مسروق عن عبد الله في قوله: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ[المطففين: 27] قال: تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا، وكذا قال ابن عباس: يشرب منها المقربون صرفًا، ويمزج لمن دونهم.
وقال: ختامه مسك، قال: طينه مسك، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، ولفظ الآية أوضح منه، وكأنه -والله أعلم- يريد ما يبقى في أسفل الإناء من الدردي" يعني ما يركد في أسفل كل مائع من الشوائب في الدنيا، لكن في الآخرة آخر الخمر مسك، فيكون في القاع على قول من قال: إنه يكون في الأسفل في نهاية الكأس.
وروى الحاكم عن أبي الدرداء في قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌ [المطففين: 26]، قال: هو شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به آخر شرابهم، لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخله يده فيهثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها.
وعن عطاء قال: التسنيم، اسم العين التي يمزج بها الخمر.
وروى عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ[الواقعة: 18]قال: الخمر لَا فِيهَا غَوْلٌليس فيها صداع، وفي قوله تعالى: وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ[الصافات: 47]يعني لا تذهب عقولهم.
وقال في سورة النبأ: وَكَأْسًا دِهَاقًا [النبأ: 34]يعني ممتلئة.
وعن عكرمة قال: وَكَأْسًا دِهَاقًاقال: ملأى متتابعة[ينظر: حادي الأرواح، ص: 129- 130].
وقال ابن عباس: سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسًا دهاقًا [رواه البخاري: 3840].
وقد بين النبي ﷺ: أن من شرب الخمر في الدنيا حرم منها في الآخرة[رواه مسلم: 5340].
وقال ﷺ: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة[رواه البخاري: 5575].
وفي رواية لمسلم: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها ثم لم يتب لم يشربها في الآخرة [رواه مسلم: 5336]هذا لمن يتب قبل الموت.
السلسبيل والزنجيبل والتسنيم والكافور من شراب أهل الجنة
ومن أشربة أهل الجنة: ماء السلسبيل، وهو عين في الجنة، سميت بذلك لسلاستها في الحلق، وسرعة جريها، ولين شربها،وهي العين التي يشرب منها الزمرة الأولى الذين يدخلون الجنة.
من أشربتهم: الزنجبيل الذي منه مزاج شراب الأبرار.
ومن أشربتهم: تسنيم: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ[المطففين: 27]وقد تقدم.
ومن أشربتهم: الكافور: مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [الإنسان: 5]-كما تقدم-.
يسقون فيها من رحيق ختمه | بالمسك أوله كمثل الثاني |
مع خمرة لذت لشاربها بلا | غول ولا داء ولا نقصان |
والخمر في الدنيا فهذا وصفها | تغتال عقل الشارب السكران |
وبها من الأدواء ما هي أهله | ويخاف من عدم لذي الوجدان |
لأنه يمكن تنتهي، تخلص. أنها ممكن تنتهي
فنفى لنا الرحمن أجمعها عن الـ | ـخمر التي في جنة الحيوان |
وشرابهم من سلسبيل مزجه الـ | ـكافور ذاك شراب ذي الإحسان |
[متن القصيدة النونية، ص: 327- 328].
صفة إخراج أهل الجنة للأكل والشراب من بطونهم
أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا كيف يخرج ما في بطنهم؟ وهل للبطن ينتفخ أو ماذا؟ أين تصريف المأكولات والمشروبات؟ أهل الجنة لا يتبولون ولا يتغوطون، أكل الدنيا وشربه ينتج عنه ما ينتج من البول والغائط، أما أكل الجنة وشربه فلا ينتج عنه ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد كما تلهمون النفس[رواه مسلم: 7333].
وفي المسند وسنن النسائي بسند صحيح على شرط الصحيح عن زيد بن أرقم قال: أتى النبي ﷺ رجل من اليهود، فقال: يا أبا القاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ وقال لأصحابه اليهودي يقول لأصحابه: إن أقر لي بهذه خصمته؟ اليهودي الآن جاء يفحم بزعمه، فهو سيسأل سؤالا يعرف أن جوابه: بلى، لكي يفحم، بما سيقوله بعد ذلك، فقال: يا أبا القاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ وقال لأصحابه: إن أقر لي بهذه خصمته؟ فقال رسول الله ﷺ: بلى والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع فقال له اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة؟ فيذهب لقضاء الحاجة، فقال رسول الله ﷺ: حاجة أحدهم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك، فإذا البطن قد ضمر[رواه أحمد: 19288، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3739] ويأكل مرة .. وثانية .. وثالثة، وهكذا..
قال ابن القيم -رحمه الله-:
هذا وتصريف المآكل منهم | عرق يفيض لهم من الأبدان |
كروائح المسك الذي ما فيه خلـ | ـط غيره من سائر الألوان |
فتعود هاتيك البطون ضوامرا | تبغي الطعام على مدى الأزمان |
لا غائط فيها ولا بول ولا | مخط ولا بصق من الإنسان |
ولهم جشاء ريحه مسك يكو | ن به تمام الهضم بالإحسان |
[متن القصيدة النونية، ص: 328- 329].
السر في أكل أهل الجنة وشربهم
لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون؟ إذا كانت خالية من الآلام والأوجاع والأمراض، فلا جوع فيها ولا عطش ولا قاذورات؟
قال القرطبي -رحمه الله-: "نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن رفع ألم أعتراهم"، هذا جواب من قال: إذا كان أهل الجنة لا يتألمون فلماذا يأكلون وهم لا يجوعون أصلاً؟
قال: "فليس أكلهم عن جوع" فالآن الأكل للتلذذ، وليس لأن الأبدان تحتاج والواحد يجوع في الجنة، فلابد أن يأكل، الأكل للتذذ؛ لأننا في الدنيا نضطر للأكل إذا ما أكلنا جعنا، وإذا جعنا متنا، فنأكل حاجة للأكل وفي لذة، لكنفي الجنة ليس فيها جوع: أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [طـه: 118 - 119] لا جوع ولا ظمأ.
"نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن رفع ألم اعتراهم" كذلك الواحد ما يلبس في الجنة لأجل الوقاية من البرد، فليس فيها زمهرير، ما فيها برد: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا[الإنسان: 13]، فالثياب للجمال والتلذذ والتنعم، قال: "نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن رفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شربهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله تعالى لآدم: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى[طـه: 118 - 119].وحكمة ذلك: أن الله -تبارك وتعالى- عرفهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون بها في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله [التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: 2/114].
وقال النووي -رحمه الله-: مذهب أهل السنة أن تنعم أهل الجنة على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة، ودل الكتاب والسنة على أن نعيمهم لا انقطاع له"[فتح الباري، لابن حجر: 6/325].
ملابس وثياب أهل الجنة
أما لباس أهل الجنة فإن الدنيا فيها زينة، لكن زينة الجنة تختلف زينة عظيمة ولذة وسرور، الله حرم علينا في الدنيا الحرير على الرجال، لقد امتنعوا عنه في الدنيا، فماذا لهم مقابل؟ قال تعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ[فاطر: 33]. وقال تعالى: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 12].
وعن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية ذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة[رواه البخاري: 5426، ومسلم: 5521].
وقد فصل القرآن لباس أهل الجنة في غير موضع، فقال تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ[الإنسان: 21]يعني يعلوهم ويجمل أبدانهم ثياب بطائنها من الحرير الرقيق الأخضر، وظاهرها من الحرير السميك.
إذًا، ما يلي الجسم من الثياب من داخل هذا حرير ناعم، ومن خارج هذا السميك عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، وتأمل ما دل عليه قوله تعالى: عَالِيَهُمْ من كون ذلك اللباس ظاهرًا بارزًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍيعلوهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌظاهر بارز يجمل ظواهرهم ليس بمنزلة الشعار الباطن، بل الذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال، الآن بعض الناس يلبس لباسًا لكن ويجمله بشيء، وتلبس المرأة فستانًا وتجمله بشيء، يعلو الفستان شيء، يعلو الثوب شيء، الجنة فوق الثياب: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ.
وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ[الدخان: 51 -53].
وقال : وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ [الكهف: 31].
قال المفسرون: السندس ما رق من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه.
وقالت طائفة: ليس المراد به الغليظ يعني الخشن، لا، ولكن المراد به الصفيق، يعني السميك.
قال الزجاج: هما نوعان من الحرير، وأحسن الألوان الأخضر، وألين اللباس الحرير، فجمع لهم بين حسن منظر اللباس، والتذاذ العين به، وبين نعومته والتذاذ الجسم به.
فالعين تلتذ بالثوب، والجسم يلتذ بالثوب.
كيفية نسج وصناعة ثياب أهل الجنة
ثياب أهل الجنة من أين تخرج؟
قال ﷺ في طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها[رواه أحمد:11691، وحسنه الألبانيفي صحيح الجامع: 3918].
إذًا، الثياب تخرج من أكمام شجرة طوبى.
وورد حديث في إسناده شيء: أن النبي ﷺ سئل عن ثياب أهل الجنة خلقًا تخلق أم نسجا تنسج؟ قال: لا بل تشقق عنها ثمر الجنة ثلاث مرات [رواه أحمد: 7095].
هذه الثياب التي في الجنة لا تبلى أبدًا، عن أبي هريرة قال: قال ﷺ: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه [رواه مسلم: 7335].
وهذه الملابس كما ورد في جبة السندس التي أهديت للنبي ﷺ؛ كما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: أهدي للنبي ﷺ جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها -يعني من لينها وفخامتها- فقال: والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا[رواه البخاري: 2615، ومسلم: 6505].
في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
منزلة الخمار الذي تلبسه الحورية في الجنة
هل تعلمون وهل تعلمن يا معشر النساء ما منزلة الخمار الذي تلبسه الحورية في الجنة؟
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قيد سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا ومثلها معها موضع السوط، السوط كم يأخذ من المساحة؟ شيء قليل ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها قال: ولنصيف امرأة من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها، قلت: يا أباهريرة ما النصيف؟ قال:الخمار" حديث [رواه أحمد: 10275، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3767].
فهنيئًا لمن تحتجب بالخمار؛ لأن هذا الخمار في الدنيا: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النـور: 31]، سيقابله في الجنة خُمُر أيضاً.
لباس الحور العين
أما لباس الحور العين، فقال النبي ﷺ: أول زمرة يدخلون الجنة كأن وجوههم ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء يتوهج لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما[رواه الطبراني في الأوسط: ، وقال الألباني: "صحيح لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3745].
وقال عبد الله بن المبارك عن بشر بن كعب: ذكر لنا أن الزوج من أزواج الجنة لها سبعون حلة هي أرق من شفكم هذا،ويرى مخ ساقها من وراء اللحم[الزهد، لابن المبارك، ص: 72].
الحور العين لها سيقان، الساق فيها عظم، العظم في مخ، وهو النخاع الذي يكون داخل العظم، أنت ترى المخ بداخل الساق واللحم من وراء الحلة واللحم، هذا الآن لو أنت تخليته تقول: أين الجمال؟ لكن في الجنة جمال فائق.
ولباسهم من سندس خضر ومن | إستبرق نوعان معروفان |
ما ذلك من دود بنى من فوقه | تلك البيوت وعاد ذا الطيران |
كلا ولا نسجت على المنوال نسـ | ـج ثيابنا بالقطن والكتان |
لكنها حلل تشق ثمارها | عنها رأيت شقائق النعمان |
بيض وخضر ثم صفر ثم حمـ | ـر كالرباط بأحسن الألوان |
لا تقرب الدنس المقرب للبلى | ما للبلى فيهن من سلطان |
ونصيف إحداهن وهو خمارها | ليست له الدنيا من الأثمان |
سبعون من حلل عليها لا تعو | ق الطرق عن مخ ورا السيقان |
لكن يراه من ورا ذا كله | مثل الشراب لذي زجاج أوان |
[متن القصيدة النونية، ص: 329].
اللهم إنا نسألك أن تنيلنا هذا النعيم المقيم، وأن تجعلنا ممن يأكلون من طيبات جنات النعيم.
اللهم اجعلنا ممن يدخلها مع الأبرار، واجعلها دارنا، وسلمنا من النيران، إنك أنت الواحد الديان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.