الحمد لله رب العالمين، وأصلي وسلم على المبعوث للثقلين بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
المقدمة
فإن من سنن الله العظيمة: سنة المداولة: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. فما معنى: المداولة؟ وكيف كانت عبر التاريخ؟ ولماذا يديل الله الدولة للكافرين على المسلمين أحياناً؟ وماذا يترتب على العلم بهذه السنة؟ وما علاقتها بالسنن الأخرى التي تشبهها أو تتعلق بها، كسنة المدافعة والاستخلاف؟
فهذه ثلاث سنن قريبة من بعضها: سنة المداولة، وسنة المدافعة، وسنة الاستخلاف.
المداولة: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] قد تكون الدولة للمسلمين، وقد تكون للكفار، والله يستخلف المؤمنين في الأرض، فعندما تكون الدولة للمسلمين يكون الاستخلاف.
وكذلك، فإن المداولة لا تحصل إلا بمدافعة، فكيف ستكون الدولة للمسلمين إذا لم يحصل منهم مدافعة للكافرين؟
تعريف المداولة
وتعريف المداولة: مأخوذ من الدَولة والدْولة.
والدَولة والدْولة في اللغة: العقبة في المال والحرب.
والدولة للجيشين: أن يهزم هذا هذا، ثم يُهزم الهازم.
ومعنى: الدولة في اللغة: الانتقال من حال الشدة إلى حال الرخاء.
والإدالة: الغلبة.
وتداولته الأيدي: أخذته هذه مرة، وهذه مرة، هذه المعاني الموجودة في [مُعجم لسان العرب، لابن منظور -رحمه الله-: 11/252]. المداولة إذاً، أن تنتقل القوة من طرف إلى آخر، فإذا كانت الدولة للمسلمين، يعني انتقلت القوة والغلبة إليهم، إذا كانت الدولة للكافرين، أي أن الكفار غلبوا وهيمنوا وسيطروا.
فقوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] أي: ننقل الغلبة لهؤلاء تارة، ولهؤلاء أخرى.
إذاً، من سنن الله: أنه لا يثبت الغلبة لطرف واحد في الأرض أبداً.
من سنن الله: الانتقال، انتقال الغلبة والقوة، والسيطرة، والهيمنة، من طرف إلى طرف، هذه سنة إلهية.
ولذلك لو واحد، قال: الآن نرى الدولة -بتعريفكم- تنتقل من أمريكا إلى الصين؟
فنقول: نعم، هذا طبيعي، هذا من سنن الله، لا يمكن أن تستمر الدولة لأمريكا في الأرض، كما لو قال قائل: كانت الدولة لبريطانيا ثم انتقلت لأمريكا؟ نقول: نعم؛ لأن الله لا يديم الدولة لطرف واحد في الدنيا، لا يديمها في العالم لجهة واحدة، أو طرف واحد، لا يمكن، يعني: هذه سنة إلهية مطردة.
وكذلك لو قال قائل: ألم تكن الدولة للمسلمين؟ يعني في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد بني أمية، وبني العباس، وفي عهد المماليك، وفي عهد العثمانيين؟
نقول: نعم، كانت الدولة للمسلمين في الأرض، فكانوا هم الأقوى، كانوا هم الغالبين بأمر الله ، ثم إن الله نقل الدولة منهم إلى غيرهم، لما ابتعدوا عن منهج الله -تعالى-.
لكن من رحمة الله: أنه لو نزع الدولة من المسلمين يعيدها إليهم، فلا تُنزع من المسلمين بحيث يبقون في غلبة وهزيمة دائمة، وإنما تأتيهم وتخرج من أيديهم، تعود إليهم وتخرج من أيديهم، وهكذا..
لماذا؟ ابتلاء من الله -تعالى-، قال: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:30]. ولا بد أن يبتلى أهل الإيمان، ليظهر الصادق من الكاذب، لو كانت الدولة للمؤمنين دائماً، دائماً ينتصرون في كل العالم، في كل الأوقات، في كل الأماكن، إذاً، كيف سيظهر الكاذب؟ وكيف سيقوم سوق النفاق؟ ويبتلى المؤمنون بالمنافقين، كيف سيكون انكشاف هذا الخبث؟ والله من سنته: أنه يميز الخبيث من الطيب، فإذا كان يميز الخبيث من الطيب، والقشقشة لا بد منها، وهذا الإظهار، فإن من وسائل الإظهار العظيمة، واستخراج ما في النفوس: أن يُصبح المسلمون في ضعف، فعند ذلك يظهر من هو الموالي للدين، ومن هو الموالي للطرف الأقوى؛ لأن بعض الناس ليس ولاؤهم للحق، ولا ولاؤهم للدين، ولاؤهم للأقوى، فإذا غلب الطرف الفلاني صاروا معه، وإذا غلب الطرف الفلاني صاروا معه، فلو كان المؤمنون دائماً هم الغالبون في الأرض، القوة المادية، لكان مع المؤمنين كثير من الخبث، والنفاق، والزبد، والغثاء، محمولين، ما ينكشف أمرهم، هذه النفوس الضعيفة أو الكاذبة مستورة بالانتصارات الدائمة التي تكون للمسلمين، فشاء الله أن تكون الدولة للمسلمين تارة، وعليهم أخرى، يكون لهم نصر، ويكون أيضاً عليهم هزيمة، كي يُظهر الله المنافقين، ويميز الخبيث من الطيب، ويُمحص المؤمنين، وتتمايز درجات أهل الجنة، وكذلك دركات أهل النار: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1- 3].
الحكمة من سنة المداولة
ما هي الحكمة من هذه المداولة؟
قيام الجهاد في سبيل الله؛ لأن المسلمين إذا هزموا سيقولون كما قال بنو إسرائيل لنبيهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 246].
ما ترى حالنا؟ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة: 246]. فتقوم الحمية في النفوس للجهاد، تكون هناك تضحيات، لو كان المؤمنون دائماً غالبون ما يكون في جهاد، ولا حمية للدفاع عن الدين، ولا الشعور بهذا الاندفاع للاستعداد والمواجهة.
وهذه المواجهات يستخرج الله بها طاقات في النفوس ما تخرج إلا بالمواجهات، لو كان دائماً النصر للمسلمين، دائماً القوة لهم، دائماً الهيمنة والسيطرة لهم، لا يشعرون بتحدٍ، ولا قوة باعثة على المواجهة، واستخراج الطاقات التي في النفس، العمل الدؤوب، السهر ليل نهار، يعني المسألة تتطلب جهود مضاعفة جداً، للخروج من الأزمة، الخروج من الهزيمة، الخروج من الواقع المر، ويتبين من هم أهل التثبيط، وأهل القعود، ومن هم أهل التفاؤل والنصر، من هم أهل الثقة بالله، من هم أهل العمل للدين.
بنو إسرائيل كانت لهم الدولة، ثم لما رجعوا عن دينهم، سلط الله عليهم فرعون، بقوا تحت هيمنة فرعون سنوات طويلة جداً، الدولة لفرعون، والغلبة لفرعون، والقوة لفرعون، والهيمنة لفرعون.
بعث الله موسى لقيادة بني إسرائيل، وإخراجهم من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة القوة، لتكون الدولة للموحدين لبني إسرائيل، لتكون الدولة لموسى ومن معه، لتكون الدولة للمستضعفين، فيصبحون أقوياء، ويصبح لهم هيمنة، كما وصف الله في كتابه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: في تفسيره لهذه الآية: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ في الأرض، أي: بني إسرائيل، الذين كانوا خدمة لآل فرعون، يسومونهم سوء العذاب، أورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها، والمراد بالأرض هنا: أرض مصر، التي كانوا فيها مستضعفين، أذلين، فملكهم الله جميعاً، ومكنهم فيها: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا[الأعراف: 137]، حين قال لهم موسى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128]. [انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص: 301].
الله دمر ما كان يصنع فرعون وقومه من الأبنية الهائلة، والمساكن المزخرفة، وما كانوا يعرشون من الزراعات، وغيرها: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل: 52]. كثيراً ما نلاحظ عبر التاريخ: أن تكون الدولة الأولى للكافرين، ثم تأتي الدولة للمؤمنين، الجولة الأولى تكون للكفار، الجولة التالية تكون للمؤمنين، الأخيرة، كما جاء في حديث هرقل حين قال لأبي سفيان: "سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة" [رواه البخاري:280، ومسلم: 4707].
بعض حكم انتقال القوة بين الأمم والشعوب
فإن قال قائل: لماذا هذا الانتقال في القوة؟
أولاً: ظهور تفرد الله بالقوة الكاملة الحقيقية الدائمة.
ومن أسمائه: القوي، فلما يسقط هؤلاء، ويقوم هؤلاء، وينهزم هؤلاء وينتصر هؤلاء، يظهر اسمه تعالى: القوي في الأرض؛ لأن قوته لا تزول ولا تتحول، بينما قوة البشر، وقوة الدول، تزول وتتحول.
فتفرد الله بالقوة، وظهور التفرد، مقصد إلهي، الله يريد أن يظهر في العالم: أنه المتفرد بالقوة. وهذا التفرد لا يتحقق إلا بهذه المداولة، من وسائل التحقق المداولة، فما تبقى لأحد، ولا تدوم لأحد، حتى للمسلمين؛ ليظهر أنه لا قوي دائماً إلا هو، ولا غالب دائماً إلا هو.
تعلق قلوب المؤمنين بالله
ثانياً: تعلق قلوب المؤمنين بالله، فإنه لو كانت الدولة لهم دائماً في الأرض، ما شعروا بالحاجة إلى ربهم، كما سيشعرون عندما يغلبون ويهزمون، ويستضعفون ويظلمون؛ لأن المظلوم يريد النصر، والمؤمن عندما يُظلم يرجو نصراً من ربه .
ولذلك المداولة، تدفع قلوب المؤمنين للتعلق والتوجه إلى بارئها، تطلب منه العون، وهكذا يرجون النصر منه؛ لأنهم يوقنون ويعلمون أنه لا ناصر إلا هو .
وعمر عزل خالد لهذا المعنى، عزل خالد في أوج وقمة انتصارات خالد -رضي الله عنهما-، فلما انتصر خالد في كل المعارك التي قادها، جاء خطاب عمر بعزله.
لماذا؟
عمر وضَّح، قال: "إنّى لم أعزل خالدا عن سخط ولا خيانة، ولكنّ المسلمين فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه، ويبتلوا به " [تجارب الأمم وتعاقب الهمم، ابن مسكويه: 1/368] [وانظر: البداية والنهاية: 7/93].
ما دام خالد معنا منصورين! ما دام خالد قائدنا طبيعي عادي!.
فلم يرد عمر بحكمته أن يتكل الناس على خالد، وفيهم من مسلمة الفتوحات الجدد، ضعاف إيمان.
إتاحة الفرصة لظهور قادة آخرين
كذلك: تتُاح الفرصة لقادة آخرين في الظهور، وفي المسلمين خير كثير، ويوجد من أمثال أبي عبيدة، وسعد، وغيرهم من القادة العظام، عند المسلمين قادة عسكريون كبار، ليس فقط خالد .
فلماذا عزل عمر خالداً؟
حتى لا يتكل الناس عليه، لهذا المعنى الذي نتحدث عنه في حكمة مداولة الله الأيام بين الناس؛ لأن المؤمنين إذا ابتلوا، وكانوا في ضعف، شعروا بالحاجة إلى الله، واستمدوا النصر منه ، وما اتكلوا على أنفسهم، لو كانت القوة لهم دائماً كان اتكلوا على قوتهم.
تمحيص قلوب المؤمنين
ثالثاً: تمحيص قلوب المؤمنين، فأهل الإيمان تعتورهم أشياء، يعني -مثلاً- حب الدنيا، الصحابة بعضهم جاء في قلبه هذا: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران: 152] في أحد، فكان فيها عقوبة. فقوله : وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154]. وقوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 141]. التمحيص، هو: التنقية والتخليص، فمن أسباب التنقية والتخليص: المداولة، هذه الإدالة، يحصل بها لنفوس المؤمنين تمحيص وتنقية.
فإذا كان فيها حب الدنيا، يخرج، إذا كان فيها ركون دعة كسل، يخرج، تواكل على بشر، يخرج.
فإذاً، من حكمة المداولة: تمحيص المؤمنين.
ويتبين من الذي يريد أن يعمل للدين من المتقاعس أصحاب الدعة والكسل والهوان والذل، وحب الدنيا يظهر.
وبناءً عليه يكون الثواب أو العقاب، ورفع الدرجات، تمييز أهل الجنة في درجاتهم.
انتصار الدين
رابعاً: حصول انتصار الدين، نتيجة المداولة: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر: 51]، فيتحقق وعد الله، كيف تحقق الوعد لما يكونون في هزيمة وينتصرون؟
تحقق الوعد، يكون أجلى وأوضح مما لو كانوا دائماً منصورين، يعني: يمكن ما لهم عدو، وإلا ما يقوم أمامهم أحد، لكن لما تقوم معركة كبيرة، مواجهة كبيرة، وضخمة، وفيها تحديات، ثم ينتصر المؤمنون بالرغم من التحديات، عند ذلك يكون للنصر طعم آخر، ويكون له معان أخرى.
إظهار معنى النصر
ولذلك المداولة من أهميتها: إظهار معنى النصر، وتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين؛ لأن الأمر كلما تكرر دل على المعنى أكثر، مما لو حصل مرة واحدة، لو كان دائماً المسلمون ينتصرون، فهذا انتصار واحد دائم وخلاص، لكن عندما ينهزمون، فينصرهم الله، ثم يرجعون مرة ثانية، فيقومون، فينصرهم الله، ثم تعود الدولة مرة أخرى لغيرهم، فيقومون فينصرهم الله، فتجد أن الانتصار يتكرر، فإذا تكرر الانتصار كان ظهور وعد الله في الأرض أكثر.
تمييز الصادق من الكاذب
وأيضاً من الحكم في هذه المداولة -كما ذكرنا-: تمييز الصادق من الكاذب، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]. قال ابن القيم -رحمه الله- في الحكم التي حصلت من غزوة أحد: "ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة، ويدالى عليهم أخرى" [زاد المعاد: /196].
يُدال مرة، يعني تكون الدولة لهم، يعني تكون الغلبة لهم.
يُدال عليهم أخرى، تكون الغلبة لعدوهم، الغلبة -طبعاً- الدنيوية، أما غلبة الحجة والبيان دائماً الرسل وأتباع الرسل، ما يمكن يدخل مؤمن قوي في مناظرة مع كافر، فيُغلب، مستحيل، لا يمكن، إذا كان قوياً، يعني عنده علم، وعنده بيان، لا بد أن ينتصر، هذا وعد، هذه من السنن الإلهية: لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق [رواه مسلم: 5059] هذه سنة إلهية لا بد.
فكيف يكون الظهور دائماً؟
ظهور الحجة والبيان، ولذلك أنت -الآن- ترى بعين الواقع: أنه لا النصارى ولا غيرهم، ولا أهل البدع، ولا غيرهم، لو قاموا يناظرون أهل السنة الموحدين المسلمين، في القنوات، في المؤتمرات، في أي مكان، دائماً تكون الغلبة للمسلمين الموحدين، باستمرار، ما تجد -مثلاً- مناظراً موحداً مسلماً عنده علم، وعنده بيان، وعنده حجة، وعنده قدرة على المناظرة، أنه يُهزم، مستحيل.
فإذاً، نصر الحجة والبيان دائم، لكن نصر السيف والسنان، هو الذي يكون لهؤلاء مرة، ولهؤلاء مرة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة، ويُدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة" يعني في النهاية العاقبة للرسل وأتباع الرسل، قال: "فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائماً" [زاد المعاد: 3/196].
يعني: دائماً المسلمون مغلوبين، دائماً مغلوبين، دائماً هم مغلوبون، ما تحقق أيضاً الحكمة، فتكون فتنة كبيرة جداً للناس، فيقولون: الإسلام لا ينتصر، وهذا كلام يرونه في الواقع، لا ينتصر، إذا كان -الآن نحن- في مرحلة الاستضعاف، وغيرنا من الكفار أقوى منا قطعاً، -الآن- هناك إفتتان كبير بالكفار، بعض المسلمين ارتدوا، بعضهم منتسب للإسلام بالاسم، وإلا روحه وقلبه مع الكفار، يرى الغلبة لهم، إذا كان حتى مع المداولة في فتنة -الآن- لكثير من المسلمين، فكيف سيكون الوضع لو كان المسلمون دائماً مغلوبون؟
ستكون الفتنة أعظم، ولذلك من حكمة الله ورحمته: لا صارت الدولة دائماً للمسلمين، ولا صارت الدولة دائماً للكفار. الانتقالات في الحقيقة يحدث بها من المجاهدات، وظهور الإخلاص، والحماس للدين، وظهور قدرات، شيء عظيم جداً، يعني فيها حِكم باهرة، المتأمل فيها يجد أن في المداولة هذه حكم باهرة، ما هي عبث، وإنما لحكم باهرة، تحدث المداولة، قال ابن القيم: "ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة" [زاد المعاد: 3/219].
لو كان المسلمون دائماً مغلوبون هل يطبق في الأرض حد؟ ما في دولة للمسلمين تطبق حدود، لو دائماً في مغلوبين ما في أحد، ولا يقام شرع، ولا يقام دين، ناس معهم قرآن ومهزومين، يهربون من مكان إلى مكان، لا لهم دولة، ولا لهم حدود تقام، ولا .. ولا.. ولذلك من حكمة الله: أنه جعل الأمور دول، قال ابن القيم: "فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين؛ ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة" [زاد المعاد: 3/219]؛ لأن الذين تبعوا المسلمين لأجل فقط أنهم هم الأقوى، إذا صار هزيمة للمسلمين تركوهم، انفضوا عنهم، يتبعون الأقوى.
وكذلك، فإن انتصار الدين يكون فيه عندما يقوم في الأرض إثبات ومعرفة من الجميع أن هذا من عند الله، وكيف أن أهله لما استوفوا شروط النصر نصرهم الله.
المداولة بين الأفرد
المداولة في الفقر والغنى
وعلى نطاق أصغر: هل المداولة خاصة فقط في قضية الجيوش والحروب والدول؟
لا، المداولة تتم حتى في الأمور الفردية، يعني هل سمعت بأن غنياً من أول البشرية استمر غناه إلى الآن؟!
لا، فحتى المال دول، فيكون لهذا، ثم ينتقل منه، يعني ممكن -الآن- نجيب أسماء أغنياء كثيرين، صاروا فقراء، أو ماتوا، وجاء بعدهم أولاد ضيعوا الثروة، ما بقيت فيهم، ما بقيت في بيته وآله وذريته، انتقلت، قد يكون بإهلاك، كقارون، وقد يكون بغيره، كذرية يضيعون الثروة ويبددونها.
فإذاً، المداولة حتى على مستوى الأشياء الفردية -مثلاً- الثروة والمال نراها، قوة الجسد ما تستمر، ومن بعد قوة ضعف، ومن بعد ضعف قوة، ومن بعد قوة ضعفاً وَشَيْبَةً.
المداولة في المسابقة
إذا جئت إلى قضية السباق، أو واحد عنده -مثلاً- ناقة أو فرس سباقة، هل ستستمر سباقة هكذا؟
لا، عن أنس قال: كان للنبي ﷺ ناقة تسمى: العضباء لا تُسبق" هذه ناقة النبي -عليه الصلاة والسلام- ليست ناقة أحد آخر من المسلمين، ناقة النبي -عليه الصلاة والسلام- العضباء لا تسبق، قال: "أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها" يوم من الأيام جاء أعرابي من الصحراء، ليس من أهل المدينة، على قعود وسبقها.
-طبعاً- الصحابة حصل لهم صدمة، يعني ناقة النبي -عليه الصلاة والسلام- تُسبق! ومن الذي سبقها واحد أعرابي مغمور وجاء من الصحراء، يعني ليس كبيراً في قومه، ولا حتى من كبار الصحابة، حتى نقول: منهم وفيهم، أعرابي من الصحراء، فاشتد ذلك على المسلمين: "وقالوا سُبقت العضباء" فقال رسول الله ﷺ: إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه [رواه البخاري:6501]. وهذا فيه -طبعاً- حث على التواضع، والتزهيد في الدنيا، وأن في شيء من الدنيا، حتى ناقة النبي -عليه الصلاة والسلام- ممكن تغلب وتسبق.
المداولة في الاقتصاد
ونحن -الآن- في العالم نسمع عن شركات، تقول -مثلاً- هذه الشركة الأولى في النفط فتنزل، هذه الشركة الأولى في الكمبيوتر تنزل، هذه الشركة الأولى في العقار تنزل، هذه الشركة الأولى في البورصة تنزل، ما تدوم، المداولة حتى في المال، في القوى الأخرى، تقول: هذه الدولة الأولى زراعياً، فتنتقل منها القوة الزراعية إلى غيرها، هذه القوة الاقتصادية الأولى، أنت -الآن- ترى في اليابان، ثم صارت الصين، كانت من قبل هكذا ألمانيا، صارت كذا: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[آل عمران: 140].
المداولة في القوة
والتاريخ الإسلامي فيه شواهد كثيرة لمن مر من أهل الإمرة وأهل القوة، ثم غدى وأصبح مسكيناً طريداً، فقيراً مستضعفاً، مثل المعتمد بن عباد الذي كان يحكم قرطبة وإشبيلية، بعد العز والتمكين أُخذ وسُجن، ودخلت عليه بناته السجن زائرات في يوم العيد، فأنشد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا | فساءك العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار جائعة | يغزلن للناس ما يملكن قطميرا |
برزن نحوك للتسليم خاشعة | أبصارهن حسيرات مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام حافية | كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا |
إلى آخر شعره الذي يذكر فيه أين كان، وكيف أصبح.
في التاريخ الإسلامي من بداية الإسلام كانت سنة المداولة واضحة، موجودة منقولة.
المداولة بين أمم الكفار
وحتى عند غير المسلمين، يعني: كما نحن نرى الآن -مثلاً- أن أمريكا تضعف، والصين تقوى.
المسلمون في أول الإسلام رأوا الفرس كانوا هم الذين لهم الهيمنة، نزلوا، والروم الذين كانوا هم أضعف كانوا مغلوبين، انتصروا، وهذا الانتصار غير المتوقع الذي نزلت بشأنه الآيات في سورة الروم.
فإذاً، كان بين فارس والروم تنافس عظيم، فغلبت فارس، فارس كسرت الروم كسرة منكرة، واستولوا على أكثر بلادهم، وانحصروا، قيصر ملك الروم انحصر في مكان، ظنوا أن ملكه زائل، وأن الأمر للفرس، وأن المسألة مسألة وقت، ويصير الاكتساح الكامل، ودولة الروم تنتهي تماماً، فالنبي ﷺأخبر عن انتصار الروم، فراهنت قريش أبا بكر، والقصة معروفة لما نزلت الآيات: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم: 1- 3].
الاكتساح تم لدولة الروم إلى عمق ديارهم: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 1- 3]. هذا خبر كان مستقبلي: سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 3- 4].
-طبعاً - قريش ما تحملوا، قالوا: ولا يمكن، ونراهن على هذا، والصديق راهنهم على إبل، لكن ما أخذ الصديق الحد الأعلى للبضع؛ لأن البضع من ثلاث إلى تسع، ما أخذ الصديق الحد الأعلى، وإنما أخذ عدد سنين أقل، فما حصل، فجاؤوا يقولون: يا الله! هات الرهان! أنت خسرت؟ فالنبي ﷺأخبره: أنه لو جعلها إلى أقصى المدة، لرأوا النتيجة، وحصل بعد ذلك -فعلاً- أن الفرس صار عندهم انشقاق داخلي، وحصلت مؤامرات، وقتل ملكهم، وتفرق ملكهم، انتصرت الروم عليهم انتصاراً ساحقاً، كان الفرس يعبدون النار، وكانوا عباد أوثان، وكان الروم أهل كتاب، يعني أقرب إلى المسلمين من عباد النار والأوثان؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب مع كفرهم وشركهم، لكنهم كانوا -إن صح التعبير- أحسن حالاً، أو أقل سوءًا من الفرس.
الفرس أكفر، الروم أقل كفراً، فكان المسلمون يتمنون انتصار الروم؛ لأنهم أهل كتاب، يعني أقل كفراً، وكانت قريش تتمنى أن تنتصر فارس؛ لأنهم أهل أوثان مثلهم.
فلما انتصرت الروم، فرح المسلمون، وقال الله: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 1- 3].
ستنتقل الدولة من الفرس إلى الروم، القوة ستنتقل من الفرس إلى الروم: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ [الروم: 3- 6] الله وعد، ولا بد أن يتحقق وعده: لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 6]. إذاً، أخبر، وتحقق خبره تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام: 115]. قال ابن عباس في قول الله -تعالى-: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم: 1- 3]: "غُلبت وغَلبت، كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله ﷺ قال: أما إنهم سيلغبون، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي ﷺ، فقال: ألا جعلته إلى دون قال: أراه العشر -يعني ألا جعلته دون العشر، ما يمر عشر إلا - ألا كان الرهان مع الكفار على هذا؟ تقول لهم يا أبا بكر، قبل العشر، قبل ما تمضي عشر الروم سيغلبون، قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1- 2] إلى قوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم: 5]. [رواه الترمذي:3193، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2551].
روى ابن أبي حاتم عن العلاء بن الزبير عن أبيه، قال: "رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم في خمسة عشرة عاماً" [دلائل النبوة، البيهقي: 2/334].
فهذه سنة المداولة، كم فيها انتقالات؟
ثلاثة انتقالات: فارس غلبت الروم، وصارت الدولة لفارس، الروم غلبت فارس، وصارت الدولة للروم، المسلمون غلبوا فارس والروم، فصارت الدولة للمسلمين، هذا الكلام كله صار في خمسة عشرة عاماً، يعني: من الغلبة الأولى إلى الغلبة الثالثة خمسة عشر سنة، تحققت فيها الثلاثة، صار فيها ثلاث مداولات: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]. -طبعاً- لا شك أن انتصار المسلمين أعظم؛ لأنهم حاربوا أعظم دولتين في العالم في وقت واحد، يعني: كان جيش سعد هنا، وجيش خالد هناك، وأسقطوا أعظم امبراطوريتين في العالم في وقت واحد، فهذا إنجاز عظيم جداً للمسلمين، لا بقوتهم ولا بعددهم، قوة فارس والروم أكثر، عدد فارس والروم أكبر.
ثم يعني العادة: أنك إذا صرت أمام عدوين تحط كل قوة تكفي في أحدهما، فإذا انتصرت عليه انتقلت للآخر، بينما المسلمون حاربوا حربين متوازيتين، فكان جيش سعد ينتصر في القادسية، وجيش خالد ينتصر في اليرموك، ودولة الفرس تسقط من هنا، متتابعات متواليات، وظهر قادة في المسلمين، ظهر النعمان بن مقرن، وغيره.. وغيره.. إلى أن فتحت نهاوند، فتح الفتوح، يعني هذا خلاص أموال كسرى حيزت كلها للمسلمين.
وفي الطرف الآخر الروم وفتوحات خالد وأبي عبيدة، وقادة المسلمين، وشرحبيل بن حسنة في الشام كلها في سوريا، وفلسطين، الأردن، توالت انتصارات المسلمين، حتى أن قيصر، قال: وداعاً سوريا، وداعاً ليس بعده لقاء، وراح للقسطنطنية.
فهذه المداولة، سنة إلهية، تحدث حتى بين الكفار أنفسهم، فتقوى دولة، وتضعف دولة، وتحدث بين المسلمين والكفار أيضاً، يضعف المسلمون ثم يقوون، ينصرهم الله، والكفار بالعكس.
التاريخ الإسلامي -كما ذكرنا- حصل فيه، ورأينا في أوله ومطلعه: المداولة التي صارت بين فارس والروم، في أول الإسلام في المرحلة المكية، كشاهد عيان كان المسلمون يرون المداولة تقع في أعدائهم، وتنتقل من هؤلاء إلى هؤلاء، ثم دخلوا هم طرفاً، فدالت الدولة لهم، ونصرهم الله على عدوهم، واكتسحوا جزيرة العرب إلى بلاد فارس والروم.
السر في تسلط الكفار على المسلمين
وهكذا صارت الدولة للمسلمين، مضت الدولة للمسلمين قروناً، حتى أراد الله أن يبتليهم لضعف فيهم، وأدواءٍ وأسباب حصلت منهم، بما كسبت أيديهم، فتسلط النصارى على الشواطئ الشامية، والساحل الشامي لبلاد المسلمين، وجاءت الحملات الصليبية من أوروبا، واحتلوا بيت المقدس، وحصل ما حصل، انهزم المسلمون، ثم أدال الله لهم الدولة، فانتصروا، بعد جهود نور الدين وصلاح الدين، ومن معهم من المسلمين.
ضعف المسلمون، ووقعوا فيما نهوا عنه، فسلط الله عليهم التتر، فعاثوا في بلاد المسلمين فساداً، اكتسح التتر، وصارت الدولة لهم، صارت الدولة للتتر حقيقة، لكن أعاد الله الدولة للمسلمين، وانتصروا على التتر، يقول ابن الأثير -رحمه الله-: ثم دخلت سنة 617هــ" وذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام، وقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً، وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، وليتني يا ليتني مت قبل حدوثها، وكنت نسياً منسيا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً" وذكر كلاماً طويلاً، قال: "لقد بُلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يُبتلى بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر -قبحهم الله- أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها" إلى آخر كلامه، في كتابه: [الكامل في التاريخ: 5/304، لابن الأثير].
-طبعاً- هذه قضية، يعني أن يقتل من المسلمين في مذابح، يعني إذا كان في بغداد قدروا القتلى مليون وثمانمائة ألف، كيف قتلى التتر في الشام، وفي بقية البلدان التي مروا عليها، فبالتأكيد أن التتر قتلوا من المسلمين بالملايين، واكتسحوا حواضر العالم الإسلامي، وأسقطوا الخلافة، واحتلوا بغداد ودمشق وحلب، واعملوا أشياء كثيرة من التخريب، خربوا وأحرقوا، كانوا يمرون على البلد يقتلون أهلها، ويحرقونها، ويدمرونها، كلها حرق وتدمير، ولا يدع فيها ديارا.
بعض فتوحات وانتصارت المسلمين على الكفار
والعجيب لو قلنا الآن: أين التتر؟
بقاياهم في دويلة صغيرة قرب روسيا، وفيهم مسلمون، وفيهم وثنيون، في تخلف عظيم جداً يعيشونه الآن، خلاص انكمشوا، الآن لهم دويلة صغيرة، محصورون فيها، هؤلاء الذين اكتسحوا بغداد ودمشق، وقتلوا من قتلوا، أين هم؟
انهزموا، ردهم المسلمون، وهزموهم في عين جالوت، وفي غيرها.
وشقحب من المعارك التي خاضها شيخ الإسلام وغيره، وردهم الله أذلة صاغرين.
قام العثمانيون بما قدر الله -تعالى- من قيامهم في عهد الخلافة العثمانية في عام 1863م، يعني قبل أقل من أربعمائة سنة، فتح المسلمون بولندا والنمساء، وأصبحوا على أسوار فينا، ورفع الأذان هناك.
وكانت روسيا تحت سيطرة الدولة العثمانية، وبلاد القوقاز وما وراءها، وبلاد كردستان.
كان المسلمون يحكمون الصين، حتى عام 1644م.
وفي عام 1526م، فتح المسلمون هنجاريا والمجر.
وفي عام 1537م فتحوا أجزاء من إيطاليا، ودخلوا مدينة ترنتو.
وفي عام 1543م وصلت جيوش المسلمين إلى فرنسا، واحتلوا مدينة نيس وطولون، ودخلوها، وأقاموا فيها مسجداً، ورفعوا: "لا إله إلا الله".
وهذه أسبانيا كانت بيد المسلمين قروناً طويلة.
الهند كانت كلها للمسلمين، كانت في عام 1568م تحكم بالإسلام.
ومن يتصور اليوم من أبناء المسلمين هذا كله صعب؟
لأنهم يعيشون الآن في ضعف لا يتخيلون، حتى التخيل يصعب عليهم أن يتخيلوا أن كل هذه الأماكن كانت تحت سلطاننا، وسلطان أمتنا.
الوهن، وحب الدنيا، وكراهية الموت، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، هذه الأدواء، وهذه الأمراض في الأمة سرت، فكان الله يعاقبها بهزائم، فإذا رجعت كافأها بنصره، فإذا تقهقرت وانتكست، عوقبت بالهزائم، فإذا تابت ورجعت وأنابت، أتاها بنصره، وهكذا.
فسُلط الشيوعيون على المسلمين في العصر الحديث، واحتلوا بلاداً إسلامية كاملة، وصار القتل والتشريد كما هو معروف، وبقايا من المسلمين يقرؤون القرآن تحت الأرض، وفي كهوف، وأماكن خفية جداً، حتى أضعف الله الكفار، وسقطت الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى خمسة عشرة دولة مستقلة، في عام 1991م.
بداية ضعف الدول الغربية في الوقت الحاضر
ماذا يحدث الآن؟
لا شك أن الكفار عندهم ضعف، بدأ فيهم ضعف ما في شك، على الأقل نقول: أوروبا وأمريكا ليست بالقوة التي كانت عليها سابقاً، فسنة المداولة تعمل، فنحن نشهد الآن، وشهدنا أمريكا في أوج قوتها، وهيمنتها وسيطرتها، شهدناها من سنين ما هي ببعيدة، ثم بدأنا نحن الأحياء الآن، نشهد ضعفها، وحصول النزول لها في الاقتصاد، والقوة العسكرية، و-طبعاً- الشيء يجر بعضه بعضا؛ لأنه عندما يقولون الآن -مثلاً-: الديون خمسة عشر ترليون، وقريباً ستبلغ ستة عشر كذا ترليون، أين الحل؟ زيادة الضرائب هذه فيها مشاكل؟!.
تقليل الميزانيات! الرعاية الصحية والتعليم! هذه فيها مشاكل؟!.
ماذا ينبغي أن يفعلوا، لا بد من تقليل الإنفاق العسكري؟! تقليل الإنفاق العسكري ما معناه؟
ضعف الهيمنة، يعني انسحابات، وسيدخلون في الانكماش والضمور.
-طبعاً- الناس من طبيعتهم: العجلة، فيقولون: ما سقطوا؟.
هي ليست قضية بين عيشة وضحاها، يعني اليوم أقوياء غداً نفتح الباب نطلع نحصلهم سقطوا، هذه أشياء تأخذ وقتا، ولذلك لما نأخذ -مثلاً- بريطانيا كانت القوة العظمى، وأساطيلها في مياه لا تغيب عنها الشمس، مستعمراتها في مياه لا تغيب عنها الشمس، هم كانوا يقولون: الدولة البريطانية العظمى التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس، يعني: في شرق الأرض وغربها.
الآن انكمشت بلا شك، وممكن تنكمش زيادة أيضاً، لكنها ما صارت -الآن مثلاً- من دول العالم الرابع، لا زال لهم قوة، لذلك الاستعجال في النفوس الذي يجعلها أحياناً تشكك، أو يحصل لها شيء من الريبة في الحقيقة والمفهوم مع أنه صحيح، لماذا؟
لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري: 3612].
يعني: لو واحد قال: بس ما انهاروا؟ يعني: روسيا ما صاروا الآن -مثلاً- دولة فقيرة متسولة؟.
نقول: إيه، اصبر أنت الآن، ليست القضية بين عشية وضحاها، الله يداول الأيام بين الناس، المسألة تأخذ سنوات طويلة، لكن كنتيجة في النهاية يحصل وعد الله، وتتحقق سنته، قطعاً بالتأكيد.
أسباب تسلط الكفار على المسلمين
لماذا يديل الله الكفار على المسلمين؟ لماذا يجعل الله للكفار نصراً على المسلمين أو قوة وغلبة واحتلال وهيمنة وسيطرة؟
معصية الله -تعالى-
الأسباب كثيرة، وعلى رأسها -طبعاً-: معصية الله -تعالى-: وهذا سبب الهزيمة الأصلي: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران: 152].
قال أيضاً: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165]. قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟ من أين أصابنا؟ لماذا هُزمنا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ عندما عصيتم، فعودوا باللوم عليها، ومعنى: نُدَاوِلُهَا -كما ذكرنا-: أي نجعل الدولة في وقت الكفار على المؤمنين، فإذا رجع المؤمنون إلى الله وأطاعوا، نصرناهم: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140].
الجبن والخور وضعف الهمة
سبب آخر: الجبن، وضعف الروح، وضعف الهمة والخور: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران: 152] جبنتم وضعفتم.
التنازع والتفرق بين المسلمين
سبب آخر: التنازع، والتفرق بين المسلمين: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 152]. وقال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]. ماذا يعني: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ؟ يعني تذهب قوتكم، هذا التنازع المؤدي إلى التشتت، التفرق، ذهاب القوة، انحلال العزائم، تسلط العدو، فالنبي ﷺ حذر منها ابتداءً من صفوف الصلاة، قال: لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم [رواه البخاري: 717، ومسلم: 1007]. ابتداءً من صفوف الصلاة، هذه المسألة لا بد أن تُراعى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4].
التكالب على الدنيا
-طبعاً-: التكالب على الدنيا: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران: 152] هذا واضح جداً، وهذا المذكور في الحديث: إذا تبايعتم بالعينة هذه الحيلة على الربا: وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد ليس الزرع عيباً، لكن رضيتم به: وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس: 7]، فما هو العيب أنك تزرع، العيب أنك ترضى به، وتطمئن، وتتكل عليه، وتنشغل به عن طاعة الله، والجهاد في سبيله، ولذلك قال: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليهم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم [رواه أبو داود: 3464، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 3462، وفي صحيح الترغيب والترهيب: 1389].
فوائد معرفة سنة المداولة
سنة المداولة هذه ماذا تفيدنا؟
أنه يا جماعة الآن أليست الغلبة للكفار في الأرض؟ أليس المسلمون الأضعف؟ حسب السنة الإلهية، الكفار لا بد ماذا يصير لهم؟
لا بد يحصل لهم هزيمة.
فإذاً، السنة هذه تعطينا بشائر: أنه هنالك ضعف لهذا القوي لا بد أن يحصل، ونحن نشهد آثاره، وهناك حركة دائمة ومداولة، والله كما قال في الحديث القدسي: بيدي الأمر أقلب الليل والنهار [رواه البخاري: 4826، ومسلم: 6000] فالأيام ليست ملكاً لأحد من البشر، وكذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري: 3612]. فإذاً، هذا يدعونا لعدم العجلة، الاستبشار بالنصر، اليقين بموعود الله: والله ليتمن هذا الأمر[رواه البخاري: 3612]. وكذلك ندعوا أنفسنا لعدم الاستعجال؛ لأنه قال: ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري: 3612] فحذَّرنا، وأن نعلم بأن السنن تعمل، والله لا يحابي أحداً من خلقه.
-طبعاً- سنة المداولة تقريباً لخصنا مجملها، وسنتكلم عن موضوع المدافعة والاستخلاف في الدرس القادم -بمشيئة الله تعالى-.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.