الأربعاء 16 شوّال 1445 هـ :: 24 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

32- أحوال الكفار يوم القيامة


عناصر المادة
حال الكفار يوم يقوم الأشهاد
الذلة التي تغشى الكفار
الكفار لا تنفعهم أعمالهم يوم القيامة
مصير أعمال الكفار
شروط قبول الأعمال الصالحة
الصداقات تنقلب إلى عداوات

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فسبق الحديث في يوم القيامة عن المؤمنين، وأحوال أهل الإيمان، والأعمال الصالحة، وما أعد الله لهم من الأمن من الخوف، والظل من الحر، وما أعد لهم من طمأنينة النفس من الفزع، وما أعد لهم من الوقاية من أنواع العذاب التي تكون في ذلك اليوم والكروب وكيف أن أعمالهم الصالحة تُنقذهم في تلك المواقف العصيبة يوم الدين.

حال الكفار يوم يقوم الأشهاد

00:00:53

الطرف المقابل هم الكفار، فما هي حالهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد؟
إن لهم أحوالاً وأهوالاً قبل النار، قبل أن يؤمر بهم إلى مثواهم الأخير وبذلك نعلم أن القبر ليس هو المثوى الأخير، وأن الذين يقولونه اليوم أن فلان شُيع إلى مثواه الأخير كذب؛ لأن القبر ليس هو المثوى الأخير، وأن المثوى الأخير إما الجنة وإما النار.
فقبل أن يُدخل هؤلاء النار سيكون لهم من أنواع العذاب والتعرض للأهوال في ذلك اليوم وتلك المواقف العظيمة العصيبة ما يكون، ها هي الساعة قد جاءت وقال تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]، اضمحل كل باطل وظهر موعود الله -تعالى-، وأفاق الخلق من سكرة الغفلة والهوى والعناد، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق: 22].
ألا قاتل الله تلك الغفلات كم ألهت عن الحق وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ[الأنبياء: 97]، ما هو الوعد الحق؟ يوم القيامة، ترى الأبصار شاخصة لا تطرف من الفزع والهول لا تطرف عين، ولا تلتقي الأجفان ولا تنطبق، لماذا؟ لأن ما يشد العين من الأهوال عظيم، قلاقل مفضعة إنه يوم الويل والثبور والندم والحسرة يوم يقولون: كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا، مستغرقين في أنواع اللهو واللعب في الدنيا مشغولين في ذلك، كنا في سكرتنا انتبهنا اليوم، أتانا اليقين ووردنا القيامة، وجئنا على الله، وجاء الحساب، ونُصبت الموازين، فيعترفون بأنهم ظلموا أنفسهم بل كنا ظالمين، روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي منادٍ، يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه، فيُذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39] [رواه البخاري: 4730، ومسلم: 2849] ، -ما هي الغفلة؟ غفلة أهل الدنيا-، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47].
لقد جاء الله لفصل القضاء، فبدا من عظمته وجلاله وغضبه؛ لأن الأنبياء يقولون كل واحد يأتونه البشر للشفاعة، يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله [رواه البخاري: 3340، ومسلم: 194] بدا لهؤلاء الكفار غضب الله -تعالى- تبدت أنواع العذاب، لقد جيء بجهنم، قد دنت الشمس، لقد غرق هؤلاء في الغرق، عندما يرون العذاب الذي هم فيه، والمآل الذي هو أشد، وسيقدمون عليه، يتمنى كل واحد منهم أن يفتدي بما في الأرض -لو معه كل ملأ الأرض ذهباً- يقدمه فداء عن النار لفعل، ولكن ليس معهم شيء مفاليس، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر: 47].


شيء ما خطر لهم ببال، ولا دار في خلد أحدهم من قبل، الآن فوجئوا مفاجأة تامة وبدا لهم من غضبه تعالى وعذابه وجلاله وعظمته، ومشاهد هذا العذاب أشياء ما كانوا يتوقعونها.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: يقول الله -تبارك وتعالى- لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا، أنا ما طلبت منك ملأ الأرض ذهباً أردت منك أهون من هذا، وأنت في صُلب آدم أن لا تشرك، ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك [رواه البخاري: 3334، ومسلم: 2805].
وفي صحيح مسلم: وذلك قول الله -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91].
يا عدو الله هذا الكفار مالك اليوم من فداء بل أنت فداء للمؤمن، أنت الآن تأخذ مكان المؤمن في النار، وهو سيأخذ مكانك في الجنة لو كنت موحداً، وهذا يوم التغابن، قال رسول الله ﷺ: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً، أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار [رواه مسلم: 2767].
الفكاك الخلاص والفداء، هذا رواه مسلم عن أبي موسى مرفوعاً، وفي رواية في المسند: يقول أبو بردة الذي يروي الحديث عن أبيه عن أبي موسى الأشعري: "استحلفني عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو أسمعت أبا موسى يذكره عن رسول الله ﷺ؟ قال: قلت نعم، فسُر بذلك عُمر" [رواه أحمد: 19615].
لأن الحديث فيه بشارة للمؤمن أنه سيُعطى كل واحد يهودي أو نصراني يقال: هذا فكاكك من النار، طبعاً هناك من أهل الكبائر ومن العصاة من يعذبهم الله بالنار، لكن الخلود لا يخلدون، الخلود للكفار، وليس الفداء هذا خاص باليهود والنصارى بل كل المشركين سيدخلون في عملية الفكاك هذه، قال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة دُفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل، ولاحظ كلمة أهل الملل: بوذي، هندوسي، سيخي، أي ملة غير الإسلام، إذا كان يوم القيامة دُفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل فقال له: هذا فداءك من النار [رواه أحمد: 19685، وقال محققو المسند: حديث صحيح].
وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: إن هذه الأمة مرحومة عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دُفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين، فيقال: هذا فداءك من النار [رواه ابن ماجه: 4292، وصححه الألباني صحيح ابن ماجة: 3464].


ما معنى الحديث؟ قال النووي: "لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار". [شرح مسلم للنووي: 9/85]، أي شخص في العالم، أي شخص خلقه الله له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذ دخل الجنة من  الذي سيأخذ مكانه في النار؟ الكافر، والكافر إذ دخل النار من الذي سيأخذ مكانه في الجنة؟ المؤمن، وهذا يوم التغابن، فالفكاك جعل الله لكل من الجنة  والنار عدد يملئها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم أي دخلوا النار وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين، طبعاً من المسلمين من يدخل النار ويُعذب ثم يخرج، فمكانه في النار سيفنى يضع الجبار فيها قدمه، ومقعد المسلم الذي دخل الجنة مقعده في النار سيعطاه الكافر.

الذلة التي تغشى الكفار

00:11:11

قال تعالى عن الذلة والهوان التي تصيبهم وتحل بهم: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 27]، ترهقهم تغشاهم، والذلة معروفة لا يدفعها عنهم دافع، وتسري لتكون ذلة باطنة، فهي في الوجه سواد فهي على هيئتهم ظُلمة وهم خاشعين من الذُل، في غاية الهوان  فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ۝ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ۝ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 42-44].
اليوم يستعلون بعظمتهم بأسلحتهم، ويتباهون بقوتهم، ويخرجون في مؤتمراتهم الصُحفية ليعلنوا عن انتصاراتهم ومنجزاتهم وهيمنتهم، هؤلاء كلهم سيكونون يوم القيامة إذا ماتوا على الكفر في غاية الذل والهوان، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ، الآن في الدنيا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ  [محمد: 12].
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [الزخرف: 83] في العقائد الفاسدة، في الباطل، في المعاصي، في المنكرات، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف : 83]، فيعاقبون بالنكال والوبال، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [المعارج: 43]، يجيبون دعوة الداعي من القبور يخرجون كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ إلى علم، إلى شاخصيُوفِضُونَ يسرعون ويأمون كأنهم متجهين إلى مكان واحد، إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43]، إلى أرض المحشر فلا يتمكنون من الاستعصاء للداعي ولا اللتواء لنداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام بين يدي رب العالمين خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ قد تملكهم القلق تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ انقطعت أصواتهم ذلك المآل الذي كانوا يوعدونه من قبل، وقال تعالى في آية أخرى:خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:43]، فكم أعرضوا عن التوحيد في الدنيا، كم أعرضوا عن الإسلام؟ كم أعرضوا عن الصلاة؟ كم أعرضوا عن السجود لله وهم قادرون عليه في الدنيا؟ ويؤمرون به فلا يصلون، اليوم يتمنون لو كانوا يستطيعون لكنهم لا يستطيعون، فقد جعل الله ظهر الواحد منهم طبقاً واحداً، ويا حسرة الفوت وذلة العاجز؛ لأن هذا الشخص الذي صار ظهره غير قابل للإنحناء ولا جسده قابل للإنثاء إذا أرد أن يسجد خر على قفاه، أهل الظل يُنعمون في الظل وهؤلاء في الحرور، والعرق يلجمهم، والشمس فوق رؤوسهم، زال العز الكاذب عنهم، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة: 29]، وبانت ذلتهم الدائمة، وظهر هوانهم بين الأشهاد وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18]، يعني إذا الله أهان شخص فما له من مكرم، من الذي سيكرمه، إن الله يفعل ما يشاء، بل سيكون الاستهانة به يوم القيامة حتى بالألفاظ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[الدخان:49]، ولا عزيز ولا كريم لكن يقال له ذلك من باب الإهانة والتوبيخ والإذلال، يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، في الشكل رجال والحجم نمل، يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، الصورة صورة رجل والحجم حجم نمله، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، هذا سجن في النار داخل النار فيه سجن، هي نفسها سجن إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ [الهمزة: 8]، لكن داخل السجن فيه سجن اسمه بولس تعلوهم نار الأنيار يُسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال، رواه الترمذي وقال حسن صحيح وحسنه الألباني. [رواه الترمذي: 2492، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب: 2911]، يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرصغاراً وحقارة، يصغر حجم الواحد منهم في صور الرجال من جهة الوجوه يغشاهم الذل يأتيهم من كل مكان، ومن كل جانب، يطأهم أهل المحشر بأقدامهم، الذر النمل الأحمر الصغير واحدها ذرة يسقون يُجرون ويسبحون إلى سجن مظلم ضيق تعلوهم وتحيط بهم وتغشاهم كما يعلو الغريق الماء، يغشاهم نار الأنيار، نار معروفة، والأنيار قالوا: الأنيار جمع نار، نيران وأنيار، ولأن أصل أنوار من الواو نار تُجمع على أنيار، جمع النار على أنيار وأصلها أنوار لأنها من الواو كما جاء في ريح وعيد الرياح وأعياد، وهما من الواو من الأصل أصلها الكلمة واوي، فنار النيران نار الأنيار، أضيفت هذه الإضافة للمبالغة كأن هذه النار لفرط إحراقها وشدة حرها تفعل بسائر النيران ما تفعل النار بغيرها، يعني هل تخيلت ناراً تُحرق النار، هذه نار الأنيار، نار تُحرق النيران، كما تحرق النار الأشياء الأخرى هذه النار تحرق النيران، هذه نار الأنيار الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [الأعلى: 12]، ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جنهم، نار الأنيار هذه أصل النيران، ويُسقون من عصارة أهل النار ما يسيل منهم من الصديد والقيح والدم، طينة الخبال، الخبال في الأفعال والأبدان والعقول، صورهم صور الإنسان وجثتهم كجثة الذر، يُساقون إلى هذا السجن في حقار وصغار، يعيدهم بعد إخراجهم من قبورهم على هذا الوصف ويجعلهم في هذه الصورة إهانة وتذليلاً لهم ثم تحيط بهم نار الأنيار،

روى البخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة مثالاً في إذلال الكافر يوم القيامة في عملية تغيير الشكل وليس فقط الحجم، أولئك على صور الرجال في حجم النمل في كفار يتغير شكلهم بالكلية، قال عليه الصلاة والسلام: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبره، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا ربي إنك وعدتني أن لا تُخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد هذا، فيقول الله -تعالى-: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ مُلتطخ [البخاري: 3350]، الذيخ: الذكر من الضباع وهو من أقبح الحيوانات منظراً، فيمسخ الله آزر يحول آزر إلى ضبع حقير مهين ملتطخ متسخ قذر حتى لا يبقى لإبراهيم تعلق بأبيه عاطفي صار شكله الآن لا يمكن أن يتعاطف الإنسان مع شكل كهذا، فينظر فإذا بذيخ ملتطخ فيؤخذ بقوائمه فيقلى في النار، هذا واحد آزر، والحديث يؤكد أن اسمه آزر وعلى وجهه قترة وغبرة كما جاء في القرآن: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس: 41]، تراب على سواد، غبرة من التراب، وقترة من السواد، الذي يكون من دخان النار، كآبة وذل، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول: اليوم لا أعصيك، وفي رواية: فقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال: لكني لا أعصيك واحدة [النسائي في الكبرى: 11375]، فالآن آزر مستعد للطاعة، مستعد أن لا يعصي ولا معصية واحدة، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91]، الآن بعد فوات الأوان مستعد أن تطيع ولا تعصي ولا مرة، ومن أول ما كان عندك استعداد أن تطيع ولا مرة، ولا أن تقبل الدخول في التوحيد، فما أغنت آلهتك التي كنت تعبدها في الدنيا، لقد فات الأوان وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ[ص: 3]، إبراهيم يقول: يا ربي إنك وعدتني إنك وعدتني لا تخزيني يوم يُبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، شديد البعد عن رحمة الله، الفاسق بعيد من هذا، الأبعد بمعنى البعيد والهالك، ونظراً لما يكون في نفس إبراهيم من الإشفاق على أبيه يقطع الله ما في نفس إبراهيم من أبيه ويحول أباه إلى ضبع قذر متسخ ملتطخ بالرجيع أو الدم والنتن الطين، والأول أرجح ملتطخ بالرجيع القيء؛ لأنه جاء في بعض الروايات: بذيخ فيتمرغ في نتنه، فتنفر النفس منه ولا يكون في غضاضة على إبراهيم، من الحكمة الإلهية أن يجعل نفس إبراهيم في عافية من أبيه، عافه بعد هذا، ومسخه على هذه الصورة من التشويه وأذله، وهذه صورة من صور الخزي الذي يحلق الكفار يوم القيامة، ومثال من الأمثلة على ذلك، فناس يصغر حجمهم وناس يداسون بالأقدام، وناس يحولون إلى هذه الهيئة الكريهة من البهائم والدواب، ولذلك ييأس إبراهيم عند ذلك لا يكون منه أي التفات إلى أبيه انتهى، وقد تبرأ منه لما مات مشركاً وترك الاستغفار له، واليوم لما يراه تحول إلى ضبع وأُخذ بقوائمه وألقي في النار فلا يسأل عنه، فيكون التبرأ أبدياً.


هوان الكافر على الله أمر عظيم وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان: 55]، ولا يمكن أن ينجيه، ولا أن يُخرجه من النار ولا أن يخلصه من العذاب، هذه المهانة التي تلحقهم يوم القيامة في وقت الكربات الكافر يتغشاه مثل الموت كما مر معنا في الحديث.

الكفار لا تنفعهم أعمالهم يوم القيامة

00:26:31

قال في كلام عيسى مع محمد ﷺ: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون ويدعون الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء الله، يحصل الانفكاك من هذا الموقف، لعظم ما هم فيه والخلق مُلجمون بالعرق وأما المؤمن فهو عليه كالزكمة وأما الكافر فيتغشاه الموت [مسند أحمد: 12824، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 3639].
من شدة الموقف يتغشاه الموت، كأن الموت نزل به، والموت كربات الموت سكرات، له شدة، حديث صحيح، سار كل فريق خلف إمامه فمن إمام هؤلاء؟ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ۝ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا ۝ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27- 29]، ما بقي لهم أمل يتعلقون به، ولا رجاء ينتظرون نفعه، وحتى الأعمال التي عملوها في الدنيا من جنس أعمال البر والخير كالصدقات هناك كفار الآن قد فتحوا مدارس أيتام، ومستشفيات، وعالجوا مجاناً، وكفلوا عوائل فقيرة، ألا يوجد كفار عندهم بر والدين وصلة رحم، ألا يوجد كفار عندهم إحسان، وكلمة طيبة، وأخلاق حسنة، تقول الواحد اليوم هذا الذي تقدم لابنتك لا يصلي يقول: أهم شيء الأخلاق، في كفار أخلاقهم حسنة، طيب هذه الأعمال الخيرية التي عملها هؤلاء الكفار ونحن نسمع تبرعات هائلة، ما مصيرها؟ ما ينتفعون بها بشيء، ما تأثر في ذلك الموقف، هذا هو الجواب: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ۝ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ۝ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:21-23]، الأعمال الخيرية أعمال البر فجعلناه هباء منثوراً، إذا ما في قاعدة صحيحة هل يكون بنيان، إذا ما في توحيد هل ترتفع الأعمال، ما في قاعدة كله ينهار، ولذلك فجعلناه هباء منثورا، يقول ابن كثير -رحمه الله-: "هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء" [تفسير ابن كثير: 6/103].
لا يحصل لهم شيء لا ثواب ولا حسنات، ولا انتفاع وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصاً على الشريعة المرضية فهو باطل، وأعمال الكفار لا تخلوا من واحد من هذين، وقد تجمعهما معاً فتكون أبعد من القبول حينئذ، فلا هو أخلص لله، ولا هو عملها وفق شريعة الله.

مصير أعمال الكفار

00:30:33

هذا الكافر الذي عمل أعمال خيرية في الدنيا، ما مصير أعماله؟ روى مسلم -رحمه الله- عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، تصل رحمك ممكن يوسع رزقك بسببها، ويطيل عمرك بسببها، ويعطيك في الآخرة عليها أجراً وحسنات، أنت تعمل الحسنات الآن يكون لك نعيم نفسي، وطمأنينة، ويوم القيامة أجر، وحسنات، فتستفيد من أعمالك في الدنيا والآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها[رواه مسلم: 2808].
قال النووي -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة ولا يجازى فيها بشيء من عمله في الدنيا متقرباً إلى الله -تعالى-، وصرح في هذا الحديث بأنه يُطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات" [شرح مسلم للنووي: 9/152].
الله لا يظلم أحداً، طيب الكافر هذا تصدق، وأخلاق، وتعامل ممتاز، صدق في المواعيد، وبشاشة، وكلام، وابتسامة، وبر والدين، قال: يُطعم بها في الدنيا، فيعطيه الله عليها في الدنيا صحة، أموال، جاه، مكانة، منصب، فلا يظلمه، كل أعمالهم الخيرية في الدنيا، أعمال البر هذه يُعطون عليها في الدنيا، حتى إذا وافى الله يوم القيامة ما له شيء، أخذه كله في الدنيا، أعطاه عليه في الدنيا، أفضى إلى الآخرة فلا يجد شيئاً.
عائشة -رضي الله عنها- كان لها قريب اسمه عبد الله بن جدعان، هذا رجل من أهل الجاهلية، كان كريماً مضيافاً، مات كافراً.
فعائشة -رضي الله عنها- من شفقتها عليه سألت عن مصيره، "قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه، قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين[رواه مسلم: 214].


قال النووي -رحمه الله- في معنى الحديث: أي أن ما كان يفعله من الصلة، والإطعام، ووجوه المكارم لا ينفعه في الآخرة لكونه كافراً". [شرح مسلم للنووي: 19/124].
وهو معنى قوله ﷺ: لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، يعني: ما كان مصدقاً بالبعث، ولا يعتقد بيوم الدين الذي هو اليوم الآخر، ولذلك ما ينفعه عمله كافر.
نفس المعنى هذا سأل عنه عدي بن حاتم عن أبيه حاتم الطائي، مضرب المثل في الكرم عند العرب، فعن عدي بن حاتم : "قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، ويقري الضيف، ويفعل كذا، قال: إن أباك أراد شيئاً فأدركه، في مسند أحمد وقالوا محققو الطبعة عن إسناده حسن. [رواه أحمد: 18288].
أبوك لما أطعم وأكرم كان يريد الذكر والشهرة فأدركه، صار وضرب المثل بحاتم الطائي في الكرم، أخذ مقابلها في الدنيا سمعة، استمتع بالسمعة، أراد الذكر والشهرة بين الناس، ولم يرد وجه الله، ولم يرد رجاء ثواب يوم الآخرة هو أصلاً لا يؤمن باليوم الآخر، وبالتالي فإنه ليس له شيء يوم القيامة.
قال القاضي عياض -رحمه الله-: "وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم". [إكمال المعلم: 1/387].
إذاً: ما ينتفعون بها لا بنعيم ولا بتخفيف عذاب، لا بنعيم ولا بتخفيف عذاب، كافر، طبعاً هذا الكلام عدد من المسلمين -سبحان الله العظيم- يستغربه، وربما استنكره من قبل بهذا واستبعده، تناقشه، يقول لك: هذا المسلم الكسلان الذي ما نفع الناس يموت يدخل الجنة، وأدسون الذي اخترع الكهرباء، وهذا الذي اخترع المكيفات، وبرد علينا، ونور علينا بيروح النار، كذا، هو المقياس عندهم نور علينا، وكيف علينا، لثقل الدنيا في حسهم، فمنها يأخذون أحكام، واعتقادات، ويبنون عليها.
ارجع للكتاب والسنة، أما تقول المكتشفين هؤلاء في النار، إذا ما كان موحداً، ما أسلم ما آمن بالله واليوم الآخر في النار، يعني: ما هي الكرامة عند الله هذه التي سوف تنقذه إذا هو كافر أو يعتقد أن لله ولد، واحد مخترع كبير اخترع لقاحات من أدوية أنقذت ملايين البشرية من الموت، ولكن يعتقد أن لله ولداً، ماذا يعني عند الله؟


واحد كفر به وأشرك، سينقذه على اختراع شلل الأطفال لقاح، فإذاً ينبغي الرجوع للقرآن والسنة، والالتزام بأحكام القرآن، نجري على منوال الكتاب والسنة، ما له شيء، يعني: ما له شيء، نفع ناس في الدنيا، طيب إذا كان شتم الله، قال: إن لله ولد وزوجة، يعني: ولو اخترع اختراعات نفعت البشرية، فكان ماذا؟ الكافر سيأخذ عليها في الدنيا الذي اخترع اختراعات ونفع البشرية؟ أعطوهم براءة اختراعات، وجاءت شركات اشترت منهم الاختراعات، وأخذوا عليها فلوس، ومشت أمورهم في الدنيا، ويمكن ما دخل المستشفى ولا مرة، وعاش صحيح الجسد نشيطاً، وعنده أولاد، وفلوس، ومزارع، وسيارات، وعمائر، خلاص أخذ حقه في الدنيا، ماذا بقي للآخرة هو أصلاً ما يؤمن بالآخرة، جائزة نوبل، جائزة كذا، ما تنفعه يوم الدين.
لكن فيه كفار عليهم عقوبة أشد من عقوبة الكفر إذا أضاف للكفر الذنوب الأخرى، فقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل: 88]، ما اكتفوا بالكفر فقط في أنفسهم، لكن صدوا عن سبيل الله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ[النحل: 88].
وهؤلاء المجرمون توعدهم الله أيضاً بأنه سيبطل أعمالهم ويحبطها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 32]. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد: 34]، أهم شيء في الكون، أهم شيء توحيد الله، حق الله فوق، فإذا واحد مضيع ربه، ولا يؤمن به، مشرك، كافر خلاص مهما عمل للعباد من حسنات ما ينفعه شيء، سيحبط عمله.
وإذا كان أضاف إليه الصد عن سبيل الله كما يفعله الآن كبار المجرمين، والساسة الكفار في العالم بمؤتمراتهم، وأعمالهم، ومجهوداتهم كله صد عن سبيل الله.
ما الذي يفعلونه الآن؟ تشويه الإسلام، تشويه الدين، الصد عن الدين، صد شعوبهم عن الدين، صد المسلمين عن الدين، تخويف المسلمين، الإرهاب، كله هذا صد عن سبيل الله، فهؤلاء الوعيد عليهم شديد.
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان: 23]، إذا كان بعض المسلمين أول من يدخل النار مجاهد، ومتصدق، وقارئ قرآن، أول من يدخلون النار، لماذا؟
يؤتى بالمجاهد فيقال فيما قتلت؟ يقول: في سبيلك، فيقال: كذبت إنما قاتلت ليقال فلان جريء، فلان شجاع، وقد قيل ألقوه في النار، المتصدق فيما تصدقت؟ في سبيلك وأنفقت في سبيلك، كذبت تصدقت ليقال فلان جواد، فلان كريم وقد قيل، خلاص أخذت حظك في الدنيا، أنت مرائي إلى النار، التالي ما عملت؟ قرأت القرآن وعملت به، بل قرأت ليقال فلان قارئ، وتعلمت ليقال فلان عالم، وأنت قصدك الذكر والشهرة وكان في الدنيا ليس لك شيء في الآخرة، إلى النار، أولئك أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة يا أبا هريرة [رواه الترمذي: 2382، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 22].


فإذا كان ناس من الموحدين نتيجة رياء عملوه في بعض المواقف، أول من يدخلون النار الكافر من باب أولى، نعم الموحد يُعذب على ريائه، وعلى أعماله السيئة، ثم يدخل الجنة في يوم من الأيام، لكن الكافر ما يدخل الجنة، ولا في أي يوم من الأيام.
تبقى قضية الأعمال الخيرية للكافر أو الأعمال البر هذه مكارم الأخلاق ممكن تنفعه، هل يمكن يقال: أن لها منفعة له بوجه من الوجوه؟ بعض العلماء كالبيهقي آثار بحثاً أن الكافر، طبعاً سيخلد في النار، وإثم الكفر، أو التعذيب على الكفر هذا لن يقل، الكفر عليه عذاب في النار، لن يقل، ولن يُخفف عذاب كفره.
لكن الكافر له يمكن يكون له أعمال أخرى سيئة غير الكفر، يعني: شرب الخمر، الزنا السرقة الكذب سوء الخلق، ممكن أعماله الخيرية تنفع في تخفيف الأعمال السيئة غير الكفر؟
ممكن، أثار البيهقي المسألة وذكر كلاماً حول هذا: أنه يُخفف عنه عذابه الذي يستوجبه على جنيات ارتكبها سوى الكفر بما فعل من الخيرات، توصل إلى هذه النتيجة، أما الكفر الذي له عذاب معين لا يُخفف، ويخلد في النار، ويبقى يُعذب عليه أبد الآبدين، إنما يمكن يُخفف عنه بأعمال البر هذه يخفف عنه من عذاب الزنا السرقة الخمر، معاصي أخرى؛ لأنهم سيعذبون على الكل، الكافر لن يعذب على الكفر فقط، وإنما حتى على الأشياء الأخرى من السيئات التي ارتكبها، الذي مات على غير الإسلام لا ينجو من النار، ولا يدخل الجنة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، ولا يجوز الشك في هذا مطلقاً، وإذا كان بذل لإنسانية، وبذل، واجتهد، وتعب، وتبدل، وانقطع، وزهد.
هناك هندوس زهاد زهدوا في الدنيا، أو أنه كافر أعان محتاجاً، وأغاث ملهوفاً، ونشر السلام، ودعاة السلام الذين أوقفوا الحروب في أفريقيا، هؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال؛ الآن الشبهة هذه لا بد من تجلية القضية.


بعض الناس يقولون: نلسون ماندلا لو أن هذا مات على الكفر وعنده أعمال، ساهم في إيقاف حروب، لكن فكان ماذا، حق الله فوق الجميع، ما في إيمان بالله ما في جنة، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
النصارى الله قال عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
المسيح قال لهم: من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، حرم يعني ما يدخلها أبداً، فهذا مصيره، والقضية واضحة لا يجوز الشك فيها أبداً، قال النبي ﷺ: لما أمر بلالاً أن يُنادي بالناس أعلنها: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة [رواه مسلم: 111].
إعلان عالمي، قال شيخ الإسلام: "وكذلك جُعل أهل الجنة هم أهل الإيمان، وأهل النار هم أهل الكفر فيما شاء الله من الآيات، حتى صار ذلك معلوماً علماً شائعاً متواتراً اضطرارياً من دين الرسول عند كل من بلغته رسالته". [مجموع الفتاوى: 2/5].
معلوم من الدين بالضرورة، لا شك فيه أبداً، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ، مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم: 18]، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[آل عمران: 117]، فلا شيء لهم، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك جُعل أهل الجنة هم أهل الإيمان، وأهل النار هم أهل الكفر فيما شاء الله من الآيات". [مجموع الفتاوى: 2/5].

شروط قبول الأعمال الصالحة

00:48:05

آيات كثيرة تذكر هذه القاعدة، ثم نقول: ولو قُدر أن هؤلاء الكفار المشركين صرفوا عبادتهم لله وحده، ولم يشركوا فيها أحداً لم ينفعهم ذلك أيضاً؛ لأنهم عبدوه على غير ما أتاهم به النبي الخاتم محمد ﷺ، لو أحد قال لك أن هناك راهب في صومعة يتعبد لكن خالص لله لا يرجوا ذكراً، ولا مغنم دنيوي، ولا شهادة، ولا إشادة، ولا شيء فقط، فنقول: يتعبد على أي ملة؟ يتعبد على أي سنة على أي طريقة؟
فإذا كان يتعبد على الطريقة المحمدية نعم ينفعه، أما إذا كان يتعبد على غير الطريقة المحمدية، فلا ينفعه حتى لو أخلص، حتى لو قصد بعمله قال: أنا ما قصدي الدنيا أبداً أنا قصدي الله، نقول: على أي طريقة؟
ولذلك العمل لا يقبل إلا بشرطين: أن يكون خالصاً لله، وأن يكون على سنة رسول الله ﷺ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ  [البقرة: 112].
هناك ناس يعملون ويظنون أنفسهم من المحسنين، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا [الكهف: 103]، يقول مصعب بن سعد: سألت أبي: هم الحرورية يعني الخوارج؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى. [تفسير ابن كثير: 5/201]، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 104].
قال: أما اليهود فكذبوا محمداً ﷺ، وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين، "فقوله: لا، هم اليهود والنصارى".
وفي رواية: "هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري، لماذا كانوا من الخاسرين؟ لأنهم تعبدوا على غير أصلاً فابتدعوا فخسروا الأعمار والأعمال.
إذاً: قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، يُبين هذا النص كيف يُذهب الله أعمال الكفار، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور: 39].
فيالحسرة هؤلاء خاب سعيهم، وضل عملهم، احتاجوا إليه يوم القيامة، ولا يجدون شيئاً كالعطشان يحتاج إلى الماء، ولا يجد إلا سراب، فهل ينفعه وهل يسد عطشه، وليت الأمر يقف عند هذا بالنسبة لهم، بل سيزيد سيجد عمله، ويوفيه الله حسابه.

 

يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى وبكل معنى للضلال تدثرا
إن كنت ذا عقل ففكر برهة ما خاب ذو عقل إذا ما فكرا

يعني: تصل القضية لدرجة أنه يتمنى الموت، وحسب المنايا أن يكن أمانيا، عجيب أتمنى الموت، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ۝ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ۝ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 38-40].
يوم القيامة الكافر يتمنى الموت ولا يجده، انقطع عمله في الحطام، وانقطع طمعه في الجنة، فماذا بقي له؟ الدنيا ولت، والجنة لن يدخلها، ماذا بقي له؟ لو كان في الدنيا كان انتحر واحد ماله أمل انتحر، لكن في الآخرة ما في انتحار ما في إلا النار، فينظر أمامه فلا يرى إلا النار، أتجاه إجباري، ذهل عن كل شيء ونزل به البلاء فيتمنى الموت فلا يجده.
قال أبو هريرة: "يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم، والطير، والدواب، وكل شيء فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء التي ليس له قرون من القرناء التي لها قرون نطحتها، ثم يقول: كوني تراباً، فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار، وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا[النبأ: 40]
وفي آية أخرى يقول تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42]، لا يستطيعون أن يكتموا شيئاً، يودون أن تسوى الأرض بالجبال والأرض عليهم، ودوا لو انخرقت بهم الأرض فساخوا فيها كما قال قتادة.

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا

ذهل كل حبيب عن حبيبه، ولم يعد يعنيه لا شأن قريب ولا أمر صديق، ليس إلا النفس نفسي نفسي، وَنَرَاهُ قَرِيبًا ۝ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ۝ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ۝ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا[المعارج: 7-10].

الصداقات تنقلب إلى عداوات

00:54:24

وعند هذا الهول العظيم يشاهد الحميم حميمه، والحبيب حبيبه، والقريب قريبه، ولكن ما في وقت، ولا اهتمام أن يسأل عن شأنه وعن حاله، مع أنهم يبصرونهم، لكن مشغول كل واحد بنفسه، تحولت قيامة الكفار وموقفهم في الحشر إلى خصومات وعداوات، يعني: محاولة أخيرة يحاول كل واحد أن يتملص ويرميها على الآخر، يلعن بعضهم بعضاً، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ۝ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ ۝ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج: 11-14].
لكن لا فائدة، يود أن يقدم فداءً فلا ينفعه نسب، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون: 101]. لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة: 3]، بل تنقلب العلاقات الحميمة إلى عداوات عند هؤلاء الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ  [الزخرف: 67]، الآلهة والعُباد والإخوان والأشكال والنظراء والأتباع والمتبوعين احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ۝ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ۝ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ۝ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ۝ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ[الصافات: 26]، يُحضرون يوم القيامة يعاينون العذاب، ويرون معبوداتهم، ويؤمر بهم إلى النار، وهي معهم لكي تزيدهم عذاباً، ويساقون إلى جهنم، والسخرية، والتهكم بهم من كل جانب، ويوقفون للسؤال، ويُفضحون على رؤوس الأشهاد، ويقال لهم: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ[الصافات: 25].
فيظهر عجزهم، أين جيوشكم؟ أين المستشارون؟ أين الكبراء؟ أين الحلف الذين كنتم فيه في الدنيا؟ ما كان عندكم أحلاف وينصر بعضكم بعضاً، ومواقف مشتركة، مالكم لا تناصرون؟ أين المعين؟ علاهم الصغار، وذلوا للجبار بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 26].
ثم ماذا سيكون بينهم؟ من النقاشات والتبرؤ، وإلقاء المسئولية والتهم المتبادلة،وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ۝ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ۝ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ۝ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ۝ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ۝ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ۝ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ۝ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ۝ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ ۝ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[الصافات: 27-39].
إذاً هم يتلاومون، يتعاتبون يتسابون ويتشاتمون، إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ[الصافات: 28] ، جئتمونا بالغلبة وبالقوة وبالمكر والحيلة وصددتمونا عن الطريق، وعن الحق، زينتم لنا الباطل، ودعوتمونا لاتباعه وأظللتمونا، ولكن لا فائدة من كل هذا الكلام، فيتبرأ منهم الرؤساء والمتبوعون، ويقولون لهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِين [الصافات: 29]، نحن ما أكرهناكم على الكفر أنتم اخترتموه وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان [الصافات: 30]، وقهر وإجبار، بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ۝ فَحَقَّ عَلَيْنَا [الصافات: 30، 31]، وعليكم العذاب، فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ [الصافات: 32]، ولذلك فالجميع في العذاب ولذلك فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: 33]، وهل هذا الاشتراك سيُخفف عنهم العذاب؟

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

 

يعني: هذه لما مات أخوها، وحرب فعزت نفسها بأنها مثل غيرها إذا هذه راح لها أخ، هذه راح، لها أخ، وهذه راح لها زوج، هذه راح لها أب، وهذه راح لها ابن.
يعني: المصيبة إذا عمت صار في شيء من التهوين، ولكن هؤلاء ما ينتفعون بهذا في النار، ولذلك لو كانوا معاً فيها في المصيبة فإنها لا تخفف، وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 39].
لن ينفعكم اشتراككم في العذاب لن ينفعكم، مصيبة النار ليست مثل مصائب الدنيا، مصائب الدنيا إذا عمت هونت، في النار قمة العذاب، ولا يخفف الاشتراك، وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 39]، كنتم في الدنيا ماذا تفعلون؟ مشتركون في الكفر، وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:  25].
فيقول إبراهيم لهم: عبدتم الأوثان والأصنام واتخذتموها آلهة لكي تدوم بينكم المودة في الدنيا، واجتمعتم على عبادة أصنام، وظننتم أن الاجتماع والاشتراك في الشيوعية والاشتراكية والمبادئ والشركية، ظننتم أنه سيُحقق لكم سعادة، اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[العنكبوت: 25] ما دامت المودة، بل انقطعت وانقلبت وكفر بعضكم ببعض، ولعن بعضكم بعضاً، ومأواكم النار، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6].
في المحشر تنقلب العلاقات إلى عداوات، زعماء الكفر يتبرؤون من الأتباع، والأتباع يتبرؤون من الزعماء وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165].
ما هو المصير؟ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۝ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 165-167].
هكذا إذاً سيلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ[سبأ: 31].
هذا مشهد من مشاهد القيامة في الكفار، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ، [سبأ: 31].


كل طائفة ترمي على الثانية، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31]، يعني: أنتم صددتمونا، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سبأ: 32-33].
لكن ما هي النتيجة؟ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، [سبأ: 33].
فهكذا يتم التلاعن والتباغض والتبرؤ وتبادل الاتهامات، ولكن ما الفائدة كلهم مشتركون في العذاب، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 36، 37].
ماذا سيقول هذا القرين الذي أظله؟ ماذا سيقول لهذا الصاحب الذي جعله يكفر وحرفه؟
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ۝ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 38، 39].
اشتراككم لن يُخفف عنكم العذاب، ومن يعش عن ذكر الرحمن سيُجازى بماذا؟ بشيطان، الذي يبتعد عن ذكر الله سيُجعل له شيطان، قال سفيان بن عيينة من كبار المحدثين والعُلماء لأصحابه يوماً: "لا تأتوني بمثل مشهور من العرب إلا جئتكم به من القرآن"، هات أي مثل من أمثال العرب وأعطيكم ما يغني عنه وما يقابله من القرآن، "فقال له قائل: فأين في القرآن أعطي أخاك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة"، أكرمه بتمرة فإذا رفضها هذا لئيم أعطه جمرة، "أعطي أخاك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة، قال سفيان -فوراً على البديهة-: في قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ  [الزخرف: 36].
يصدونهم عن السبيل وعن الصراط المستقيم ويحسبون أنهم مهتدون بتزيين أولئك لهؤلاء وإعراضهم عن الحق، وطبعاً لا عذر لهم؛ لأنه كان من الممكن أن يهتدي لو أراد لاهتدى، ثمود هديناهم، وأريناهم الصراط المستقيم، وأرسلنا صالحاً، وبين الحق لكن هم الذين أسروا على الضلال، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17].
 فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، يعني: هذا يبين أن العبد إذا أعرض الله يزيده شراً، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 38].
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ۝ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا ۝ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27-29].
الخصام يوم القيامة عند هؤلاء يتطور لدرجة أنه يصل حتى بين الإنسان وبين أعضائه ويتطور لدرجة أنه يصل بين الروح والجسد، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ۝ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت: 19-21].


فهكذا يُحشر أعداء الله إلى النار أولهم وآخرهم، يُرد أولهم على آخرهم، ويتبع آخرهم أولهم، ويساقون سوقاً عنيفاً، ولا يستطيعون امتناعاً، فإذا وردوا على النار أنكروا ما عملوا من المعاصي، وطلبوا شهود فأنطق الله أجسادهم، فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم بما كانوا يعلمون، فيقول السمع أنا عملت كذا وكذا، ويقول البصر أنا عملت كذا وكذا، وتقول اليد أنا عملت كذا وكذا، ويقول الفرج أنا عملت كذا وكذا، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت: 21].
يعني: نحن كنا ندافع عن من يعني، يعني نحن الآن المجادلة هذه عن من؟ عنك أيها السمع، وعنك أيها البصر، وعنك أيتها اليد ثم أنتم تشهدون علينا ونحن ندافع عنكم، نحن الآن جادلنا لننقذكم، قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[فصلت: 21]، بذواتكم وأجسامكم وصفاتكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ  [فصلت: 21، 22].
ولا كنتم تتخفون، ولا تحذرون من هذا المصير، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون، لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:21-23]، النتيجة؟  فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ[فصلت: 24].
وإذا طلبوا العتبة وطلبوا إزالة العتب فلن يُجابوا، وطلبوا الرجوع للدنيا فلن يجابوا، فما هم من المعتبين، ذهب الوقت وانتهى وفاتت الأمور.
أصلاً من الأشياء المذهلة العجيبة جداً أن الله أخبرنا في كتابه عن حقيقة يمكن بعض الناس ما فكر فيها، لو الله يوم القيامة لما الكفار يأتون إلى النار ويرون عذاب النار بأنفسهم ويرون الشدائد والأهوال ويقولون: أرجعونا إلى الدنيا، لو فرضاً -هذا لن يحدث- لكن فرضاً لو أن الله ردهم إلى الدنيا لو رد الله أبا جهل، وأبا لهب، وفرعون لو ردهم إلى الدنيا فما هي النتيجة، نتيجة عجيبة جداً؟ قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[الأنعام: 28]، سبحان الله!
يعني الله رحيم يعني لو كان في، ما في أمل وما في فرصة، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون في قولهم ارجعنا نعمل صالحاً، لن يعملوا صالحاً، سيعودون ولذلك إلى النار، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108].
عن أنس بن مالك قال: "كنا عند رسول الله ﷺ فضحك، فقال: هل تدرون مما أضحك؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تُجرني من الظلم؟ يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، ما أقبل بصحف بملائكة أو كتبة يشهدون عليّ أنا أريد شاهد مني أنا شخصياً،  فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيُختم على فيه، فيقال لأركانه وأعضائه انطقي فتنطق بأعماله، كل أعماله، كل ما فعل تنطق به، ثم يُخلى بينه وبين الكلام ويُزال اللثام ويزال الختم فيقول: بُعداً لكن وسُحقاً، فعنكن كنت أناضل، فهذا الذي أضحك النبي -عليه الصلاة والسلام-. [رواه مسلم: 2969].


فيالله العجب، هل بعد هذا العدل من عدل؟ أن يكون الشاهد عليه من نفسه، وليس أشخاص آخرين، فيقال له: أنت تشهد على نفسك، والملائكة الكرام أيضاً سيؤكدون ذلك.
وقد روى ابن مندة في كتاب الروح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أَنْتِ أَمَرْتِ، وَأَنْتِ سَوَّلْتِ، فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير"، الآن اختصام الروح مع الجسد، أهل النار جسده يقول لروحه: أَنْتِ أَمَرْتِ، الروح تقول أنت فعلت، فالملك يقول: "مثلكما كمثل رجل مقعد بصير" مشلول ويرى، "والآخر ضرير، ولكن يقوم على رجليه، دخلاً بستاناً، فقال المقعد المبصر للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني أنا أقوم على رجلي"، أنا برجلي وأنت بعينك، "اركبني فتناولها، فأيهما المتعدي؟ فيقولان: كلاهما اشتركا، فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما". [تفسير ابن كثير: 7/98].
يعني: أن الجسد والروح كالمطية وهو راكبها، فاشتركا في الإثم والعذاب، فهكذا يكون نطق الأجساد كما قالت الحبشية التي عندها علم للشاب المغرور لما دفعها بجرة الماء التي معها فوقعت وانكسرت: "سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً"، فالشاهد قولها: "وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون". [رواه ابن ماجه: 4010، وقال الألباني في مختصر العلو: 59].
روى مسلم عن أبي هريرة قال: "قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة؟، فإذا كان ما في سحاب، وأنتم ترون الشمس دون أي لبس، فسترون الله بوضوح تام.


قال في الحديث: فيلقى العبد فيقول: أي فل، اختصار فلان، يا فلان ترخيم، أي فُل ألم أُكرمك وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس تصبح رئيساً وكبير القوم، وتربع، وكانوا في الجاهلية رئيس القبيلة له ربع المغانم إذا أغاروا على ناس وسلبوا، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، ويقول له كذلك، ثم يلقى الثالث، ويقول له: كذلك لكن الثالث، يقول: يا رب آمنت بك، وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا، ثم يقال له: الآن بعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ، فيُختم على فيه، هذا الثالث كذاب كلهم كفرة، أول اثنين اعترفا مباشرة، الثالث جادل كذب، قال:  فيقول: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ، فيُختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي [رواه مسلم: 2968].
فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليُعذر من نفسه من هو هذا الثالث؟ المنافق، الأول والثاني كفار واعترفوا مباشرة، الثالث قال: أنا صمت وصليت، فهذا المنافق ستشهد عليه أعضاءه.
إذاً هذا الحديث يُبين قسمين من الخلق يوم القيامة، الكفار والمنافقين، كانت حسرات وندامة لهؤلاء المشركين والكافرين بربهم، كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167].
ومن الحسرات أنهم سيلقون نتيجة ما أنفقوه من أموالهم يصد عن سبيل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال: 36].
ممكن في الدنيا إذا رأوا أنهم أنفقوا للصد عن سبيل الله، ولكن الناس لا زالت تُسلم، وتدخل في الدين فيتحسر، وممكن في الآخرة وبالتأكيد سيتحسر في الآخرة عندما يرى النتيجة أنه غُلب في الدنيا صدوا عن سبيل الله، وأنفقوا أموال ضخمة للصد عن سبيل الله، الذين كفروا ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله بالجيوش والقوة العسكرية، بالإعلام والقنوات الفضائية، مجلات إذاعات ليصدوا عن سبيل الله، ميزانيات ضخمة، الآن، فما هي النتيجة؟ ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، إذاعة واحدة مائتين مليون دولار، أرقام هائلة ليصدوا عن سبيل الله، فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً  [الأنفال: 36]، لأن ذلك اليوم يوم القيامة من أسمائه يوم الحسرة وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[مريم: 39].
نسأل الله النجاة يوم الدين، ونسأله أن يجعلنا فيه من الآمنين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.