الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن حُلي أهل الجنة وأساورهم، وأن بعضها من الذهب، وبعضها من الفضة، وبعضها من اللؤلؤ، وأن هذه الحلي لها ضوء شديد، وأن لأهل الجنة أمشاطًا من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب.
وتكلمنا عن خدمهم، وأنهم في غاية النضارة والنعومة والجمال، وأنهم يطوفون عليهم في كل وقت بأشهى الأشربة والأطعمة، في أجمل الأكواب والأباريق، وهم معهم مخلدون لا يفنون ولا يبيدون، ولا يكبرون ولا يتغيرون.
وأن هؤلاء الخدم غلمان ولدان، وأنهم مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون.
وقد اختلف في هؤلاء الولدان، هل هم من ولدان الدنيا أم من ولدان الآخرة؟ أو أن الله أنشأهم في الجنة كما أنشأ الحور العين، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام -رحمه الله- وتلميذه ابن القيم: أن هؤلاء الولدان ليسوا من أهل الدنيا، وأن الله خلقهم خصيصًا لأهل الجنة كما خلق الحور العين، فالحور العين ليسوا من نساء الدنيا، وكذلك الولدان المخلدون.
وتحدثنا عن صفات أهل الجنة الخلقية والخلقية، وأنهم على صورة آدم ، وأنهم جرد مرد، مكحلون، وأنهم جميعًا في سن الثالثة والثلاثين، وأنهم لا يبأسون ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، ولا يهرمون ولا يسقمون ولا ينامون ولا يموتون.
وأن الجنة ما فيها نوم؛ لأن النوم فيه انقطاع عن النعيم، ولا يتعب أهل الجنة، حتى يحتاجوا إلى نوم وراحة.
وأن أهل الجنة مضيئون غاية الإضاءة، وغاية الإنارة، وأنهم يلهمون التسبيح لله -تعالى- بكرة وعشيًا، وأن الجنة ليس فيها شمس، وأن البكور والعشي يعرف بأنوار تأتي من جهة العرش، كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله-.
وبينا أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يبولون وأن الواحد منهم يعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع، وأن أجسام أهل الجنة تتناسب مع نعيم أهل الجنة، وملذات أهل الجنة، وأن هناك توافق بين رغبات الإنسان في الجنة النفسية، وبينما يحصل له في جنة من غير ما يحتاج إلى عناء أو تعب في حصول ما يريد، فإذا اشتهى الطير خر بين يديه مشويًا، وإذا اشتهى الثمر، فإن القطوف دانية.
وأوضحنا أن ثمار أهل الجنة غير منقوصة، فإذا أخذ واحد خرج مكانه آخر، وأنها لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولا تنقطع لا صيفًا ولا شتاء، كما في الدنيا وإنما هي دائمة عليهم، وأصلاً ليس في الجنة شمس ولا صيف، ولا زمهرير ولا حر ولا قر.
وذكرنا نبذة عن الحور العين، وأن الحوراء هي المرأة الشابة الحسنة الجميلة نقية اللون، بيضاء الجلد، شديدة بياض العين في شدة السواد، وأن صفاء البشرة، لون البشرة، وجمال العيون واتساعها، وأنهن مطهرات من الأنجاس والأقذار، وأنهن أتراب في السن متماثلات وأبكار كواعب، وأن من صفاتهن الخلقية: أنهن قاصرت الطرف، قانعات بأزواجهن، لا تمد إحداهن طرفها إلى غير زوجها، وأنهن عربًا متحببات إلى أزواجهن، طاهرات من كل الأخلاق الرديئة.
وتكلمنا عن النساء في الجنة أن لهن من النعيم مثلما للرجال، وأن المرأة التي ماتت قبل أن تتزوج في الدنيا، فإن الله يزوجها بما تقر به عينها في الجنة، وأن المرأة التي ماتت بعد زواجها، أو مات عن زوجها، فبقيت بعده لم تتزوج، حتى ماتت، فهي زوجته في الجنة، إن كان من أهل الجنة، وأما إن كان للمرأة أكثر من زوج في الدنيا، فإن من فارقها بطلاق وتزوجت بعده، أو مات وتزوجت بعده، فإن هذه المسألة للعلماء فيها أقوال منهم من قال: هي مع أحسنهم خلقًا، ومنهم من قال: تخير بين أزواجها، ولكن الأدلة على هذه القولين فيها ضعف، وأقوى الأقوال الثالث: أنها تكون لآخرهم في الدنيا، ولذلك زوجات النبي ﷺ ممنوع أن يتزوجن بعده؛ لأن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، فلذلك هن زوجاته في الجنة، فلم يتزوجن بعده، ولذلك رفضت أم الدرداء: أن تتزوج من معاوية، وعدد من الصالحات كذلك.
وعلى أية حال: ليس معنى هذا: أن المرأة لا تتزوج بعد زوجها في الدنيا، فهي تتزوج، فإن الله أحل لها ذلك، ولكن كمسألة علمية: المرأة لآخر أزواجها على الراجح.
وتكلمنا بأن نساء الجنة من أهل الدنيا أفضل من الحور العين، بصلاتها وصيامها وجهادها لنفسها، وأنها قد تعبت في طاعة الله، ولذلك فأجرها أكبر من التي لم تعص أصلاً، وليس عندها شهوة تغالبها وتكابدها، وأن العبادات التي في الدنيا اختيارية، فلما سلكت طريق الطاعة باختيارها، فأجرها أعظم من الحور العين في الجنة.
إلحاق ذرية المؤمن به في الجنة
ومن تتمة الكلام على نعيم الجنة، ماذا يحدث لذرية المؤمن في الجنة؟
ملائكة الرحمن تدعو الله للمؤمنين فتقول: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [غافر: 8]. وأخبر تعالى أنه منَّ على عباده من أهل الجنة، فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ يعني ما أنقصناهم من عملهم من شيء: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ[الطور: 21].
ومعنى هذا: أن المؤمنين بالله حق الإيمان، وذريتهم تتبعهم على النهج القويم، والصراط المستقيم، سيلحقون بآبائهم في الجنة، ويكون الجميع سواسية، وإن قصر عمل الأبناء عن عمل الآباء، وذلك إكرامًا لآبائهم، وقرة عين لهم، دون أن ينقص الآباء من الأجر شيئًا، فليس الأب الذي سينزل إلى مستوى الولد، ولكن الولد الذي سيرفع إلى درجة أبيه، ويجتمعون في الدرجة العالية لتقر الأعين بالاجتماع، وقد روي عن ابن عباس معنى الآية: "إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه".
وفي راوية أخرى عنه: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقربهم عينه" [الأحكام الشرعية الكبرى، أبو محمد عبد الحق الإشبيلي: 4/213، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2490].
وقال ابن مسعود : في هذه الآية:" الرجل يكون له القدم -يعني قدم الصدق، وقدم السبق في الإسلام، والجهاد والعلم، والهجرة، أو الصحبة- ويكون له الذرية، فيدخل الجنة، فيرفعون إليه، لتقر بهم عينه، وإن لم يبلغوا ذلك" [حادي الأرواح، ص: 281].
المقصود بالذرية التي تلحق المؤمن في الجنة
لكن اختلف المفسرون: ما المقصود بالذرية؟ هل يدخل فيهم البالغون الكبار أم الذرية هم الصغار؟ لأن الكبار لهم أعمالهم الخاصة بهم، الذرية الصغار الذين لا أحكام ثواب وعقاب عليهم؟
قال بعض العلماء: الكبار يدخلون، شاركوا آباءهم في أصل الإيمان، وإن تقاصر عملهم عن بلوغ منزلة آبائهم.
وقال بعض العلماء: المراد بالذرية هنا الصغار؛ لأن الكبار لهم أعمالهم الخاصة، ولهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب، ولا يتبعون الآباء في شيء من أحكام الدنيا، ولا أحكام الثواب والعقاب، لاستقلالهم بأنفسهم.
يعني لو الآن فيه واحد كافر له ولد مؤمن، الولد هذا بلغ، وهو مؤمن، وعمل على الإسلام، حتى في الدنيا حكمه حكم نفسه، وليس حكمه حكم أبيه، لكن أبناء وبنات المشركين الصغار يلحقون بأحكام آبائهم في الدنيا، فلو مات -مثلاً- ولد كافر صغير: هل يدفن في مقبرة المسلمين وإلا في مقبرة الكفار؟
يلحقون بآبائهم في الدنيا.
فالكبار لا يلحقون بآبائهم، حتى في أحكام الدنيا، ولذلك قال بعض العلماء: إن المقصود بالذرية الصغار؛ لأن الكبار لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب، والكبار لا يتبعون آباءهم في شيء من أحكام الدنيا، ولا في شيء من أحكام الثواب والعقاب، لاستقلالهم بأنفسهم.
والقول بأن الذرية هم المقصودون، هذا هو الأرجح؛ لأن أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم، وأولاد التابعين البالغون كلهم في درجة آبائهم، وهلم جرًا إلى يوم القيامة، فهذا يؤدي إلى إلحاق كل الآخرين بالأولين، قال ابن القيم-رحمه الله-: "واختصاص الذرية ههنا بالصغار أظهر لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات، ولا يلزم مثل هذا في الصغار، فإن أطفال كل رجل وذريته معه في درجته -والله أعلم-" [حادي الأرواح، ص: 281].
لكن ماذا بالنسبة لأطفال المسلمين والمشركين، إذا كان أطفال من دخل الجنة من المؤمنين يلحقون به في الجنة، فما مصير باقي أطفال الناس من المسلمين والمشركين؟
أطفال المسلمين الذين ماتوا صغارا في الجنة
أما أطفال المسلمين الذين يموتون وهم صغار، فقول العلماء: إنهم في الجنة، بل نقل الإمام النووي-رحمه الله- إجماع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين في الجنة[انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 9/9].
لأنه يولد على الفطرة في دار الإسلام، ومن أبوين مسلمين، فسوف يموت عليه، ومن مات وهو دون سن التكليف: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة: 286]لا يحاسبه الله ، وهو دون سن التكليف.
فحديثنا على الأطفال الذين يموتون وهم صغار، ما هو مصيرهم؟
فيه عندنا أطفال للمسلمين، وأطفال للمشركين، فيه أطفال للمشركين ماتوا في القصف، ماتوا في انهيارات، في قصف، في زلازل -مثلاً-، وأهلهم مشركون، يشركون بالله، يشركون قبورا، أضرحة، يشركون أصناما، أوثانا، أندادا من المشركين، ما حال هؤلاء الأطفال؟
البحث هنا، فهؤلاء، إما أن يكونوا أطفالًا آباؤهم من المسلمين موحدين، أو يكون آباؤهم من المشركين، إما أن يكونوا هؤلاء أطفال مسلمين، أو أطفال ناس من المشركين.
أما أطفال المسلمين -فذكرنا-: أن المسألة فيهم واضحة: أنهم في الجنة؛ لأن أباه مسلم، وأمه مسلمة، وهو مات قبل سن البلوغ: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286].
إذًا، هذا مصيره في الجنة.
وأما حديث عائشة: الله أعلم بما كانوا عاملين إن الله قد خلق الجنة، وخلق لها أهلاً، ولها يعملون، وخلق النار، وخلق لها أهلاً، ولها يعملون.
فالجواب عنه: أن النبي ﷺ لم يعترض على عائشة -رضي الله عنها- في أنها قالت: إن أطفال المسلمين في الجنة، ولكن اعترض على الإطلاق العام والتعيين، فهذا الإطلاق يفهم منه: أن كل معين يموت من أطفال المسلمين يقال في الجنة بصيغة الجزم، والصحيح غير ذلك، الصحيح أن يقال: أطفال المسلمين في الجنة بالجملة، كالشهداء، نقول في الجنة في الجملة، لكن ما تذهب أنت إلى قتيل، تقول: هذا شهيد في الجنة، لا تعين، وإنما تقول بالعموم إن الشهداء في الجنة.
هذا شهيد أو لا، هذا شيء ما ندري على أي شيء مات، وما هو الباعث له على القتال، وهل كان حب الله ورسوله والشهادة في سبيله، أو كان قتال ليقال: فلان جرئ، فلان شجاع، قاتل للغنائم، قاتل مكرهًا، قاتل دفاعًا عن عصبية عن قومه، ما ندري، لكن نقول عمومًا: الشهداء في الجنة.
لكن ما نأتي إلى فلان، نقول: هذا شهيد في الجنة، إلى جنات النعيم، انتقل إلى رحمة الله -تعالى- ما ندري، ممكن انتقل إلى غضب الله -تعالى- ممكن انتقل إلى عذابه، ولذاك ما تجزم، ولا تقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ[الفجر: 27]ما أدراك أن نفسه مطمئنة، وأنها سترجع راضية مرضية، يمكن ترجع مسخوط عليها، فلا تعين، المصير إلى الله.
نحن في الدنيا لنا أحكام الظاهر، واحد مات في المعركة من المسلمين ندفنه بثيابه، وما تجب الصلاة عليه، هذا نعامله معاملة الشهيد في الدنيا، أما تقول: هذا في الجنة، هذا الآن روحه تسرح في حواصل طير خضر، هذا لا نستطيعه، ولا يجوز لنا، الله أعلم به.
وكذلك الذي لم يمت في المعركة بين مسلمين وكفار، ولكن مات بمرض، نغسله، ونكفنه، ونصلي عليه.
أحكام المسلم في الدنيا، أحكام شهيد المعركة، أحكام الميت في غير المعركة، يعطى كل واحد حكمه، الكافر لا نغسله، ولا نصلي عليه، بل نواريه في التراب، جاء علي بن أبي طالب إلى النبي ﷺ قال: يا رسول الله أن عمك الشيخ الضال قد مات؟ -ماذا أعمل؟ الآن أبوه -أبو طالب- مات على الشرك؟ ماذا أعمل؟- قال: اذهب فواره[رواه أبو داود: 3216، والنسائي:2006، وأحمد: 1093، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل: 717].
فالكافر يدفن، كما دفن قتلى بدر من الكفار، فنعطي كل واحد حكمه في الدنيا، ومصائرهم في الآخرة إلى الله ، ولا نحكم لمعين، إلا من حكم له الشرع.
فيقال: إن إنكار النبي ﷺ- على عائشة، هو من باب التعيين، أنها عينت، وأن الصحيح أن يقال: أطفال المسلمين في الجنة، لكن ما تعين شخصا بعينه.
-طبعًا- هذه قضية مهمة جداً: أن مصائر العباد في الآخرة إلى الله، ما أحد يتحكم، لا أنا ولا أنت، ولا هو، ولا أي شخص، في مصير شخص، يوم القيامة، جزاؤهم عند ربهم: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ[المؤمنون: 117].
ونحن لنا الظاهر نعامله عليه، يعني في عندنا أحكام، في عندنا أحكام ميراث، وأحكام دفن، وأحكام ..، سنجري أحكامهم على الظاهر، وأما مآلهم ومصيرهم في النهاية عند الله، يعلمه .
ومما يدل على أن أطفال المسلمين في الجنة، ما رواه البخاري من حديث أنس قال: قال النبي ﷺ: ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث، لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة، بفضل رحمته إياهم[البخاري: 1248].
فمن يكون سببًا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يحجب هو عن النار أيضاً؛ لأنه أصل الرحمة وسببها؛ لأنه قال في الحديث: إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم يعني رحمة الله لهؤلاء الأطفال، فلما مات لهم ثلاث أولاد صغار قبل البلوغ، رحمة الله للأطفال الصغار شملت الأب، ولذلك أدخله الله الجنة.
-طبعًا- هذا أيضاً على العموم، فما تأتي لواحد مات له ثلاثة أولاد صغار، تقول: مبروك!خلاص الجنة! ما تجزم له!.
وأيضاً من قواعد أهل السنة والجماعة في الثواب والعقاب: أنه مشروط بتحقق الشرط وانتفاء المانع -مثلاً- من الشروط: التوحيد، إذا كان مشرك لو مات له عشرين ولد، هو في النار! كذلك: انتفاء الموانع في موانع تمنع من دخول الجنة، وفي شروط لا بدّ منها لدخول الجنة، فإذا ما في شرط فقد شرط، أو وجد مانع، ما تستطيع تطبق هنا الثواب والعقاب، هنا اختلت القضية.
وقد جاءت نصوص صريحة في إدخال ذرية المؤمنين الجنة؛ فمن ذلك: حديث علي مرفوعًا عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند: إن المسلمين وأولادهم في الجنة [رواه أحمد:1131، وهو في سلسلة الأحاديثة الضعيفة، للألباني: 5791].
وحديث البراء قال: لما توفي إبراهيم قال رسول الله ﷺ: إن له مرضعًا في الجنة[رواه البخاري: 1382].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه -أو قال أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا -أي طرفه - فلا يتناهى -أو قال: فلا ينتهى- حتى يدخله الله وأباه الجنة[رواه مسلم: 6870].
دعاميص جمع دعموص، وهو دويبة تكون في الماء لا تفارقه.
والمقصود: دعاميص الجنة يعني هؤلاء الصغار يلازمون الجنة لا يفارقونها.
وروى أحمد-رحمه الله- وغيره عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: ذراري المسلمين في الجنة، يكفلهم إبراهيم [رواه أحمد: 8307، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1467].
وروى الحاكم عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: أَوْلاَدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[رواه الحاكم:1418، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ" وصححه الألباني] يسلم كل واحد ولده الذي مات، خذ هذا ولدك.
إذًا، هو في كفالة إبراهيم.
فهذا العزاء لمن مات له ولد في الصغر، يقال له: تريده في كفالة إبراهيم الخليل وإلا في كفالتك يبقى في الدنيا؟
مصير أطفال المشركين في الآخرة
أما أطفال المشركين، فقد وقع خلاف شديد عند العلماء.
أطفال المسلمين تقريبًا أمرهم محسوم، لكن أطفال المشركين اختلف فيهم على أقوال، فقال بعضهم:أطفال المشركين في الجنة، وقالوا: هؤلاء على الفطرة، والأصل: كل مولود يولد على الفطرة[رواه البخاري: 1385]وأنهم لم يفعلوا ما يؤاخذون به، ولا ما يعذبون عليه، وأن ما يليق بعدل الله -تعالى- أن هؤلاء إلى الجنة.
وكذلك احتجوا برواية البخاري السالفة الذكر التي وردت في حديث إبراهيم: أن فيها أيضاً ذراري المشركين، في رواية.
ثم اختلف الذين قالوا: إن أطفال المشركين في الجنة على قولين: هل أطفال المشركين في الجنة مثل أطفال المسلمين؟ يعني ينعمون ويخدمون، و.. أو أنهم في الجنة، لكن ليسوا بمنزلة أطفال المسلمين، فالذين قالوا يدخلون الجنة، ولكن ليسوا بمنزلة أطفال المسلمين، احتجوا بحديث أنس عن النبي ﷺقال: أولاد المشركون خدم أهل الجنة[رواه الطبراني في الأوسط: 2972، وضعفه عدد من العلماء، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2586].
واحتج أصحاب القول الأول -القائلين بأن أطفال المشركين في الجنة أيضاً- بما روى أحمد عن النبي ﷺ أنه قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد يعني الموؤد في الجنة[رواه أبو داود: 2523، وأحمد:20602، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2276].
فقالوا: جعل المولود والوئيد، مع الشهيد.. فهذا يشمل سواء كان ذكر أو أنثى، ما دام غير بالغ صغير.
مولود -طبعًا- مولود يموت عند الولادة -مثلاً- في الولادة، فهذا يشمل الكافر والمسلم.
القول الثاني: أنهم في النار، ذهب إليه الخوارج، فيه بعض أقوال تروى عن بعض أهل السنة في هذا أيضًا، طيب بأي شيء احتجوا بحديث: يا رسول الله ذراري المشركين؟ قال: من آبائهم قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين[رواه أبو داود: 4714، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: 4712].
لكن أنت ترى أنه ما فيه جزم أنهم في النار، قال: ذراري المشركين من آبائهم طيب: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين يعني هؤلاء لو كبروا ماذا كان عملهم هل كانوا سيسلمون أو كانوا سيبقون على الكفر.
ولذلك القول الثالث الذي ذهب إليه جماعة من السلف، هو منسوب للإمام أحمد-رحمه الله-: التوقف في الحكم على أطفال المشركين، فلا نقول: لا في الجنة ولا في النار.
وليس معنى هذا: أنهم لا يدخلون الجنة ولا يدخلون النار، أو في منزلة بين منزلتين، لكن نحن لا ندري، يعني الله أعلم، ما عندنا فيهم حكم.واحتج هؤلاء بحديث البخاري ومسلم: أن رسول الله ﷺ سئل عمن يموت وهو صغير، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين[رواه البخاري: 6600، ومسلم: 6935].
هذا الحديث المروي في الصحيحين، احتج به الذين قالوا: نتوقف، ما ندري، الله يعلم، هذا لو كبر ماذا كان سيعمل.
القول الرابع: أن أطفال المشركين يمتحنون يوم القيامة، ويعطون إرادة كاملة، واختيار كامل، وتمييز كامل، فإن نجحوا في الاختبار دخلوا الجنة، وإن سقطوا دخلوا النار، واحتجوا بحديث أبي سعيد: أن النبي ﷺ قال: يؤتى بالهالك في الفترة، والمعتوه، والمولودـ، فيقول الهالك في الفترةالفترةيعني التي فترت فيها النبوة توقفت، يعني فترة ما فيها نبي، بين نبيين ما فيها نبي، وقت بين نبيين ما فيها نبي، فيقول الهالك في الفترة يعني عند الله، عند الحساب، يقول: لم يأتني كتاب ولا رسول مات ما سمع لا بنبي ولا برسول، ويقول المعتوه: أي رب لم تجعل به عقلاً اعقل به خيرًا ولا شرًا، المجنون المعتوه هذا يعني يقول: أحاسب على .. ما كان عندي عقل أصلاً، ويقول المولود: لم أدرك العمل يعني مت وأنا صغير قبل التكليف، قال: فيرفع لهم نار، فيقال لهم: ردوها، هذا الاختبار، يرفع لهم نار، ويقال: قعوا فيها، ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، يعني الذي لو كان كبر وعمل صالحًا ومات على الإيمان، سيختار الدخول، نار الاختبار، والذي جرى في علم الله أنه لو كان كبر كان عمل شرًا، مات على الكفر، فسيختار الامتناع، وعدم، والعصيان، ولن يدخل تلك النار، نار الاختبار، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا أن لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى: ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا أن لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى: إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب[رواه البزار "محمع الزوائد ومنبع الفوائد": 11938، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2468].
يعني الآن أنا عصيتموني وقد أمرتكم مباشرة، كيف لو أرسلت لكم رسول واسطة؟ ماذا كنتم ستفعلون؟
يوضح هذا أيضاً رواية أحمد وأبي يعلى: أن رسول الله ﷺ قال: أربعة يوم القيامة يعني يحتجون يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق، فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر لأنه جرت العادة أن الصبيان يتلاعبون بالمجانين، يخذفونهم بالبعر! يؤذونهم!.
وأما الهرم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه -فيأخذ مواثيقهم يوم القيامة، الميثاق المؤكد المغلظ إذا أمرتكم ستطعون أيًا ما كان الأمر- فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها [رواه أحمد:16344، وذكره الألباني في الصحيح الجامع: 883].
حديث الامتحان، بمجموع طرقه، يمكن أن يقال: إنها حسنة، يشد بعضها بعضًا.
وقالوا: إن الامتحان والابتلاء ليس خاصًا بهذه الحياة الدنيا، فإن الإنسان يمتحن في البرزخ، فيقال: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟
ويوم القيامة في امتحانات، ومنها: أن الله يتجلى لعباده في صورة غير صورته، فالمؤمنون يقول: لست ربنا، نعرف ربنا [انظر الحديث: رواه مسلم: 469].
ما رأوه قبل ذلك؟
فيقال: يعرفونه بأسمائه وصفاته.
فإذا جاء هؤلاء، مثل المجانين، والأطفال، ونحو هؤلاء، الذين ماتوا الآن في أدغال أفريقيا، وإلا في قطب متجمد، ما سمع عن نبي، ولا رسول،ولا قرأ كتابا، ولا ترجمة مصحف، ولا أحد بلغه، ولا في دعاة جاؤوه، ولا رأى قنوات تلفزيونية فيها عرض صحيح للإسلام؛ فهؤلاء كلهم الذين ماتوا ما مصيرهم؟
الله لا يظلم، يمتحنون يوم القيامة، هو امتحان واحد، من أطاع يدخل الجنة، من عصى يدخل النار، ونبقى على قاعدة: الله أعلم بما كانوا عاملين يعني الله أعلم لو جاءهم رسول في الدنيا، هل كانوا سيطيعون وإلا كانوا سيعصون، فالله أعلم بهم، وهو يحاسبهم.
وقوله: الله أعلم بما كانوا عاملين لا يتنافى مع القول بالامتحان، يعني امتحان يوم القيامة يظهر علم الله المخبوء الذي لا نعرفه الآن، فامتحان هؤلاء يوم القيامة هو إظهار لعلم الله الخفي، الآن ما نعرف، هذا لو الآن هذا مات ما سمع عن رسول، مات، طيب هذا لو كان علم، لو جاءه رسوله، ماذا كان فعل؟ فامتحانهم يوم القيامة مطابق في النتيجة لعلم الله السابق عنهم، لو جاءهم رسول، ماذا كان سيعملون؟
والقول: بأن أطفال المشركين يمتحنون يوم القيامة، هو الذي رجحه شيخ الإسلام -رحمه الله-، وتلميذه ابن القيم، وكذلك ابن كثير، وابن حجر، وجمع من العلماء المحققين[انظر: جامع المسائل: 3/235، وإعلام الموقعين: 4/272- 273، وشرح النووي على صحيح مسلم:16/208].
الحمل والولادة في الجنة
وتبعًا لقضية الذرية هل في الجنة حمل وولادة أم لا؟
فهذا أيضاً من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم، فقال بعضهم: إذا تمنى العبد في الجنة الولد، فإن الله يحقق أمنيته بذلك، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي[رواه الترمذي: 2563، وابن ماجه: 4338، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 3500].
والمقصود: حمله يعني حمل الولد، وسنه يعني ثلاثة وثلاثين سنة.
وكما يشتهي يعني ذكر أو أنثى، ونحو ذلك.
وعلى هذا القول كثير من أهل العلم، قالوا: لو أراد سيكون.
وقال بعض العلماء: إنه ليس في الجنة ولادة، وروي عن طاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي، وقال البخاري: وقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي ﷺ قال: إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد وهذا الحديث إسناده ضعيف مسلسل بالمجاهيل، والمرجع -طبعًا- إلى قواعد علم الحديث، والجرح والتعديل، وإن قال بعض الأكابر والفضلاء قال: "عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة، ما ينادي على صحته" هذا حديث أبي رزين العقيلي الطويل، وهذا جزء منه، لكن المرجع في النهاية إلى قواعد الحديث.
والحديث صريح في انتفاء الولادة، ومال إلى هذا القول، يعني أنه لا توالد، ابن القيم-رحمه الله-.
وأجابوا على حديث: المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه كذا.
فقالوا:
أولاً: هذا حديث في ثبوته نظر؛ لأن الترمذي-رحمه الله تعالى- روى الحديث، لكن كما قال ابن القيم-رحمه الله-: "إسناده على شرط الصحيح، ولكنه غريب جداً" قال: "وحديث أبي سعيد هذا أجود أسانيده إسناد الترمذي، وقد حكم بغرابته" يعني أن الترمذي أشار إلى غرابة الحديث، وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجي، وقد اضطرب لفظه، فتارة يروى عنه: "إذا اشتهى الولد"، وتارة: "أنه ليشتهي الولد"، وتارة: "أن الرجل من أهل الجنة ليولد له"، فالله أعلم.
وقال إسحاق بن راهوية: في حديث النبي ﷺ: إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة واحدة كما يشتهي ولكن لا يشتهي.
فإذًا، الذين قالوا: إن الجنة ما فيها توالد، بماذا أجابوا عن حديث الترمذي؟
إما بتضعيفه، وإما بأن حملوه على ماذا؟
قالوا: إذا لو اشتهى سيكون حمله وسنه ووضعه وسنهوكذا .. وصفاته في ساعة واحدة، هذا لو اشتهى، لكن لا يشتهي.
وذكروا أدلة أخرى أدلة عقلية أخرى، ولا داعي للتطويل فيها هنا.
وهذه المسائل لو ما عرفنا جوابها، لو جاء واحد، وقال: هل في الجنة في توالد؟ هل ممكن واحد يولد له؟ هل كذا؟
افرض ما عرفنا جوابها هل يضرنا ذلك؟
لا، ما يضرنا ذلك.
والمسائل إذا ما كان فيها أدلة واضحة، فالمنهج السكوت عنه، الله أعلم، نرد العلم إلى الله، لكن يبقى بعض الناس يتساءلون، تخطر خواطر في النفس: فيه كذا ..؟ فيه كذا..؟
أمنيات أهل الجنة
ولذلك لعلنا نمر بنقاط الموضوع: التعامل مع أسئلة الأطفال عن الجنة، لو قال لك: هل الجنة فيها أيسكريم؟ الجنة فيها كذا؟ الجنة فيها كذا؟ ماذا تقول؟ ما هو موقفك؟
فسنأتي على هذا -إن شاء الله-.
لكن جوابه أين؟
جوابه في هذه المسألة تحديدًا في قضية تحقيق أمنيات أهل الجنة في الجنة، يتمنى بعض أهل الجنة أماني تتحقق على نحو عجيب، لا تشبه حال ما يحدث في الدنيا، وقد حدثنا النبي ﷺ عن ذلك، فمن هذا الحديث الصحيح الذي في البخاري: أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال" [رواه البخاري: 2348].
كل هذا في أقل من طرف العين.
ومن الأدلة على أن العبد إذا تمنى شيئًا في الجنة حققه الله له، حديث مسلم: إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمن؟ فيتمنى ويتمنى، فيقول له هل: تمنيت؟ فيقول: نعم، فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه[رواه مسلم: 471].
لكن ماذا سيتمنى؟
نحن ما نعرف الآن.
إذا في واحد دخل الجنة، ماذا ستكون أمنياته هناك؟
الله أعلم، فلا تستطيع أن تحكم الآن على الأمنيات التي ستكون لأهل الجنة إذا دخلوها؛ لأننا ذكرنا أن أهل الجنة إذا دخلوا تغيرت صفاتهم وأجسادهم ونفوسهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [الحجر: 47] في تغيرات كاملة.
وماذا ستكون الأمنيات؟
الله أعلم بها.
وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة في قصة آخر أهل النار دخولاً الجنة، قال: ثم يأذن له في دخول الجنة، فيقول: تمن؟ فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته، قال الله : تمن كذا وكذا أقبل يذكره ربه-هذه كان ناسيها، من هذه.. فيقول له: وأتمنى كذا، وأعيش كذا، يقول له: طيب وهذه، يقول: وأتمنى من هذه؟ يذكره ربه، حتى إذا انتهت به الأماني، قال الله -تعالى-: لك ذلك ومثله معهضِعف.
قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة -رضى الله عنهما-: إن رسول الله ﷺ قال: قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله ﷺ إلا قوله لك ذلك ومثله معه قال أبو سعيد إني سمعته يقول ذلك لك وعشرة أمثاله[رواه البخاري: 806].
تسبيح وتكبير أهل الجنة
من نعيم أهل الجنة: التسبيح والتكبير، وحيث أن الجنة دار جزاء وإنعام، وليست دار تكليف واختبار، فإن التسبيح فيها، ما فيه تعب؛ لأن الإنسان الآن في الدنيا، لو قيل له: سبح ألف مرة، بعد مدة يتعب، يتوقف من التعب، قال علي بن أبي طالب: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل" [ذكره البخاري في صحيحه -رحمه الله-، باب في الأمل وطوله: 8/110].
وورد في صفة أهل الجنة في حديث البخاري: يسبحون الله بكرة وعشيًا[رواه البخاري: 3245، و3246] فهل هذا من باب التكليف؟
الجواب: كلا، بل هو من باب النعيم، فإذا كان أعظم النعيم: رؤية الله -تعالى-، والذي بعده: رضوان الله الذي يحل عليهم، والذي بعده: بقية نعيم الجنة، لكن أعلى نعيم: رؤية الله، ثم رضوانه الذي يحل عليهم، ثم نعيم أهل الجنة الباقي، القصور والحور، فالآن التسبيح هذا من النعيم، ولذلك بين لنا أنه لا تعب فيه، فقال النبي ﷺ- في حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه: يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس[رواه مسلم: 7331].
ووجه التشبيه: أننا في حال النفس لا نتعب، ولا كلفة فيه، ولا بدّ منه، فجعل تنفسهم تسبيحًا.
وسبب هذا: أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب -تعالى-، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره[انظر: فتح الباري: 6/326].
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- مبينًا أن التسبيح والتكبير من ألوان النعيم في الجنة: "هذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل من النعيم الذي تتنعم به الأنفس، وتتلذذ به"[مجموع الفتاوى: 4/330].
وقال ابن رجب -رحمه الله-: "فأعلى نعيمهم هناك رؤية الله ومشاهدته وقربه ورضاه، وتحصل لهم بذلك نهاية المعرفة به، والأنس، ويتزايد هنالك لذة ذكره على ما كان في الدنيا" -يعني لذة الذكر في الجنة أكبر من لذة الذكر في الدنيا- قال: "، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، وتصير كلمة التوحيد لهم كالماء البارد لأهل الدنيا" [شرح حديث لبيك، لابن رجب، ص: 17].
قال ابن عيينة -رحمه الله-: "لا إله إلا الله، لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا"[جامع العلوم والحكم، ص: 299].
سوق أهل الجنة
ومن نعيم أهل الجنة: أن لهم سوقًا يجتمعون فيه، كما أن للناس في الدنيا أسواقًا يجتمعون فيها، ويتبادلون المنافع، كذلك لأهل الجنة سوق يذهبون إليه، ولكن أسواق الدنيا غالبًا ما يكون فيها جلبة وصياح وضوضاء، ومشاحنات ومشاجرات، وبيع على بيع أخيه، وسوم على سوم أخيه، وشراء على شراء أخيه، وسباب وشتم وزعيق، وصخب، وسخب، صخاب بالأسواق، لكن نعيم الجنة في هذا السوق يختلف تمامًا، فإنهم يجتمعون في هذا السوق كل جمعة، ويتذاكرون الدنيا، ويحمدون الله على ما أنعم عليهم في الجنة، وما هم فيه من النعيم، ويذكرون فضل الله عليهم بالأجر العظيم.
والدليل على سوق الجنة هذا، ما رواه مسلم-رحمه الله تعالى- عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً-لأن الريح في الدنيا تحثو من الغبار والأتربة، لكن هناك -بينا- في أرض الجنة، تربتها المسك والزعفران، فإذا الريح هبت حثت عليهم؛ مسكًا وزعفرانًا، ولذلك قال-: فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم، وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم-لأن الأهل النساء في البيت- فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً[رواه مسلم: 7324].
إذًا، النساء في البيوت يزددن حسنًا وجمالاً، والرجال في السوق يزدادون حسنًا وجمالاً.
المقصود بسوق أهل الجنة
والمراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون فيه.
وقوله: يأتونها كل جمعةهل في الجنة أيام: سبت، وأحد، وإثنين، وثلاثاء، وجمعة، وكذا ..؟
فقال بعض العلماء: بما أن ما فيها شمس، فما فيها أيام، وما فيها ليل ونهار مثل الدنيا، فما فيها أيام.
إذًا، ما معنى: كل جمعة؟
يعني قالوا: في الزمن، يعني مدة الأسبوع كل جمعة يعني كل أسبوع، فنحن الآن نسمي الأسبوع في الدنيا: جمعة، نقول: جمعة، جمعتين، ثلاث جمع -مثلاً-، نسمى الأسبوع، من باب تسمية الشيء بجزء منه، أو ببعضه، أنت تصلي تسمي -مثلاً- تسميها: ركعة، مع أنه فيها قيام وسجود وقعود، من باب تسمية الشيء بجزء منه، أو ببعضه، كذلك تسمية الأسبوع، يعني مدة الأسبوع هذا، المدة هذه، أربعة وعشرين ساعة في سبعة، المدة هذه، نحن نطلق الآن على الأسبوع: جمعة، نقول: مرت جمعة، مرت جمعتين.
وكذلك ممكن يطلق عليها: سبت، يعني على الأسبوع، ولذلك ورد في حديث: المطر في المدينة على عهد النبي ﷺ: فلم نر الشمس سبتًا[رواه مسلم: 2115]يعني أسبوعا كاملا، مطر غزير، وغيوم، تحجب الشمس.
فقوله: يأتون كل جمعة يعني كل أسبوع إذا مرت مدة أسبوع يجتمعون، كل أسبوع في اجتماع، في سوق الجنة.
وريح الشمال، هي التي تأتي من دبر القبلة، هذا هنا، قال القاضي -رحمه الله-: "وخص ريح الجنة بالشمال؛ لأنها ريح المطر عند العرب كانت تهب من جهة الشام، وبها يأتي سحاب المطر، وكانوا يرجون السحابة الشامية، وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح: المثيرة، أي المحركة؛ لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة، وغيره من نعيمها" [شرح النووي لمسلم: 9/215].
وروى عبد الله بن المبارك عن أنس بن مالك قال: "يقول أهل الجنة: انطلقوا إلى السوق، فينطلقون إلى كثبان المسك، فإذا رجعوا إلى أزواجهم، قالوا: إنا لنجد ريحًا ما كانت لكُن، فيقلن: لقد رجعتم بريح ما كانت لكم".
إذًا، ماذا يقول الرجال إذا رجعوا إلى أزواجهم: "إنا لنجد لكن ريحًا ما كنت لكن، فيقلن: لقد رجعتم بريح ما كانت لكم إذ خرجتم من عندنا" [رواه ابن أبي الدنيا موقفًا بإسناد جيد، وابن المبارك في الزهد، ص: 70، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3753].
حوارات وأحاديث أهل الجنة
هل هناك حوارات وأحاديث تدور بين أهل الجنة؟
الجواب: نعم تجري حوارات كثيرة.
حوار أهل الجنة مع رب العالمين:
فأما حوار أهل الجنة مع رب العالمين، فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي ﷺ قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا[رواه البخاري: 6549، و7518، مسلم: 7318].
هذا الدليل على أن رضوان الله أعظم من الحور العين، والقصور والأشجار، والثمار والحلل، والخمر، واللبن، والعسل.
وأعلى من الرضوان: رؤية وجه الله.
-فقد جاء في- حديث صهيب عن النبي ﷺ قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألا تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ[يونس: 26] [رواه مسلم: 467].
فمن أسماء الجنة: الحسنى، والزيادة في النظر إلى وجه الرب .
هذا الحديث الصحيح الذي رواه مسلم -رحمه الله- يبين ويذكر حوارًا بين ربنا -تعالى- وبين أهل الجنة.
وقد جاء في حديث آخر حوار آخر أهل الجنة مع ربه-تبارك وتعالى-، حوارًا يضحك منه الرب ، -كما تقدم معنا- في حديث ابن مسعود .
حوار أهل الجنة مع بعضهم البعض:
وأما حوارات أهل الجنة فيما بينهم، فإنهم يتزاورون ويجتمعون ويتحدثون متكئين على السرر، متقابلين، كل مقبل على الآخر بوجهه، بقلوب صافية، وأحاديث جميلة، ليس فيها لغو ولا تأثيم، ولا كذب، ولا كلمات نابية، فهم يتحادثون ويتذاكرون.
ومن ضمن الأشياء: يتذاكرون ما كان في الدنيا، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ[الحجر: 47].
وقال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[الواقعة: 25 - 26].
وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور: 25 - 26].
فهم الآن يتكلمون عن حالهم التي كانوا عليها في الدنيا: أنهم كانوا مشفقين من الله، خائفين منه، يخشون عقابه، ولذلك أورثهم خوفه جنته: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ[الطور: 26 - 28].
يتذكر بعض أهل الجنة في الجنة أنه كان له صاحب قرين سوء، يزين له الكفر في الدنيا، ويدعوه إلى باب من أبواب النار، فيتذكر هذا، فيريد أن يعرف الآن أين هو؟
فيكشف الله له موقع قرين السوء الذي كان يزين له الشر، لكن هذا عصاه، وما أطاعه وخالفه، ودخل الجنة، وذاك استمر على تكذيبه وعناده، ودخل النار، فيكشف الله لهذا الشخص من أهل الجنة، موقع قرينه في الدنيا الذي كان يزين له الشر، وهو في النار، لماذا؟
يراه في عذاب، لتعظم النعمة في نفسه، أنه نجا، والآن هو يراه الآن في عذاب، ولو أنه أطاعه لصار مثله.
قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ[الصافات: 50 - 53] يعني محاسبون، خلاص إذا بليت العظام انتهت، كما قال أحد الآباء الملاحدة لولده، قال: يا ولدي ما في داعي تتعب نفسك! يرى ولده على عبادة وطاعة وخير، قال: ما في داعي تتعب نفسك! قال: خايف يطلع ما في شيء! هذه كلمة تنبأ عن التكذيب؛ لأن مجرد الشك في يوم البعث كفر، أخاف يطلع ما في شيء! قال: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ هذا الصالح في الجنة اطلع فَرَآهُ رأى قرين السوء: فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ يخاطبه: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات: 51 - 61].
إذًا، بين تعالى أن أهل الجنة يجتمعون، وأنهم يتحدثون، ويتجاذبون الكلام، وأطراف الحديث، وأن أحدهم يتذكر صاحبًا له كان يأمره بالمعاصي، وينكر البعث، فينادي مناد: هل تريد أن تعرف حال صاحبك؟ فيكشف له عن مكانه، فيراه وقد استقر في قلب الجحيم: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ[الصافات: 55]وسط جهنم.
وأخرج ابن المبارك عن حميد بن هلال قال: "بلغنا أن أهل الجنة يزور الأعلى الأسفل، ولا يزور الأسفل الأعلى" وسنده صحيح إلى حميد بن هلال[الزهد، لابن المبارك: 2/68، وصفة الجنة، لابن أبي الدنيا، ص: 197].
حوار أهل الجنة مع أهل النار:
وأما الحديث والحوار مع أهل النار مباشرة، كلام، حوار من الطرفين، فبعد أن يدخل أهل الجنة الجنة، ينادون خصومهم من الكفار، أهل النار، مؤنبين موبخين، ليزدادوا عذابًا: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا[الأعراف: 44].
فإذًا، في كلام مباشر سيصدر من أهل الجنة إلى أهل النار، الذين كانوا يعرفونهم في الدنيا، يعني -مثلاً- أبو بكر كان يدعو أبا جهل -مثلاً-، وهذا في الجنة، وهذا أصر ومات على الكفر، ففي النار، أبو بكر كان يقول لأبي جهل -مثلاً-: خف الله، ويوم البعث، يوم القيامة، كذا، والجنة، وكذا، كان يكذب، ويصر على التكذيب، وهذا يقول: الله وعدنا الجنة، وعد الذين يكذبون النار، هذا ما في شيء، يستطيع ربك أن يبعث هذا؟ يأخذ عظم يفته؟ يستطيع ربك أن يبعث هذا؟ ينكر فيوم القيامة سيناديه من الجنة في مكانه، وذاك في النار في مكانه: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44].
لقد كان الكفار في الدنيا يخاصمون المؤمنين، ويسخرون منهم، ويستهزئون بهم، فإذا جاء يوم القيامة انقلبت الأحوال، وإذا دخلوا الجنة هؤلاء، ودخلوا هؤلاء النار، نظر المؤمنين إلى المجرمين، فضحكوا منهم، وسخروا بهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَفي الدنيا: وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ الكفار: انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ رأى الكفار المؤمنين في الدنيا:قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: 29 - 34].
لكن الضحك أين؟
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين: 35]ينظرون إلى وجه الله، وينظرون ماذا فعل الله بأعدائهم.
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[المطففين: 36].
نعم، لقد جوزي الكفار بعملهم، وانتقم الله منهم.
الجنة درجات، وهي منازل ومراتب، وهذا موضوع آخر مما في الجنة، وكما أن من مقتضى عدل الله أن لا يسوي بين المسلم والكافر، والبر والفاجر، فكذلك يفاوت سبحانه بين المؤمنين وبين الكفار، بين المؤمنين في الجنة، الجنة درجات، وبين الكفار في النار، والنار دركات؛ لأن المؤمنين قد تفاوتوا في أعمالهم وطاعاتهم، فتفاوت جزائهم، وحسابهم، بناءً على ذلك، ولهذا جعل الله: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا [الأحقاف: 19].
وجعل بينهم من الفروق ما لا يعلمها إلا هو، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم في الجنة، يعني أدنى واحد في الجنة، يكون قانع جداً، ومسرور وراض بما أعطاه الله، وما عنده في نفسه أي حسرة، فيقول: فلان عنده أكثر مما عندي؟!وأنا؟!
ما في هذا أبداً؛ لأن هذا لو كان موجودًا لكان من أنواع العذاب النفسي، والجنة ما فيها عذاب، فالذي اجتهد أكثر، وجاهد أكثر، وتعلم أكثر، وعلم أكثر، وصلى أكثر، وصام أكثر، وذكر أكثر، وتلا أكثر، هذا لا بدّ أن يكون ثوابه أكثر، فوق، قال : انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء: 21]في الدنيا مراتب: هذا رقيب، وهذا عقيد، وهذا موظف، وهذا تاجر كبير، وهذا رجل أعمال صغير، وهذا موظف كبير، وهذا موظف صغير: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍويقسم الله الرزق كيف يشاء، قال مذكرًا عباده: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً[الإسراء: 21].
فكما فضلنا بعضهم على بعض في الدنيا، فإنه في الآخرة سيفضل بعضهم على بعض، بتفاضل أكبر، وتكون لكل درجات أكبر، كل بحسب عمله؛ كما قال : وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى[طـه: 75].
فينزل المؤمنون في الجنة، بحسب أعمالهم.
درجات الجنة والمسافات بينها
كم عدد درجات الجنة؟
ورد في بعض الأحاديث: أن في الجنة مائة درجة، كما قال ﷺ: إن في الجنة مائة درجة ولكن هل هذه كل درجة في الجنة؟ هي في مائة؟ يوجد مائة، في مائة درجة في الجنة، لكن هل هي مائة فقط؟
قال القرطبي -رحمه الله-: "ولا يظن من هذا أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد، بل هي أكثر من ذلك، ولا يعلم حصرها وعددها إلا الله -تعالى-: ألا ترى أنه قال في الحديث الآخر: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها[رواه الترمذي: 2914، وأحمد: 6799، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 8122].
والقرآن -طبعًا- ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، وهذا كان يقرأ، وكم مرة قرأه، وفي واحد يحفظ مائة، وواحد يحفظ ألف آية، واحد يحفظ القرآن كله، فهذا يدل على أن في الجنة درجات على عدد آي القرآن!.
"فإذا اجتمعت للإنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن، جمعت له تلك الدرجات كلها، وهكذا كلما زادت أعماله زادت درجاته" [الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج: 4/475].
وقيل: إن درجاتها الكبار مائة، وفي ضمن كل درجة منها درجات صغار كثيرة[انظر: فيض القدير، المناوي: 3/476].
ودرجات الجنة متفاوتة فيما بينها، فبين كل درجة ودرجة مسافة هائلة؛ كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة الحديث .. ثم قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، أراه فوقه عرش الرحمن، ومنهيعني الفردوس وليس للعرش: ومنه تفجر أنهار الجنة[رواه البخاري: 2790].
أنهار الجنة، كما ورد في الحديث عدة، ومنها: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان[رواه مسلم: 7340 ].
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا سعيد من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنةفعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها عليّ يا رسول الله؟ ففعل، ثم قال: وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله[رواه مسلم: 4987].
وفي بعض الأحاديث ورد: أن بين الدرجتين مائة عام.
فإذًا، فيه أحاديث: فيها أن بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، وأحاديث: أن بين الدرجتين مسيرة مائة عام، وهذا قد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام[رواه الترمذي: 2529، وقال : "حسن غريب"، وأحمد: 2721، وصححه الألباني لغيره، كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3710].
فكيف يكون الجمع بين الروايات؟
الجواب: أن اختلاف التقدير راجع لاختلاف السير في السرعة والبطء على ما قال بعضهم، والتفاوت بين درجات الجنة تفاوت حقيقي، فهي درجات مثل طبقات السماء، وكل درجة، يعني هي أعلى حسيًا، وأعلى معنويًا، يعني ما فيها من الحور أجمل، ومن الفرش أجمل، ومن العسل والخمر ألذ، ومن الحور العين أشهى، وهكذا..
فإذًا، اختلاف درجات الجنة، فيه اختلاف النعيم بحسب الدرجات.
ودرجات الجنة العالية بعيدة الأفق عالية المكان، ينظرها الناظر من تحتها كأنها نجم يتلألأ في السماء، فقد قال ﷺ: إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما[رواه الترمذي: 3658، وابن ماجه: 96، وأحمد: 11222، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح الترمذي: 2892، وفي صحيح ابن ماجه: 93].
أعلى درجات الجنة
أعلى درجات الجنة: الفردوس، وفوقه مباشرة عرش الرحمن، فليس بين الفردوس وعرش الرحمن شيء، كما قال ﷺ: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه -من الفردو، أعلى درجة- تفجر أنهار الجنة[رواه البخاري: 2790، 7423].
وجاء في حديث أم حارثة: أنها أتت رسول الله ﷺ وقد قتل ولدها في المعركة، في يوم بدر أصابه سهم غرب -يعني لا يدرى من راميه- فقالت: يا رسول الله قد علمت موقع حارثة من قلبي؟ -ابني عزيز عليّ، أنت تعرف مكانته في نفسي-، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإلا سوف ترى ما أصنع-، إذا ما كان في الجنة، فقال لها: هبلتِ؟ أجنت واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى[رواه البخاري: 6567].
هذا التفاوت لأهل الجنة في الدرجات، بحسب أعمالهم من الإيمان والعمل الصالح، وهو معيار التفاضل عند الله، ولا يستوي من اجتهد واستقام ممن قصر وفرط، وعصى، حتى لو دخل الجنة بعفو الله، أو خرج من النار من عصاة الموحدين، ودخل الجنة، فلن يكون هؤلاء سواء، وقد بين تعالى التفاوت فقال: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[التوبة: 19]-طبعًا- هذه من أعمال البر: سقاية الحاج، وبناء المسجد، وصيانة المسجد الحرام، ونظافة المسجد الحرام، قال: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[التوبة: 19- 22].
-طبعًا- إذا واحد اشتغل بسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وهو مشرك، ما له شيء أبدًا، لكن لو واحد مسلم، لكن مشتغل بأعمال خدمة الحجاج، وواحد ثاني مشتغل بالجهاد في سبيل الله: أيهما أعظم مشقة وأجرًا؟
والمهاجر الذي هاجر، وترك بلده ووطنه وأهله وبيته وماله، لله هاجر، تغرب لله، هاجر، هذا مثل الذي قعد في بلده، حتى لو عمل أعمالاً صالحة.
هذا التفاوت يشير إليه قوله تعالى أيضًا: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء: 95] حتى يعني في جهاد النافلة، الجهاد قد يكون واجبًا، قد يكون فرض عين، قد يكون فرض كفاية، وقد يكون سنة مستحبة، ولذلك ذكروا يعني أن المسلمين، وإن كانوا في عزة وقوة ومنعة، وأقاموا دولة الإسلام، وأنها أرجاء الأرض، قالوا: مع ذلك يبقى مستحب لإمام المسلمين في كل فترة أن يرسل سرايا وبعوث لفضل الجهاد، يعني ولو كان نافلة، ولو ما في أعداء هاجموا، ولو في، كلما أمكن فتحه من بلاد فتح في سبيل الله، وزال الطواغيت الكبار، وزالت العوائق، وانتشر الإسلام في الأرض، يبقى، لو وجد مجال لفضله وأجره ومرتبة الشهادة فيه.
فإذًا وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[النساء: 95 - 96].
تفاوت درجات أهل الجنة
وهذا التفاوت ليس خاصًا، يعني بين من جاهد وبين من لم يجاهد فقط، الأنبياء والرسل في تفاوت بينهم، قال الله -تعالى-: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة: 253]محمد ﷺ الوسيلة، والمنزلة العالية، التي له في الجنة، وليست لأحد إلا له، فوق الجميع، فوق كل الأنبياء، فيفاوت الله بينهم بحسب أعمالهم ومنازلهم.
وقال النبي ﷺ: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري يعني النجم الشديد الإضاءة في السماء، يعني في الدرجة الأدنى يرون من فوقهم، ما هم يعني مثل ما نرى واحد الآن -مثلاً- في عمارة يرى -مثلاً- الدور الأول يرى الدور الثاني، أو العاشر: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب الغابر، البعيد، مثل النجم شديد الإضاءة، بعيد، قال: لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين[رواه البخاري: 3256، ومسلم: 7322].
إذًا، هذه الدرجات العلى ليست خاصة بالأنبياء، فيها الشهداء والصالحين والصديقين والعلماء.
أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم
وأعلى أهل الجنة منزلة، هم النبيون بلا خلاف، وأعلاهم منزلة محمد ﷺ، ثم الصديقون والشهداء والصالحون، ثم يأتي بعدهم الناس في الدرجات، إلى أن يكون أدناهم منزلة، أدنى أهل الجنة منزلة، من يخرج من النار بعد عذاب على كبائره وصغائره، آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً إليها، قال ابن القيم-رحمه الله-: "أعلاهم منزلة سيد ولد آدم-صلوات الله وسلامه عليه-، قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة: 253].
قال مجاهد وغيره: مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُهو موسى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍهو محمد ﷺ" [حادي الأرواح، ص: 104].
وفي حديث الإسراء المتفق على صحته: أن النبي ﷺ لما جاوز موسى، قال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحدًا، ثم علا فوق ذلك مما لا يعلمه إلا الله، حتى جاوز سدرة المنتهى ﷺ.
وقال النبي ﷺ: إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو -طبعًا- قال: أرجو تواضعًا فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة[رواه مسلم: 875].
وقد جاء في صحيح مسلم بيان أدنى أهل الجنة منزلة، وجاء الحديث إلينا، وفيه رواية لحديث بين موسى وربه، قال محمد ﷺ: سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم -ما لي مكان؟ أكيد، أنها مليانة، ما في مكان-، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقال: رضيت ربي، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، قال في الخامسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذة عينك، فيقول: رضيت رب، قال موسى الذي سأل عن أدنى أهل الجنة منزلة: رب فأعلاهم منزلة؟ -إذا هذا أدنى واحد، إذًا ما حال أعلاهم منزلة؟- قال الله لموسى: أولئك الذين أردتُ، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر قال النبي ﷺ: ومصداقه في كتاب الله : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ[السجدة: 17].[رواه مسلم: 485].
وهذا الحديث قد جاء مبينًا في الرجل الذي سبق حديثه، ويوجد مختصرًا في الصحيحين، ومطولاً عند ابن أبي الدنيا، والطبراني، والحاكم، وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، قِيَامًا أَرْبَعِينَ سَنَةً، شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ -ثم ذكر إعطاءهم النور، ومروهم على الصراط، إلى أن ذكر آخر رجل ممن يعبر الصراط-: يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، تَخِرُّ رِجْلُ، وَتَعْلَقُ رِجْلٌ، وَيُصِيبُ جَوَانُبَهُ النَّارُ، فَلا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَخْلُصَ، فَإِذَا خَلَصَ وَقَفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا أَنْ نَجَّانِي مِنْهَا بَعْدَ إِذْ رَأَيْتُهَا.
قَالَ: فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى غَدِيرٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُ فَيَعُودُ إِلَيْهِ رِيحُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَلْوَانِهُمْ، فَيَرَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ خِلالِ الْبَابِ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَتَسْأَلُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ نَجِّيتُكَ مِنَ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابًا، لا أَسْمَعُ حَسِيسَهَا-صوت وما أدخل، ما أتحمل-: قال: فيدخل الجنة، قَالَ:"فَيَرَى أَوْ يُرْفَعُ لَهُ مَنْزِلٌ أَمَامَ ذَلِكَ كَأَنَّمَا هُوَ فِيهِ إِلَيْهِ حُلْمٌ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمَنْزِلَ، فَيَقُولُ لَهُ: فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسْأَلُ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ وهكذا تتكرر حتى يسكت، فَيَقُولُ اللَّهُ : مَا لَكَ لا تَسْأَلُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ سَأَلْتُكَ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُكَ، وَأَقْسَمْتُ لَكَ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَلَمْ تَرْضَ أَنْ أُعْطِيَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقْتُهَا إِلَى يَوْمِ أَفْنَيْتُهَا وَعَشَرَةَ أَضْعَافِهِ؟ فَيَقُولُ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَيَضْحَكُ الرَّبُّ مِنْ قَوْلِهِ -عبد الله بن مسعود لما بلغ هذا الموضع من الحديث ضحك، وسألوه، فقال النبي ﷺ: ضحك؛ لأن الله ضحك، ضحك الرب حقيقي يليق بجلاله وعظمته، فيقول الرب -جل ذكره- لهذا الرجل: لا أهزأ بك- وَلَكِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ، سَلْ، فَيَقُولُ: أَلْحِقْنِي بِالنَّاسِ، فَيَقُولُ: الْحَقِ النَّاسَ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ يَرْمُلُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ النَّاسِ رُفِعَ لَهُ قَصْرٌ مِنْ دُرَّةٍ فَيَخِرُّ سَاجِدًا، فَيُقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ مَا لَكَ؟ فَيَقُولُ: رَأَيْتُ رَبِّي أَوْ تَرَاءَى لِي رَبِّي فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِكَ، قَالَ: ثُمَّ يَلْقَى رَجُلا فَيَتَهَيَّأُ لِلسُّجُودِ لَهُ فَيُقَالَ لَهُ: مَهْ، مَا لَكَ؟ فَيَقُولُ: رَأَيْتُ أَنَّكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ مِنْ خُزَّانِكَ، عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكَيعني مما يعطى من العبيد، ومن الغلمان المخلدين [رواه البخاي: 6573، ومسلم: 469، مختصرا، وذكره مطولا ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، ص: 32، رقم: 29، والطبراني: 8/306، رقم: 9647، والحاكم: 8751، وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3704].
وهكذا إلى آخر الحديث: يبين أن هذا الذي دخل الجنة عشرة أمثال نعيم الدنيا، من يوم خلقها الله إلى أن أفناها. هذا أدنى واحد.
سنكمل الموضوع -بمشيئة الله تعالى- في الدرس القادم.
ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يدخلنا الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأن يجعلنا في الفردوس الأعلى، وأن يعافينا من النار، ويعتق رقابنا منها، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد.