الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين.
أما بعد، أيها الإخوة، من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الصدق، وهو منـزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين.
أمرُ الله لأهل الإيمان بأن يكونوا من الصادقين
وقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص الله المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً[النساء:69].
وقد أخبر الله عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة:177]. وهذا صريح في أن الصدق في الأعمال الظاهرة والباطنة، وأنه هو الإيمان والإسلام.
وأخبر أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[المائدة:119].
وعقد البخاري -رحمه الله تعالى- في كتابه: "الجامع الصحيح" باباً بعنوان: "باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]. وما ينهى عن الكذب.
تعريف الصدق وننطلق في هذا الدرس -أيها الإخوة-: مع الصدق وضده الكذب، أما الصدق فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً، فيمكن أن يصدق الإنسان في حديثه عما مضى ويمكن أن يصدق في وعده للمستقبل إذا وعد وكذلك يمكن أن يكذب، فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً كان أو غيره.
المعنى اللغوي والاصطلاحي للصدق
والصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما -يعني بين الصدق والكذب- كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه؛ وهو النبي ﷺ كذلك، فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب.
ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره.
وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي ﷺ: إنا قوم صِدْقٌ في القتال في الحرب، ومنه قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:105]. عملنا بمقتضاها.
إذن، هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.
مراتب الصدق
والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ[النساء:69]. وسُمي أبو بكر الصديق: "صديقاً" لكثرة تصديقه للنبي ﷺ.
من أقوال السلف في الصدق
ومن عبارات السلف في الصدق، قال عبد الواحد بن زيد: "الصدق الوفاء لله بالعمل"
وقيل: هو موافقة السر النطق. وقيل: استواء السر والعلانية.
وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة.
وقيل: كلمة حق عند من تخافه وترجوه.
وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق من داهن نفسه أو غيره.
وقال بعضهم: الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه.
وقال الجنيد: "حقيقته أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب"[مدارج السالكين: 2/262].
والصدق هو من صميم دعوة النبيﷺ، فكان يدعو إلى الأسس ولم يكن في دعوته في مكة الفروع ولا التوسع في الأحكام من الحلال والحرام، فإذا عرفنا أن الصدق من أسس دعوته ﷺ وهو في مكة؛ علمنا منزلة الصدق من الدين وأنه مما يبدأ به في الدعوة، إلى أي شيء ندعو الناس إليه كالتوحيد وأشياء كثيرة، منها ما جاء في حديث هرقل مع أبي سفيان، والحديث في البخاري قال له: "سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمتَ أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال: وهذه صفة نبي" [رواه البخاري: 2681]. فبعد الصلاة مباشرة أمرهم بالصدق.
حث الشريعة على التحلي بالصدق
وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي ﷺ موضحاً ما أمر الله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]. قال النبي ﷺ: اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم[رواه أحمد: 22757، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1470]. يعني عن الحرام.
وفي رواية: اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة، إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم[رواه احمد: 22757، وحسن إسناده الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1018].
وقال النبي ﷺ: أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة وحسن الخلق، وعفة مطعمحديث صحيح. [رواه أحمد: 6652، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 733].
وقال النبي ﷺ مجيباً على سؤال من هو خير الناس؟ قال: خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد[رواه البيهقي في الشعب: 6180، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2931].
إذن، صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس.
وقد كان أحب الحديث إلى النبي ﷺ أصدقه.
وورد ذلك في صحيح البخاري "لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي ﷺ أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أُخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله ﷺ: معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين. [رواه البخاري: 2539].
شرح آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
وتعالوا لنشرح آية من كتاب الله وحديثاً من أحاديث النبي ﷺ فيما يتعلق بالصدق:
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119].
الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]. كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم، وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم، وسُموا بالمخلّفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119].
قال القرطبي -رحمه الله-: "الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين".
قال مطرّف: "سمعت مالك بن أنس يقول: قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا مُتّع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف". هذا من فوائد الصدق.
وقوله تعالى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]. اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]. أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَالذي خرجوا مع النبي ﷺ لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم.
وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً". [تفسير القرطبي: 8/288].
حسن خاتمة الصادق وعاقبته عند الله تعالى
والحديث العظيم الآخر في الصدق المشهور الذي يبين فيه النبي ﷺ الصدق ويوصيهم به: فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً والكذب -أيضاً- لا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار[رواه البخاري: 6094، ومسلم: 2607].
قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الآخر: عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة[رواه أحمد: 5، وابن ماجه: 3849، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4072].
وهذا الحديث الذي فيه قوله: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة [رواه احمد: 3845، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2932]. عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله، ويبالغ ويجتهد حتى يُكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرّى الصدق، يتعمّد ويتحرّى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يُكتب أي: يثبت عند الله.
قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: "فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير" [شرح النووي على مسلم: 17/100].
حتى يُكتب عند الله صديقاً فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: ولا زال يصدُق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً[رواه مسلم: 2607]. فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.
صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق
والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم.
أمر الله رسوله ﷺ أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً [الإسراء:80].
وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ[الشعراء:84].
وبشّر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ[يونس:2]. وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[القمر:54-55]. قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي ﷺ هو وأصحابه في غزوة بدر هو مُخْرج صدق، ومُخْرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله ﷺ إلى المدينة كان مُدْخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مُدْخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن لله، ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار" [مدارج السالكين: 2/259].
وفُسّر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه ﷺ من مكة ودخوله المدينة، وهذا مثال على ذلك، وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق، وإنما هو مثال عليه.
والنبي ﷺ مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مُدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة.
أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فيه، فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسّون به.
أما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فُسّر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم، وهو مقعد الصدقإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر:54-55]. أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
والنبي ﷺ من صفاته: الصادق الأمين
النبيﷺ كان من صفاته الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[الشعراء:214] صعد النبي ﷺ على الصفا فجعل ينادي: يا بني فلان! يا بني عدي! ينادي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبيﷺ: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً في الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟، قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، ما جربنا عليك كذباً أبداً".
تاريخ الرجل يساعد في نشر دعوته، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [رواه أحمد: 2801، وقال محققه أحمد شاكر: إسناده صحيح على شرط الشيخين].
وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي ﷺ في بعثته، وأن الله لم يتخلّ عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها: لقد خشيتُ على نفسي قالت: "كلا، فو الله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" [رواه البخاري: 3، ومسلم: 160].
إذن: هذا الصدق منهﷺ كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.
وصف يوسف بالصدق
ويوسف كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ [يوسف:46]. فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46]. وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ[يوسف:46].
أبو بكر الصديق مع الصدق
وصاحب النبيﷺ الأول ورفيقه في الغار، أبو بكر الصديق سُمي صديقاً لكثرة تصديقه للنبي ﷺ، ولذلك قال ﷺ: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبتَ في أول الأمر، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها[رواه البخاري: 3661].
أبو ذر مع الصدق
ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر، فقد قال النبي ﷺ فيه: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر وهو شبيه عيسى بن مريم[رواه أحمد: 27493، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5537].
أبو ذر شبيه بعيسى بن مريم.
كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك
وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق: كعب بن مالك ، قال حين تخلّف عن تبوك: "والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله ﷺ: ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[رواه البخاري: 4673].
وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: "سمعتُ كعب بن مالك يحدّث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا كذباً أبداً" [رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769]. سنوات طويلة، وأنزل الله على رسوله ﷺ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:117-119].
مجالات الصدق
وللصدق مجالات عديدة منها:
أولاً: الصدق في الأقوال
الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق.
وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب.
ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، فقد ورد عن ابن عمر قال: "سمع رسول اللهﷺ رجلاً يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حُلِف له بالله فليرضَ، ومن لم يرض بالله فليس من الله حديث صحيح. [رواه ابن ماجة: 2101، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7247].
و يمينك على ما صدقك به صاحبك[رواه مسلم: 1653]. لا يجوز لك أن تورّي فيه، ولا تجوز التورية في القَسَم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه -مثلاً- لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.
ثانياً: الصدق في الأفعال
ومن مجالات الصدق: الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي ﷺوكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية؛ حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، بل هم من الكذابين، وإذا استوت علانية العبد وسريرته قال الله: هذا عبدي حقاً.
والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح.
والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: "إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق، فليدعُ كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له -أيضاً- حتى صارت وادياً من المال، وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته.
هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا. لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة.
وبعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال.
من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ[يوسف:16]. هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف:18]. جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً[يوسف:18]. ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ[يوسف: 16]. بكاء كذب.
إذن، الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا -كذباً-: يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:17]. فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل.
وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق.
وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم، وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً، فإن هذه الحركة كذب.
ثالثاً: الصدق في النية والإرادة
ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه؛ وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة.
ولنعلم أن أول من تُسعّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد[رواه الترمذي: 2382، والنسائي في الكبرى: 11824، والنسائي في الكبرى: 1527، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1713]. لأنهم ما أرادوا وجه الله.
أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدّقهم، ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها ، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد: "أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه، ثم قال: "أهاجر معك، فأوصى الرسول ﷺ به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول اللهﷺ فيها شيئاً، فقسم وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له لكي يوصلوه إلى الأعرابي، وكان يرعى ظهرهم -ذلك الأعرابي المسلم- فلما جاءهم دفعوا إليه نصيبه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم لك النبي ﷺ، فأخذه فجاء به إلى النبي ﷺ فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لكقال: ما على هذا تبعتك ولكن اتبعتك على أن أُرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي ﷺ: إن تصدق الله يصدقكإن كانت فعلاً هذه نيتك صدقت الله فالله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأُتي به إلى النبي ﷺ قد أصابه سهم حيث أشار -في نفس المكان الذي أشار إليه- فقال النبي ﷺ: أهو هو؟قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه ثم كفّنه النبي ﷺ في جبته ﷺ، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك[رواه النسائي في الكبرى: 2091، والحاكم في المستدرك: 6527، والطبراني في الكبير: 7108، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1336].
وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]. وقد تكون كذباً: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ[التوبة:75-77].
وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها، وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.
دواعي الصدق
والصدق له دواعٍ كثيرة منها:
أولاً: العقل السليم، فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق.
ثانياً: الشرع المؤكد: الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق، وتميل إليه، وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدّق العقل الصحيح، فلا شك أن الدين ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات، لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان.
ثالثاً: المروءة: فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب.
رابعاً: حب الاشتهار بالصدق.
عوّد لسانك قول الصدق تحظ به | إن اللسان لما عودت معتاد |
موكل بتقاضي ما سلمت له | في الخير والشر فانظر كيف ترتاد |
[أدب الدنيا والدين: 263].
إذن، الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرّى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمّارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.
علامات الصدق
وللصدق علامات، منها:
أولاً: اطمئنان القلب له، يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح وهذا المعنى موجود في حديث الترمذي الذي رواه الحسن بن علي عن النبي ﷺ قال: الصدق طمأنينة والكذب ريبة[رواه أحمد: 1727، والترمذي: 2518، وصححه الألباني في المشكاة: 2773].
لو قال واحد: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق.
ثانياً: كتمان المصائب والطاعات، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه.
ونحن -أيها الإخوة- في موضوع الصدق لنا الظاهر، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه.
وقد روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عن عمر بن الخطاب أنه قال: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ﷺ كان الوحي يفضح الكذابين- وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءاً -من كان حاله السوء والفحش والفجور- لم نؤمنه ولم نصدّقه، - ولذلك من عرف بالكذب لا يُقبل شاهد في المحكمة-، "وإن قال إن سريرته حسنه" وهذه مقولة عظيمة من عمر
انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: "ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل. [رواه البخاري: 1498].
أمور مهمة في الصدق وأهله
الاستدلال على الصدق من مظانه
يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة ، فالنبي ﷺ كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى.. يسأل من؟ أشار علي بن أبي طالب قال له: وسل الجارية تصدقك، -بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لعائشة، وتعرف سرّها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة- فقال النبي ﷺ لبريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرّى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: "ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن -يعني الشاة- فتأكله".
[رواه البخاري: 4141، ومسلم: 2770].
تصديق الحق
ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت.. صدقت.. صدقت، صدق فلان.. صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً ﷺ.
فيخبر النبيﷺ بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه ﷺ، كما حصل في خيبر قال أبو هريرة -والحديث في البخاري-: "شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر فقال رسول الله ﷺ لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! أرأيتَ الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي ﷺ: أما إنه من أهل النارفكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله! صدّق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله ﷺ-: يا بلال قم فأذّن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر[رواه البخاري: 3062].
لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله، لكن هذا مصداق ما أخبر بهﷺ: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي ﷺ، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري -رحمه الله- عن زيد بن أرقم قال: "كنتُ مع عمي فسمعتُ عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:7-8]. فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي ﷺ فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي ﷺ وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: "ما أردتَ إلا أن كذبكَ النبي ﷺ ومقتك فأنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الآيات... [المنافقون:1]
وأرسل إلي النبي ﷺ فقرأها، قال: قد صدّقك الله يا زيد نزلت الآية تصديقاً للصحابي.
ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي ﷺ يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي ﷺ فصدّق كلام اليهوديتين بعذاب القبر" [رواه البخاري: 6366، ومسلم: 586].
من الأمثلة عن جابر قال: "لما رَجَعَتْ إلى رسول الله ﷺ مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة، قال رسول الله ﷺ لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قالت فتية منهم: "بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء، فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرّت على ركبتيها فانكسرت قُلّتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر -يعني يا غادر- إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده غداً، فقال النبي ﷺ: صدقت، صدقت، كيف يقدّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ حديث حسن حسّنّه الألباني في مختصر العلو. [رواه ابن ماجه: 4010، وحسن إسناده الألباني في محتصر العلو: 59].
وكذلك فإن النبي ﷺ قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255]. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح[رواه البخاري: 2311].
أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي ﷺ: أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: فذاك شيطان[رواه البخاري: 2311]. إذن، قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين.
والنبي ﷺصدق أحد أحبار اليهود، قال: "يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ﷺحتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبْر" صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي ﷺ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[رواه أحمد: 4087، والترمذي: 3238، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3238].
الصدق المذموم
هل هناك صدق مذموم؟
الجواب: نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلتَ أنا صادق فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً، لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب.
وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي -رحمه الله- في كتاب أدب الدنيا والدين ، يقول: "فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مسراً بفسقه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، "ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يضمره"، يقول: مادام أن الأمر افتضح بين الناس، سأجهر بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا. "لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح". [أدب الدنيا والدين: 267].
صدق النمام
وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق، ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله.
الفرق بين النمام والقتات
ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتّات؟ النمّام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتّات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة، لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة؛ لأن الحديث جاء: لا يدخل الجنة قتّات[رواه البخاري: 6056، ومسلم: 105]. وكذلك: لا يدخل الجنة نمّام [رواه مسلم: 105].
صدق الوشاية
أما السعاية فهي: الوشاية، أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب؛ لكي يوقع به.
وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمّة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال.
ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: "استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان، "استراح" ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان -هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث- فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا؟ فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم. على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول:
أنت امرؤ إما ائتمنتك خـالياً | فخنتَ وإما قلتَ قولاً بلا علمِ |
فأنت من الأمر الذي قلتَ بيننا | بمنزلةٍ بين الخيانة والإثمِ |
إما أنك خائن أو آثم.
[بهجة المجالس وأنس المجالس: 126].
وسُعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا، قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.
تصديق العرافين والكهان
ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدّق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[النمل:65].
ويقول النبي ﷺ: من أتى عرافاً أو كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد[رواه ابن ماجة: 640، والحاكم: 15، والطبراني في الأوسط: 1453، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5939].
فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال: انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي فلانة هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدّق السائل الكاهن، فإذا صدّقه فقد كفر ولا شك في ذلك.
وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيكفرون، وإن قال: أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر، لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة.
الكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟
روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن عائشة: "سأل أناس رسول الله ﷺ عن الكهان، فقال لهم رسول الله ﷺ: ليسوا بشيء قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثونا بالشيء أحياناً يكون حقاً فقال رسول الله ﷺ: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة[رواه البخاري: 6213].
ويوضح هذا حديث آخر في صحيح البخاري، يقول أبو هريرة : "إن نبي الله ﷺ قال: إذا قضى الله الأمر في السماءبأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان، وولادة فلان، ونحو ذلك إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان مثل جر سلسلة على الصخر، يصدر أصواتاً مخيفة، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه بعضه فوق بعض: فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها فأحرقه[رواه البخاري: 4800]. فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الكفر- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء.
أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه.
والله قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.
تصديق أمراء السوء
ومن التصديق المحرّم: ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه عن كعب بن عجرة قال: "قال لي رسول الله ﷺ: أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولستُ منه ولا يرد عليّ الحوض
إذن، تصديقه هذا حرام ومن لم يغشُ أبوابهم ولم يصدّقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض [رواه أحمد: 23260، والترمذي: 614، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 614].
والصدق -أيها الإخوة- نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله ؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويرثر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي ﷺ يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.
الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق
وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تُغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وقد ورد عن عبد الله بن عامر قال: "جاء رسول الله ﷺ إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبتُ لألعب فقالت أمي: يا عبد الله، تعال أعطيك، فقال رسول الله ﷺ: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه ثمراً، قال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة[رواه أحمد: 15702، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 748].
فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة، وقد صحح هذا الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة بشواهده، ومن الشواهد التي ذكرها: من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة
[رواه أحمد: 9835، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة: 2/ 374].
فانظر كيف يعلم رسول الله ﷺالآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم.
أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:
أمور عن الصدق
أولاً: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه[رواه مسلم: 1909].
ثانياً: من الأمور التي يكون فيها التصديق له أجر عظيم، تصديق المؤذن، فإن النبي ﷺ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلّى معه [رواه أحمد: 18506، والنسائي في الكبرى: 646، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1841].
ثالثاً: وكذلك من الأمور المهمة: أن القاضي ينبغي أن يتحرى صدق أصحاب الأقوال، وأن المدعين لا يجوز لهم أن يكذبوا، وبعض المدعين قد يخدعون القاضي فيوهمونه بقول الصدق وهم يكذبون فلا يحسب هؤلاء أنهم قد نجوا أو غنموا شيئاً، فإن النبي ﷺ سمع مرة خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض في الكلام بلاغة وفصاحة فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها[رواه البخاري: 7181].
وكذلك الطيرة من الشرك؛ لكن أصدق الطيرة الفأل كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ: أصدق الطيرة الفأل فالطيرة تشاؤم وهو حرام، أما التفاؤل فهو أصدقها وهو مباح وجائز، وقد فعله النبي ﷺ.
وكذلك ينبغي أن يستعمل لمعرفة الصدق الأدلة وأقوال الثقات، فلو أخبر إنسان بشيء، فنأتي بالشهداء المعروفين بالصدق، فإن أقروا ما قاله قُبل قوله، كما قال البخاري -رحمه الله-: "باب إذا حاضت في شهر ثلاث حِيَض -أي: لو أن امرأة طلقها زوجها فعدتها ثلاث حيض، فلو حاضت في شهر ثلاث حيض تخرج من العدة، لكن ينبغي أن تثبت أنها حاضت في الشهر ثلاث حيض- ولذلك قال: ولا يُصدّق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، لقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228].
ويذكر عن علي وشريح: "أن امرأة جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه أنها حاضت ثلاثاً في شهر فصُدّقت، وقال عطاء: "أقراؤها ما كان" وبه قال إبراهيم" [رواه البخاري: 1/72].
إذن، بعض أهل العلم يأخذون بذلك لكن بشرط أن تثبت هذا ممن يعرف حقيقة أمرها من الثقات.
مسألة: لو أنها أخذت دواءً لإنزال الحيض، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، هل تخرج من العدة؟ لا. هذا تلاعب وتحايل واضح جداً.
وكذلك فإن الإنسان المسلم إذا اشتبه عليه أمر أخيه المسلم، فإن جاءه عنه خبر؛ فإنه يحمل أمر أخيه على أحسنه، وإذا كان هذا الأخ معروفاً بالصدق قبلناه، والناس الذين وشوا به وتكلموا عنه إذا كانوا من المجهولين لا نقبل كلامهم. جاء أناس ادعوا على سعد بن أبي وقاص فقال عمر لسعد: "لقد شكوكَ في كل شيء حتى الصلاة"، قالوا: لا يحسن يصلي. قال سعد : "أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو أن أجتهد ما اقتديتُ به من صلاة رسول اللهﷺ، قال عمر: "صدقتَ، ذلك ظني بك" [رواه البخاري: 758].
هذا معروف بالصدق والمتهمون له مجهولون، أو معروفون بالفسق والكذب فلا يمكن أن نقبل قول الفاسق الفاجر في الثقة الصادق.
الصدق في البيع والشراء
وكذلك فإن من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء. وما أكثر الكذب -الآن- في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة، قال النبي ﷺ: البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنابين البائع السلعة هل فيها عيب أم لا؟- فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما[رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532]. والآن الناس يغشون في الحراج، وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: سكر في ماء، وملح في ماء، وكومة حديد، وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام.
ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي ﷺ أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، فقال في الحديث الصحيح: سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة[رواه ابن ماجه: 4036، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1887]. في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به ﷺ في هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره.
إذن، هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق.
ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب -الآن- من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا. غير موجود، ويحلف ويقسم على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.
الكذب أضراره وعواقبه
والكذب -أيها الإخوة- جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه
وما شيء إذا فكرتَ فيه | بأذهبَ للمروءة والجمال |
من الكذب الذي لا خير فيـه | وأبعد بالبهاء عن الرجال |
[أدب الدنيا والدين: 261].
والنبي ﷺ كان يحارب الكذب محاربة شديدة، فعن عائشة قالت: "كان ﷺ إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة".
عقوبة الكذب
وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي ﷺ في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا: أما الرجل الذي أتيت عليه يُشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق[رواه البخاري: 7047]. فهذه عقوبته.
وقال في رواية أخرى: رأيت الليلة رجلين أتياني قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة[رواه البخاري: 1386]. والشق عذاب الكذاب في البرزخ، لكن يوم الدين العذاب أشد وأنكى. قال الحسن البصري عن هذه النوعية: "خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها" [فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب: 6/ 327]. هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها.
فهؤلاء الذين يروّجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول: رويداً سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة.
الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.
تحذير السلف من الكذب
ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم.
عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال: "إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوّجته" [إحياء علوم الدين: 3/132].
وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم.
ولما خرج البخاري يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال: "لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم".
وقال الأحنف بن قيس: "ما كذبتُ من يوم أسلمتُ إلا مرة واحدة" [بُغية الطلب في تاريخ حلب: 3/1310].
وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد -رحمه الله- بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبّلون يديك، قال الإمام أحمد: "لا تكذب".
دواعي الكذب
والكذب له دواع كثيرة منها: أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله.
وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا.
وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه؛ لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع.
قال بعض السلف: "من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام".
وقال بعضهم لولده: "يا بُني، احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه".
وقال الأصمعي: "قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: "أما إنك لو تغرغرتَ بمائه ما نسيتَ حلاوته".
وقيل للكذاب: هل صدقتَ قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق". [الآداب الشرعية والمنح المرعية: 1/41].
الكذب في المزاح
وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب، قال النبي ﷺ: أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو مازحاً[رواه النسائي في الكبرى: 4326، وأبو داود: 4800، وصححه الألباني في السلسلة الصحية: 273]. ويل لمن يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له ويل له[رواه ابو داود: 4990، والترمذي: 2315، والنسائي في الكبرى: 11061، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7136].
والشاهد: أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك، ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندّروا بالخصوم ويسخروا منهم، أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه.
وقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه.
ومن الأسباب التي تدفع إلى الكذب: الديون، ولذلك كان النبي ﷺ يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم هذا الحديث كان يدعو به النبي ﷺ في الصلاة: أعوذ بك من المأثم والمغرم فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف[رواه البخاري: 832، ومسلم: 832]. وهذا حال المديونين من الناس، فإنهم يقولون: غداً سوف أعطيك، وهو كذاب ويعده إلى الوقت الفلاني وهو كذاب.
وكذلك فإن من أعظم الكذب: الكذب على الله بتحليل ما حرمه أو بتحريم ما أحله، أو إسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لا يجب، أو كراهة ما أحبه واستحباب ما كرهه، هذه من أعظم الكذب، وكذلك الكذب على النبي ﷺ: إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار[رواه البخاري: 1291، ومسلم: 1291]. هذه خطورة الكذب على النبي ﷺ.
علامات الكذب
وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب:
أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله.
ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه.
ثالثاً: إنك إذا رددتَ عليه قوله، حُصِر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددتَ عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه.
رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
وقال الشاعر:
حسب الكذوب من البلية | بعض ما يحكى عليه |
فإذا سمعت بكذبة | من غيره نسبت إليه |
[ربيع الأبرار ونصوص الأخيار: 4/345].
من أضرار الكذب: أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.
مواطن جواز الكذب
وهل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟
الجواب: نعم، يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، والنبي ﷺ قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق قد استخدم التورية فسئل عن النبي ﷺ ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل[رواه البخاري: 3911]. فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير.
ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي ﷺ: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً[رواه البخاري: 2692، ومسلم: 2605]. أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا.
كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد" [سير أعلام النبلاء: 4/529].
وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ: "كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي -أحد طلبته- ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يُعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المرّوذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر" [سير أعلام النبلاء: 11/319]. أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب؛ لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به، أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور.
ومن الكذب الذي يقع: ما أخبر به ﷺ مخاطباً به بعض النساء: لا تجمعن جوعاً وكذباً قدم لبن فأمر بتقديمه لبعض النساء فقلن لا نشتهي فقال: لا تجمعْنَ جوعاً وكذباً[رواه أحمد: 27471، وابن ماجة: 3298، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3298]. وهذه حال كثير من الناس يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب.
هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.