الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فها نحن مع هذه السلسلة عن نعيم الجنة وعذاب النار.
وقد سبق الحديث عن أشراط الساعة، ثم عن حياة البرزخ، وماذا يحدث تحت الأرض، ثم عن القيامة وأهوالها، والتغيرات التي تعتري العالم، وتلك الأحوال الشديدة التي تجعل الولدان شيبًا.
مشهد النفخ في الصور، والزلزلة، ونفخة البعث والنشور، ومشهد الحشر وخروج الناس من القبور، مشهد اليوم الطويل، ودنو الشمس من رؤوس الخلائق، ومجيء الرب -تبارك وتعالى-، والشفاعة، وأحوال المؤمنين يوم الدين، وما ينالهم من النعيم في ذلك اليوم، والحوض، وأحوال الكفار، وشهادة الأعضاء عليهم، وخصومات هؤلاء الكفار، وعداوة بعضهم لبعض، ومشهد الحساب والجزاء والميزان والصراط، وتمييز المؤمنين من المنافقين، والقنطرة التي تكون بعد عبور النار، وقبل دخول الجنة، يمكث عليها الذين سيدخلون الجنة ليهيؤوا لدخلوها؛ لأنه لا يدخلها إنسان إلا طيب، فيطيّبون، ويهيؤون، ويطهّرون حتى المعاتبة تحدث، ثم يساقون إلى الجنة.
وكان الكفار قد سقطوا في النار، وسيقوا إليها، ومن هنا نبدأ الرحلة الجديدة إلى عالم ليس بعده موت.
إن المدة مفتوحة، والإيمان بالجنة والنار مما في يوم الآخر من أنواع الأخبار التي ذكرها الله لنا.
أهمية الايمان بالجنة والنار
إن الإيمان بالجنة والنار من الأركان العظيمة التي تدخل في الإيمان باليوم الآخر كما قال النبي ﷺ عن الإيمان؛ إن الإيمان بالجنة والنار من الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة العظيمة التي أخبر النبي ﷺ عنها: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره [رواه البخاري: 4777، ومسلم: 106].
لا يكون الإنسان مسلمًا مؤمنًا إلا بالإيمان بما في هذا اليوم، والذين يكفرون بما فيه أو يكذبون فليسوا بمؤمنين.
وقد سبق البيان في السلسلة الماضية فوائد الإيمان باليوم الآخر.
الايمان بالجنة والنار فيه عزاء وتسلية للمؤمنين
وتتلخص أهمية الإيمان بالجنة والنار أنه من الإيمان باليوم الآخر، وأن فيه تسلية وعزاء للمؤمنين فيما يصيبهم في هذه الدنيا من البلاء والقهر والظلم.
وكذلك فإن الإيمان بالجنة والنار يهذب الأخلاق ويوجه السلوك ويجعل العبد مراقبًا لربه دائما.
وكذلك فيه استصحاب الشعور بأن الله يجازي؛ ولذلك فإن العبد يراقب تصرفاته.
ما معنى الإيمان بالجنة والنار؟ هو التصديق الجازم بوجودهما، وأنهما مخلوقتان الآن، وأنهما باقيتان بإبقاء الله لهما، وأنهما لا تفنيان أبدًا، ويدخل في ذلك كل ما احتوت عليه الجنة من النعيم، وكل ما احتوت عليه النار من أنواع العذاب.
هذه القضية -أيها الإخوة والأخوات- مهمة جداً لنا، نتربى على معانيها؛ لأنها في الحقيقة هذه هي النهاية إلى الجنة أو إلى النار، إن الإيمان بما في الجنة والنار هو المحرّك للإنسان في عمل الخيرات، وفي الانتهاء عن المنكرات، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية : 24].
هذه حال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا بما في الجنة والنار.
الحديث عن الجنة والنار من أهم ما يعتنى به؛ لأنه هو المصير النهائي والحقيقي للإنسان الذي يصل إليه، فإما مؤمن ساع للجنة، وإما كافر عقوبته النار، قال النبي ﷺ: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها [رواه مسلم: 556].
ولما كانت الغفلة قد استولت على الكثيرين في هذا الزمان، فهم غارقون في أنواع الملذات، والالتهاء والألعاب والمنكرات، وإضاعة الأوقات، كان لا بدّ من تهذيب النفوس وترقيتها لتشاهد ما أعدّ الله علام الغيوب للمؤمنين، وما أعد للكافرين، إنها تطرد الغفلة، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم : 39].
وقال : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني جديد قد نزل لتوّه إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء : 1 - 3].
ما الذي يجعل المؤمنين يضحون بالنفس والمال؟ ما الذي يجعل الناس يبذلون لرب العالمين؟ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران : 133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[الحديد : 21]، إنها جنة عرضها السماوات والأرض عرضها كعرض السماء والأرض، إنها أُعدت للمتقين.
ثمرة التنافس في الطاعات
لقد ذكر لنا نعيم الجنة لنتنافس فيه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وذكر لنا عذاب النار لنعمل على اتقائه قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج : 72].
إن القضية تفكير وتذكر واعتبار وانزجار كما قال تعالى: فذكر إنما أنت مذكر.
الموعظة بالجنة والنار جعلت النبي ﷺ كثيرًا ما يقرأ على الناس على المنبر في يوم الجمعة سورة ق وفيها ما فيها من هذا التذكير، لماذا؟ لأن الذكرى تنفع المؤمنين، فإن قال قائل: ما هي الحكمة من خلق الجنة والنار؟
لله في ذلك حكمة بالغة وعظيمة، وعلى رأس ذلك تحقيق العدل الإلهي.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فقد اتفق أهل الأرض والسماوات على أن الله تعالى عدل لا يظلم أحدًا، حتى أعداءه المشركون الجاحدون لصفات كماله فإنهم يقرون له بالعدل، وينزِّهونه عن الظلم، حتى إنهم ليدخلون النار وهم معترفون بعدله كما قال تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [مختصر الصواعق المرسلة: 231].
فليس هناك أحد يدخل النار يوم القيامة إلا وهو مقتنع تمام الاقتناع أنه يستحق دخول النار، ليس هناك أحد يدخل النار وهو يظن في نفسه أنه مغبون، أو أنه مظلوم، أبدًا، كل الذين يدخلون جهنم على أتمّ الاقتناع أنهم استحقوا دخولها.
وليس من عدل الله أن يموت الظالم والمظلوم في الدنيا ولم يأخذ المظلوم حقه؛ فأنت ترى الآن بعض الظالمين يسرقون، ينهبون، يضربون، يبطشون، يقتلون، يسجنون، ويموت المقهور المظلوم قد أُخذ حقه سجينًا مظلومًا، ويموت الظالم وهو في عزّة من الدنيا، ومنعة، وقوة وملك، ومال وطغيان، أفهكذا تنتهي المشاهد؟ لا يمكن.
لذلك لابدّ من وجود محكمة، لا بدّ من وجود جزاء، وهذه حكمة عظيمة من وراء خلق الجنة والنار، لا يمكن أن يكون من حكمته تعالى أن يموت الناس وينتهي الوضع هكذا، ويبقى الظالم الآثم الفاجر الذي عاث في الأرض فسادًا بلا عقوبة!، والمحسن الذي بذل وضحى وتعب وعمل لله بلا ثواب ولا إحسان.
الله من عدله يقتص حتى للبهائم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، فما بالك بالناس الذين يعقلون والذين خلق الله لهم إدراكًا، وخلق لهم عقولاً وأسماعًا وأبصارًا.
ثمار قيام سوق الجهاد في سبيل الله
وكذلك من ثمرة خلق الجنة والنار قيام سوق الجهاد في سبيل الله، وجهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد المنافقين، وتحقيق سنة الابتلاء في العباد؛ لأن الله خلق الخلق ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فيظهر من يطيعه ويحبه ويعظمه فيثيبه الجنة، ويظهر من يعصيه ويخالفه ويحاده فيدخل النار.
كما ذكر العلماء أيضاً فائدة جليلة لهذا؛ خلق الجنة والنار، فقال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن من كمال الحكمة والقدرة إظهار شرف الأشياء الفاضلة بأضدادها، ولهذا كان خلق النار وعذاب أهل النار فيها أعظم لنعيم أهل الجنة وأبلغ في معرفة قدرها وخطرها، فكان خلق هذا القبيح الشنيع المنظر والمخبر الذي صورته أبشع من باطنه، وباطنه أقبح من صورته مكمّلاً لحسن تلك الروح الزكية الفاضلة التي كمّل الله تعالى بصورتها جمال الظاهر والباطن"[شفاء العليل 24 /32].
فلو قال واحد: لماذا لم يحصل الاكتفاء بخلق الجنة ويفني الله الذين ظلموا؟ الجواب: لا يعظم نعيم أهل الجنة، ويعظم فرحهم عندما يرون أهل النار يوم القيامة؛ لأنهم يطلعون عليهم، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات : 55 - 56]، أهل الجنة يطلعون إلى أهل النار، أهل النار يتوسلون إليهم، أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف : 50].
يرى الإنسان في الجنة نعمة ربه عليه، عندما يرى أهل النار في النار، وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ[الصافات : 57]، ولذلك يعظم نعيم أهل الجنة عندما يرون النار وأهل النار وأنهم نجوا من هذه.
ثم لا شك أن الإيمان بالجنة والنار محرك عظيم للإنسان المسلم، ولذلك ينبغي أن تُطرق هذه الموضوعات باستمرار وأن تطرق أسماع الناس؛ لكي يعملوا لله وينشطوا؛ ولكي يقاوموا الفساد ويصمدوا؛ ولكي يجاهدوا أنفسهم ويثبتوا.
أسلوب الترغيب والترهيب في القرآن
نرى طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، وكيف يكون الترهيب والترغيب؟ بذكر الجنة والنار.
ففي الترهيب ورد القرآن بذكر الذنوب مقرونة بالعذاب والتخويف به، ومما هو في النار من أنواعه، كمثله قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء : 14].
فلما أراد الله التحذير من المعصية قرنها بذكر العذاب، وقال: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت : 27].
وتجد في باب الترغيب في فضل الأعمال والتحضيض عليها والترغيب فيها؛ لكي يرغب المؤمنون في التوبة، ويقبلوا على الأعمال الصالحة، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار [التحريم : 8]، ثم إن الله وعد، وإذا وعد لا يخلف الميعاد، فيعد المؤمنين بجنة عرضها السماوات والأرض، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا[النساء: 124].
وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 82].
وقال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم : 63]، وقال: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ[الشعراء : 90]. وحرّض أهل الإيمان على الصبر والعمل، فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران : 142].
ونرى الإسهاب في ذكر أحوال الجنة، وأحوال النار، فيصف حال أهل النار حين يقفون عليها بالتفصيل، وحين يرونها ما هو شعورهم؟ ما هو حالهم؟ ما هو منظرهم؟ ما هي هيأتهم؟ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا [الأنعام : 27]، نرد لكن الأمنيات لا تنفّذ، ويصف حالهم عند الدخول قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف : 38].
وتتعدد مواضع محاجّة أهل النار لبعضهم البعض، وخصومة بعضهم لبعض، ولعن بعضهم لبعض، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا [الأعراف : 38]، يدعون عليهم، لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف : 38].
إنهم يتحسرون، يقول عنهم: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا[الأحزاب : 66] .
عندما يرى الكفار النار يعلمون أنه لا نجاة لهم، ولا يمكن أن تحقق لهم أمنيتهم بالرجوع إلى الدنيا، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر : 37].
لكن الله قال: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ[الحجر : 48]، يقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون : 108].
إذا أُقفلت عليهم، ومنعهم الرب من مخاطبته يلجئون إلى خازن النار مالك، يقولون: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ[الزخرف : 77]، وتأتي الحوارات تباعًا في القرآن الكريم، تذكر ماذا يقول بعضهم لبعض؟ وماذا يقولون للملائكة؟ وماذا يقولون لله تعالى؟ وماذا يقولون للمؤمنين وهم في الجنة؟ كلام يوضح حالتهم النفسية وأنواع العذاب الذي هم فيه؛ حتى حوارهم مع إبليس، ونداءاتهم لرب العالمين ومع الملائكة أيضاً.
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ[غافر : 49]، مع أنهم مخلدون فيها، لكن يوم واحد يفرق، ينادون أهل الجنة: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ[الأعراف : 50]، لا يجدون أحدًا يتوسلون به بعد ذلك لدفع العذاب ولا لتخفيفه، ولا أن يأتون بشيء من الماء العذب أو البارد.
وهكذا يستمر عذابهم، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ [الأنبياء : 100]، لهم بكاء، لهم صراخ، لهم عويل، لهم لهم فيها زفير وشهيق، نجد الأوصاف التفصيلية في أهل الجنة عند دخولها؛ كيف فرحهم؟ كيف سرورهم؟ ماذا يقولون؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر : 34].
ماذا يقول بعضهم لبعض: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف : 43].
وهكذا ينزع الله ما في صدورهم من غل ويجعلهم إخوانًا على سرر متقابلين.
ويذكر الله حوارات أهل الجنة مع بعضهم، حوارات أهل الجنة مع أهل الأعراف، وحوارات أهل الأعراف مع أهل الجنة، وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الأعراف : 46]، وحتى حوار أهل الجنة مع أهل النار، قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف : 50]، وهم ينادون أهل النار: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف : 44].
ماذا يقال لهم من الاستقبال؟ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر : 73]. كل الأقوال بالتفصيل.
يذكر الله في القرآن الكريم العذاب الذي أعده لأهل النار، وأنواعه وأوصافه بالتفصيل، معرفة هذه التفاصيل يا إخوان ويا أخوات من الأمور المهمة جداً؛ ما ذكرها الله إلا فيها مصلحة لنا، ما ذكرها الله إلا لأهميتها، ما ذكرها الله إلا فيها فوائد.
ولذلك نحن نتعبد الله بمعرفة التفاصيل التي ذكرها في كتابه وسنة نبيه ﷺ، في قضية الجنة والنار، إنه يذكر مثلاً بالتفصيل، كيف يدخلونها؛ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور : 13]، كيف تتعامل معهم الملائكة؟ ما هو لباسهم؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج : 19]، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48] .
هذا العذاب أنواع وأشكال، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [النساء : 56]،تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [المؤمنون : 104]، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج : 20 - 21].
وصف لنا شرابهم، ما هي الشجرة التي يأكلون منها؟ الزقوم، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات : 66 - 68].
ما هي استغاثاتهم، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف : 29]، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد : 15]، الفراش، بالتفصيل، الغطاء لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف : 41].
وأهل الجنة كذلك بالتفصيل، حتى أنواع الزينة، وماذا يوجد في يد الواحد من الأساور، ما هي أنواعها؟ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج : 23]، ماذا يأكلون؟ بالتفصيل؛ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [ص : 51]، ما هي فرشهم؟ وعلى أي شيء يطئون؟ وعلى أي شيء يتكئون؟ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن : 54]، هذا الباطن، كيف يكون الظاهر؟.
وقد جرت العادة أن الظاهر أنفس من الباطن، وأن أعلا الفراش أجمل مما يوجد في داخله من الحشو، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن : 54]، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ [الكهف : 31].
والأكل بالتفصيل والشرب، وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور : 22 - 24]، حتى منظر الخدم، كيف يكون هو موصوف بغاية الدقة، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان : 20]، وقال : لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ [الفرقان : 16]، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [الصافات : 45 - 47] لو أردت التفصيل في الحور العين إنه عجيب؛ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات : 48 - 49].
وهكذا الوصف الدقيق؛ يذكر لنا النار بأسمائها، والجنة بأسمائها النار بأقسامها، والجنة بدرجاتها، هنا دركات، وهناك درجات، وأسفل شيء في النار هم المنافقون، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء : 145].
ما هو الوقود في النار؟ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة : 24]، ما عدد الخزنة؟عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ[المدثر : 30].
ما أسماؤها؟ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[القمر : 48]، كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج : 15 - 17] ، عدد الأبواب، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ[الحجر : 44].
وكذلك في الجنة من أنواع النعيم وصفته؛ أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد : 15]، الأبواب، الخزنة الطول، العرض، الجواري، السرر، الأكواب، النمارق، الغرف، إلى آخره، تفصيلات كثيرة جداً في القرآن والسنة، سنجد أن من العبادات العظيمة الدعاء، التوسُّل لله، الإلحاح بدخول الجنة، والاستعاذة والالتجاء والاعتصام به من النار وعذاب النار.
هكذا ذكر الله في القرآن عن المؤمنين: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران : 16]، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان : 65]، والملائكة تطلب الجنة للمؤمنين: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر : 8]، كما أنهم يدعون ربهم بأنهم يدخلهم الجنة، وتقول امرأة فرعون: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم : 11]، لماذا نجد في القرآن والسنة المقارنات؟ أسلوب عجيب عظيم.
إنه في القرآن الذي أنزله الله معجزة لنبيه ﷺ، يجب علينا أن نتدبر في أساليبه المقارنة، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ[الحشر : 20]، وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ[محمد : 15]، يذكر الجنة كثيرًا مقرونة بالنار.
التقابل كثير في القرآن جدًا، لماذا؟ إنه يربي النفس على الترغيب والترهيب، لا تستقيم النفس إذا لم تخف، ولا تستقيم إذا لم ترجُ، ولذلك يذكر لهم هذا، وهذا، ويخبرهم أن الفريقين لا يستويان، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ[الحشر : 20]، بعد أن وصف لهم عذاب أهل النار وحالهم، قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ[الفرقان : 15].
المقارنة واضحة جداً في الآيات، أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ[فصلت : 40].
قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ[محمد : 15].
تقابل شديد، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ[الشعراء : 90 ، 91].
هذا الكلام مهم جداً في عصرٍ غرق الناس فيه بالشهوات والمحرمات، انتُهكت الأعراض، غشَوا المنكرات، تعدُّوا حدود الله، تعاطوا أنواع الحرام؛ سماعًا، رؤية، تذوقًا، لمسًا، غشيانًا، دخولاً، مشيًا إليه، هذه أنواع الحرام الكثيرة، كيف علاجها الآن؟ ما هو العلاج الديني الشرعي الإيماني للذين يقعون في فاحشة الزنا؟ وفي شرب الخمر واستعمال المخدرات؟ ورؤية المحرمات والتحرش بالنساء؟ وأنواع الفواحش والرذائل والقاذورات، والتطفيف في المكيال والميزان والغش والسرقة الاغتصاب والغصب وأكل المال بالباطل؟ كيف تعالج انحرافات الناس اليوم في قضية العقوق وقطع الرحم؟ ومنع الأشياء الواجبة؛ كنفقة الزوجة والأولاد، كيف تعالج اليوم الجرائم المنتشرة بين الناس؟ كيف تعالج الهمم التي طاحت وسقطت؟ وكيف تعالج قضية التخلف عن صلاة الفجر والصلوات الأخرى؟ وإضاعة الصلوات عن أوقاتها؟ ومنع الزكاة والبخل بالمال؟ كيف تعالج هذه القضايا الكثيرة الموجودة الآن في الناس من منع الواجبات الشرعية، عدم إنكار المنكر، ولا الأمر بالمعروف؟ كيف تعالج القضية في التكاسل عن العبادات، والطاعات، ودنو النفوس، وتعلقها بالسفاسف، واشتغالها بالترهات، وترك معالي الأمور والطاعات، إذا لم يكن من نعيم الجنة ما يغذي النفس، ومن عذاب النار ما يخوف النفس فإن القضية لا تعالج.
كيف يزداد المحسنون إحسانًا؟ وكيف يرعوي المسيئون عن إساءتهم؟ نجد الذنوب أنواعًا مرتبطة بعقوبات في النار: من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار[رواه البخاري: 1238، ومسلم: 278]، دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً [رواه البخاري: 3318، ومسلم: 6845].ويل للأعقاب من النار [رواه البخاري: 165، ومسلم: 589]، الذين لا يتقنون الوضوء، الذين يتساهلون بالغيبة والنميمة والكذب وآفات اللسان كلها، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم [رواه الترمذي: 2616 ، وأحمد: 22366، وصححه الألباني: 2616].
والتساهل في نسبة الأحاديث إلى النبي ﷺ، ومنها المكذوب والموضوع من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار [رواه البخاري: 1291، ومسلم: 4]، و من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين[رواه مسلم: 1]، كل مصور في النار [رواه مسلم: 5662]، ونحو ذلك.
تعلُّق الأعمال الصالحة بأجور معينة في الجنة
كما أننا نرى أن أنواع الحسنات والأعمال الصالحة مرتبطة بأجور في الجنة؛ لتنشيط النفوس وتحفيزها للقيام بها:
من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله ناداه منادٍ؛ أن طبتَ، وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً حديث حسن رواه الترمذي، أصحاب العاهات الذين أصيبوا وابتلوا، إن الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه -يعني عينيه- فصبر عوضته منهما الجنة [رواه البخاري: 5653].
كيف تنشط النفوس لبذل المُهج في القتال في سبيل الله؟، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف [رواه البخاري: 2965، ومسلم: 4640].
وهكذا نجد الأوصاف لأشياء في الجنة بالتفصيل، حتى هذه الأشجار، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، لمن؟ النفوس تشرأب، تتطلع، لمن الجنة، ليست فيها شجرة إلا ساقها من ذهب، ما هي غراس الجنة؟.
إذًا، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، و من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة[رواه البزار: 1539، والطبراني: 286، وقال الألباني: حسن لغيره: 1539].
وهكذا عندما تذكر درجات الجنة، وأجر حفظة القرآن، والماهر بالقرآن مع من؟.
وهكذا الأعمال المبعّدة عن النار، تُذكر وتُربط بالنار، و اتقوا النار ولو بشق تمرة[رواه البخاري: 6023، ومسلم: 2396]، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار[رواه البخاري: 907، ومسلم: 157].
والذي يجد الغبار في سبيل الله لا يجتمع هذا الغبار وغبار جهنم في نفسه، لا يجتمع كافر وقاتله في النار [رواه مسلم: 5003].
أجر القتل في سبيل الله؛ يذكر النبيﷺ ألوانًا وصورًا من العذاب، كيف يعذّب أهل النار بالشدة لكي يتعظ المتعظون، يؤتى بأنهم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط، هل مر بك نعيم قط بعد غمسة واحدة في النار.
أكثر أهل الدنيا سلطانًا وعزًا ونفرًا ونفيرًا وأموالاً وقصورًا، أكثر أهل الدنيا نعيمًا وغنى وجاه، يغمس في النار غمسة واحدة وهو من أهلها؛ لكن هذه الغمسة يرفع بعدها ليقال له: هل رأيت خيرًا قط، مرّ عليك في الدنيا نعيم من قبل؟ مرّ عليك شيء من النعيم؟ فيقول: لا والله يا رب.
وكذلك البائس من أهل الدنيا، الفقير المعذب المبتلى، الذي ظلم من الناس، وكذلك ابتُلي في جسده، وابتُلي في نفسه، وأنواع الهموم والغموم، والآلام النفسية مع الأشياء الجسدية، مع ما يقع عليه من الناس مع الأمراض، هذا من أهل الجنة، يُؤتى به، فيُغمس غمسة في الجنة، هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شدة قط؟ يقول: لا يارب [رواه مسلم: 7266].
إذن، هذا يبين عظمة نعيم الجنة، وشدة عذاب النار، عندما يذكر لنا مَن هو أهون أهل النار عذابًا، وأنه رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان في النار يغلي منهما دماغه، فكيف بأشدهما عذابًا؟.
ذكر لنا النبي ﷺ نعيم أهل الجنة وأحوالهم فيها؛ يذكر لنا مثلاً الخيمة من اللؤلؤة الواحدة المجوفة أنطر؛ بالتفصيل، خيمة من لؤلؤة واحدة، ما هي مركبة من لآلئ مجوفة طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا، فلا ترى زوجته هذه الأولى ما يصنع بالثانية، ولا الثانية ما يصنعه بالأولى وهكذا، إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا؟ أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم [رواه مسلم: 467].
نجد التفصيلات الدقيقة جداً؛ إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، قال: لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون
أوصاف، حتى المشط الذي يمشط الواحد فيه شعره، أمشاطهم الذهب، العرق كيف يكون؟ ورشحهم المسك المجمرة التي يوضع لهم فيها البخور، ماهي مادة البخور هذه؟ ومجامرهم الألّوة الأنجوج، عود الطيب وأزواجهم الحور العين [رواه البخاري: 3327، ومسلم: 7328].
الأنجوج: العود الذي يتبخر به وهو الألوة، وهذا العود تفسير التفسير.
عندما تسمع النفوس وصف الجنة تنشط وتتحفز، وتريد هذا النعيم، وعندما تسمع عذاب النار تخاف تفزع وتستعيذ بالله من هذا الجحيم.
ولذلك قال ﷺ لما أقبل على أصحابه بوجهه: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر" [رواه مسلم: 7392].
وكان ﷺ يقول: اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وعلمنا دعاء: أن من استجار من النار سبع مرات تقول النار: يا رب، إن عبدك فلان قد استجارك مني فأجرهرواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم وصححه الألباني.
في طلب الجنة نجد قوله ﷺ: من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة رواه الترمذي وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 2572، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6275].
يذكر لنا ﷺ أناس بأسمائهم في النار وبأعيانهم، فيقول: رأيتُ عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه -يعني أمعاؤه- في النار [رواه البخاري: 3521]. وكان أول من سيّب السوائب، وأول من أدخل الأصنام إلى جزيرة العرب، وأول من وضعها ليعبدوها.
يذكر لنا الوليد بن المغيرة، آزر، والد إبراهيم في النار، يذكر لنا أبا لهب وامرأته أم جميل من القرآن الكريم.
كما أن ﷺ يذكر لنا في الجنة ناسًا بأسمائهم فيقول: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة عثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة رواه الترمذي وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 3747، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 50].
وهناك أناس آخرين ذكرهم في الجنة، بشّر أناس في الجنة، حتى جارية سوداء بشرها بالجنة؛ امرأة تُصرع، بشّرها بالجنة، وذكر لنا: من سيدات أهل الجنة مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد ﷺ، وخديجة بنت خويلد ، وآسيا امرأة فرعون، أسماء، حتى من أهل هذه، ومن أهل هذه.
هناك أبحاث في موضوع الجنة والنار سنأتي عليها إن شاء الله.
مسألة: هل الجنة والنار مخلوقتان الآن:
هل الجنة والنار مخلوقتان؟ أين مكان الجنة والنار الآن؟ هل يرى أحد الجنة أو النار عيانًا قبل يوم القيامة؟ هل يدخلها أحد قبل يوم القيامة؟ هل الجنة التي دخلها آدم ثم أُخرج منها هي جنة الخلد أم جنة أخرى؟ هل دخل النبي ﷺ الجنة ليلة الإسراء والمعراج؟.
ما حكم الشهادة لمعين بجنة أو نار؟، فتقول: هذا في الجنة، أو هذا في النار، وهذا روحه الآن في الجنة، و يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر : 27 - 30].
ما حكم هذا الكلام؟، كيف نتعامل مع أسئلة الصغار عن الجنة والنار؟ هل تفاصيل الجنة والنار الموجودة عندنا موجودة في التوراة والإنجيل؟ هي عينها، ما هي اعتقادات أهل الباطل في نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار؟ ونحو ذلك من المسائل، سنأتي عليها بمشيئة الله تعالى، لكن دعونا الآن ندخل في التفصيل ومشاهد الجنة والنار.
سبق أن مرّ بنا في موضوع الصراط؛ وهو الجسر المضروب على متن جهنم، وأنه أحدّ من السيف، وأدقّ من الشعر وأنه يروغ روغانًا، وأنه دحِضٌ مزلة، وأن عليها خطاطيف وكلاليب تأخذ الناس، وأن هذا الصراط لا بدّ من عبوره وأن الكفار لا يعبرون الصراط؛ والصراط: جسر مضروب على جهنم، فمن الذي يعبره؟ يأتيه المؤمنون والمنافقون، أين الكفار؟ قد سُبحوا إلى النار من قبل، الكفار لا يعبرون الجسر، مَن الذي يعبره؟ المؤمنون؛ عصاتهم، وكُمّلهم، والمنافقون يأتون إليه أيضاً، قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في كتابه التخويف من النار: "أما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط" [التخويف من النار: 1 /233],
بعد أن يدخل الكفار النار، يوضع الصراط، ويُنصب على متن جهنم من الطرف إلى الطرف.
لقد جاءت النصوص كثيرة تبين لنا كيف يكون حشر الكفار إلى النار، هم وآلهتهم التي يعبدونها، وبيّن سبحانه لعباده صورًا شتى من صور إلقاء الكفرة في النار، فمن ذلك أنهم يحشرون كالقطعان، وأنهم جماعات جماعات، وأنهم ينهرون نهرًا غليظًا، وأنهم يُصاح بهم من هنا وهناك، وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ [الزمر : 71 ، 72].
إذًا، هم يساقون بعنف ودفع وإهانة، وهذا من العذاب النفسي والبدني.
قال ابن كثير -رحمه الله- "يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار، كيف يُساقون إلى النار، وإنما يُساقون سوقًا عنيفًا بزجر، وتهديد، ووعيد، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا[تفسير ابن كثير: 7 / 118].
يعني: يُدفعون إليها دفعًا؛ وذلك لامتناعهم عن دخولها، والدّع: هو الدفع الشديد.
و"الدّع" لفظ يقع في النفوس موقعًا عنيفًا، والذي يسمعه كأنه يرى أهل جهنم، وهم يُساقون إليها سوقًا شديدًا بالملائكة، غلاظ الأخلاق، شداد القوى، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، وهذا زيادة في العذاب والغمّ، يُساق الكفار بالملائكة سوقًا عنيفًا إلى شر محبس، وأفظع موضع، وهي جهنم التي جمعت كل عذاب، وحضرها كل شقاء، وزال عنها كل سرور، ثم إنهم يساقون جماعات مع أشباههم ونظرائهم"
قال الأخفش وأبو عبيدة: "زمرًا": جماعاتٍ متفرقة بعضها إثر بعض، يُساقون أفواجًا، حسب ترتيب طبقاتهم في الضلالة والشرارة" كما قال الألوسي في تفسيره، فكل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها، جماعة المشركين مع المشركين، وجماعة المجرمين مع المجرمين، وجماعة الظالمين مع الظالمين. [تفسير الألوسي: 12/36].
وهكذا العصاة جماعة الزناة مع الزناة والسراق مع السراق والمرتشون مع المرتشون.
وهكذا أصحاب اللواط مع أصحاب اللواط والفواحش، وهكذا أصحاب العقوق مع أصحاب العقوق، والدليل على ذلك قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات : 22]، قال المفسّرون: "أشباههم ونظراؤهم ومن هو على شاكلتهم".
قال النعمان بن بشير في تفسير الآية: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ[الصافات : 22]،
أي: بأزواجهم وأشباههم وأمثالهم، وكذا قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير. [تفسير ابن كثير: 7/8].
وقال سبحانه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت : 19]، ما معنى يوزعون؟ يرد أولهم إلى آخرهم ويلحق آخرهم بأولهم، حتى يجتمعوا جميعًا، ثم يدفعون في النار، يجمعون من هنا ومن هنا، والآخرون يردون إلى الإمام، ومن أمام يرد إلى وراء جمع، هكذا يجمعون ويدفعون دفعًا، ويساقون إلى النار حتى يجتمعوا جميعًا.
قالت العرب: وزعت الجيش إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع، يكف أولهم عن التقدم، وآخرهم عن التأخر، حتى يجتمعوا جميعًا، يوزعون فيساقون هذا السوق العنيف، ثم إنهم يساقون مشاة لا يركبون عطاشًا ظمأ لا يرتون يساقون سوق البهائم، قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 85 - 86] يساقون سوقًا مشاة على أرجلهم، وِرْدًا عطاشًا يساقون، وبئس الورد المورود وهذه أشبع الحالات؛ يساقون وعليهم الذل والصغار إلى أعظم سجن، وأفظع عقوبة، في حال من الظمأ، يستغيثون فلا يُغاثون، ويدعون فلا يُستجاب لهم، ويستشفعون فلا يشفع لهم.
وهكذا يظهر الفرق بين الإكرام والإهانة، وبين سوق أهل الجنة وسوق أهل النار، ويعامل كل واحد على حسب حاله؛ يُحشر أهل الجنة كرامًا، ويُحشر أهل النار لئامًا، يُحشرون على وجوههم الكفار، كيف يمشي الكافر على وجهه؟، إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يجعله يمشي يوم القيامة على وجهه، قال : الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ[الفرقان : 34]، هذا الدليل على أن الكافر لا يمشي على رجليه، يمشي على وجهه، ولا شك أن تمريغ وجهه بالأرض في ذلك المقام ومشيه على وجهه مثل الرجلين فهو يطأ الأرض بوجهه والثقل على الوجه والوجه هكذا مضغوط على الأرض وهو يمشي عليه؛ هذا يدل على الإهانة البالغة.
وقال تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الملك : 22].
لقد سأل الصحابة النبي ﷺ عن هذا، قالوا: "يا نبي الله، كيف يُحشر الكافر على وجهه؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟، قال قتادة - رحمه الله -: "بلى وعزّة ربنا" الحديث [رواه البخاري: 235، ومسلم: 7265].
ومع حشرهم على هذه الصورة المنكرة فإنهم يُحشرون أيضاً عميًا لا يرون، وصمًا، لا يسمعون كما قال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء : 97].
فانظر إلى هذا الخزي، ما أعظمه، وهو أعمى أبكم، لا يتكلم، لا ينطق، أصمّ لا يسمع، وعلى وجهه ليس حتى حواس له، فيعبِّر بها عن شيء إلا ما أذن له به من الكلام الذي سيحجب، ويختم على فيه، في من وقت من الأوقات هكذا يُحشرون، فماذا تقول النار إذا رأتهم قبل أن يصلوا إليها؟ تصكّ مسامعهم بصوتها، وتملأ قلوبهم هلعًا ورعبًا.
قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان : 12].
وعندما يبلغون النار، ويعاينون أهوالها يتمنون العودة إلى الدنيا، ويندمون على ما فعلوا، ولكن هيهات، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام : 27].
فهم إذن يُحشرون بهذه الطريقة، وأوضاع الحواس عندهم، هكذا، وإذا اقتربوا مع كونهم عميًا وصمًا وبكمًا يقول تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا[الفرقان : 12]، سمعوا من مكان بعيد، ويُحشرون صمًا، فإذا بلغوها، وعاينوها يندمون ويتمنون العودة، فلا يُجابون، يريدون الهروب، لكن لا مفرّ، ورأى المجرمون النار وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف : 53]، أيقنوا تمامًا إيقان بالمواقعة، واعتقدوا اعتقادًا جازمًا بدخولها، يُؤتون بهم يُجرون في السلاسل، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًالا يجدون مكانًا ينصرفون إليه؛ لأنهم محاطون بالزبانية، إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن : 33].
كيف سيُنفذون والملائكة محيطة بهم؟ وليس لهم سلطان يمكنهم من الهروب؟.
ولا ينجو من النار من الجن والإنس إلا الأتقياء، قال تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر : 24].
وقال : فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم : 68 - 70].
فهؤلاء جموع عددهم كبير جداً حاضرون حول جهنم، كيف يكون حالهم عند حضورهم؟ جاثون على الركب يشهدون هولها ولفح حرها، وينتظرون في كل لحظة أن يُؤخذوا فيلقى بهم في النار.
هذا حال الفزع المذكور في هذه الآية ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم : 70]، الذين اخترناهم ليكونوا في طليعة المقذوفين، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا أول دفعة منهم سيُقذفون فيها الله أعلم بهم، النار تكون مغلقة قبل وصولهم إليها، حتى إذا جاؤوها فتحت أبواها.
إذًا، الزفير والشهيق الذي كانوا يسمعونه من قبل ليس عبر أبوابها المفتحة، ولكن وهي مغلقة، يسمعون لها من بعيد تغيظًا وزفيرًا، إذا أُتي بهم إليها فُتحت أبوابها بمجرد وصولهم؛ لتعجيل العقوبة، ولمباغتتهم الفزع والرعب، وعند ذلك يؤمرون بالدخول رغمًا عنهم، فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل : 29].
حالة الكفار الذين يساقون إلى النار
ومما بينه الله تعالى لنا في كتابه العزيز حالة هؤلاء الكفار الذين يساقون إلى النار أنهم يساقون بقيد وغِل، كما قال : خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ[الحاقة: 30- 31].
فإذن، الغل قبل أن يدخل النار، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32].
والغل: ما يجعل في عنقه من حديد يخنقه، ثم الجحيم صلوه قلبوه على جمرها ولهبها ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا سلاسل غاية في الحرارة فَاسْلُكُوهُأي انضموه فيها بأن تدخل في دبره فتخرج من فمه ويعلق فيها كالسيخ المشوي فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع فلو أنك تفكرت في حاله وقد دخلت سلسلة النار من دبره وخرجت من فمه فأصبح فيها معلقًا مسلوكًا منظومًا في السلسلة يشوى في النار فبئس العذاب والعقاب، نسأل الله السلامة والعافية وأن يعيذنا من هذ العذاب.
قال ابن كثير - رحمه الله -: "يأمر الله الزبانية أن تأخذه عنفًا من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي: تغمره فيها، قال الفضيل بن عياض: إذا قال الرب: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ابتدرته الملائكة يجعلون الغل في عنقه وقوله : ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32].
قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد الدنيا خذوه كلمة تصدر من العلي الأعلا فيبتدر الجنود المكلفون بتنفيذ الأمر من كل جانب، وقد روى ابن أبي حاتم - ورحمه الله - عن المنهال بن عمرو قال: "إذا قال الله تعالى: خُذُوهُابتدره سبعون ألف ملك، وإن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفًا في النار" [تفسير ابن كثير: 8/231]. فكل ملك من الملائكة هؤلاء عنده قدرة عظيمة جعلها الله فيه فيعذب الله بهؤلاء الملائكة أعداءه ثم الجحيم ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه وقد كانت ذراع واحدة تكفيه بالعذاب ولكن ذرعها سبعون ذراعًا وهو يضاعف حجمه كما سيأتينا في أحجام أهل النار إذا دخلوها كيف يكون كتف الواحد وعضُد الواحد وفخذ الواحد كيف تعظُم أجسامهم ليصلون العذاب وتصبح المساحات المعرضة للعذاب أكبر وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد مشدودين ومربوطين والأصفاد هي هذه الأغلال الأغلال في الأعناق؛ إذلال كما قال تعالى: أُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الرعد: 5]، وقال: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 33]. وقال: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71- 72].
ما هو الفرق بين السلاسل والأغلال.
قال ابن كثير - رحمه الله -: "إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ [غافر: 71]، أي متصلة بالأغلال.
وقال السعدي: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ أي: لا يستطعيون معها حركة والسلاسل التي يقرنون بها هم وشياطينهم"[تفسير السعدي: 742]، فالغل في هذا العنق والأصفاد والسلاسل والأغلال فهذا إنسان مسلسل ومقيد ومصفد ومربوط والسلاسل من النار فكيف يُلقون في النار؟ قال : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام فتأخذ الملائكة بالناصية وهو الشعر في مقدم الرأس هكذا يأخذونه أخذًا شديدًا مع الأقدام الناصية مع القدم ويقذفونه في النار فالملائكة مسؤولة عن إلقائهم.
قال ابن عباس : "يُجمع بين رأسه ورجليه ثم يقصف كما يقصف الحطب فكيف يلقى الحطب في وسط النار"، وقال الضحاك: "يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره، وقال: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره" [تفسير ابن كثير: 7/499].
يعني: ينكسر الفقار هذه السلسلة العظمية ثم يلقى في النار، يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه وأكثر لتشويهه وقيل تسحبهم الملائكة إلى النار سحبًا تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه هذا ليتنوع عليهم العذاب، وقال ابن عباس : "يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يُكسر الحطب في التنور وهذا الإلقاء يكون على وجهه؛ لأنه إذا قيل إذا رمي في النار هل يقع على ظهره أو يقع على وجهه قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90]، من جاء بالشرك والأعمال السيئة المنكرة، فجزاؤه أن يكبه الله على وجهه في النار يوم القيامة ويقال له توبيخًا: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ويلقى بعضهم فوق بعض يكون بعضهم على بعض قال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء: 94 - 95]، ومعنى: فكُبْكِبُوايعني ألقي بعضهم على بعض، فإذا انتهى الأمر نشرت أسبابه على الحشود وصارت الفضائح متعالية منشورة معروفة مكشوفة إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون عدم الحث على إطعام المساكين وأن يحض بعضنا بعضًا على هذا، وهذا من أسباب العذاب التوبيخ والتقريع من الملائكة عند الإلقاء في النار هذا نوع من العذاب من قبل خزنة جهنم من الزبانية بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي والتوبيخ على الأعمال ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم الواحد اليوم إذا نظر فيما يفعله اليهود وأهل الصليب وأهل الكفر والشرك بالمسلمين إذا رأى الواحد اليوم قصف الطائرات والمذابح إذا رأى كيف تلقى القنابل على الآمنين في أحيائهم وعلى الأسر في بيوتها وعلى الناس في مساكنهم قتلى وجرحى ومعطوبين ونشأ عن ذلك يتامى وأرامل وثكالى وعويل وصياح وألم نشأ عن ذلك تخريب بيوت وذهاب أموال وإفساد في الأرض وفناء الزرع نشأ عن ذلك تشويه الأجنة في بطون أمهاتها فيقول القائل يدفنون النفايات النووية في البر والبحر ويفسدون في الأرض ما هو عذابهم عندما يرى ما تفعله الطائرات الحربية اليهودية بسيارات المسلمين وهم فيها ليتحولوا إلى فحم هياكل بشرية متفحمة داخل هياكل حديدية لا شك أن هذا منظر مؤلم فتقول ما هو عذاب هؤلاء المجرمين هؤلاء الذين يطلقون القنابل ويقصفون المسلمين هؤلاء اليوم الذين يعذبون أهل السنة بالمناشير الكهربائية وبالمثقب الذي يثقبونهم به في أعضائهم وأجسامهم ورؤوسهم ما هو عذابهم لا بد أن نتصور ونحن نسمع الأخبار هذه الآيات فتقول الزبانية على وجه التقريع والتوبيخ وهؤلاء رؤوساء وضباط كبار وجنود عظام وجيوش وألوية لكن الموعد الآخرة فإن أهل الإيمان قد لا يقدرون على الانتقام في الدنيا ويبقون في ضعف والذين أخرجوا أصحاب الأخدود أخبر الله أنهم في النار يحترقون فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، فإذن صبرًا فإن الموعد الآخرة تقول الملائكة ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم يقيمون عليكم الحجج والبراهين وينذرونكم لقاء يومكم هذا يحذورنكم شر هذا اليوم فيعترف الكفار بذلك وهذه فائدة إقامة الحجة اليوم نحن نقيمها على الكفار بما نوصل إليهم من الدعوة مكتوبة مسموعة بما نعلنه من الحق وإبلاغ دعوة الرسل الرسل جاءت وأنذرت وأتباع الرسل بلّغوا ما قال الرسل فيعترف الكفار يوم القيامة بقولهم بلى أي قد جاؤونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وهذا اعتراف وليس باعتذار لأنهم لا يقدرون على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا ويقال لهم ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين قال وهب تستقبلهم الزبانية بمقامع من نار فيدفعونهم بمقامعهم فإنه ليقع في الدفعة الواحدة إلى النار بعدد ربيعة ومضر يعني عدد القبيلة الكبيرة وحال النار وهي تستقبل أهلها يقول تعالى إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقًا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير.
إذن، هنالك أصوات تصدرها النار قبل الدخول وأصوات داخل النار بعد أن يلقوا فيها إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا الشهيق الصوت الذي يخرج من الجوف يخرج بشدة وهي تفور تغلي بهم كغلي القدور تميز يعني تتقطع وتتفرق من شدة الغيظ عليهم غضبًا لله وانتقامًا له حتى جهنم تنتقم لله وتغضب لله، فهل جهنم تتكلم؟ نعم، وهل جهنم تنتقم نعم تنتقم لله، لها صوت؟ نعم، سمعوا لها شهيقًا وهي تفور تكاد تميز تتقطع تتفرق من الغيظ غيظ على هؤلاء الذين دخلوها فتتلقاهم بشهيق وهي تفور من الغيظ.
وإن مما يبين حالهم عند دخولها، وكيف يستقبلون لأننا الآن نتكلم عن بداية الجنة والنار في اليوم الآخر، فقلنا إن الكفار يسبحون إلى النار أولاً، ثم يضرب الصراط، فيأتي المؤمنون والعصاة أيضاً عصاة المؤمنون والمنافقون.
فإذًا، الآن في الترتيب دخول الكفار للنار أولاً الوجبة هذه تعجل إلى النار ليذوقوا العذاب؛ لأن ما قبلها أهون وإن مما يبين حال أهلها عند دخولها ما تستقبلهم بها وما يستقبلون به من قبل الزبانية خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ[الدخان: 47 - 49]، خذوه يا أيها الزبانية، فاعتلوه اسحبوا سحبًا وادفعوه دفعًا في ظهره إلى سواء الجحيم، يعني وسط الجحيم وسط النار، والعتل في اللغة: أن تأخذ بتلابيب الرجل فتعلته أي تجره إليك لتذهب به إلى حبس أو بلية فاعتلوه إلى أين إلى وسط النار وهو الجذب العنيف والدفع العنيف إلى وسط جهنم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم مثل قوله تعالى يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود.
وقد عُلم أن الملَك يضربه بمقمعة من حديد تفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه بعدما انفتح دماغه من الضربة فينزل في وسط البدن فيتخلله تخللاً إلى البطن والأمعاء حتى يمرق من كعبيه، ذق إنك أنت العزيز الكريم على وجه التهكم والتوبيخ يقال له ذلك، ولكنه ليس بعزيز ولا كريم.
فإذا دخل أهل النار النار لا تبقى أبوابها مفتوحة بل تغلق عليهم قال تعالى: والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة يعني مغلقة الأبواب، قد أُوصدت نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة يعني مغلقة قال مقاتل: "اطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد حتى يرجع عليهم غمها وحرها" [فتح القدير للشوكاني: 5/604]، يمكن لو بقيت الأبواب مفتحة لخرج شيء من اللفح إلى الخارج، لكن إذا أغلقت ارتد اللفح عليهم؛ لأن لها لهب وتلفح فكل هذا يرجع الآن وهي أصلاً حرها شديد حتى قالت النار اشتكت إلى ربها قالت أكل بعضي بعضًا، ولذلك أذن لها بنفسين في الشتاء وفي الصيف فإذا أغلقت الآن ما عاد لها نفس إلى الخارج مؤصدة فهي كسائر أبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ليدخلوها فإذا دخلوها أغلقت عليهم فهي أصلاً مغلقة إذا جاءوها فتحت أبوابها أدخلوا فيها وكبكبوا فيها وأغلقت عليهم مرة أخرى تمام المأساة أن الحياة في النار للكفرة يقول هؤلاء اليوم من الناس الذين لا يصلون ولا يركعون لله ولا يسجدون ولا يعرفون اتجاه القبلة ولا يصومون ولا يحجون، ربما بقي الواحد أربعين سنة في مكة لا يرى الكعبة!.
هؤلاء المستهزئين بالدين اليوم الذين يكتبون الكتابات في الصحف والجرائد في ذم الشريعة وأحكام الشريعة والاستهزاء بأهل الشريعة هؤلاء المنافقين الذين مردوا على النفاق الأكبر المخرج عن الملة هؤلاء يوم القيامة عذابهم شديد والمأساة العظيمة، الواحد منهم يعيش سبعين سنة في الدنيا وهو في لهو ولعب لا دين ولا خوف من الله ولا من عذابه ولا من عقابه ولا مبالي ولا يعمل من الدين بشيء هذا يوم القيامة إذا أدرك أن عذابه في النار مستمر ماله نهاية فكيف سيكون الحال وقد علمنا الغمسة الواحدة ماذا تعني؟.
قال تعالى عن قطعهم الأمل من الخروج من النار وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون وقال تعالى: إن جهنم كانت مرصادًا للطاغين مآبًا لابثين فيها أحقابًا دهورًا متطاولة وأزمنة متوالية وما هم منها بمخرجين فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابًا وتريدون مزيد في أنواع أخرى من العذاب ستأتي وآخر من شكله أزواج أنواع أخرى من العذاب قال عبد الله بن عمرو لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابًا فهل من أشد من هذا؟.
وقال : ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ [يونس: 52]، هذا ما له نهاية هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويقال لهم تبكيتًا وتقريعًا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[الطور: 14-16]، توسلات أهل النار كثيرة جداً رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون: 107] فيرد عليهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون: 108] رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا[السجدة: 12] فيقال ولكن حق القول مني لأملأن جهنم يتوسلون للخزنة وينادون يا مالك ليقض علينا ربك فيرد عليهم: إنكم ماكثون يقولون: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44]، فيقال لهم ردًا: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم: 44]، قلتم: إننا نهاية الحضارات وآخر حضارة في البشرية ونحن القوة العظمى في العالم، وأننا لن نزول وأننا أمة خالدة قالوا ذلك قالها كتاب أمريكا اليوم فيقول الله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ[إبراهيم: 44]، فقد زال ملككم وزالت دولتكم وزال سلطانكم وأنتم الآن خالدون في النار.
إن توسلات أهل النار ليست بصوت عادي؛ لأنهم يصرخون بل يصطرخون قال تعالى: وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل يجابون: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير وجاءكم محمد ﷺ وجاءكم القرآن وجاءتكم الدعاة وجاءكم الشيب جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير كم بين الطلب وبين الرد الله أعلم ويزداد الأمر سوءًا حينما يقطعون الأمل بالموت؛ لأن عندهم كان أمل أن يموتوا وينتهي العذاب بالفناء لكن لما يذبح الموت بين الجنة والنار ماذا سيحدث قال ﷺ: يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادي: يا أهل الجنة، فيشرئبون ويمدون أعناقهم وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه هم ماتوا في الدنيا كل واحد خرج من الدنيا ومات عرف الموت، فلما صوره الله وهو على كل شيء قدير ويصور الأشياء المعنوية بصورة أشكال حسية صور الموت، على هيأت كبش أملح فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار فيشرئبون وينظرون أي أمل أي فرج، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ ﷺ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [رواه البخاري: 4730، ومسلم: 2849].
وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا الآن وهم لا يؤمنون أكل وشرب يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام ولهو ولعب هذا حالهم أكل وشرب ولهو ولعب وملذات، والجنس المحرك الأول لهم الشهوات يسافرون للحرام للزنا والفواحش وإذا تفرجوا وإذا ذهبوا وخرجوا ورجعوا واستعمل الهاتف والهاتف المرئي وغيره وراء الشهوات يجرون، الذين كفروا يأكلون ويتمتعون لكن ماذا بعدها؟ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون.
وأهل النار يستغيثون، ذكر ابن أبي الدنيا - رحمه الله - في كتابه صفة النار عن محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، قال الله : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب فترد عليهم الخزنة قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر: 50]؟ قالوا: بلى فردت عليهم الخزنة قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 50]، ولما يئسوا مما عند الخزنة ونادوا يا مالك وهو عليهم وله مجلس في وسطها ويرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا ليقض علينا ربك وسألوا الموت فمكث عنهم لا يجيبهم ثم قال إنكم ماكثون فلما سمعوا ما سمعوا مما قبله قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون فهلموا فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر، فلما طال الأمر جزعوا فنادوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص فقام إبليس عند ذلك فخطبهم وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ[إبراهيم: 22] فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودوا لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فرد عليهم ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير، قال هذه واحدة فنادوا الثانية رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12]، فردّ عليهم ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [السجدة: 14]، يعني بما تركتم أن تعملوا به ليومكم هذا إنا نسيناكم يعني تركناكم والنسيان يأتي بمعنى الترك وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14]، فهذه اثنتان قال: فنادوا الثالثة: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44] فرد عليهم أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ [إبراهيم: 44 - 46]، اجتماعات مؤتمرات خطط تدبير حيل مكر الليل والنهار الآن يفعلونه بالمسلمين مكر الليل النهار على مستوى العالم على مستوى القارات يريدون أن يطفئوا نور الله يريدون كبت هذا الدين يريدون القضاء على دعوة الإسلام ولكن وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال قال هذه الثالثة ثم نادوا الرابعة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37]، فمكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ[المؤمنون: 105]، اليوم عندما تنتشر الدعوة في القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت نوع من إقامة الحجة على هؤلاء الكفرة وعندما يدرسون ديننا وعندما تحدث حادثة سب النبي ﷺ وتتطلع نفوس الغربيين والشرقيين إلى هذا النبي ما هو ومن هو وما هي رسالته ولماذا كل هذه الضجة وتؤخذ ترجمات القرآن وتنفذ من مكتبات العالم ويريد الناس في الأرض من الكفرة أن يقرؤوا عن الإسلام ويعرفوا ثم بعد ذلك لا يؤمنون.
وقد قامت الحجة عليهم ماذا ستكون النتيجة والله يقدر من الحوادث ما يلفت به أنظار العالم لدينه وأنت لو تأملت في الأحداث العظام من قريب وما حدث وما يحدث اليوم ستجد أنها أحداث وأقدار من الله تلفت أنظار العالم للدين وأنهم يسمعون بالمزيد والمزيد عن الإسلام ونبي الإسلام ﷺ لماذا لأن الله يريد إقامة الحجة.
وما يحدث بأيدي المسلمين من استثمار الأحداث للتعريف بالإسلام وإقامة الحجة على الأنام هذه هي ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون فلما سمعوا قالوا الآن يرحمنا ربنا قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون فعند ذلك لما انقطع الرجاء والدعاء وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعض وأطبقت عليهم هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
هذا بالنسبة للذين يسحبون إلى النار يسحب كل إنسان مع من كان يعبده فيتبع أهل الشمس الشمس، ويتبع أهل القمر القمر، ويتبع أهل الطواغيت الطواغيت، والأشجار والأحجار والأوثان وغير ذلك.
فإن قال قائل: فهنالك من المعبودين من كان مسلمًا موحدًا لا يرضى بأن يعبد كعيسى عبدوه ومنهم من عبد أنبياء وأولياء ومنهم من يعبد الحسن والحسين من دون الله ويدعو عليًا من دون الله فهؤلاء المشركون الكفرة ما ذنب الذين عبدوا وهم غير راضين فيقال الذي عبد وهو غير راض ناج لكن الذي عبد وهو راض مخلد معهم في العذاب فهم يحشرون أشركوا بالله وكفروا به لا توحيد ولا عبادة ولا إخلاص ولذلك مأواهم النار وأول من تسعر بهم النار من عصاة الموحدين المرائين الذين عملوا الأعمال يبتغون عليها أجرًا في الدنيا من تلاوة وصدقة وجهاد تعلم علم هذا تعلم ليقال فلان عالم وهذا أنفق ليقال فلان كريم وهذا قاتل ليقال فلان شجاع، وهذا وهذا وهذا من المرائين أنواع المرائين وستعرف بمشيئة الله تعالى أيضاً من يلقى في النار وأهل النفاق وإلقاؤهم في النار وما معنى قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71]، وكيف سيردها الموحدون وأهل الطاعة؛ لأن الله أخبر أنهم سيردون النار فما معنى سيردون؟ وما هو الورود المقصود بالآية وكيف سينجو المؤمنون من النار ما هي أبواب النار مقسمة على من خزنة النار صفاتهم تعاملهم مع أهلها وبعد ذلك كيف يساق المتقون إلى الجنة وماذا يقال لهم وحالهم عند دخولها وكيف يدخلونها وما هو نعيمهم عند الدخول كما أخبرنا الله عن عذاب الكفار عند دخول النار سيكون ذلك بمشيئة الله تعالى في الدرس القادم.
نسأل اللهأن يعيذنا من النار وأن يعتق رقابنا من النار وأن يصرف عنا عذاب جهنم، ونسأله أن يجعلنا من أهل الجنة بمنه وكرمه وفضله، وصلى الله على نبينا محمد