الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن بقية أوصاف لجهنم -نسأل الله السلامة منها-، وما يقاسيه أهلها من شدة، وبعض أهل النار بأعيانهم؛ كإبليس وفرعون، وامرأة نوح وامرأة لوط، وآزر أبي إبراهيم، وعمرو بن لحي الخزاعي، وقارون وهامان وأبي بن خلف والوليد بن المغيرة، وأبي لهب وزوجته أم جميل، وأبي طالب عم النبي ﷺ.
وكذلك تحدثنا عن عدد من أهل الكبائر الذين يدخلون النار؛ كالتي حبست الهرة، وسارق الحجيج، وسارق بدنتي رسول الله ﷺ، وكركرة غال العباءة من الغنيمة قبل القسمة.
وتحدثنا عن بعض جرائم المخلدين في النار، وأن أعظم هؤلاء: الكفار والمشركون بالله، وعباد الطواغيت، والأنداد، والذين يدعون الأموات، ويستغيثون بهم من دون الله ، وكذلك المكذبون بالبعث والنشور ويوم القيامة، والمكذبون بنبوة محمد ﷺ، والمرتدون عن أهل الإسلام، والمنافقون نفاقًا أكبر، والمستكبرون عن عبادة الله وعن آياته.
وقلنا: إن الكفار لن تنفعهم الأعمال الصالحة عند الله ، ولن تنجيهم من الخلود في النار.
وقلنا:بأن الأعمال الصالحة لن تنفع عامليها من الكفار ولن تخرجهم.
وقلنا:بأن الكفار الذين لديهم أعمال بر وخير لن تمنعهم أعمالهم عن دخول النار، بل سيخلدون فيها، ولكن الله بعدله يجازيهم عليها في الدنيا، وقد يخفف عنهم يوم القيامة بها، لكن لا يخرجون من جهنم.
تحدثنا عن حال الموحدين من أهل الكبائر في النار، وأول من يدخل النار منهم: أهل الرياء.
وكذلك تحدثنا عن سؤال أهل الجنة عن إخوانهم من أهل الكبائر وانتفاعهم بدعائهم وهم في النار، وعن الدعاة إلى النار، ومنهم إبليس، والأئمة المضلون، والرؤساء المنافقون، والعلماء المضلون، والوجهاء الجهلاء، والقادة السفهاء، والفساق الداعين إلى الفسق والمجون.
تحدثنا عن بعض الأعمال الصالحة التي تعمل للوقاية من النار، وأن جميع المعاصي والذنوب يجب اتقاؤها، وأن أعظم الحسنات التي تنجي من النار: تحقيق التوحيد، ولذلك يجب اجتناب الشرك بأنواعه، والكبائر والصغائر.
ومما يدخل النار: السبع الموبقات، ومحقرات الذنوب، ونحو ذلك.
أما الأعمال المنجية فمنها: الاستعاذة بالله من النار والدعاء، وأن ذلك يكون في أحوال وأوقات على كل حال، وعند الفراغ من مناسك الحج وبين الركنين في الطواف وفي نهاية التشهد وقبل السلام وبعد الانتهاء من الصلاة، وفي مجالس الذكر، وعند قراءة القرآن إذا مرت آية عذاب وعند النوم.
وكذلك ذكرنا: أن المحافظة على الصلوات الخمس والصيام والجهاد في سبيل الله والبكاء من خشية الله والصدقة ولو بالقليل، والكلمة الطيبة، والمحافظة على النوافل بعد الفرائض، واللين والرقة والسهولة في معاملة الخلق، أن ذلك من أسباب النجاة من النار.
وذكرنا طرفًا من خوف السلف من النار، وكيف كانوا يخشون عذاب الله.
إذا ما الليل أظلم كابدوه | فيسفر عنهم وهم ركوع |
أطار الخوف نومهم فقاموا | وأهل النوم في الدنيا هجوع |
[التخويف من النار، لابن رجب، ص: 44].
التشويق للجنة
وبعد نهاية هذه الرحلة مع جهنم -نسأل الله السلامة منها- نبدأ الحديث عن جنات النعيم، ومستقر المؤمنين، ودار الوعد للطائعين، يشتاقون إليها في الدنيا، وقد تاقت نفوسهم بعدما سمعوا عن عذاب الله، فهم يريدون رحمة الله.
فحي على جنات عدن فإنها | منازلنا الأولى وفيها المخيم |
ولكننا سبي العدو فهل ترى | نعود إلى أوطاننا ونسلم |
وحي على روضاتها وخيامها | وحي على عيش بها ليس يسأم |
وحي على يوم المزيد الذي به | زيارة رب العرش فاليوم موسم |
فلله برد العيش بين خيامها | وروضاتها والثغر في الروض يبسم |
والله واديها الذي هو موعد | المزيد لوفد الحب لو كنت منهم |
بذيا لك الوادي يهيم | صبابة محب يرى أن الصبابة مغنم |
ولله أفراح المحبين عندما | يخاطبهم من فوقه ويسلم |
ولله أبصار ترى الله جهرة | فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم |
[حادي الأرواح، لابن القيم، ص: 6- 7].
تنقية المؤمنين قبل دخول الجنة
يهذب المؤمنون وينقون قبل دخول الجنة، لا يدخل الجنة أحد وفيه شائبة، لقد كانت هنالك أدران علقت مما في الدنيا من المعاملات، وما حدث بين الخلق، وأمور من التقصير، فلذلك ينقى أهل الجنة قبل دخولها، فيدخلون على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ[الحجر: 47].
وهذا من كرمه وإحسانه؛ كما قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "أن الغل الذي كان موجودًا في قلوبهم" يندر أن تجد واحد ما في قلبه غل ولا حسد ولا حقد، يبقى بقية في القلب، قال: "والتنافس الذي بينهم أن الله يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانًا متحابين، وأخلاء متصافين"[تيسير الكريم الرحمن، ص: 289].
المقصود بالقنطرة وحبس المؤمنين عندها
أين يحدث هذا؟ على القنطرة، أين القنطرة؟ بعد أن يمر المؤمنون على الصراط ويسقط من يسقط من المنافقين والعصاة، وينجو من نجاه الله من المؤمنين، يصلون هنالك إلى القنطرة، وهي جسر يكون قبل دخول الجنة، وهو آخر موقف من مواقف يوم القيامة للمؤمنين قبل دخول الجنة؛ لأن يوم القيامة طويل فيه مواقف متعددة، آخر موقف قبل الجنة: القنطرة، لهم وقفة هناك.
وقال بعض العلماء: إنه تتمة للصراط.
وقال بعضهم: بل هو جسر مستقل عن الصراط الأول.
وهذا هو الراجح: أنه جسر مستقل وليس بمتصل بالصراط العظيم؛ لأن هذه القنطرة منفصلة عن جهنم، والصراط فوق جهنم، وبعبور جهنم ينتهي الصراط الذي سبق، أما هذه القنطرة فإن المؤمنين يحسبون عليها، ويقفون على هذه القنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فيؤخذ للمظلوم حقه، ويكون بينهم معاتبات على أشياء، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، وقد ذهب كل حقد أو حسد، أو غل من نفوسهم، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًايدخلون بغاية النقاء والصفاء، صفاء القلوب عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ[الحجر: 47].
وهذا القصاص الذي يكون في ذلك الموقف ليتم التهذيب، وتكتمل التنقية، وقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي سعيد قال: قال النبي ﷺ: يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا[البخاري: 6535].
قال ابن حجر-رحمه الله-: إذا خلص المؤمنون من النار، يعني نجوا من السقوط فيها، بعد أن جاوزوا الصراط، هذبوا ونقوا[ينظر: فتح الباري: 10/489، و11/399]تمييز وتخليص من التبعات.
وأخرج الحاكم وأحمد من حديث جابر بن عبد الله بن أنيس رفعه إلى النبي ﷺ قال: لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة قلنا: يا رسول الله كيف وإنما نحشر حفاة عراة؟ قال: بالسيئات والحسنات وحسنه الألباني[رواه أحمد: 16085، والحاكم: 3638، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: " 3608].
قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: "وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص، لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوبهم، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص" [شرح العقيدة الواسطية: 2/163]، فالقصاص -مثلاً- كان على مال، على أذية، في جسد، وسب وشتم، ونحو ذلك، مما ورد في الحديث، يكون القصاص فيه، لكن أشياء في القلوب، واحد حسد، أو حقد، هذه كيف تكون التنقية منها والاقتصاص؟ واحد حقد عليك بدون سبب شرعي، كيف تكون التنقية؟ إذا عبر، إذا نجا من النار، التنقية هنا.
فائدة:
أقسام عصاة المؤمنين يوم القيامة
بين ابن حجر-رحمه الله تعالى- هذه المظالم، وهو يذكر أنواع العصاة والمعاصي، فقال: "فدل مجموع الأحاديث على أن العصاة من المؤمنين يوم القيامة على قسمين:
أحدهما: من معصيته بينه وبين ربه؛ فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين أيضاً: قسم تكون معصيته مستورة في الدنيا، فهذا الذي يسترها الله عليه في يوم القيامة، وهو بالمنطوق.
إذًا، هذا صاحب معصية، معصيته بينه وبين ربه، وليست مع الخلق، فيها حق لله، لكنه كان مسرًا بها في الدنيا غير مجاهر، فإذا نجا، فالله يستره، ولا يؤاخذه عليها.
وقسم تكون معصيته مجاهرة، فدل بمفهومه على أنه بخلاف ذلك: كل أمتي معافى إلا المجاهرين[رواه البخاري: 6069].
-طيب- القسم الثاني: من معصيته بينه وبين العباد، في حقوق الخلق، فهذا على قسمين أيضاً: قال رحمه الله: قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء يقعون في النار، وإذا كان معهم أصل التوحيد يخرجون بالشفاعة حتى تنتهي القضية إلى رحمة رب العالمين، فيخرج من بقي في قلبه أدنى شيء من الإيمان.
القسم الثاني: قوم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم، فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص؛ كما دل عليه حديث أبي سعيد[فتح الباري، لابن حجر: 1/489].
وقال كثير النواد: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي-هذا من آل البيت- فقلت: وليي وليكم، وسلمي سلمكم، وعدوي عدوكم، وحربي حربكم: إني أسألك بالله أتبرأ من أبي بكر وعمر؟ قال: قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، تولهما يا كثير، فما أدركك فهو في رقبتي هذه، ثم تلا هذه الآية: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]قال: أبو بكر وعمر وعلي أجمعين-.
وهذا يرد فيه على من قال: إن هؤلاء الأكابر من آل البيت يتبرؤون من الشيخين، فيقال: هذا من أكابرهم، وهو يتولاهما، ثم يكون السوق إلى الجنة بعد أن يجاوز المؤمنون الصراط، ويقفون على هذه القنطرة بين الجنة والنار، ويقتص لبعضهم من بعض، ويدخلون الجنة على أكمل حال، طاهرة قلوبهم من كل شائبة وغل، ونقص.
صفة سَوق المؤمنين إلى الجنة
وبعد هذا التطهير يقسم المؤمنون إلى جماعات وزمرا متعددة، حيث يجعل من أهل كل عمل جماعة مستقلة، العلماء مع بعض، والمجاهدون مع بعض، والمتصدقون مع بعض، وهكذا أهل النوافل الذين واظبوا عليها، كل أصحاب عمل اشتهروا به، وانشغلوا به وغلب عليهم في الدنيا، والجنة أبواب، فإنهم يتنوعون في زمر بتنوع أعمالهم التي اشتغلوا بها.
أما الواجبات وترك المحرمات مفروغ منها، ولكنهم أنواع في اهتماماتهم، في العلم والجهاد، والدعوة، والصدقة، ونحو ذلك، وتساق هذه الجماعات المؤمنة الموحدة إلى الجنة سوق إكرام وإعزاز لتدخلها، فإذا وصلوا إلى أبواب الجنة فتحت لهم أبوابها الثمانية، وخاطبهم خزنة الجنة: قائلين لهم: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر: 73].
وقد بين الله مشهد هذا السوق، واستقبال خزنة الجنة لهم، فقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر: 73].
والزمر جمع زمرة، وهي الفوج من الناس المتبوع بفوج آخر، فلا يقال: مرت زمرة من الناس إلا إذا كانت متبوعة بأخرى، فإذا كانت مجموعة غير متبوعة بأخرى لا يطلق عليهم زمرة، قال ابن كثير -رحمه الله-: زُمَرًا جماعة بعد جماعة، المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم، الأنبياء والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضًا [تفسير القرآن العظيم:7/119].
قال ابن القيم-رحمه الله: "كل زمرة على حدة كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضًا، ويفرح بعضهم ببعض" انتهى كلامه رحمه الله من تفسيره للآية[ينظر: التفسير القيم، لابن القيم، ص: 460، وحاديالأرواح، ص: 39].
فإن قيل: السوق في أهل النار معقول؛ لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لابدّ وأن يساقوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة، فأي حاجة فيه إلى السوق؟
فالجواب: أن أهل الجنة يساقون وأهل النار يساقون، إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها، دفعهم بالقوة، والهوان والشدة، كما يفعل بالأسير الذي يقاد إلى السجن، أو القتل.
أما سوق أهل الجنة، فهو سوق إكرام يذهبون راكبين، يسرع بهم إلى دار الكرامة والرضوان؛ كما يفعل بالوافدين الذين يتلقون إلى الملوك، فيساقون إليهم في موكب، ويدل على كون المؤمنين يساقون إلى الجنة وهم ركوب، قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا[مريم: 85].
قال ابن عباس: وَفْدًاركبانًا؛ لأنه في الإكرام أحسن وأعلى من أن يمشوا مشيًا على أقدامهم.
وقال أبو هريرة: على الإبل [ينظر: تفسير القرآن العظيم: 5/263].
وعن النعمان بن سعد قال: كنا جلوسًا عند علي فقرأ هذه الآية: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا[مريم: 85] قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، كلمة: وفد، وسوق الوفد، وإكرام الوفد، لا يكون بأن يتركون يمشون على أرجلهم، قال: ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة" [رواه أحمد: 1332، والحاكم: 3425، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، والطبراني: ، قال ابن القيم: "والمعروف أنه موقوف على علي " [ينظر: حادي الأرواح، ص: 101].
شفاعة النبي ﷺ في فتح أبواب الجنة ودخول أهلها
فإذا انتهى المؤمنون إلى أبواب الجنة تشاوروا فما يستأذن لهم بالدخول، فيقصدون آدم، ثم نوحًا ثم إبراهيم، ثم موسى ثم عيسى، ثم محمدًا ﷺ، كما فعلوا في العرصات في موقف المحشر عند استشفاعهم إلى الله ، أن يأتي لفصل القضاء، فإن قيل: لم؟ لم صار الاستشفاع مرتين؟ وقد عرف فضله ﷺ في الأولى؟ فيقال: ليزداد فضلاً، ليزداد شرفًا، ليرتفع منزلة بين المؤمنين خاصة، بعد أن ظهرت منزلته بين الخلائق عامة، فإن ذلك الموقف يحمده عليه الخلائق حتى الكفار، لما يشفع عند الله في فصل القضاء للانفكاك من موقف عظيم، وقد طال الحر والزحام والشدة على الناس، الآن استشفاع آخر من نوع آخر، ولذلك يقول ابن كثير في تفسره: "كما فعلوا في العرصات عند استشفاعهم إلى الله أن يأتي لفصل القضاء ليظهر شرف محمد ﷺ على سائر البشر في المواطن كلها" انتهى[ينظر: تفسير القرآن العظيم: 7/ 119].
والدليل على هذا ما رواه أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا[رواه مسلم: 504].
وفي رواية لمسلم أيضاً: أنا أول شفيع في الجنة [مسلم: 506].
وروى مسلم أيضاً أنه ﷺ قال: يجمع الله -تبارك وتعالى- الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة؟ فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم، خليل الله، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلاً من وراء وراء، وهذا من تواضعه اعمدوا إلى موسى ﷺ الذي كلمه الله تكليمًا، فيأتون موسى ﷺ، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى ﷺ: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا ﷺ فيقوم فيؤذن له الحديث[رواه مسلم: 503].
قال صاحب معارج القبول:
وثانيًا يشفع في استفتاح | دار النعيم لأولي الفلاح |
هذا وهاتان الشفاعتان | قد خصتا به بلا نكران |
[معارج القبول: 1/40].
وقد جاء في حديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب أمتي، يا رب، فيقال: يا محمد ادخل من أمتك من لاحساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب [رواه البخاري: 4712، ومسلم: 501].
استفتاح النبي ﷺ لباب الجنة
كيف يستفتح؟
في حديث أنس في رواية مسلم قال: وأنا أول من يقرع باب الجنة[رواه مسلم: 505].
وفي رواية قال ﷺ: آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك[رواه مسلم: 507].
وفي رواية الترمذي: فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها -يعني أحركها- لتصوت فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لي ويرحبون بي، فيقولون: مرحبًا فأخر ساجدًا[رواه الترمذي: 3148، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب: 3543].
وفي حديث عبادة قال ﷺ: أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي، حتى أتي باب الجنة فأستفتح، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبًا بمحمد، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، أنظر إليه[رواه الحاكم: 82، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي].
مسائل متفرقة في أبواب الجنة
دخول المؤمنين من أبواب الجنة
مسائل في أبواب الجنة
أولاً: يدخل منها المؤمنون كما يدخل منها الملائكة المقربون، قال تعالى:
فتح أبواب الجنة للمؤمنين واستقبال الملائكة لهم
ثانيًا: الأبواب تفتح للمؤمنين، عندما يصلون إليها، وتستقبلهم الملائكة، مرحبة بهم بالسلام، ومهنئة لهم على سلامة وصولهم، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر: 73].
وقال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ [ص: 50].
عدد أبواب الجنة
ثالثًا: عدد أبواب الجنة ثمانية، وجاء في الوحي ذكر أسماء خمسة منها؛ كما في الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال: في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى: الريان لا يدخله إلا الصائمون[رواه البخاري: 3257].
الثمانية هل المقصود بها العدد تحديدًا أو أن الأبواب الرئيسة ثمانية؟
جاء في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لكل أهل عمل باب من أبواب الجنة يدعون بذلك العمل[رواه أحمد: 9799، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر -رحمه الله- كما في الفتح: ].
وجاءت رواية لحديث عمر بن الخطاب ذكرها ابن عبد البر في التمهيد: فتح له من أبواب الجنة ثمانية[التمهيد:7/188].
واستدل بهذا القرطبي وابن عبد البر، وغيرهما على ذلك، يعني أن أبواب الجنة كثيرة، لكن فيها ثمانية رئيسة، وأن عدد الأبواب بعدد الأعمال، وقال القرطبي: وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية.
قال ابن حجر-رحمه الله-: ويحتمل أن يكون بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية، قال: والله أعلم [الفتح: 7/28].
إذًا، يرى ابن حجر-رحمه الله- أن هنالك ثمانية خارجية هي الأساسية، فإذا دخلوا هنالك أبواب أخرى كثيرة بعدد الأعمال.
قال ابن القيم-رحمه الله:
أبوابها حقًا ثمانية أتت | في النص وهي لصاحب الإحسان |
باب الجهاد وذاك أعلاها وباب الصوم يدعا الباب بالريان
ولكل سعي صالح باب | ورب السعي-يعني صاحب السعي العامل- منه داخل بأمان |
[متن القصيدة النونية، ص: 310].
أسماء أبواب الجنة الواردة في أحاديث صحيحة صريحة
وقد ورد من الأسماء في حديث النبي ﷺ: من أنفق زوجين في سبيل اللهذكر باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الريان، وباب الصدقة، فهذه أربعة مذكورة أسماؤها، وذلك أنه ﷺ قال: من أنفق زوجين في سبيل الله ما معنى: زوجين؟ أي شيئين من صنف واحد: درهمين، ركعتين، صام يومين نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة يعني غالب عمله نوافل الصلوات، بعد الفرائض دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد مشتغل أكثر عمره بالجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيامصيام يوم وإفطار يوم، والاثنين والخميس وأيام البيض، ويصوم محرم، وأكثر شعبان، يصوم عرفة وعاشوراء، ومجتهد في الصيام دعي من باب الريان الريان في المعنى ضد العطشان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقةفقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم [رواه البخاري: 1897، ومسلم: 2418].
قال ابن عبد البر-رحمه الله-: وأما قوله: من أنفق زوجين معناه عند أهل العلم من أنفق شيئين من نوع واحد، نحو درهمين أو دينارين أو فرسين أو قميصين، وكذلك من صلى ركعتين، ومشى في سبيل الله خطوتين، أو صام يومين، ونحو ذلك كله، وإنما أراد -والله أعلم- أقل التكرار، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع" [التمهيد: 7/185].
وقال رحمه الله: "في هذا الحديث من المعاني الحض على الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله كثيرة، تقتضي سائر أعمال البر.وفيه دليل على أن أعمال البر لا تفتح في جميعها لكل إنسان في الأغلب، وأنه إنما فتح فيها كلها لقليل من الناس، وأبو بكر الصديق من ذلك القليل إن شاء الله" [الاستذكار: 5/130- 131]؛ لأنه حتى يجمع بين الإكثار من الصلاة والإكثار من الصدقة والإكثار من الجهاد، والإكثار من الصيام .. والإكثار... والإكثار.. سيحتاج إلى عمر بورك فيه، ونية وهمة، فكل من يدخل من أبواب الجنة على خير، لكن منهم من يدعى من جميع الأبواب، لكثرة أعمالهم في كل الأبواب، قال: "ومما يشبه هذا ما جاوب به مالك بن أنس العُمري العابد، وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، وترك مجالسة الناس في العلم، وغيره" يعني يقول له: اتفرغ للعبادة أحسن لك من التدريس والفتيا، ومخالطة الناس والتعليم، فقال له مالك في كتاب يرد على كتابه: "إن الله -تعالى- قسم بين عباده الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وقد علمت أن نشر العلم وتعليمه من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه، وقسم لي منه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه من العبادة، وكلانا على خير إن شاء الله" هذه القصة التي ذكرها [ابن عبد البرفي كتاب الاستذكار: 5/131].
هذا يبين أهمية الاستكثار من الخيرات على الأقل في باب واحد، وإذا استطاع أن يستكثر من الخيرات في بابين وثلاثة وأربعة، ليدعى منها يوم القيامة فهنيئًا له.
وهناك اسم خامس قد ورد في حديث أبي هريرة في حديث الشفاعة: فيقول الله: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة فسماه الأيمن وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب[رواه البخاري: 4712، ومسلم: 501].
أسماء أبواب الجنة الواردة في أحاديث صحيحة غير صريحة
الأبواب الباقية اجتهد العلماء في تحصيل أسمائها، وليس هناك نصوص ثابتة في التسميات، فذكر بعضهم: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب محمد ﷺ، وهو باب الرحمة، وأن باب التوبة هذا مفتوح لم يغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق، فلم يفتح إلى يوم القيامة، وباب الحج، وباب صلة الرحم، وباب العمرة، وباب الوالدين : الوالد أوسط أبواب الجنة[الترمذي: 1900، وابن ماجه: 3663، وأحمد: 27592، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2486] وباب الذكر، وباب العلم، واستدلوا بأحاديث إما غير صريحة، وإما غير صحيحة، فقد يقول واحد اسمه: الوالد، لكن يمكن المقصود به: باب بر الوالدين مثلاً، فالمهم في أشياء صريحة، وأشياء شبه صريحة الوالد أوسط أبواب الجنة وفي أشياء غير صريحة، لكن اجتهدوا في الأخذ منها أسماء.
التسميات ليست من الأمور التي لا بدّ من معرفتها، فلو ما عرفنا أسماء بقية الأبواب ما يضر، ونحن مطالبون بالاجتهاد لعلنا ندعى من كل الأبواب لكن الاستكثار من الخيرات، ونوافل الأعمال في بعض الوجوه مهم، حتى يدعى على الأقل يدعى من باب من الأبواب، والناس همم وقدرات، فهناك فعلاً من تخصص في الجهاد، وهناك فعلاً من تخصص بالصدقة، نعم يصلون الفرائض، يصومون رمضان، وحجوا، لكن لم يستكثروا من الأبواب الأخرى مثلما استكثر آخرون في تلك الأبواب، وهؤلاء استكثروا في هذه الأبواب، وهكذا..
حديث: الوالد أوسط أبواب الجنة اختلف العلماء في تفسيره، أما صحته فإنه حديث صحيح رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، قال ﷺ: الوالد أوسط أبواب الجنةقال المباركفوري: "قال القاضي أي خير الأبواب وأعلاها، والمعنى أن أحسن مايتوسل به إلى دخول الجنة، ويتوسل به إلى وصول درجتها العالية مطاوعة الوالد، ومراعاة جانبه.
وقال غيره: إن للجنة أبوابًا وأحسنها دخولاً أوسطها، وإن سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو محافظة حقوق الوالد" انتهى من [تحفة الأحوذي].
وكذلك حديث الترمذي عن قيس بن عبادة: أن أباه دفعه إلى النبي ﷺ يخدمه، قال: فمر بي النبي ﷺ وقد صليت، فضربني برجله، يعني مداعبا منبهًا، وقال: ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله[رواه الترمذي: 3581، وأحمد: 15518، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2834، والسلسلة الصحيحة: 1746]ما معناه؟ يعني ملازمة هذه العبارة: لا حول ولا قوة إلا بالله، طريق موصل لدخول الجنة، وليس صريحًا أن هنالك باب في الجنة اسمه: باب لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا بالنسبة لأحاديث غير صريحة.
أسماء أبواب الجنة الواردة في أحاديث غير صحيحة
أما أحاديث غير صحيحة، ورد مثلاً حديث: إن في الجنة بابًا، يقال له: الضحى، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين كانوا يديمون على صلاة الضحى، هذا بابكم فادخلوه برحمة اللهالحديث ضعيف [رواه الطبراني في الأوسط:5060، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: 392، 5065].
وكذلك حديث: للجنة ثمانية أبواب مغلقة، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه[رواه أحمد: والطبراني: ، والحديث مختلف في صحته، فصححه بعض أهل العلم، كالمنذري والهيثمي، وضعفه آخرون.
وكذلك حديث: إن لله بابًا في الجنة لا يدخله إلا من عفى عن مظلمة أيضاً حديث مرسل ضعيف.
-طبعًا- هذا لا ينفي أنه يوجد باب لهذا، لكن ما ثبت.فنحن في الوقت الذي ما نثبت فيه، لكن ما ننفي أيضاً، قد يكون صحيحًا، لكن لا نستطيع أن ثبت ذلك إلا بدليل صحيح، فقد يوجد باب للعفو، وباب لصلاة الضحى، ممكن، لكن لا نستطيع أن نثبت ذلك إلا بدليل صحيح.
أعمال يدخل بها أصحابها الجنة من أي باب شاؤوا
دخول أبي بكر الصديق الجنة من أي باب شاء:
رابعًا: الذين يدخلون من جميع الأبواب، ويحق لهم ذلك من أي باب شاؤوا، يدل عليه حديث أبي بكر المتقدم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ ما معنى كلمة: "ضرورة" يعني مضرة، يعني ليس على أحد دعي من كل الأبواب أي مضرة، لكن هل في أحد يدعى منها جميعًا، فأجابه النبي ﷺ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
قال ابن القيم-رحمه الله-:
ولسوف يدعا المرء من أبوابها | جميعا إذا وفى حلل الإيمان |
منهم أبو بكر هو الصديق ذا | ك خليفة المبعوث بالقرآن |
[متن القصيدة النونية، ص: 310].
دخول المؤمنين بمحمد وبعيسى -عليهما الصلاة والسلام- الجنة من أي باب شاؤوا:
من الأعمال التي ورد أن أصحابها يدخلون من أي أبواب الجنة شاؤوا: ورد فيهم أحاديث منها: حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء[رواه البخاري: ومسلم: 149].
قال ابن حجر-رحمه الله-: أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة شاء يقتضي دخوله الجنة وتخييره في الدخول من أبوابها، وهو بخلاف ظاهر حديث أبي هريرة الماضي في بدء الخلق -يعني حسب ترتيب أبواب البخاري-، فإنه يقتضي أن لكل داخل الجنة بابًا معينًا يدخل منها، قال: ويجمع بينهما بأنه في الأصل مخير لكنه يرى أن الذي يختص به أفضل في حقه، فيختاره فيدخله مختارًا لا مجبورًا، ولا ممنوعًا من الدخول من غيره" كأنه يقال: اختر، أنت تستحق الدخول من كل الأبواب، أو من أكثر من باب، هذه اختر منها أي باب وادخل، لا شك أن التخيير فيه نوع إكرام زائد على من ليس عنده إلا باب واحد يدخل منه، قال ابن حجر-رحمه الله-: "قلت: ويحتمل أن يكون فاعل "شاء" هو الله، والمعنى أن الله يوفقه لعمل يدخله برحمته تعالى من الباب المعد لعامل ذلك العمل"[فتح الباري: 6/475].
دخول المسبغين للوضوء الجنة من أي باب شاؤوا:
إسباغ الوضوء -مثلاً- عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء[رواه مسلم: 576].
دخول الصابرين المحتسبين لموت الأولاد الجنة من أي باب شاؤوا:
كذلك الصبر والاحتساب لفقد الولد؛ كما جاء في حديث شرحبيل بن شفعة قال: لقيني عتبة بن عبد السلمي فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل [رواه ابن ماجه:1604، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه: 1303].
وأيضاً روى أبو إياس معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلاً أتى النبي ﷺ ومعه ابن له، فقال النبي ﷺ لهذا الرجل: أتحبه؟ فقال: أحبك الله كما أحبه، فمات ففقده، فسأل عنه، فقال: ما يسرك ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك [رواه النسائي: 1870، وهو حديث صحيح].
كذلك: المرأة الحافظة لحدود الله، وقد قال ﷺ: إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت[رواه أحمد: 1661، وهو حديث صحيح].
دخول المؤمنة الطائعة لزوجها الجنة من أي باب شاءت:
الأشياء المطلوبة من النساء ليست مثل المطلوبة من الرجال، الرجال عليهم أعمال أكثر، المرأة لديها أمور معينة، الله يعلم طاقتها وحدود قدرتها، ففرض عليها أشياء معينة، نعم هي شريكة الرجل في الفرائض الأخرى ما لم يدل دليل على تخصيص الرجل بذلك، كالجهاد، ونحوه، فهذا التعليم للنساء: إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت.
دخول التائبين المستشهدين في سبيل الله الجنة من أي باب شاؤوا:
التوبة النصوح مع الشهادة في سبيل الله، كذلك في قضية الأبواب لها شأن عظيم، فعن عتبة بن عبد السلمي: وكان من أصحاب النبي ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: القتل ثلاثة يعني ثلاث مراتب: رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا -وارتكب- جاهد بنفسه وماله في سبيل االله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، محيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء الخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد نفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله، يعني فيما يظهر للناس أنه في سبيل الله، حتى يقتل فإن ذلك في النار، السيف لا يمحو النفاق[رواه أحمد: 17693، قال المنذري في الترغيب: بإسناد جيد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1370].
دخول المحافظين على الصلاة المجتنبين للكبائر الجنة من أي باب شاؤوا:
أما الصلوات الخمس واجتناب الكبائر، فقد ورد فيها حديث مختلف في صحته، قال ﷺ: والذي نفسي بيدهثلاث مرات فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري على ماذا حلف، ثم رفع رأسه في وجهه البشرى، فكانت أحب إلينا من حمر النعم، ثم قال: ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت أبواب الجنة، فقيل له: ادخل بسلام[رواه النسائي: 2438، والحاكم: 719، وصححه ووافقه الذهبي، وهو في ضعيف الترغيب والترهيب: 210].
أوقات تفتح فيها أبواب الجنان
سادسًا: أوقات تفتح فيها أبواب الجنان، وقد جاءت أحاديث تفيد بأن هنالك أوقاتًا وأعمالاً تفتح لها أبواب الجنة، فمنها ما هو صحيح، ومنها ما ليس بصحيح.
فتح أبواب الجنة في رمضان
فمما صح في أوقات تفتح فيها أبواب الجنة:
-أولا-: شهر رمضان، قال ﷺ: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين[رواه البخاري: 3277،ومسلم: 2547].
فتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس
-ثانيا-: كذلك في كل اثنين وخميس، روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا[رواه مسلم: 6709].
عند إقامة الصلاة واصطفاف الناس للصلاة أو للقتال في سبيل الله
ثالثًا: إذا أقيمت الصلاة، واصطف الناس للصلاة، أو اصطفوا للقتال في سبيل الله، فعن مجاهد عن الصحابي الجليل يزيد بن شجرة : أنه كان يقول: إذا صف الناس للصلاة، وصفوا للقتال، فتحت أبواب السماء، وأبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وزينت الحور العين، واطلعن فإذا أقبل الرجل قلن: اللهم انصره، وإذا أدبر، يعني فر وانهزم، احتجبن منه، وقلن: اللهم اغفر له[رواه الطبراني: والحاكم: وغيرهم وصححه المنذري، وقال: مثل هذا لا يقال بالرأي"-يعني لا بدّ أن يكون عند الصحابي فيه شيء من النبي ﷺ، وكذلك صححه الألباني في صحيح الترغيب:].
سعة أبواب الجنة
سابعًا: سعة هذه الأبواب، بين ﷺ سعة أبواب الجنة بحيث يدخل منها العدد الهائل، فورد في سعتها قوله: والذي نفس محمد بيده إنما بين المصراعين من مصاريع الجنة؛ لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى[رواه البخاري: 4712، ومسلم: 501].والمصراعان جانبا الباب.
وورد أن ما بين مصراعيها مسيرة أربعين سنة، فقد روى أحمد في مسنده عن حكيم بن معاوية عن أبيه معاوية أن رسول الله ﷺ قال: ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظزحمة [رواه أحمد:20037، وهو حديث صحيح].
ورواه مسلم أيضاً من حديث عتبة بن غزوان قال: ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام[رواه مسلم: 7625].
فما هو الجمع بين الحديثين: حديث ذكر أربعين، وحديث ذكر المسافة بين مكة وبصرى، أو مكة وهجر؟
نلاحظ: أن رواية ذكرت مسافة، ورواية ذكرت زمنًا،فجمع القرطبي-رحمه الله- بينهما: أن بعض الأبواب عرضها هكذا، وبعضها عرضها هكذا.
إذًا، بعضها ما بين مكة وهجر، أو مكة وبصرى، وبعضها مسيرة أربعين سنة.
لا شك أن الذي عرضه مسيرة أربعين سنة لا شك أنه أعرض؛ لأن المسافة ما بين مكة وهجر، أو مكة وبصرى تقطع في أقل من ذلك.
قال ابن القيم-رحمه الله-: "ولما كانت الجنات درجات بعضها فوق بعض كانت أبوابها كذلك" فأبواب الجنة ليس بعضها بجانب بعض، بعضها فوق بعض، وباب الجنة العالية، قال: "وباب الجنة العالية فوق باب الجنة التي تحتها، وكلما علت الجنة اتسعت، قال: فعاليها أوسع مما دونه، وسعة الباب بحسب وسع الجنة، ولعل هذا وجه الاختلاف الذي جاء في مسافة ما بين مصراعي الباب، فإن أبوابها بعضها أعلى من بعض"[حادي الأرواح، ص: 44 - 45].
حال المؤمنين عند دخول الجنة
جمال الداخلين للجنة وطول قامتهم
ما حال المؤمنين عند دخول الجنة؟
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل [رواه البخاري: ومسلم: 7329].
فأول جماعة يدخلون الجنة في أحسن صورة من الإضاءة، يشع النور من وجوههم، والتي تليها كأشد كوكب إضاءة، فهم على صورة القمر عند اكتماله.
وفي لفظ أيضاً للبخاري ومسلم: على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء[رواه البخاري:3327، ومسلم: 7328].
فإذًا، إذا دخلوها يكونون على حال من الطول والإضاءة شيء عظيم، أيضاً على حال نفسية عظيمة، فيدخلونها بسلام، لا يعتريهم خوف ولا وجل، قال تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ[ق: 34].
تماسك أهل الجنة عند دخولهم الجنة
ويدخل أهل الجنة يمسك بعضهم ببعض، هذه من الصفات التي وردت، يمسك بعضهم ببعض عند الدخول، فعن سهل بن سعد قال: قال النبي ﷺ: ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفًا أو سبعمائة ألف -شك في أحدهما- يعني الراوي متماسكين، آخذ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، ووجوههم على ضوء القمر ليلة البدر[رواه البخاري: 6543].
استقبال خزنة الجنة للمؤمنين الداخلين لها وتهنئتهم لهم
من جهة الاستقبال، تستقبلهم الخزنة عند دخول الجنة مهنئين لهم ومسلمين عليهم بأجمل تحية وأعذبها، قال تعالى: سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 24].
وقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[النحل: 32].
وقال : وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73].
والخزنة جمع: خازن، وهو المؤتمن على الشيء الذي استحفظ عليه.
وقد سبق أن النبي ﷺ عندما يستفتح باب الجنة، يقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: محمد ﷺ.
والمقصود أن الخزنة هم المسؤولون عن فتح أبواب الجنة، وأنهم الذين يستقبلون أهلها بالترحاب والسلام، وأنهم يبشرونهم.
وقوله: ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ[الحجر: 46] أي دخولاً مقرونًا بالسلام من الآفات والشرور، مأمونًا من جميع المكاره، فالجنة دار السلام، سلامة من كل إثم ولغو وشر، قال تعالى: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ[يونس: 25].
وقال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[الأنعام: 127].
ولذلك أول ما يستقبلون به فيها البشارة بالسلامة من كل شر ومن كل إثم، ويخبرون بهذا السلام أن كل ما فيها سلام وحسن كلام، قال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [الواقعة: 25 - 26].
وقال : دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[يونس: 10].
فتحيتهم فيما بينهم عند التلاقي والتزاور السلام، أي كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه سلام.
وقال : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 23 - 24].
إذًا، هذه تهنئة من الملائكة، الملائكة تفد عليهم، الملائكة تدخل عليهم مسلمين، الملائكة تهنئهم، الملائكة تحمد الله على نجاتهم، وعلى إنعام الله عليهم، وعلى إقامتهم في دار السلام، في جوار الرحمن.
أول طعام أهل الجنة
ما هو أول طعام يقدم لأهل الجنة؛ لأن الضيف إذا جاء يكرم بنزل، أول ما يأتي يقدم له شيء، قبل أن يأتي باقي الطعام، وباقي الإكرام، وحسن الوفادة؟
لقد ثبت أن أول ما يقدم لهم: زيادة كبد الحوت؛ لأن الكبد هو قطعة كبيرة معلق بها قطع أصغر منها، وأرق من الكبيرة، معلقة بها، إذا رأيت الكبد وجدت هذا، وهذه الأصغر ألذ وأطيب من الكبيرة، فأول ما يقدم لأهل الجنة من النزل: زيادة كبد الحوت، ليس حوت الدنيا، الزيادة هذه تكفيهم جميعًا، وأول ما يقدم لهم.
-طيب- ثاني شيء يقدم لهم: ثور يذبح لهم، وهو ثور في الجنة يأكل من أطرافها، يعد لإكرام أهل الجنة، والدليل جاء في صحيح مسلم في قصة اليهودي الذي جاء إلى النبي ﷺ ليسأله، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً[رواه مسلم: 742].
ومعنى: تحفتهم يعني ما يهدى إلى الشخص ويخص به ويلاطف، أول ما يأتي.
و النونهو الحوت.
وقد أخرج ابن المبارك في كتابه: "الزهد"، بسند حسن، عن كعب الأحبار أنه قال: "إن الله -تعالى- يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضيف جزورًا، وإني أجزركم اليوم حوتًا وثورًا، في جزر لأهل الجنة"[الزهد: 2/130].
أقسام الداخلين للجنة
تقسيم الداخلين إلى الجنة، جعل الله الجنة درجات كثيرة، وفاوت بين أهلها في أماكنهم ومنازلهم ودرجاتهم، ونعيمهم على تفاوت أعمالهم، وهذا من فضله العظيم، ومن حكمته تعالى: أنه جعل هذا التفاوت، فمنهم من يكون أول من يدخل الجنة، ومنهم من يدخل بلا حساب ولا عذاب، ومنهم يدخل على صفة معينة، وآخرون على صفة أخرى، وهذا من باب، وهذا من باب آخر، فما هي أقسام الداخلين؟
محمد ﷺ أول الداخلين للجنة
القسم الأول: السابقون في دخولهم الأوائل، قال ﷺ: أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة[رواه مسلم: 505].
وقال ﷺ: إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر يعني لا أقوله افتخارًا وتكبرًا، هذه حقيقة ونعمة من الله، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر، وإني آتي باب الجنة فآخذ بحلقتها، فيقولون: من هذا؟ فيقول: أنا محمد، فيفتحون لي، فأدخل،فإذا بالجبار مستقبلي، فأسجد لههذا السياق الذي [رواه أحمد -رحمه الله-: 12491، قد روى الشيحان بعضه، وفي إسناد أحمد عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب، ولعل حديثه لا ينزلعن رتبة الحسن].
أمة محمد ﷺ أول الأمم دخولا الجنة
من هي أول أمة تدخل الجنة؟
قال ﷺ: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة[رواه مسلم: 2017].
ولما قال اليهود والنصارى: نحن أول من يدخل الجنة! بل تمادوا وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى! كذبهم الله، وقال: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة: 111].
ولو اجتمعوا بقضهم وقضيضهم على أن يأتوا بدليل واحد، فلن يستطيعوا.
وقال ﷺ في الحديث هذا: بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذى اختلفوا فيه هدانا الله له -قال يوم الجمعة-، يعني لاحظ ترتيب أيام الأسبوع، يعني الجمعة قال: فاليوم لنا وغدا لليهوديعني السبت وبعد غد للنصارى يعني الأحد[رواه مسلم: 2017].
واستدل بهذا بعض العلماء على أن الجمعة هي أول أيام الأسبوع، أنها تبدأ: جمعة.. سبت.. أحد.. اثنين.. آخرها الخميس.
على أية حال: في ترتيب الأيام نلاحظ أننا قبلهم في يوم العبادة، فيوم عبادتنا الذي يتميز بتلك الصلاة، وإلا كل الأيام عبادة، لكن هذا مخصوص بعبادة معينة، ليست موجودة في بقية الأيام، لكل أهل دين وملة يوم في الأسبوع يعظمونه، وفيه عبادة تميزه عن غيره من أيام الأسبوع، فأول ناس في الأرض الجمعة، ثم السبت لليهود، ثم الأحد للنصارى، فلاحظ قدر الله كيف أنهم بعدنا، مع أنهم قبلنا في الزمن، وكذلك يوم القيامة: أول من يدخل الجنة أمة محمد ﷺ، فنحن وإن كنا الآخرين زمنًا في الوجود، فإن هذه الأمة هي السابقة فضلاً ودخولاً الجنة، فتدخل قبل سائر الأمم.
دخول سبعين ألفا من أمة محمد ﷺ الجنة بغير حساب
ومن أوائل أمة محمد ﷺ: زمرة عددهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، بشر النبي ﷺ أمته المتبعة لشرعه بالجزاء العظيم في الدنيا والآخرة، ومن ذلك: البشارة لقوم من أمة محمد ﷺ بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ فعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: عرضت عليّ الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب ثم دخل ولم يبين لهم" يعني النبي ﷺ دخل بيته وما بين من هم هؤلاء، وما هي صفات السبعين ألفًا هؤلاء، "فأفاض القوم"، الصحابة اجتهدوا كل واحد يقول رأيًا في صفة هؤلاء السبعين ألف، قالوا: "نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام، فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي ﷺ فخرج، فقال: هم الذين لا يسترقون من عظم توكلهم على الله لا يطلبون من أحد رقية، ما يحتاج للمخلوق، حاجته كلها أنزلها في الخالق ، قال: لا يسترقون، ولا يتطيرون والتطير منه التشاؤم، قال: ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم، فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة[رواه البخاري: 5705، ومسلم: 549، وهذا لفظ البخاري].
هل هذا الفضل يعني السبعين ألفا خاصا بهذه الأمة، أو يوجد من الأمم الأخرى أيضاً من كل أمة في سبعين ألف يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؟
قال ابن حجر-رحمه الله-: "وفي التقييد بقوله: أمتيإخراج غير الأمة المحمدية من العدد المذكور" [فتح الباري: 11/413] ففضل السبعين ألف هذا لهذه الأمة، وهذا لا يعني أن الأمم الأخرى لا يدخل أحد منهم الجنة بلا حساب ولا عذاب، لكن ليس بهذا العدد.
صفات السبعين ألفا في الدنيا
أوصافهم في الدنيا قال: لا يسترقون ولايتطيرون ولا يكتوون جاء في رواية: لا يرقون، ولكن ليست محفوظة، فيها شذوذ؛ لأن الرقية إحسان للغير إذا كانت شرعية، لفظ البخاري ليس عنده: لا يرقون.
قال ابن تيمية: وهو الصواب، وهذه اللفظة وقعت مقحمة في الحديث، وهي غلط من بعض الرواة، فإن النبي ﷺ جعل الوصف الذي يستحق به هؤلاء دخول الجنة بغير حساب هو تحقيق التوحيد وتجريده، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، والطيرة نوع من الشرك، ويتوكلون على الله وحده، لا على غيره، وتركهم الاسترقاء والتطير، من تمام التوكل على الله؛ كما في الحديث: الطيرة شرك قال ابن مسعود: "ومنا من إلا -من تطير- ولكن الله يذهبه بالتوكل" [رواه أبو داود: 3912، والترمذي: 1614، وابن ماجه: 3538، وأحمد: 3687، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 429].
قال ابن القيم: "فالتوكل ينافي التطير"[حادي الأرواح، لابن القيم، ص: 89]، يعني في يقع في نفسه شيء، لكن لا يعني ذلك أنه يستجيب له، ويسترخي معه، ويطمئن إليه، يقع في نفوس بعض الناس أشياء من التشاؤم، يتشاءم بشخص، بوقت، برقم، قد يقع في نفسه شيء من التشاؤم لحادثة، لكن إذا كان متوكلاً على الله يذهبه الله، يعني يذهب هذا التشاؤم، فقد يعني يحدث قدرًا أن بعض الناس -مثلًا- يعمل حادثًا بسيارة من نوع كذا، فيشتري سيارة أخرى من نفس النوع، فيعمل فيها حادث، فيقول: هذا النوع مشؤوم! أنا عليّ هذا مشؤوم! خلاص، لازم أروح النوع الثاني! فليس شرطا، قد تروح في نوع ثاني ويصير حادث أسوأ! وقد يموت فيه!
فإذًا، يقع في نفوس بعض الناس تشاؤم ولكن الله يذهبه بالتوكل، إذا صدقوا في التوكل على الله، قال: "وأما رقية العين، فهي إحسان من الراقي، وقد رقى رسول الله ﷺ جبريل، وأذن ﷺ في الرقى، وقال: لا بأس بها ما لم يكن فيها شرك واستأذنوه فيها، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه[رواه مسلم: 5857، و5859]، وهذا يدل على أنه نفع وإحسان" كونك ترقي أخاك المسلم، هذا إحسان إليه، وهذا باب أجر، "فالراقي محسن، والمسترقي سائل"[ينظر: حادي الأرواح، لابن القيم، ص: 89]، يأتي سائل يطلب من غيره، يقول للمخلوق: ارقني! اقرأ عليّ! أرجوك!هذا الاحتياج للمخلوق ليس من كمال التوكل على الله، نعم، هو مباح أن يطلب من شخص أن يرقيه، وليس بحرام، إذا كانت الرقية شرعية، لكن ليس من تمام التوكل على الله ، فالأولى ألا يفعل، ولكن لو واحد جاءه راق من غير طلب فرقاه، أو واحد احتاج الرقية فسأل، لكن عنده حسنات أخرى تعوض هذا النقص، وقد سألت شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: هل الذي يسترقي يعني ولو مرة واحدة رقية شرعية يخرج من السبعين ألف؟ قال: لا، فقد يكون معه من الحسنات ما يجعله من السبعين ألف وزيادة، كما بين رحمه الله، لكن ما هو الأفضل؟ ما هو الأحسن؟
أن الإنسان يرقي نفسه، ولا يطلب من غيره، ويدعو ربه، ولا يحتاج للمخلوق، فإن قيل: الذهاب للطبيب؟ فيقال: الطبيب تعطيه أجره، فليس له منة عليك، يستأجر للعلاج، ومع ذلك إذا اعتقد أن الطبيب بيده شفاء، هذه مصيبة؛ لأن الشفاء ليس إلا بيد الله ، هو الشافي لا شافي إلا هو، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: فالراقي محسن والمسترقي سائل راج نفع الغير، والتوكل ينافي ذلك، فإن قيل: فعائشة قد رقت النبي ﷺ وجبريل قد رقاه؟
قيل: أجل، ولكنه هو لم يسترق، صارت الرقية من دون سؤال، وهو ﷺ: لم يقل: ولا يرقيهم راق، وإنما قال: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، وفي امتناعه أن يدعو للرجل سد لباب الطلب، فإنه لو دعا لكل من سأله ذلك فربما طلبه من ليس من أهله، يعني هذا تعليق على من قال: أنا منهم؟ الذي بعد عكاشة، قال النووي -رحمه الله-: والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي ومن وافقه .. وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله ، فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان صاحبها، وأما تطبب النبيﷺ ففعله ليبين لنا الجواز، والله أعلم" [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 3/91].
قال القرطبي-رحمه الله-: لا تظن أن من استرقى واكتوى لا يدخل الجنة بغير حساب،فإن النبي ﷺ رقى نفسه، وأمر بالرقى، وكذلك كوى أصحابه ونفسه فيما ذكر الطبري وغيره،فمحمل النبي ﷺ عن رقى مخصوصة، بدليل قوله ﷺ لآل عمرو بن حزم: اعرضوا عليّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك[رواه مسلم: 5862].
وكذلك الكي الذي لا يوجد عنه غنى، فمن فعله في محله وعلى شرطه لم يكن ذلك مكروهًا في حقه، ولا منقصًا له من فضله، ويجوز أن يكون من السبعين ألفًا، وقد كوى النبي ﷺ نفسه فيما ذكره الطبري في كتاب: "آداب النفوس" له.
هذا بالنسبة للتعليق على حديث السبعين ألفًا.
وسنستكمل بمشيئة الله -تعالى- أوصاف أهل الجنة، وتفصيل نعيم الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وأن يدخلناها بمنه وكرمه، وأن يدخلنا برحمته في القوم الصالحين.
وصلى الله على نبينا محمد.